الفصل السادس

«ارجعي، ارجعي، يا شولميت! ارجعي، ارجعي، فننظر إليك»

لم يسع إبراهيم إلا أن يطل من النافذة. ولم يكن يعرف هذا الدكتور ولا سمع به، أو على الأصح لا يذكر أنه سمع به، فقد كانت ذاكرته أشبه بالغربال الواسع الخروق، وكانت الأسماء أول ما ينسى إذا طال غياب أصحابها عنه، وكثيرًا ما كان ذلك يخجله، وكان ربما التقى باثنين من معارفه لا يعرف أحدهما الآخر فيمنعه نسيان اسم أحدهما، أو اسميهما معًا، أن يقوم بواجب التعريف، وكان إذا تحرج الموقف ولم يجد بدًا من أداء هذا الواجب، يلجأ إلى المداعبة ويقول لهما: «إذا شئتما أن تتعارفا فلا اعتراض لي ولكن لا تنتظرا مني معونة»! فيتقدم كل منهما للآخر باسمه في حياء واضطراب ويخرج هو بذكر ما كان ناسيًا!

ولم يفارقه الوجوم منذ سمع كلمة «الدكتور» تندّ عن شفتي شوشو، إما لما تركه توهمه حين نطقت باسمه أن أحدًا قد مرض فجأة، وإن كانت شوشو قد بادرت إلى نفى ذلك وطمأنته، وإما لأنه لم يرتح على العموم لما ظهر له من أن شوشو تقابل هذا الدكتور وإن كان قريب عمها، وكان هو — إبراهيم — ليس من دعاة الحجاب، أو لأنه لم يجد في الساعات القليلة التي أقامها في الريف ما كان يتوقع من الإيناس والشواغل، أو لعله كان لكل ذلك تأثيره. ومهما يكن من تعليل سهومه فإن الذي حدث أنه لم يكد يخرج وجهه من النافذة حتى تراجع وأغلق مصراعيها الزجاجيين كأنما هذا ما قصد إليه، تم عاد إلى الكنبة ووضع رجلًا فوق رجل وأشعل سيجارة.

وفي أثناء ذلك كان الدكتور قد ترجّل وترك المركبة في حراسة أحد الخدم ودخل البيت فاستقبلته شوشو في وسط السلم وصعدت به إلى الغرفة المواجهة لغرفة إبراهيم.

وبعد هنيهة دخلت على إبراهيم فاطمة الزنجية التي كره وجهها وكلامها في الصباح، وقالت وهي مطرقة بها شيء من الوجل: تفضل يا سيدى ….

فنحّى السيجارة عن فمه وأرسل نفخة من دخانها، وأمال رأسه إلى ناحية السيجارة — وكانت في يمناه — وقال لها بلهجة مبطنة بالمرارة: إلى أين يا ستي إن شاء الله؟

فأحست المسكينة أن حادثة الصباح ستتكرر، فقالت وهي مضطربة: عند ستي شوشو والدكتور.

– ما أسرع ما نسيتني ستك شوشو بدكتورها: أنا أيضًا ضيف كالدكتور ولم أسبقه إلا بساعات.

قال هذا بصوت خفيض وعينه إلى الأرض كأنما كان يحدث نفسه. ثم رفع رأسه إلى الخادمة التي كانت تخالسه النظر وقال: ألم تجد ستك شوشو من ترسله غيرك؟ لماذا لم تحضر بنفسها؟

– أنا … أنا … ياسيدي ….

– أنت تخرجين من هنا … (بصوت عال).

فخرجت المسكينة تتعثر وبودها لو استطاعت أن تحلف ألا تريه وجهها.

أما هو فكان يود أن ينهض ويتمشى في الغرفة، ولكنِ الباب مفتوح وفي وسع من يكون في الغرفة المقابلة أن يراه، فظل قاعدًا وجعل يتميم: «قبّح الله الريف وساكنيه! لو أنها كانت فتاة من أجلاف الريف لعذرتها. ولكنها تعلمت في المدارس الفرنسية أيضًا، وليست بالصغيرة على كل حال حتى يُغتفر لها ذلك.

الواقع أن مجيئي إلى هنا كان خطأ … يجب أن أعود أدراجي أو أرحل إلى الإسكندرية فهى من هنا قريبة … إن أعصابي ضعيفة ولا قِبل لي باحتمال هذه الفصول الباردة … وأنا لم أحتك بأهل الريف الحقيقَيين بل لم أر منهم غير رفيقى من المحطة إلى هنا … ذاك الميت الحي الذي لم يكفه إسماعيل واحد ولم يرض بأقل من ثلاثة! وهو مع ذلك وكيل مضيفي! كيف يمكن أن أطيق كل هذا الجهل والجلافة»؟

وكرّ به الفكر إلى ماري … ماري السمحة المؤدبة الوديعة، التي كانت تقرأ في وجهه كل ما يدور في ذهنه، وتسبقه إلى ما يطلب قبل أن يتحرك لسانه، ماري التي فر منها بلا سبب، وحرم نفسه متعة حديثها، وأنس محضرها ولذاذة حبها، ماري التي كان إذا خلا بها يجلس على ركبتيها كالطفل ويسند رأسه إلى صدرها، ويمسح لها وجهها براحته، وهي تحنو عليه وتقبله، وهو مغمض العينين! فنهض فجأة وقال وهو يشير بإصبعه: «كلا! لا بد أن أكتب إليها لتلحق بي في الإسكندرية …».

– من هي؟

فالتفت فإذا شوشو واقفة في مدخل الباب، وذراعاها ممدودتان وكفاها على المصراعين، وقدّها الممشوق بادية معالمه كلها بفضل وقفتها، وثوبها الصوفي المحبوك، فبهت إبراهيم! كما بهت الذي كفر فيما حدثنا الكتاب الكريم، ولم يدر ماذا يقول أو يفعل. ولم يكن أسهل من التخلص، ولكن خياله النشيط جسّم له الأمر فارتبك، وبدا ذلك كأجلى ما يكون في جموده في مكانه، وفي ثبات حملاقه، وذهول نظرته، وانفراج شفتيه، وتصلّب يمناه المثنية على صدره.

فزايلت شوشو ابتسامتها وتقدمت إليه وردت مصراعي الباب وراءها حتى تلامسا، ووقفت إلى جانبه تحدجه بنظرها، ثم قالت له وتكلفت الابتسام، وإن كان لونها ممتقعًا: ستحرق السيجارة أصابعك إذا لم تنتبه!

وكأنما رد صوتها رشده إليه، فحنى رأسه وصوب عينيه إلى يده وقال: «نعم أشكرك» وبدا منه مثل حركة من يهِم بالقعود، وإن لم يكن وراءه شيء، فسندته شوشو بذراعيها فأفاق تمامًا والتفت وراءه ثم رفع إليها وجهه الشاحب المتهضم وقال: «أشكرك ثانية» فقالت وهي تقسر نفسها على الابتسام ولا تدري ماذا تهدي إليه: من حسن الحظ أن الدكتور هنا، وإني أستطيع أن أكون ممرضة عند الحاجة!

فندت عن صدره «آه» قصيرة مثقلة، كأنها خارجة من صدر رجلِ طُعن وهو نائم.

– يجب أن تجلس. إنك مريض وتناولت يده تجسها.

– كلا! كلا! لست مريضًا. دعيني.

ولكنه أطاعها وجلس وهو يتأفف، ويمر يده على وجهه.

– إن الدكتور وحده ….

– اذهبى إليه، حقيقة لا يليق أن تدعيه وحده.

– لا أستطيع أن أتركك وحدك. ولكن انتظر.

وخرجت مسرعة.

وبعد دقائق عادت وأخبرته أنها صعدت بالدكتور إلى أختها ثم قالت: والآن أراك أحسن مما كنت حين تركتك. ألست كذلك؟

– نعم أحسن كثيرًا.

– إذًا قم والبس بذلتك، فقد كلفتني حيلتي كذبة. فعليك أن تبيض وجهي.

– أية كذبة؟

– لقد قلت لهما إنك مصر على عدم مقابلة الدكتور إلا في بذلتك، كذبة قلتها كسبًا للوقت لأني خفت أن تطول هذه الحالة التي رأيتك عليها. وكلفتني غير الكذبة شيئًا آخر، ولكني سأحاسبك فيما بعد. أما الاَن فالبس ثيابك وسأسبقك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤