الأدب العربي بين المحليَّة والعالمية

معنى العالمية

منذ عدة أعوام رأيتُ إعلانًا عن أحد الأفلام المصرية يتضمَّن الإشارة إلى ممثِّلة «عالمية» — وراعَني أن تشتركَ إحدى فنانات العالم الكِبار في فيلم مصري ينطق اللغةَ العربية، وأن يوضَع اسمُها في ذيل قائمة الممثِّلين مسبوقًا بعبارة «بالاشتراك مع النجمة العالمية» — وجعلتُ أتأمَّل الاسمَ أيامًا (وقد عَلق بذاكرتي بعد أن رأيتُه كثيرًا) وقرَّرتُ أن أسأل عنه أحدَ الأصدقاء الذين تخصَّصوا في نَقْد السينما. ولم أجد عنده إجابةً لسؤالي فقصدتُ صديقًا آخرَ أعرفُ فيه المعرفة الموسوعية فأنكرَ هو الآخر، وكثرَت تساؤلاتي حتى يئستُ وكِدتُ أنسى الموضوعَ تمامًا، ثم جاء يومٌ قابلتُ فيه أحدَ المشتركين في الفيلم وكان يحضر معي عرضًا مسرحيًّا فسألتُه فقال لي ببساطةٍ ودون اكتراث: نعم، إنها إسبانية، وقد رحَلَت! فألحَحتُ عليه أن يشرحَ لي الموضوع فلم يَزِد على أن قال إنها فعلًا ممثِّلة ولكنها من الطبقة الثالثة أو الرابعة، وسوق السينما في إسبانيا «نائم»!

وفتَحَت هذه العبارةُ بابًا أمامي كنتُ أغلقتُه من سنين، وهو معنى «العالمية» الذي اختلطَ في الأذهان — كما تُبين هذه الحادثة — بمعنى كلِّ أجنبي، وخاصةً كل ما هو أوروبي أو أمريكي (بالتحديد)؛ فنحن نتردَّد في أن نُطلق على الأسترالي أو النيوزيلاندي — ولا أريد أن أذكر أحدًا من بلدان العالم الثالث (أو البلدان النامية كما يسمونها) — لفْظَ عالَمي؛ إذ تقتصرُ العالميَّة في لُغتنا ومفهومنا واصطلاحنا على أبناء الدول الكبرى، وخاصةً منها الدول الاستعمارية التي حكَمَت معظم بلدان الأرض في فترةٍ ما من تاريخنا الحديث. أقول بابًا كنتُ أغلقتُه من سنين لأنني كنتُ لا أريد أن أُصدِّق ما قاله أستاذنا الدكتور لويس عوض ذاتَ يوم من أن الدول «المسيطرة» تفرض قيمها على غيرها، ومثلما تتفوَّق عسكريًّا واقتصاديًّا تستطيعُ أن تتفوق — على الأقل من الناحية المادية — في نشر أدَبِها وفُنونها وثقافتها. كنتُ لا أريد أن أُصدق ذلك إما لنزعةِ براءةٍ لم تَفْتأ تُعاودني وإما لإيمانٍ بقيمة الفنِّ الجميل والأدب الراقي الذي قرأتُ كثيرًا من نماذجه بغير العربية، ولكن الباب انفتح الآن ولم أعُدْ بقادر على إغلاقه؛ فما الذي يجعل الأدبَ عالميًّا؟

التساؤل الأول — لا شكَّ — هو ما معنى العالمية؟ هل معنى أن تكون ثَمة روايةٌ عالمية أن العالَم يقرؤها؟ أي إنها تتمتَّع بقدرٍ من الإقبال الشعبي يتخطَّى حدود الإقليمية واللغة والثقافة وما إليها؛ بحيث يقرؤها الناسُ في كل مكان وبأيِّ لغة؟ (أيًّا كانت الأسبابُ الدافعة على ذلك) أم أن معنى العالمية هو أن ثَمة خصائصَ في العمل الأدبي أو الفني تجعله قادرًا على البروز بحيث ينتقل من حدود الاستمتاع المحلِّي به إلى آفاق العالم الواسع بلُغاته وثقافاته المتعددة؟

التفريق بين المعنيَين هام. أما الأول، وهو السائد، فلا يقتضي بالضرورة امتيازًا فنيًّا خاصًّا للعمل الأدبي، بل ولا يقتضي احتواءَ العمل الأدبي على مادةٍ إنسانية أصيلة حافلة تتخطَّى به حدود اللغة التي كُتبَ بها، فإن هناك عواملَ شتى تُحدد إقبالَ الجماهير في بلدان العالم المختلفة على عملٍ دون غيرِه — منها ارتباطه الوثيق بالثقافة التي نبَع منها؛ أي: كونُه وثيقةً اجتماعية أو ثقافية يحتاج إليها مَن يريد التعرُّف على الحياة في بلدٍ ما. وفي هذا الإطار تندرج أعمال أدبية كثيرة كُتبتْ بلغات متعددة، ويقرؤها القارئُ لا للاستمتاع الأدبيِّ في المقام الأول، بل للتعرُّف على الثقافة أو الحضارة التي تُمثلها — أيًّا كان حجمُ الدولة أو الأمة في مَوازين القوة الدولية. ومن هذه العوامل أيضًا ارتباطُ العمل بالجذور المشتركة للثقافة الإنسانية مثل الأساطير والحكايات الخرافية والرموز النفسية المستمَدَّة من الوعي الجَمْعي (بل واللاشعور الجمعي)، وفي هذا الإطار تندرجُ الملاحم القديمة، الشعبيَّة منها والأدبية، والمواويل والألغاز والقصص الشعبي وبعض الصور الدرامية الأُولى التي مرَّ بها المسرحُ عبر تاريخه الطويل، ومن هذه العوامل أيضًا قدرةُ العمل على التسلية، وهذه قيمةٌ محدودة؛ فالأعمال الأدبية التي تعتمد على الإثارة أو الإضحاك أو على تصوير مَشاهد الرعب، تُعتبر أعمالًا ترفيهيَّة بالدرجة الأولى، وهي رغم إقبال العالم عليها لا تَرْقى إلى مستوى الأدبِ الرفيع. وقد حلَّ مَحلَّها في زماننا بعضُ مسلسلات التليفزيون الأمريكية، وأفلام الهَزْليَّات ومسرح الهزل والقصص الرخيص وما إلى ذلك. إن تلك الأعمال تُطبع وتُكتَب ويقرؤها الناسُ بلُغاتٍ متعدِّدة، ولكنها لا تتمتَّع بالاعتراف الأدبيِّ ولا يُعيرها النقادُ اهتمامًا كبيرًا (مثل الروايات البوليسية مثلًا).

المعنى الأول للعالمية إذن لا يفترض معاييرَ أدبيةً أو فنية ولا مادةً إنسانية صادقة ترقى بالعمل الأدبي إلى مَصافِّ الروائع. أما المعنى الثاني فهو الذي يَعْنينا؛ وهو المعنى الذي يُمثل صعوبةً لا يمكن التهوينُ من شأنها.

لقد تحدَّثتُ عن المعايير الفنية والمادة الإنسانية. ولقد اقترَنَا في حديثي اقترانًا وثيقًا؛ ولكن الواقع أن نِسبة وجودهما معًا في عملٍ واحد تتفاوتُ من عملٍ إلى عمل، فلَرُبما صادفتُ عملًا أدبيًّا حافلًا بالمادة الإنسانية، نابضًا بالحياة البشرية التي يُصوِّرها، وهو مع ذلك لا يخضع للمعايير الفنية التي أشَرْنا إليها؛ فما هي تلك المعاييرُ الفنية ومَن الذي وضَعَها، وكيف تتغيَّر — إذا كانت تتغيَّر — ومَن الذي يُغيرها؟

المؤسسة الأدبية العالمية

إذا كنا نَقيس الأدبَ بمقياسٍ ذي شِقَّين؛ أولهما المادة الإنسانية التي تَهبُه حياته وعمقه، والثاني المعاييرُ الفنية «المتفَق عليها»؛ فنحن نُواجه في الحياة مِعيارَين لا معيارًا واحدًا — الأول إنسانيٌّ والثاني فنِّي — وإذا كان المعيار الإنسانيُّ أيسَرَ في التعرُّف عليه فهو أصعبُ في الحكم عليه؛ لأنه لا يصل إلينا إلا من خلال الشكل الفنِّي — أي إنه يتَّحد به ولا يُمكن فصلُه عنه؛ ولذلك فإذا ركَّزنا على ما اصطُلِح على تسميته بالمعيار الفني الذي يُحدد الأدب الرفيع استطعنا أن نرى الشكلَ والمضمون معًا.

وأول ما ينبغي أن نُثبِتَه هو أن المعايير الفنية نسبيةٌ وليست مطلقة؛ أي إن تحديدها يتغيَّر من عصرٍ إلى عصر ومن نوعٍ أدبي إلى نوع آخَر، بل ومن لغةٍ إلى لغة. وتحضرني في هذا المقام نظريةُ «النسبيَّة النقدية» التي نادى بها في الخمسينيَّات البروفيسور «بوتل» وعَرَضتُ لها في كتابي «النقد التحليلي» (١٩٦٣م) ومفادها أن معيار تحديد الأدب الرفيع يستند إلى ما اتَّفَق عليه النقادُ «المحترمون» في أيِّ عصر من العصور وأيِّ مكان وأي لغة، وما وصَفوه بأنه جديرٌ بالبقاء. ولكن كيف نُحدد أولئك النقادَ «المحترمين» هل هم مثلًا مَن كتَبوا كُتبًا ضمَّنوها اختياراتِهم لشعر الأقدَمين أو المعاصرين كصاحب ديوان الحماسة أو المفضَّليات أو يتيمة الدهر أو العِقْد الفريد أو المستطرَف أو حتى لصاحب «الكنز الذهبي» الإنجليزي وغيرهم؟ أم أنهم النقَّاد الذين قدَّموا نظرياتٍ في اللغة والأدب مُستشهدين بشِعر السَّلَف أو «محاسن أهل العصر» (الجاحظ وابن الأثير وقُدامة وبِشْر والثعالبي ومَن إليهم)؟ أم تُراهم نُقَّاد اليوم؛ أي نقَّاد المتابَعة REVIEWERS الذين يُقدِّمون الأعمالَ الأدبية في الصحف والمجلات ويُعلقون عليها تعليقاتٍ تتضمَّن أحكامًا بالرفض أو القَبول، وقد تتضمَّن بعض التحليل الفنِّي أيضًا؟ وأخيرًا ألَا يُمكن اعتبارُ الفنانين أنفسِهم والأدباءِ بما لهم من نظَرات في إنتاج بعضِهم البعض نُقادًا؟ ألا يُمكن اعتبار أحكام أبي العلاء على المتنبِّي (وتعصُّبه له) أو أحكامِ تشيخوف على جوجول أو وردزورث على ميلتون وسبنسر؛ آراءً نقديَّة قد تُبيِّن لنا بعضَ الجوانب الفنية في فنِّ هؤلاء، وقد تُفيدنا في فَهْم التيَّارات الأدبية التي ينتمون إليها جميعًا؟

الحق أن النظرية — على وجاهتها — ليست مُطلقةَ الدقة. فربما اتفَق النقادُ أيًّا كان تعريفنا لهم على تمجيد عملٍ أدبي في زمنٍ ما ومكانٍ ما، ثم طوَاه النسيان، ولم يَعُد بقادرٍ على تخطِّي حدود عصرِه ومكانه. فالنقد علمٌ لا يتمتَّع بالاستقلال عن سائر المعارف الإنسانية، ويتغيَّر بتغيُّرها، ولا أقول إنه «يتقدم» بالضرورة؛ إذ إن ازدياد القدرة على التحليل الفني مثلًا أو على ربط الأدب بسياقه الإنسانيِّ أو الاجتماعي لا يعني بالضرورة نُضجًا في التذوُّق أو عُمقًا في الفَهم، وربما استطاع ناقدٌ قديم أن يصل إلى نفس النظرة النقدية في عملٍ ما دون استخدام الوسائل الحديثة، بل ربما استطاع أن يتفوَّق على بعض المُحدَثين بإدراكِه جوهرَ العمل اعتمادًا على الحسِّ الصائب وحده، دون التحليل المنطقيِّ وما إليه من وسائلِ النقد الحديث. أضِفْ إلى هذا أن النقاد بشَرٌ؛ فهم قد ينخدعون بمظهرٍ ما من مظاهر العمل، وقد تُضلِّلُهم أشياءُ أبعدُ ما تكون عن الاعتبارات التي ألمَحْنا إليها، فيُصدِرون أحكامًا قد تتناقلُها الأجيالُ من بعدِهم على أنها مقدَّسات. وهل منا مَن لا يذكر الأقوالَ التي شاعت في كتب النقد، والتي دُهِشْنا لها في صِبانا ثم تقبَّلْناها دون مناقشة؛ مثل «هذا أشعرُ بيتٍ قالته العرب»، أو «أمدَحُ بيت» وما إلى ذلك؟ وما يُقال عن القدماء يَصْدُق على المحْدَثين.

فإذا التفَتْنا إلى الجانب الآخَر للنِّسبية النقدية وجدنا عددًا من العوامل لا يمكن إغفالُها في هذا العصر الذي تتحكَّم فيه أجهزةُ الإعلام، وتتحكَّم في أجهزة الإعلام فيه قُوًى اقتصاديةٌ وسياسية لا سبيلَ إلى إنكارها. وأجهزة الإعلام في أبسطِ صُوَرها تتمثَّل في القدرة على إشاعة أنماطٍ وموضوعات فنِّية بحيث تُصبح مِعيارية؛ أي إنها تتحوَّل إلى مُثُلٍ يُحاكيها الناشئةُ وتُشكِّل أذواقَهم الفنية، أو تُعدلها على الأقل، بحيث تخلق الجوَّ المناسب لترويجِ أعمالٍ فنية بعينها، حتى إن سوق الأدب قد أصبح — شأنه شأن كلِّ سوق — يخضع للعرض والطلب، وما على الأجهزة الأدبية — كما ذكر «الدوس هكسلي» في مقاله «كُتَّاب وقُرَّاء» — إلا أن تعمل على إيجاد الطلب الذي يضمن رَواج المعروض! ولا شك أن النقاد على المستوى الإعلامي أحيانًا يُصبحون — دون أن يَدْروا — مُروِّجين لبضاعةٍ قد تكون وقد لا تكون أنموذجَ الأدب الرفيع. فإذا أخذنا في اعتبارنا التوسُّعَ الهائل والتشعُّب والتنوع الذي طرأ على أجهزة الإعلام أدرَكْنا مدى خطورة الدور الذي تلعبه في تحديد المعايير الأدبية. وهذه الأجهزة في مجموعها تُشكِّل ما يُسمَّى بالمؤسسة الأدبية التي تمتدُّ من الجامعات وما يقوله الأساتذة في قاعة الدَّرْس وفي الكتب، إلى الصحف وما يُنشَر فيها، وأخيرًا إلى الإذاعة والتليفزيون.

وتصب كلُّ العوامل آخِرَ الأمر في صورة المؤسسة الأدبية العالمية؛ أي إن ما ينطبق على بلدٍ بعينه يمكن أن ينطبقَ على أشكال الأدب وفنونه في العالم الذي يَفقدُ اتِّساعَه كلَّ يوم، ويَضيق باطِّراد، حتى لربما قرأتُ روايةً صدَرَت في بلدٍ بعيد قبل أن يقرأها أبناءُ ذلك البلد! والمؤسسة الأدبية العالمية جهازٌ معقَّد في تركيبه وأدائه، بسيطٌ في مفهومه وجوهره؛ فهو يعني باختصار أن هناك جهازًا غيرَ مرئي يتكوَّن من المعايير التي نحكم بها على الأدب، ويعتمد على الأعمال الأدبية التي ورثها العالمُ الحديث من أوروبا. وهذا الجهاز لا يتكوَّن من معاييرَ فحسب، بل هو يتضمَّن قيمًا معيَّنة ليست في حقيقة لأمر قيمًا إنسانيةً خالصة، ولكنها قيمٌ اجتماعية وسياسية واقتصادية. ولذلك فربَّما فرَضَت المؤسسةُ عملًا أدبيًّا أو رفَضَته بسبب المقاييس الفنية الدقيقة أو المادة الإنسانية التي تحدَّثت عنها أولًا. وربما كان خير مثالٍ على وجود هذه المؤسسة هو لجنة ترشيح المؤلِّفين لجائزة نوبل. فهو مثَلٌ ملموس واضح؛ إذ لا يُمكن للَّجنة أن تختار إلا الأعمالَ التي تُجسِّد القيم التي فرَضَها عالمُ القوة في أوروبا على الدنيا. ولكنَّ الأمثلة الأخرى كثيرة، وهي لا تَعنينا بقدرِ ما يعنينا وجودُ الجهاز غيرِ المرئي. فكيف يعمل هذا الجهاز وما سبيلُ الأدب العربي إليه؟

البطولة والتَّمَيُّزُ العنصري

عندما كان الشعراء العرب في الماضي يجتمعون لدى الحاكم لِيَتطارحوا الشعر، كانوا يُنصِّبون أحَدَهم حَكَمًا، وربما كان شاعرًا أقلَّ شأنًا، بل ربما لم يكن شاعرًا بالمعنى المفهوم، بل مجرد عالم باللُّغة وتاريخ الأدب، ولكن أهم صفة ينبغي أن يتَّصف بها هو عِلمه بالمعايير الفنِّية التي يُقاسُ بها الشِّعر الصادق ووعيُه واستيعابه التام لقيم العرب أو للقيم والمفاهيم التي يُحبُّ العربُ أن تسود؛ أي إنه كان مُمثلًا للمؤسسة الأدبية العربية. وعندما تجتمعُ «لجنة القراءة» — أي اللجنة التي تختصُّ بفحص النصوص الأدبية إما للتمثيل أو للإذاعة أو للنشر — فإنها تُمثل أيضًا المؤسسةَ الأدبية في مكانٍ محدَّد وزمان محدَّد، وعندما «يُقرر» الأستاذ في الجامعة «تدريسَ» روايةٍ بعينها للطلبة فإنه أيضًا — في غالب الأحيان — يُمثل المؤسسة الأدبية التي ينتمي إليها في زمانه، وذكر القارئ في هذا المجال هو المِفْتاح الوحيد لإدراك مدى سُلطة هذه المؤسسة التي نعيش جميعًا في ظلِّها دون وعيٍ كامل.

إن الطفل الذي يفتح عينَيه على كتابٍ من قصص البطولة — سواءٌ كانت هذه القصص خياليةً أم واقعية — يتشرَّب إلى جانب المتعة الفنية قيمَ البطولة ومفهومَ البطولة. وإذا كانت هذه القصصُ بوجهٍ عام تنزعُ إلى المبالغة أحيانًا في تصوير قدرة الإنسان على تخطِّي الصِّعاب، وتُحقق في الخيال ما يَصْبو إليه الإنسانُ في دُنيا الواقع؛ فهي تتفاوتُ في تصويرها وتحديدها لما يَكمُن خلف البطولات الفردية أو الجماعية من قيم. فكل شعبٍ له القصص التي تُمجِّد تاريخَه، وهذه القصص شائعةٌ على المستوى الشعبي، بل إن بعضها مكتوبٌ شعرًا وتَحوَّل إلى ملاحمَ تُروى وتتَناقلُها الأجيال، ولكنَّ المجد باعتباره قيمةً مطلقة يرتبط بقيم أخرى من حقِّ أجيالنا الجديد أن تُعيد النظرَ فيها. خُذ مثلًا قيمةَ الانتصار على الأعداء باعتباره قيمةً في ذاته؛ إنه يرتبطُ بمفهومنا للأعداء. مَن هو العدو؟ إن العدوَّ في التاريخ الأدبي ليس دائمًا الطاغيَ الباغي أو المعتديَ الآثم! إنه أحيانًا شعبٌ آمن مُسالم يتعرَّض للغزو والسَّلْب والنهب، وكم من قصص البطولة ما يُصوِّر الغُزاة الفاتحين أروعَ تصوير ويُسبِغُ عليهم من هالات المجد ما يعجز اللسانُ عن وصفه! حقيقةً إن الناشئة في بلدٍ ما يحتاجون إلى ما يُذْكي فيهم حبَّ الوطن والإعجاب والإكبار لأبناء وطنهم من الأسلاف الميامين، ولكنهم في غَمْرة ذلك الإعجاب وفي انتشائهم بما يَدِفُّ في جَوانح قصص البطولة من مشاعر، يتشرَّبون قيمًا أخرى مثل الإيمان بتميُّز الجنس الذي ينتمون إليه على سائر الأجناس، وحقِّه في السيطرة على سائر أمم الأرض؛ مثلما حدَث في تاريخ أوروبا الحديث! وربما لم يكن الامتيازُ العنصري هو القيمةَ الصريحة، ولكن امتياز الأمَّة (الذي يرجع في جذوره إلى امتياز القَبيلة أو حتى العشيرة) يوصى به ويعمل على غرسه. وإذا كان الأدبُ الأوروبي يحفل بمِثل هذا اللون من القصص، الشِّعري منه والنثري، فالأدب العربي لا يخلو منه، وحَسبُنا أن ننظرَ في أيام العرب (في الجاهلية مثلًا) حتى نرى نماذجَ ساطعةً منه. قد يقول قائلٌ إن القهر والبطش الذي تُصوِّره هذه القصص التي حفظها لنا تراثُنا الشعريُّ كان انتقامًا لِضَيمٍ وقع، أو ثأرًا لهزيمةٍ سابقة حلَّت بالقبيلة، ولكنَّ قيم الثأر والانتقام في ذاتها ليست بالقيم الإنسانية العُليا؛ أي إنها لا تُبرر المذابحَ والسلب والنهب والسَّبْي والاستذلالَ الذي يَتْلو النصرَ أيًّا كانت الذرائعُ التي يُقدِّمها المدافعون عنها. (انظر قصة الصِّراع بين قبيلتَي طسم وجديس في اليمامة، كتاب أيام العرب في الجاهلية لجاد المولى) بل إنَّ ملحمة الإلياذة نفسَها تقوم على قيمةٍ قد يشكُّ الباحثُ المُحْدَث في صِدقها، وهي الثأر من مُختطِفي امرأة. إن الملحمة تروي لنا حربًا ضَروسًا امتدَّت عشَرة أعوام وقُتِل فيها الآلافُ من أجل استعادة هيلين اليونانية من «باريس» الطروادي الذي اختَطَفها من بلادها وعاد بها إلى بلاده. والأسطورة التي تُساندها أسطورة التحكيم بين جَمال الربَّات الثلاث الذي قبله باريس ورِشْوتهن له؛ تتضمن قيمًا لا يسَعُ الباحثَ الحديث إلا أن يُعيد النظرَ فيها!

والنتيجة المحتومة لنزوع كلِّ شعب وكل لغة إلى تمجيد البطولة في الأسلاف في قصصٍ وشعرٍ ومسرح هي ترسيخ قيمٍ معيَّنة في وجدان كلِّ أمة — مهما صَغُر شأنها في عالمنا الحديث — مثل تمجيد القوة والغلَبة، وهي قوةٌ عسكرية بالدرجة الأولى، سواءٌ كان المحارب يمتشقُ حُسامَه وينزل حَومةَ الوَغَى بنفسه، أم يضغط على زرٍّ آلي في جهازٍ بالغ التعقيد لِيُطلق صاروخًا أو يُلقيَ قنبلة! والأدب الذي ينطوي على مثلِ هذه القيم قد يتفاوتُ من شعبٍ إلى شعب في دقَّة التصوير ورَشاقة العبارة وإحكام البناء، وما إلى ذلك من ظواهر الصَّنْعة الفنية، ولكنه في النهاية يتَّصل بالشعب نفسِه؛ بتاريخه وثقافته التي تنتظمُ عددًا من القيم لا يكاد أن يكون عليها خلاف، وفي وسطها عند المركز معنى البطَل والبطولة!

إن تفسير الطاقة البطولية مرتبطٌ بتراث الأمة الإنساني، وهو التراث الذي يستتبعُ مجموعةً من التقاليد والأعراف والقيم تُصبح عَلَمًا على الأمة. فالتقاليد العربية المعروفة مثل المروءة والشجاعة وإكرام الضيف وإغاثة الملهوف والوفاء بالوعد، كلها ترتبطُ بصورة الإنسان المثالي — أو البطل — التي خلَقَها الأدب؛ استلهامًا للحياة وإلهامًا لها، وتقاليد الغَلَبة والمخاطرة وارتياد المجهول والاختراع والاستعمار — بالمعنى الحسن والمعنى السيِّئ جميعًا — تُمثل جزءًا من صورة البطل في الأدب العربي. فالأدب الغربيُّ يحفل بصور الأسفار البحريَّة واكتشاف الجديد وعُمران الأرض وأمانة الكلمة، ويُدين ما على نقيضِ ذلك.

وإذا كانت آدابُ الأمم تشترك في جوهرٍ واحد؛ هو الاحتفال بالغالبِ المنتصر، فهي تتفاوتُ في تفسير سرِّ النصر والغلَبة. فبعضها يُرجعه إلى عبقريةٍ عِلمية، والبعض يردُّه إلى طاقات جسدية ونفسية، والبعض الآخر يَعْزوه إلى قُوًى غيبيةٍ مثل الآلهة أو الأقدار، والأدب يتفاوتُ هو الآخر في تصويره لهذه التفسيرات من عصرٍ إلى عصر، وقد استطاعت دولُ أوروبا الحديثة أن تفرض على العالم تفسيرَها الخاصَّ لقوتها وغلَبتِها، وأن تُقنع كثيرًا من الشعوب حديثةِ العهد بالاستقلال والنهضة بوِجْهة نظرها الخاصة فيما يُمثل مقومات الإنسان المثالي عبر العصور. وفي نطاق الدراسة الأدبية استطاع النقادُ والمستشرقون أن يَختاروا من آداب الأمم الأخرى ما يُناقض مفهوماتهم تلك حتى يزدادَ وضوحُ الاختلاف بينهم وبين الآخَرين، وحتى يؤمنَ الآخَرون أنهم قد تخلَّفوا عن رَكْب الحضارة للأسباب التي قرَّرها الغربُ ثم رسَّخَها. فماذا فعل العربُ إزاءَ هذا الأدب؟ وماذا فعل المستشرقون بالأدب العربي؟

القيم وعالم اليوم

إذا كانت صورةُ البطولة وقِيَمُها وما ارتبطَ بها من تفسيرات تُمثل جانبًا مهمًّا من التراث الأدبي الإنساني، فإن ثَمة صورًا وقيمًا أخرى لا تقلُّ عنها أهمية، تتضمَّنُها علاقةُ الرجل بالمرأة وتُفصِح عنها شبكةُ العلاقات الاجتماعية المعقَّدة، وبخاصةٍ ما ينبع فيها من النظام الاقتصاديِّ والأوضاع السياسية ويصبُّ فيها. وفي هذا جميعًا ينزع الأدباء الذين يَحْظَون باعتراف المؤسسة الأدبية إلى بَلْورةِ قيمٍ ومُثُلٍ تتَّصل بمفهومهم للإنسان المثاليِّ سلبًا أم إيجابًا؛ فإدانة الجريمة موضوعٌ عالمي لا خِلاف عليه، ولكن ما يُعتبر جريمةً في مجتمع قد لا يُعتبر جُرمًا في مجتمع آخر، وما يتَّفق الجمهورُ عليه في زمنٍ ما قد ينبذه الجمهورُ في زمنٍ لاحق. ولهذا وجَدْنا من الأدباء الكبار مَن يَطويهم النسيانُ بعد فترة أو مَن لا يحظَوْن بأيِّ اعتراف بهم في حياتهم على الإطلاق؛ لخلافٍ في المفاهيم والقيم مع المؤسسة الأدبية.

القضية لا تقتصر إذن على الشكل الفنيِّ أو على جوانب الصنعة مهما بلَغَت أهميتُها (والحقُّ أن لها أهميةً قصوى)، بل إنها تتعدَّى ذلك إلى ما يَكمُن خلفها من أحكامٍ تستند إلى القيم والمفاهيم التي تحتفل بها المؤسسةُ الأدبية. ومن هنا جاء إصرارُ المؤسسة الأدبية العالمية على ترشيح أعمالٍ معيَّنة للشهرة والذيوع تُمجِّد قيمها وتحطُّ من قيم الآخرين. وأقربُ الأمثلة على ذلك صورةُ العربي أو المصري في فنِّ الرواية المعاصرة بالإنجليزية؛ تلك اللُّغة التي كادت أن تُصبح عالَمية. فشخصيةُ «علي» العربي في رواية «بوابة مندلبوم» للكاتبة الإنجليزية «إريس ميردوخ» تَجمع كلَّ الرذائل التي يُدينها المجتمعُ الإنجليزي وعلى رأسها الكذب. والكذب الذي يلجأ إليه هذا الشخصُ يُمكن تفسيرُه وتحليله بعدةِ طرُق، ولكن الكاتبة توحي من طرْفٍ خفي بأسبابٍ معيَّنة ترمي في مُجملها إلى إدانة الشخصيةِ العربية وسَلْبِها عنصرًا من أهم عناصر مُثلنا العُليا وهو الوفاء. وأما ما يختارونه للترجمة إلى الإنجليزية من الأدب العربي فهو عادةً مختاراتٌ قديمة من الأدب الجاهلي يَبْنون عليها نظرياتٍ وتحليلات تجعل مِن أدبنا مُرادفًا لآداب الأمم القديمة ذاتِ القيم والمفاهيم التي لم تَعُد تنتمي لعالم اليوم.

وأممُ الأرض «المتقدمة» تحتفل بما أسميتُه «عالم اليوم» فهو العالم الذي يُسبِغون عليه كلَّ الفضائل — وأسماها وأرقاها في نظرهم نظرةُ التشاؤم والسخرية من القيمة السَّلَفية، ورفض الدين، والاحتفال بوَحْشة الفرد وعُزلته في عالم قاسٍ مَرير، وما يستتبع ذلك من الإباحة، والتركيز على أن الإنسان كائنٌ ضعيف مغلوبٌ على أمره، وأن حُريته موهومة، وأن الكثير مما اعتاد إكسابَه المعنى في الحقيقة لا معنى له والفلسفات المختلفة التي نبَعَت من «عالم اليوم» تعمل على بِناء عالمٍ جَهْم قاتم الألوان، يتوارى فيه الأملُ أو ينحسر، وتغربُ فيه البسماتُ أو تفتر. وبعضُ كُتَّابهم يُدينون هذا العالم — بطبيعة الحال — ولكن الإدانة تحمل في طيَّاتها معنى التقبُّل؛ لأنها تؤكِّد ضرورةَ التعايش معه، وإيجاد بديل أو بدائل لما فقدَه الإنسان في غمرة صراعه لتحقيق التقدم، والتعايش يحلُّ بالتدريج محلَّ العيش ليُمثِّل أقصى ما يمكن لإنسان اليوم تحقيقُه. وأما أولئك الكُتَّاب الذين ما زالوا يَسبحون في فلَك الفضائل القديمة، عامرةً نفوسُهم بالأمل، زاخرةً قلوبُهم بالحب، فهم يُوصَفون بالرومانسية وتُخصَّص لهم أماكنُ نائية في الكتب تتحول بالتدريج إلى زوايا نسيان.

وفي إطار هذه الحداثة، أو ما أسميتُه «المودِرْنية» في كتابٍ حديث لي، تبرز عدةُ تيارات جديدة يُعلِي أحدُها شأنَ الشكل الفنِّي إلى درجة التقديس، ويُلغي ما أطلقتُ عليه في هذه المقالات اسمَ المادة الإنسانية. وهذا التيار يُضفي على الأنماط الداخلية في العمل الأدبي أهميةً غيرَ عادية، بل يقول بقُدرة البناء الداخلي على الإيحاء وحده بالأفكار والمشاعر، وبأنَّ الشكل الداخلي لا يحتاج إلى مادةٍ إنسانية صريحة؛ لأنه يُمثل ترجمةً لهذه المادة؛ أي إن التجرِبة الإنسانية أو الخبرة التي درَجْنا على اعتبارها مصدرَ المادة الإنسانية تتحوَّل إلى شكل، فإذا ما استغرق هذا الشكلُ القارئَ أو المتذوقَ انتقلَت إليه التجرِبة أو الخبرة في صورةٍ فنية خالصة. ولا شك أنَّ للفنون البصرية والسمعية تأثيرًا كبيرًا على هذا الاتجاه الذي يبرز بأوضحِ مَعالمه في الشعر الحديث، ولا شك أيضًا أن لنظريات وَحدةِ الفنون تأثيرًا مباشرًا على تطور هذا التفكير النقدي، ولكننا رأينا منذ عهدٍ غير بعيد مَن يضَع له فلسفاتٍ مستقلَّة، ومَن يُقنِّن له تقنينًا نقديًّا موغلًا في الشطَط، مُحاولًا وضْعَ أسُسٍ هندسية للبناء، مستقيًا من دراسات عِلم الألسنة الحديث (وهو علم ما يزال في مرحلة التطوُّر والتغيير) قوالبَ جامدةً يصبُّ فيها أي عمل بغضِّ النظر عن مادته الإنسانية.

ولكن المودِرْنيَّة ليست كذلك في حقيقة الأمر؛ إذ ما فتئت تتطوَّر لتسمحَ بنشوء نظرياتٍ جديدة للقيم، وتفسيراتٍ جديدة لسعيِ الإنسان وموقفه من هذا الكون، وتُركِّز أيَّما تركيز على شبكة العلائق المتداخلة في نِطاق المجتمع والدولة، انطلاقًا من نظرةٍ متكاملة دينامية، فأين نحن من هذا كلِّه؟ وهل استطاع أدبُنا الحديث أن يكسر الأنماطَ السلفية ويُخاطب وِجدانَ إنسانِ عصر العقل والعلم؟

لقد كنتُ من المؤمنين دائمًا — وما أزال — بأنَّ الأدب العربيَّ الحديث قد تخطَّى مراحلَ الاستكشاف الأولى، وأنه وجَد لنفسه طرقًا (لا طريقًا واحدًا) يمتدُّ من خلالها إلى وجدان العالم الجديد. وإذا كانت الأنماطُ الشكلية القديمة لم تَعُد تصلح للوصول إلى قلب الإنسان الحديث وعقله، فإن الأشكال الجديدة لدينا تتفوَّق على مَثيلاتها في غالبية بلدان العالم، وأنا أقول هذا دون مبالغة، بعد أن اطَّلعتُ على آداب كثيرٍ من الشعوب مترجَمةً إلى الإنجليزية (قد لا تكون النماذجُ المترجَمة أفضلَ ما لدى تلك الشعوب ولكنها مؤشرٌ على الاتجاه العام) والأدبُ العربيُّ الحديث، أيًّا كان غضَبُنا منه أو له، مُنوَّعٌ حافل، وبه شتى التيارات التي يُصفق لها العالم ويُهلل، رَضِيَت المؤسسةُ الأدبية العالمية أم لم ترْضَ. أما جوهر المشكلة في نظري فهو أننا لم نُمسِك بزِمام المبادَرة حتى الآن في تقديم هذا الأدب إلى العالم. كيف نُمسِك بالزمام؟ وكيف وفي أيِّ صورةٍ يمكن لنا أن نُقدِّم هذا الأدب؟

الأدب وحياة القارئ

إذا كان الفنُّ فنًّا؛ فلابد أن يتخطَّى الزمانَ والمكان؛ فأنماطُ الفن ومادتُه عالمية، وهي تنبع من الإنسان وتصبُّ فيه، وقد تتفاوتُ من عصر إلى عصر، ومن مجتمع إلى مجتمع، وقد عكَف النقَّادُ على دَرْس هذا التفاوُتِ وتحليله، ولم ينتهوا إلا إلى أن ثَمة تياراتٍ أو اتجاهات يمكن رصْدُها دون معرفةِ أسبابها الحقيقية، ولو أنهم يتَّفقون إلى حدٍّ كبير على أن هذه التيارات لا يُلغي بعضُها بعضًا، وما قد يتذوَّقه إنسانٌ اليوم قد يُلاقي الفتورَ بل الرفضَ والنبذ من إنسانِ الغد، وما قد يُشيح عنه إنسانُ اليوم قد يسطع كالدُّر في عصرٍ لاحق. ولهذا كان «هازليت» يقول: إن الفنون لا تتقدَّم بالمعنى الذي يتقدم به العلم (بمعنى أن الحقائق العِلمية الجديدة تطمسُ ما كان يُظَن أنه حقيقةٌ بالأمس)؛ لأن العلم بطبيعته يطمسُ الجهل! وقد طوَّر هذه النظريةَ ناقدٌ مُحدَث في أوائل القرن هو ت. أ. هيوم فقال بأن للفن دورات، وأن كل دورةٍ تنتهي عندما تَفقد الفنونُ التي شاعت في عصرٍ ما قدرتَها على التأثير، فتدفع إلى الوجود بألوانٍ أخرى من الفنون تختلف عنها اختلافًا يصل إلى حدِّ التناقض، ثم ينتهي بها الأمرُ إلى فقدان القوة هي الأخرى؛ بحيث تعود الألوانُ الأولى، وهلمَّ جرًّا.

والأدب كما نعرفه اليوم فنٌّ من الفنون يتوسَّل باللغة، فاللغة في الأدب مثل الألوان والمساحات والخطوط والنِّسَب في الرسم، ومثل الأصوات في الموسيقى، وما إلى ذلك، ولكن الأدب كما سبق أن بيَّنت في مقالاتي السابقة يتضمَّن أبعادًا أخرى قد تفتقرُ إليها الموسيقى؛ فالتشبيه ليس تامًّا؛ لأن الأدب يشتركُ أيضًا مع وسائل الإعلام في توصيل «رسالة» بالمعنى العِلمي لهذه الكلمة — وهي رسالةٌ تجمع بين العناصر الشعورية والذهنية، وليسَت أبدًا مجردةً من المعنى أو خاليةً من الدلالة. قد يبدو هذا الكلامُ بديهيًّا، ولكنه لا بد منه حتى ننظرَ في وضع الأدب العربيِّ إزاء الآداب الأخرى.

قد تكون «الرسالة» في أبسَطِ صورها إحساسًا يتجسَّد في لقطةٍ أو موقفٍ أو صورة أو حادثة، بل قد تكون مجرد مُتعة تناغُم الصور والألفاظ وجَرْسها الجميل في القصيدة القصيرة مثلًا! وهذا أقدمُ ألوان «الرسائل» وإن كانت صورتُها «البسيطة» خادعة! فالإحساس الذي يبدو بسيطًا في حقيقتِه هو بَلْورة باطنيَّة، تمزج بين المشاعر والأفكار التي تستمدُّ طاقتها الحيوية من وجود الإنسان في مكانٍ وزمان محدَّدَين. حقًّا قد تكون الفكرةُ عامةً أو مجردة حتى إنها لَتتخطَّى الزمانَ والمكان، وقد يكون الإحساسُ كذلك، ولكنَّ الفن الأول — الفن الذي يرى معظمُ الباحثين أنه نشأ في بيئاتٍ بسيطة فاستمدَّ مادته الأولى من علاقة الإنسان بالكون وتفسيراته لِقُوى هذا الكون الغامضة، أقول: إن هذا الفنَّ الأول لم يلبث أن تَعقَّد وتطورَ نتيجةً لتعقُّد «الرسالة»؛ أي إن الإنسان لم يعد قادرًا في هذا العصر على تبسيط الأشياء والتفكير أو الإحساس بنفس العناصر الخالصة التي كان أجدادُه يُفكرون ويشعرون في أُطُرِها. (ولو أن كاتبًا مُحدَثًا يقول إن الإنسان الأول كان لديه قدرٌ من التعقيد يستعصي علينا فَهمُه لِبُعد الشُّقة بيننا) فمثلًا نرى أن القصة القصيرة والرواية الطويلة وهما فنَّان حديثان لا يقفان بطبيعةِ بنائهما عند «الرسالة»، وفي كل روايةٍ ترى أن القارئ لا يتلقَّى رسالةً واحدة أو حتى عدةَ رسائل واضحة. قد يخرج لا شكَّ بانطباعٍ واحد، ولكن هذا الانطباع قد يكون مُركبًا إلى الحدِّ الذي يستعصي معه تحديدُ عناصره! وإذا كانت القصةُ القصيرة أبسطَ من الرواية في تركيبها؛ فإنها في صورِها الحديثة قد تصل إلى حدٍّ من التعقيد يرتفع بها إلى مصافِّ الرواية! بل إن نشأة القصة القصيرة نفسها توضِّح لنا طبيعةَ هذا الفن. إنَّ الكُتَّاب أحسُّوا بالحاجة إلى التحليل الدقيق الذي لا تُتيحه القصيدة، وكان تطويرهم لصورة القصة القصيرة بطيئًا؛ لأنه سار جنبًا إلى جنبٍ مع تطور الصحافة، وتطور لغة النثر نفسها.

فإذا نظرنا إلى كل رسالةٍ على حدة، وتأمَّلْنا الحاجةَ التي يُحسُّها الكاتبُ إلى الكتابة، وجدنا أنَّ لكل رسالة مُرسِلًا ومُستقبِلًا، ولا يُمكن أن تكتمل العملية التوصيلية إلا بهما جميعًا؛ أي إن حاجة الكاتب إلى الكتابة لا بد أن تتزامنَ معها حاجةُ القارئ إلى القراءة، ومن العبث أن نقول إن الكاتب يكتب ليُخرِجَ ما في نفسه سواءٌ فَهِمه الناسُ أم لم يفهموه؛ لأن هذا معناه إلغاءُ وظيفةِ اللُّغة وطبيعتِها الأساسية باعتبارها أداةَ توصيل. ولكن إقامة العلاقة بين الكاتب والقارئ من خلال العمل الفنِّي؛ لا يُلغي استقلالَ العمل عن أيٍّ منهما؛ لأنه بمجرَّد أن يكتملَ يكون قد خلَق في داخله عالَمَه ووضَع الأسُس التي تُتيح للقارئ أن يستقبلَ الرسالة، أيًّا كان هذا القارئ.

ولكن هذا كلَّه لا ينفصلُ عمَّا أسمَيتُه بالمادة الإنسانية والأشكال الفنية التي تُمْليها المؤسسةُ الأدبية. ولْأضرِبْ لذلك مثلًا محدَّدًا: إنني حين أقرأ قصيدةً كتبها شاعرٌ إنجليزي مثلًا عن مُحارب من أبناء بلده إبَّان حربٍ من الحروب؛ فالمفروض أنني أتعاطفُ مع هذا الإنسان الذي حمَل وخرج مدافعًا عن وطنه — والدفاع عن الوطن قيمةٌ إنسانية وعالمية لا خلافَ عليها — ولكنني حين أندمجُ في القصيدة وأجدُ أن الشاعر يريد أن يوصل إلى القارئ في ثنايا الرسالة «رسائلَ فرعية» أخرى تُوحي بامتيازٍ عُنصري أو قَبَلي؛ فأنا أتوقفُ ويشوب تذوُّقي ما يُعكِّره! لقد كتب «رديارد كبلنج» شاعرُ الإمبراطورية البريطانية قصائدَ ورواياتٍ كثيرةً احتلَّت أماكنَها على أرفُف المكتبات سِنينَ طويلة، ولقد تذوَّقها الإنجليزُ ودَرَسوها في مدارسهم، و«قرَّروها» على الشعوب المغلوبة على أمرها أيامَ حُكم الإمبراطورية، ثم انحسَرَت الإمبراطورية فانحسَر كبلنج! لم يَعُد يبقى منه غيرُ الشكل الفني، وما أوهاه! إن «كيم» روايةٌ جميلة عن الحياة في الغابات، والأطفال ما يزالون على حبِّهم لها، وكذلك عددٌ من رواياته عن غابات الهند، ولكن الرسائل الفرعية التي تقول بامتيازِ الإنجليز امتيازًا عُنصريًّا على غيرهم ما فَتِئت عقَبةً في سبيل تذوُّق كبلنج؛ باعتباره كاتبًا إنسانيًّا! ولقد أخرَج له ت. س. إليوت مجموعةً من الأشعار التي يُسمُّونها البالادات (والتي تُترجم عادةً بالمواويل؛ على عدم دقةِ هذه الترجمة) وقدَّم للمجموعة بدفاعٍ عن المادة الإنسانية التي يُمكن أن تَبْقى من كبلنج وهي مقدمةٌ جديرة بالدراسة في ذاتها.

في هذا الإطار الكبير تستطيع تصنيفَ الأدب العربي الذي يُمكن أن يرقى إلى مصافِّ العالميَّة؛ ليس فقط على الأساس القديم الوحيد، وهو الامتياز الفنيُّ — على أهميته القصوى — ولكن أيضًا على أساس إثارته اهتمامَ القارئ؛ لأنه متصلٌ بحياة القارئ (RELEVANT)، وهو قادرٌ على هذا؛ لأن الرسالة والرسائلَ الفرعية الباطنة إنسانية، ولأن المادة الإنسانيةَ حافلة، وإذا توافر على ترجمتِه ترجمةً أدبية صادقة مَن يُخلِص له وتحلَّى بالموهبة اللازمة؛ استطاع أن يفرض نفسَه على المؤسسة الأدبية العالمية، بل وأن يعدل من مقاييسها، فكيف يكون ذلك؟

الإنسان الذي تغير

ما يزال الجدل دائرًا حول «نوع» الأدب الذي يمكن أن يكسرَ حدود الإقليمية، إما بنجاحِه في تحقيق معاييرِ المؤسسة الأدبيَّة العالمية، أو بتخطِّي هذه المعايير بحيث تُصبح «غيرَ ذاتِ موضوع». فأما تحقيقُ معايير المؤسسة فهو «صعب»، إن لم يكن متعذرًا لسببٍ بسيط؛ وهو هيمنةُ القيم التي فرَضَتها الدولُ الكُبرى على مدى عصورٍ طويلة، وهي قيمٌ إنسانية وفنية معًا؛ بحيث أصبح القارئُ في كل مكان يتوقَّع أن يسمعَ هذا الكلام أو ذاك في هذه الصورة أو تلك، أيًّا كان موقفُ الأديب من القضايا المطروحة التي أصبَحَت «لا وطنية» (أو مثل بعض الشركات «عبر الوطنية»). وأقول إن تحقيق هذه المعايير صعبٌ لأن اهتماماتنا ومواقفَنا الفكرية تختلفُ عن الاهتمامات والمواقف التي حدَّدَت هذه المعاييرَ على مرِّ العصور. وقد ضربتُ مثلًا في أحد مقالاتي بتصوير البطولة وعلاقة الرجل بالمرأة. ومن باب التذكير فحَسْبُ أقول: إنه سوف يتعذر على كاتب القصة الحديثة تحقيقُ أحدِ معايير المؤسسة الأدبية الغربية في هذه «العلاقة»؛ وذلك بنزع التابو Tboo تمامًا منها، ونزع هالة الاحترام الدَّفين التي تُكلِّل المرأةَ في أدبنا، وذلك مَهْما بالَغْنا في النَّسيب والتشبيب! لقد حرَم الأدبُ الحديثُ المرأةَ ذلك الوشاحَ الوضَّاء الذي ألقاه عليها مفهومُ «الحب» الذي استَقَتْه أوروبا في القرن السادسَ عشر أولَ مرةٍ من الشرق، وكما يقول كاتبٌ حديث «لقد ذهب ضوءُ القمر الذي كان سبنسر قد أتى به من الأندلُس، وحلَّ محله ضوءُ الشمس»، وهو يعني بضوء الشمس ما كان الرُّومانسيون يقصدونه بضوء «النهار العادي»؛ أي إن «موسيقى الأفلاك» و«نيران الأفلاك» التي تحدَّث عنها سبنسر في مَلْحمتِه «ملكة الجان» قد انطمَسَت وأصبَحَت المرأةُ كائنًا ينتمي لعالم «النَّثْر» بعد أن كانت تنتمي لعالم «الشِّعر»! وفي هذا الإطار أصبح «الحب» القديمُ قيمةً يُطمَح إليها ولا تتحقَّق، وأصبح الشكُّ في قيمة «نظام الأسرة» (أو الزواج باعتباره «مؤسَّسة») من أهمِّ معايير المؤسسة الأدبية، ويكفي للتدليل على ذلك استعراضُ روايات الكاتبات الإنجليزيات المعاصِرات؛ من «ميوريل سبارك» إلى «مرغريت درابل» خاصةً في رواية الأخيرة وعُنوانها الطاحونة.

وأنا أقول هذا من باب التذكير فحَسْب؛ فالشواهد كثيرة، ولن أعودَ إلى موضوع البطولة أو سِواه. المهم أن نتبيَّن أن «تخطِّيَ» معايير المؤسسة الأدبية العالمية هو في حقيقة الأمر أيسرُ من تحقيقها، فكيف يكون ذلك؟ أعتقد أن الإجابة واضحةٌ الآن، وهي التركيز على القيم الإنسانية الثابتة التي لا تتغيَّر بتغيُّر المعايير الاجتماعية أو سِواها وأدبنا العربي زاخرٌ والحمد لله بهذه القيم.

ولتيسيرِ التناول أقول إننا إذا أرَدْنا من العالم أن يَفهمنا ويتذوَّقَنا فلا بد أن نَنفُذَ إليه من باب فَهمِه الفَهْم الصادق. ومعنى فَهْمه تقديمَ ما نعرف أنه يستطيع أن يفهمَه وما يكونُ ذا صلةٍ بحياته حتى يتذوقَه. حقًّا قد يستطيع الرِّوائيُّ أن يخلق عالمَه الخاصَّ الذي يجرُّ إليه القارئَ جرًّا، وقد يفعل المسرحيُّ ذلك، ولكن الشاعر يستند إلى العالم الكبير المتوارَث الذي خلَقَه الشعراءُ من قبله وفي عصره. ولذلك فإذا تصدَّينا للشعر فسوف نجد أن القانون الذي يحكم ترجمة الشعر الأجنبي إلى العربية هو القانون الذي يحكم ترجمة الشعر العربي إلى الإنجليزية مثلًا. فالاختيار سيكون محكومًا أولَ الأمر بتحقيق «الصِّلة Relevance»، ثم بتحقيق المصطلح الشعري الذي وضعَته المؤسسة الأدبية، وبهذا فحسب يمكن تخطِّي تلك المؤسسة! وأعتقد أن هذه المفارقة تحتاج إلى إيضاحٍ وأمثلة. خُذ قصيدةَ الرثاء. إنها نوعٌ أدبي عالمي، ولكن المبالغة التي نَجنحُ إليها في تُراثنا تجعل من المتعذِّر إيجادَ تلك الصِّلة بسبب الوُلوع بالمبالغة بل الإغراق والاستغراق فيها محاكاةً لعصرٍ أو لشاعر. فالمرثي هو جِماع الفضائل بل هو الفضيلة المجسدة، وعندما تُوفِّي «تُوفِّيت الآمال» وهُدَّت الجبال! وقد غيَّر الرومانسيون الإنجليزُ مثلًا من تقاليد هذا النوعِ بأن أدخَلوا فيه فنَّ التأمل، أي تأمُّل الحياة البشرية والنظرة الشاملة إليها من عدة زوايا، إلى جانب العنصر الوجدانيِّ الذي يجعل الرثاءَ أقربَ إلى القصيدة الوجدانيةِ منه إلى قصيدةِ المدح. وبهذا تأثر المحْدَثون فأوجَدوا الصلة، واستخدموا المصطلحَ الشعري الحديث فاقترَبوا من العالم. قارِنْ مثلًا رثاءَ «الخنساء» أخاها «صخرًا»، أو رثاءَ «أبي تمَّام» لمحمدٍ الطوسيِّ بقصائد الرثاء الحديثة التي ترجمتُها ووضعتها في كتابي عن الشعر العربي المعاصر، وهي قصائد لصلاح جاهين وفتحي سعيد ووفاء وجدي. إن الفارق هو في حقيقة الأمر فارقٌ بين عالم قديم انقطعَت صِلتُنا به، وعالم حديث نعيش فيه، ولا بد لنا معه من جسور! وأما المصطلح فسأُورد نَموذجًا ساطعًا له. إن المازني عندما ترجم بعضَ القطع من «شكسبير» كان يَنشُد المصطلحَ أولًا وأخيرًا، وهذا ما حدا به إلى التغيير والتعديل والتبديل (وكان يُؤثَر عنه أنه كان يؤلِّف حين يُترجم، ويُترجم حين يؤلف):
أبعِدوا عنِّي الشِّفاهَ اللواتي
كُن يُطفِئن من أُوار الصَّادي
وابعِدوا عني العيونَ اللواتي
هن فجرٌ يضلُّ صبح العباد
واستردُّوا إن استطعتم مَردًّا
قُبلاتي من الخدودِ النوادي

وليس الأصل هكذا، والأقرب إليه أن يكون:

إليكنَّ عني فتِلك الشِّفاه
عُذوبتُها حنَثَت باليمين
وتلك العيونُ
فجرٌ مُبين
ضياءٌ يَضِل مسيرَ الصَّباح
ولكنْ أعيدوا إليَّ القُبَلْ
أعيدوا الرُّوَاء
طَوابعَ حبٍّ طَواها الأجَلْ
وضاعَت هباء!

فإذا عدنا إلى قصيدة الرثاء استطعنا أنْ نجد أنَّ تغييرَ المصطلح على أيدي الرومانسيِّين قد أتى بحُريةٍ في التصوُّر وحريةٍ في «الحركة الشعرية» داخل الصور إلى الحدِّ الذي يتخطَّى بها الزمانَ والمكان، ويهَبُها القدرةَ على أن تفرض نفسَها على المؤسسة الأدبية — خذ مثلًا قصيدةَ «أدونيس» للشاعر الإنجليزي شلي — إنها نموذجٌ صادق للمصطلَح الشِّعري الجديد الذي يجعلُ التأمُّل عنصرًا أساسيًّا من عناصر «الحَدْس الشعري» — وقد ترجمها الدكتور لويس عوض، فأبدعَ في إخراج هذا المصطلَح إلى العربية. ويكفي في هذا المجال تقديمُ مرثيَّة صُغرى من مراثي وردزورث، تُبين الجانبَ الآخر للمصطلح الشعري في الرِّثاء وهو مَزْج التأمُّل بالنَّزْعة الوِجدانية:

ختَم الناس على روحي وغيبها
ومَحا مخاوف البشر
فبدَت لعيني فتاةٌ ليس تلمَسُها
يدُ السِّنين والقدَر
فالآن قد سكَنَت والقوةُ اندَثَرَت
ومضى زمانُ السمع والبصَر
وغدَت تدور ببطنِ الأرض دورتَها
كالصَّخر والأحجارِ والشجَر!

تُرى هل نستطيع أن نُترجم أدبنا العربي — من هذا اللون — إلى الإنجليزيةِ أو الفرنسية مثلًا، فنؤكِّد انتماءنا لعالم اليوم؟

الإحالة إلى الماضي

بعد تقديم عددٍ من قصائد شعرائنا المعاصرين بالإنجليزية في الإذاعة؛ استولَت الدهشةُ علينا لمئات الخطابات التي تلقَّيناها من أمريكا وكندا وأوروبا تطلب المزيدَ وتَعجبُ لمستوى «حداثة» الشعر لدينا، فاقترح الشاعر صلاح عبد الصبور، وكان رئيسًا لهيئة الكتاب آنذاك، أن أصحَبَ معي في جولتي بالولايات المتحدة (ضمن بَرنامَج مصر اليوم) عددًا من القصائد التي تُمثِّل الشعر الحديث في مصر بحيث يطَّلع الجمهور الأمريكيُّ على الشعر الحي — أي على الشعرِ المسموع لا المقروء فحَسْب. وحطَطْنا الرِّحال أولَ الأمر في واشنطن، وكان أول لقاء مع الجمهور الأمريكي في مؤسسة «سميثونيان»، والربيع قد بدأ يكسو أشجارَ الشتاء بأوراقٍ خُضْر صغيرة نضرة، وكان الصباح في الحديقة التي تُطِل عليها نوافذُ القاعة بهيجًا مشرقًا وَضَّاءً.

وتولى الدكتور جورج عطية تقديمَ الضيوف ثم انطلَقْنا نقرأُ الشعر ونتقبَّل أصداء الاستحسان بدهشةٍ لا تقلُّ عن دهشتنا بتلقِّي خطابات القرَّاء، ولكن الدهشة الحقيقية كانت عندما حُدِّد لنا موعدٌ آخر مع جمهورٍ آخر في مساء نفس اليوم؛ إذ تردَّد في الأوساط الأدبية والفنية خبرُ وصول الوفد، وقرر الدكتور عطية تنظيمَ لقاء مسائي تُسجله الإذاعة (أو الإذاعات؛ فهي كثيرةٌ في أمريكا). وفي ذلك اللقاء لم يقتصر الاستحسانُ على طلب الاستزادة، بل اتخَذ صورةَ ندوةٍ ناقَشْنا فيها الجمهورَ مناقشةً مستفيضة، وتولى الردَّ من الوفد المصري بصفةٍ أساسية الدكتور سمير سرحان والدكتور مرسي سعد الدين. وبعد أن تكرَّرَت اللقاءات في عدة مراكزَ ثقافية في أمريكا من المحيط إلى المحيط كما يقولون، ومن الشمال إلى الجنوب، كان السؤال الذي يُلِحُّ على أذهاننا جميعًا هو: إذا كان لدينا مثلُ هذا الشعر العظيم فلماذا لا يقرؤه الناسُ في كل مكانٍ في العالم حتى اليوم؟

في جامعة بنسلفانيا بمدينة فيلادلفيا كان ردُّ أحد كبار المستشرقين وهو «روجر ألن» أن الشعر العربي لم يُترجَم الترجمةَ الصادقة حتى الآن، وفي جامعة تكساس بمدينة أوستن كان ردُّ «جودمان» مديرِ النشر والشاعر دافيد أن الشعر العربي مليءٌ بالصحراء والجِمال، وهو ما لا يفهمه الجمهورُ الأمريكي، بل إن ذلك الشاعر أعربَ بصورةٍ مباشرة عن شكِّه في أن يكون الشعرُ الذي سمعه عربيُّ الأصل! وقال في دهشةٍ أمريكية صادقة: «ولكن أين الجِمالُ والخِيام؟»

وفي جامعة نيويورك كان الاستقبالُ حافلًا بفضل الإعداد الذي تولَّتْه الدكتورة منى نجيب ميخائيل — ولكن السؤال الذي لم يكن منه مَهرَبٌ هو أيضًا لماذا لم تُقدِّم الشعر حتى الآن كما ينبغي — وتكرَّرَت القصة في لوس أنجيليس في جامعة كاليفورنيا؛ حيث احتَفَت بنا الدكتورة عفاف لطفي السيد أيَّما احتفاء. ولم يُفلِح التشاؤمُ الذي كان مُلازمًا للدكتور لويس عوض في الإقلال من بهجةِ استمتاع الجمهور بالشِّعر والمناقشات الساخنة التي شاركَت فيها الدكتورة سهير القلَماوي مشاركةً فعالة.

وعند عودتنا إلى مصر كنا قد عقَدْنا العزم (سمير سرحان وأنا) على أن نفعل شيئًا؛ كنا قد فرَغْنا لتوِّنا من الاشتراك في عملٍ ما، وكان ما يزال أمامنا عملٌ كثير! ونشَرَت بعضُ المجلات الأمريكية نماذجَ من شعرنا، فتحمَّس الشاعر محمد إبراهيم أبو سنَّة لتقديم المجموعة التي تكوَّنَت لديَّ بالإنجليزية لنشرِها عن طريق لجنة الشِّعر بالمجلس الأعلى للثقافة، وكنتُ آنذاك عُضوًا بلجنة الترجمة، ولكن المشروع تعثَّر لأسبابٍ لا مجال للخوض فيها، خاصةً أن الكتاب على وشك الصدور من الهيئة العامة للكتاب (وبه خَمسون قصيدة لثمانيةَ عشَر شاعرًا) كان صلاح عبد الصبور قد رحَل عن عالمنا، وكان أمامنا أن نختار بأنفسنا الشعرَ الذي يعيش في وِجدان الناس. وعكَفتُ على تأمُّل التراث القريب للشعر العربي، وقد كنتُ هضَمتُ الكثيرَ منه في مَيْعة الصِّبا، وجعَلتُ أفكر ما عساي أفعل بالتراث الخِصْب الذي خلَّفتْه الحركةُ الرومانسية التي نُطلق عليها حركةَ الإحياء أو البعث — وعادةً ما تعتبرها كلاسيكية؛ لأنها ترتدي ثيابَ التقليد والتقاليد — وجعلتُ أبحث جنبات الدواوين عن شيءٍ «ذي صلة» بحياة الناس اليوم، بمشاعرهم وأفكارهم اليوم، فوجدتُ ما حيَّرني وأقضَّ مضجعي.

إن شعراء الإحياء (بما أحرزوه من إحياء) كانوا يُحيلون القارئَ العربي في هذا العصر إلى زمن بعيد؛ زمنٍ يصعب بعثُه إلا إذا تغيَّر وجه الحياة برُمَّتها في عالم اليوم، وأنا لا أقصد الجِمال والخِيام هنا؛ فقد توجد هذه مع إنسانِ هذا العصر، ولكنني أقصد النُّضج الذهني والوجداني الذي حقَّقه ابنُ هذا القرنِ في وطننا العربي على امتداد ساحته، (مهما قيل عن التفاوت هنا وهناك بين مراحل هذا النضج) ولْأضرِبْ مثلًا لهذا بقصيدةِ «الفخر».

كان الفخر في الماضي مُرتبطًا بتقاليدِ القبيلة ومجدِ الأمة وعَراقتها وكان ما يفخر به الشاعرُ هو في الحقيقة جِماع القيم والمبادئ التي تستنيرُ بها الإنسانية، ولا تقتصر على القبيلة. ولذلك فنحن حين نقرأ مَدائح الماضي أو قصائدَ الفخر (وهو نوعٌ من مدح الذات) فإننا نُواجه عالم الأنثروبولوجيا الثقافية التي شغَلَت نُقاد القرن العشرين، ونحن نفعل ذلك شِئنا أم أبَينا عندما نقرأُ شعر الماضي أيًّا كان لونُ هذا الشعر، ابتداءً من شِعر مِصر القديمة واليونان والرومان فالعرب والشعر الأوروبي حتى شكسبير نفسه! أي إن دراسة الأدب الذي انتهى إلينا وأصبَح يُشكِّل التراث الإنساني؛ تتضمَّن قدرًا من جُهد «الإحياء»، فنحن نحاول أن نتصوَّر عالَم القُدماء ونعيشَه حتى نتذوَّق أدبهم؛ ولذلك يظلُّ الماضي ماضيًا، ثم يأتي أدبُ الحاضر ويذهبُ لِيَلحَق بالماضي هو الآخَر! المهم أن يكون الحاضرُ في أدبنا حاضرًا لا ماضيًا؛ أي أن تكون الإحالةُ إلى حاضرٍ نعيشه فِكرًا وشعورًا، لا إلى ماضٍ من الفكر والوجدان جميعًا، ولا أدلَّ على ذلك من بائية الباروديِّ الشهيرة التي يدرسها الطلبةُ في كل مكان، والتي يتفاخرُ فيها بأنه لا يَطْرَب «بتَحْنان الأغاريد»، و«لا يملك سمعَيْه اليَراعُ المثقَّب» (أي الناي). فالإحالة هنا ليست إلى الموسيقى كما نعرفها، ولا أتصوَّر أن البارودي يفخر بعدم استمتاعه بالموسيقى (مثل جيسيكا ابنة شيلوخ اليهودي في مسرحية تاجر البندقية لشكسبير)، ولكنه يفخر في الحقيقة بأنه لا يستطيبُ مجالس الأنس والطرب واللهو واللعب؛ أي إن الإحالة هنا هي إلى تلك المجالس التي صوَّرها أبو الفرَج الأصفهاني خيرَ تصوير، كذلك سيرى القارئُ أنه يقصد بالعَلْياء ما كان يقصده السلَف من المجدِ الحربي، ولا غَرْو؛ فحياة البارودي في الواقع تؤكِّد هذا الفَهْم. والبيت الذي يقتربُ كثيرًا من فنِّ الإبجرام والذي أراد الباروديُّ للقارئ أن يذكره به هو:

ومن تَكُن العلياءُ همَّةَ نفسِه
فكلُّ الذي يَلْقاه فيها محبَّبُ

فالعُلا (أو العَلْياء) بمثابة قيمةٍ مجرَّدة إطارها المرجعيُّ هو الزمان السحيق، وليس هذا العصر، وقِسْ على هذا ما فعله غيره من شُعراء الإحياء، فبراعةُ استهلال شوقي تُحيلنا إلى الماضي حين يَنشُد الأطلالَ في افتتاحيَّة قصيدته دمشق:

قُم ناجِ جلَّقَ وانشُدْ رَسْمَ مَن بانوا
مشَتْ على الرَّسم أحداثٌ وأزمانُ

وتُحيلنا إلى ماضي المصطلح الشعريِّ حين يَعْمد إلى المبالَغة الصارخة في استهلال رِثاء مصطفى كامل:

المَشْرِقان عليك يَنتحبانِ
قاصيهما في مأتمٍ والدَّاني

إن قارئ اليوم يعجب لهذا الذي مات فبَكاه الشرقُ والغرب جميعًا؛ لأن زمن الإغراق في الكذب قد انقضى، ولم يَعُد أعذبُ الشعر أكذَبَه، والمحتمل أن شوقي كان يريد أن ينتهيَ من هذا كلِّه إلى الإبجرام الشهير:

دقَّاتُ قلبِ المرء قائلةٌ له
إن الحياةَ دقائقٌ وثَواني

ولا داعي لِتَكرار ما قاله العقَّادُ عن البارودي وشوقي معًا؛ فقد كان العقاد واعيًا بالاتجاه الذي سار فيه شِعرُهم — على غَزارته وجَماله — ألا وهو الإحالةُ إلى الماضي. وإذا كان من الصعب على قارئ العربية اليوم أن يُعيد الحياةَ في الماضي، فكيف بالأجنبيِّ الذي يريد أن يتعرَّف على أدبنا؟

اللغة المشتركة

يقول الشاعر الإنجليزي وليام وردزورث إن هناك «واحاتٍ زمنيَّةً» في وجود كلِّ إنسان يَرْتادها المرةَ بعد المرة ليرويَ عطشَ خياله، ويتبرَّد من هَجير الحياة، وحينما صدَمَته انتكاسةُ الثورة الفرنسية كان يختلف إلى تلك الواحات حينًا فحينًا، وكثيرًا ما كان يجدُ فيها العزاءَ والسَّلوى؛ لأنه كان يرى فيها الإنسانَ في مرحلة البراءة قبل أن تطحَنه أضراسُ التجرِبة، وكان يعني بالتجربة مثل كلِّ الرومانسيين مواجهةَ الشرِّ والاعترافَ بوجوده، بل والتصالُحَ مع هذا الوجود!

وإذا كان جيلنا يجدُ نفسَه اليوم في حاجةٍ إلى ارتياد هذه الواحات، وربما كان ذلك قبل أن يَحينَ موعدُ ارتيادها الحقيقيِّ الذي لا يأتي إلا بالتجرِبة؛ فذلك لأننا عِشْنا سنواتٍ كانت تُوازي سنواتِ الطفولة في صفائها ونقائها، وهي سنواتُ التفتُّح على الأدب العالمي وفَوْرة الحماس الذي لم يسبق له مثيلٌ في الستينيَّات، فكنا نقرأ بنَهمٍ في الأدب وكلِّ ما يتصل به من دراسات نظرية وتطبيقية، وكنا نناقش ما شاء الله لنا أن نتناقش فيما قرَأْنا، وكان لنا أساتذة يُمثلون القمم التي نطمح إلى تَسنُّمِها، وأنا أقصد بجيلنا بالتحديد جيلَ مَن تفتَّحَت مواهبُهم في الستينيَّات، وهم بعدُ في ربيع العمر أو على مَشارفه فكتَبوا المسرحَ والمقالة والكتاب، ونشطوا إبداعًا وترجمةً وتأليفًا، وقد بدا لهم الطريقُ دون نهاية، أو كما يقول شاعرٌ إنجليزي آخر وهو «ألكسندر بوب»: «كلما تراءت لهم قمةٌ برَزَت من ورائها قمة!»

كانت الترجمة تشهد ازدهارًا نادرًا — ولكنه كان طريقًا ذا اتجاهٍ واحد؛ لأننا كنا نُترجم من الإنجليزية (أو الفرنسية) إلى العربية فحَسْب، ولم نكن بعدُ نطمح بل لم نكن نتصوَّر أن لدينا أدبًا قادرًا على احتلال مكانِه الحقِّ بين آداب العالم لسببٍ بسيط، وهو انبهارُنا الشديد بالأدب العالميِّ الذي كان يفتح أمامنا آفاقًا تختلفُ اختلافًا بَيِّنًا عن تلك التي عَهِدْناها في أدبنا العربي. كانت المشكلة عندي هي أنني درَجْتُ على مُوازاة الأدب بإحكام الصَّنعة اللغوية، وكان هذا أمرًا طبيعيًّا في سِنِّي بعد أن ترَكتُ الكُتَّاب والتحقتُ بالتعليم العام، فوجدتُ بين أساتذتي مَن لا يكترثُ إلا للبلاغة التقليدية وصناعة الإنشاء، ووجدتُ في محيط الأسرة من أقاربي مَن يؤكد لي صحةَ ذلك — فكُتَّاب الشيخ مصطفى عناني يُعاد طبعُه المرةَ بعد المرة «الوسيط في الأدب العربي» وكتُب علي الجارم (النحو الواضح وغيره) تملأ المنزل، ووالدي غارقٌ إلى أذُنَيه في العِقْد الفريد وفي نَفْح الطِّيب!

وكم كانت دَهْشتي عندما انتقلتُ إلى القاهرة عام ١٩٥٤م وكتبتُ أحد موضوعات الإنشاء التي كنتُ أُجيدها فوجدتُ أحدَ زملائي في الفصل وهو الأستاذ أحمد السودة يسخر منه باعتباره إنشاءً! كان أستاذنا الدكتور عبد الرءوف مخلوف قد انتهى من رسالة الماجستير آنذاك، وكانت عن كتاب العُمْدة لابن رَشيق، وكان من المعجَبين باللغة التي أكتبها — ولم أفهم سرَّ اعتراض صديقي على الإنشاء! أوَلسنا مُطالَبين بالإنشاء؟ وهل الأدبُ سوى إنشاء؟ لم أكن أدري حين ذاك أن طه حسين قد نقَض ذلك قبل نيِّفٍ وثلاثين عامًا في مقدمته لكتاب «فجر الإسلام» لأحمد أمين، ولم أكن أدري أنَّ في الدنيا أدبًا يستخدم لغةً مشتركة تتجاوزُ البلاغةَ والفصاحة، وتستخدم مفرداتٍ أخرى ومعاييرَ أخرى، ولا تقوم على عبقرية البيان وحدها!

وعندما دار الزمانُ وتخصَّصتُ في الأدب الإنجليزي حدَث عكسُ ما كنت أتوقَّع؛ إذ وجَدتُني أعودُ إلى الأدب العربي فأجدُ العجَب! إن روائع أدبنا العظيم يحجبُها عن عيوننا تراثٌ هائل من كتابات عصر الانحطاط وهو عصرٌ طال فأمعنَ في الطول! أمامي الآن كتابٌ يتضمَّن رسائلَ بديع الزمان الهمَذاني يقول في مقدمته الناشرُ: إنه أعظمُ ما تفتَّحَت عنه قريحةُ السلف. وأذكر أنني كنتُ مطالَبًا منذ عدة سنواتٍ بإعداد عُروض لبعض كتب التراث التي حُدِّدتْ سلفًا لي — وكان من بينها كتاب الأبشيهي، وعُنوانه «المستطرَف في كل فنٍّ مستظرَف» — ووجَدتُني أكتشفُ كيف سادت فكرة الإنشاء قرونًا وقرونًا حتى انحصر الأدبُ في التمارين اللغوية، وحيث وَلَّدَت هذه الفكرةُ معاييرَ خاصةً تُشكِّل في مجموعها مؤسسةً أدبية لها قوانينُها وقواعدها، بحيث حجبت عن عيون دارسي العربية «اللغة الأدبية المشتركة» — لغة الإنسان — التي يتكلَّمها الناسُ في كل مكان، بغضِّ النظر عن لغة الألفاظ التي تختلف من بلدٍ إلى بلد!

إن الواحات التي أرتادُها اليوم في هجير الحياة هي واحاتُ هذه اللغةِ المشتركة، تلك التي لم تمنع الأدب الروسيَّ مثلًا من أن يُصبح أدبًا إنسانيًّا عالميًّا؛ لأنه يستخدم تلك اللغةَ رغم أننا نقرؤه بالإنجليزية! وما زلتُ أذكر اليوم الذي قرأتُ فيه قصة تشيخوف «العنبر رقم ٦» في ترجمتها الإنجليزية لأول مرة ذاتَ يوم من أيام الصيف عام ١٩٦٣م، ولم أستطع أن أصبرَ على انفعالي بها فأُهرِعتُ إلى منزل صديقي سمير سرحان، ودفعتُ إليه بالكتاب في ساعةٍ مبكِّرة من ساعات الصباح وتركتُه وخرجت، وفي المساء التقينا في مقهًى بالجيزة (امتدَّت إليه يدُ الهدم الآن) وكان قد أصابه نفسُ انفعالي فلم نتبادل أيَّ حوار. كان كلُّ ما قاله هو إنه سيحتفظ بالكتاب؛ ليقرأ بقية القصص، غيرَ آبهٍ باعتراضي على ذلك! وسِرْنا على النيل في صمت ذلك المساء، وقد استغرق كلًّا منا ذلك الحَذْقُ الخارقُ الذي يتميَّز به تشيخوف لحالةٍ في تصويره من حالات النفس البشرية وهي تنزلقُ من عالم الأسوياء إلى عالم المجانين. وأعتقد أن هذه الواحةَ كانت قد بعثَت إليَّ الحياةَ عندما رأى صديقي بعد عشرين عامًا الإعدادَ المسرحيَّ الذي قام به سمير العصفوري لهذه القصة، وأخرَجها لمسرح الطليعة بعُنوان «في زنزانة المجانين». كانت صورةُ العمل الأدبي قد اختلفَت؛ فهي الآن مسرحية وهي باللغة العربية، بل وبلُغة المسرح التي لم تكن تستخدم الألفاظَ كثيرًا، ولكنها كانت عملًا أدبيًّا إنسانيًّا عاملًا يستخدم «اللغة المشتركة»!

إن طريقَنا إلى العالمية لا بد أن يتَّجه إلى اكتشاف هذه اللغة المشتركة في أدبنا العربي القديم والحديث، بعد أن نتخلَّص نهائيًّا من فكرة المساواة بين البلاغة القديمة والأدب!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤