الفصل الثامن

من النظرية إلى التطبيق العملي

طرَحَ اجتماعٌ بمؤتمر القمة العالمي لدوائر الأعمال المعنيِّ بتغيُّر المناخ في مايو ٢٠٠٩ المواضيعَ التالية للمناقشة: «كيفية إنشاء أسواق عالمية قوية لحقوق انبعاثات الكربون، وتمويل الطاقة النظيفة، وتعزيز كفاءة استخدام الطاقة، وتشجيع الاستثمار في مجال التكنولوجيا، وتعزيز التعاون التكنولوجي، وحماية الغابات، وتطوير الاستخدام المستدام للأراضي، وإدارة وتمويل التكيف مع تغيُّر المناخ.»1 ولا حاجة بنا لقول إن هذا جدول أعمال كبير بالنسبة لمؤتمر يُعقد لمدة ثلاثة أيام. مع ذلك، يصاب المرء بالدهشة جرَّاء الافتراض الواضح أن الحلول هي حلول فنية أو ستكون كذلك في الأساس، وأنه يمكن ترك المشاكل السياسية الخاصة بالتوصل إلى اتفاق بشأن هذه القضايا ليحلها الآخرون. ونظرًا للمشاكل السياسية العميقة الموجودة محليًّا ودوليًّا، فإن هذا النهج ليس معقولًا؛ فمجرد عقد المزيد من الاجتماعات، سواء كانت كبيرة أو صغيرة، لِجَمع نفس الخبراء معًا للتوصل إلى النقاط نفسها التي توصلوا إليها بالفعل، وأحيانًا مرارًا وتكرارًا؛ لن يكون كافيًا. إذا دارت الأسئلة الرئيسية حول «ما يجب القيام به، وكيف ومتى نقوم به، ومَن الذي سيدفع ثمن ذلك»، فإن العملية السياسية سوف تكون حيوية على الأقل، مثل العمليات العلمية والتكنولوجية والاقتصادية.2 وتوجد ضرورة واضحة للتوجه نحو النتائج العملية، وهذا هو محور هذا الفصل.

(١) نظم مختلفة ووجهات نظر مختلفة

من الواضح أن متغير القيادة أمر حيوي في تحديد مسألة إن كانت القضايا البيئية تظهر في جدول الأعمال السياسي أو في التأثير بقوة في ذلك، ولكن توجد قضايا أخرى هنا تستحق التعليق. أشار بعض المحللين إلى أن الدول الديمقراطية لن تكون قادرة على التعامل مع مشاكل الطاقة والبيئة؛ لأن جماعات الضغط القوية ذات المصلحة الشخصية تهيمن عليها، وتسودها ثقافة مادية ومركزة على سبل الوفاء بالاحتياجات القصيرة المدى.3 مع ذلك، لا توجد أدلة مقنعة على أن الدول الاستبدادية كان أو سوف يكون أداؤها أفضل، أو أن المجتمعات المغلقة سوف تكون أكثر فاعليةً في توليد الابتكار التكنولوجي، أو أن تعبئة القاعدة الشعبية للمجتمع المدني سعيًا لتحقيق الأهداف المشتركة ستكون ممكنةً في المجتمعات الاستبدادية، التي قوضت عمدًا جميع عناصر المجتمع المفتوح. وهذا بطبيعة الحال لا ينفي أن الأنظمة الديمقراطية لديها بعض العيوب البارزة، ليس أقلها الميل إلى التناقض الناتج عن الانتخابات المتكررة والتغييرات في الحكم. ومع ذلك، فإن معظم الدول الديمقراطية أغنى بكثير وأكثر فاعليةً بكثير في أداء المهام الحيوية التي ستكون ضرورية للتعامل مع الطاقة والبيئة؛ مثل التخطيط للمستقبل، ودعم البدائل، ورعاية البحث العلمي والتكنولوجي. ويبقى أن نرى إن كانت الصين المعاصرة ستكون استثناءً من هذا التعميم أم لا؛ فمع الحفاظ على الضوابط السياسية الصارمة، تحوَّلت الصين بنجاح حتى الآن من نظام شيوعي مغلق إلى اقتصاد مركنتيلي شبه مفتوح يستثمر بكثافة في الطاقة المتجددة؛ وأصبحت في مقدمة قائمة الدول، مقارَنةً بما كانت عليه. وسنعود إلى مسألة الصين في الفصل الختامي.
ترتبط القدرة على التوصل إلى اتفاقيات دولية ناجحة في مجالي الطاقة والبيئة على نحو وثيق بالإيجاد المسبق للتوافق المحلي حول هذه القضايا. ومع ذلك، من الواضح أن هذه القدرة تختلف اختلافًا شديدًا في مجموعة الدول المساهمة الرئيسية في الاحترار العالمي. يمكن صنع التوافق أو فرضه في الدول الاستبدادية، مع أنه حتى في الولايات المتحدة من المفترض أن يؤثر الدعم الشعبي ودعم النخبة على مدى فاعلية هذا التوافق في الممارسة العملية. وربما تقل الاختلافات بين الدول الديمقراطية من حيث تحقيق توافق كافٍ، ويرجع ذلك في جزء منه إلى التوافق العلمي المتنامي، وفي جزء آخر إلى التغيرات في الحكومة في الولايات المتحدة وغيرها من الدول. ومع ذلك، لا تزال الخلافات كبيرة، ومن المرجح أن تظل كذلك لعدة سنوات بسبب المخاوف من ارتفاع التكاليف المرتبطة باقتصاد طاقة جديد، والمخاوف من فقدان الميزة التنافسية إذا تبنَّتْ دولةٌ عملياتٍ جديدة ولم يتبنَّها المنافسون، وبسبب نوع من الخوف والقلق المعمم حول المستقبل الاقتصادي على المستوى الفردي وعلى المستوى الوطني.4

حتى مع وجود قيادة سياسية قوية ومعلومات جديدة حول وتيرة التغير المناخي وعمقه، من المتوقع أن نشهد توترًا متواصلًا بين التوافقات المحلية غير المستقرة، والتفسيرات المتباينة للمصالح الوطنية ونشهد كذلك الحاجة المتزايدة لتحقيق درجات كبيرة من التعاون الدولي. والحكومات الديمقراطية — مهما كانت فضائلها الوفيرة — تضيف حتمًا درجة كبيرة من عدم القدرة على التنبؤ إلى عملية التفاوض؛ لأنه لا يمكن لأحد أن يتيقَّنَ مما سوف تكون الحكومة القادمة قادرةً أو غير قادرة على فعله، أو راغبة أو غير راغبة في فعله. على أيِّ حال، إذا استمر الاحترار العالمي، فلن يكون نوع النظام السياسي متغيرًا ذا أهمية كبيرة؛ فربما يجبر تدهور الأوضاع «جميع» الدول على اتخاذ إجراءات متماثلة للغاية — وكثير منها سيكون إلزاميًّا — للتكيُّف مع التهديدات الأكثر حدةً أو للتخفيف منها.

ثمة مسألة أخرى ظهرت في عملية التفاوض، وهي تتعلق بآثار وجهات النظر المختلفة للاقتصاديين ومناصري حماية البيئة ومتخصصي العلوم السياسية. فببساطة، مناصرو البيئة عرضة للتركيز على «المبدأ الوقائي»، وهو شكل من أشكال تحليل «أسوأ سيناريو»؛ هذا التحليل الذي يصر على التصرف قبل الحصول على كل الأدلة خشية أن التأخير في التصرف سيخلق منزلقًا لا رجعة فيه نحو كارثة.5 ونكون مدفوعين حينها إلى القيام بأمور «بغض النظر عن التكلفة»، وهو موقف غير منطقي بالنسبة للاقتصاديين الذين يصرون على أننا لا يمكن أو لا ينبغي أن نتجاهل التكاليف، وعلينا أن نحاول الاحتفاظ بالمرونة في ضوء حدود معرفتنا. ويجب على المرء أيضًا، كما يفعل بول كروجمان، إدراك أنه من الضروري أن يتجاهل ما يسميه «الأمور الاقتصادية غير المرغوب فيها»؛ فهو يشجب الحجج المغالية في التبسيط القائلة بأن «حماية البيئة ستحقِّق مكسبًا، دون أيِّ تكاليف»، ولكنه يقول أيضًا: «تشير أفضل التقديرات المتاحة إلى أن تكاليف برنامج الحد من الانبعاثات ستكون متواضعة، ما دام نُفِّذ تدريجيًّا.»6 وقدَّمَ ستيرن حججًا أكثر تفصيلًا حول تكاليف وضع وتنفيذ استراتيجية اقتصادية منخفضة الكربون، ويقدر ستيرن التكاليف في حدود ١-٢٪ من الناتج المحلي الإجمالي في العقود المقبلة، وهي بالتأكيد أقل من تكاليف التعامل مع احترار عالمي حاد. وعلى أيِّ حال، فإن الصراع بين تركيز مناصري حماية البيئة على اتخاذ قرار حاسم بشأن الإجراءات المطلوب اتخاذها، وتركيز الاقتصاديين (ومتخصصي العلوم السياسية) على منهج تقدير التكاليف بالنسبة إلى الفوائد؛ يمكن أن يكون شديدًا، ويمكن أن يؤدي إلى خلافات حادة حول ما ينبغي القيام به ووقت القيام به.
أخيرًا، من المتوقع أن يقاوم متخصصو العلوم السياسية أيَّ نهج لا سياسي في جوهره، ويركز على نحو ضيق أكثر من اللازم على إيجاد الآليات المؤسسية المناسبة للتغلب على مشاكل الإجراء الجماعي، ويتجاهل جدوى التسوية السياسية التي ستكون الآلية المؤسسية معنية بحمايتها.7 ومن هذا المنظور، فالحلول الوسط والتنازلات لا مفر منها، وتجاهُلها قد يخلق حالة أخرى يصبح فيها «الأفضل عدوًّا للجيد»؛ لا سيما عندما لا نكون متأكدين كثيرًا مما يُعتبَر «أفضل». وعلى أيِّ حال، كل هذه التحيزات المهنية ربما تجعل الاتفاقيات التعاونية صعبةً للغاية.

(٢) تحسين التوقعات

من المتوقع أن تختلف آثار الاحترار العالمي — سواء كانت محلية أو إقليمية أو دولية — في الشدة وكذلك الموقع الجغرافي. علاوة على ذلك، لأن القدرات على التعامل إما مع مصادر المشكلة أو مع عواقب تغير المناخ؛ تختلف أيضًا اختلافًا كبيرًا، فإن الرغبة أو القدرة على دفع تكاليف تخفيف الآثار والتكيُّف معها نادرًا ما تكون متناظرة. ومن ثَم، فإن الهدف العسير المتمثل في وضع إطار سياساتي عالمي مستقر، وإنشاء مؤسسات دولية فاعلة، والتوصل لسعر عادل بمرونة ومتفق عليه بالتبادل لانبعاثات الكربون؛ هدف من الصعب جوهريًّا تحقيقه. توجد أسئلة متعددة تحتاج إجابات عليها؛ منها: على أيِّ مستوًى ينبغي أن تبدأ المفاوضات؟ مَن سيحصل على مقعد حول طاولة المفاوضات؟ هل سيُحدِث شكلُ الاتفاقية أيَّ فارق؟ ما نهجُ عملية صنع السياسات ذو الاحتمالات الأوفر للوصول إلى اتفاقيات واقعية؟ ما المبادئ التي ينبغي أن نستعين بها في الإجابة على هذه الأسئلة؟ نبدأ بتلخيص بعض الشروط العملية التي عادةً ما تصاحب المفاوضات الناجحة. صحيح أنها كثيرًا ما يتم تجاهلها، ولكن لماذا ينبغي أن يشغلنا ذلك؟

في المقام الأول، يجب أن تقتنع الحكومات أن لديها مصلحة قوية في التفاوض وفي دفع تكاليف بلوغ اتفاق دولي، وبطبيعة الحال، يجب أن يكون لديها تحالف محلي قوي على استعداد لدعم الاتفاق الذي تتوصل إليه أيًّا كان. ومما يتضمنه ذلك بوضوح أنه يجب أن تُجرَى مفاوضات على ثلاثة مستويات على الأقل؛ أحيانًا في الوقت نفسه، وأحيانًا على التوالي: على الصعيد الداخلي، وعلى مستوى المجموعة الأكبر داخل منظومة التفاوض الدولي، وعلى مستوى ما بين المجموعات للتوصل إلى اتفاق نهائي. لكلِّ مستوًى مشاكله الخاصة، التي تُفاقِم الصعوبات على المستوى النهائي ما بين المجموعات. والعملية التفاوضية المعقدة تلك، وخاصة داخل منظومة الأمم المتحدة، أصبحت مختلَّة على نحو متزايد؛ فدائمًا ما يكون التوافق داخل المجموعة هشًّا، وكثيرًا لا ينتج عن المفاوضات اللاحقة التي على مستوى ما بين المجموعات سوى نتائج مبهمة غير واضحة بالمرة. واستمرت هذه العملية لا لسبب إلا غياب وجود بديل فاعل للمفاوضات بين أكثر من ١٥٠ دولة.

وتشمل العقبات التي تعترض سبيل التقدم على الصعيد الوطني الجداولَ الزمنية السياسية المتباينة؛ ربما بسبب الانتخابات المقبلة أو تغيير القيادة. ويمكن أن تطول العملية الدولية على نحو مفرط بسبب الانقسامات الداخلية داخل كل مجموعة (لا سيما بلدان العالم الثالث العديدة والمتنوعة للغاية)، وبسبب أنه قد لا يوجد الكثير من التوافق بين حزم المطالب التي تقدِّمها كل مجموعة، وربما تؤخِّر الخلافاتُ حول الإنصاف أيضًا الوصولَ لاتفاق، وكذلك الشكوك بشأن توزيع الأرباح والخسائر. بالطبع، تسعى الدول للوصول إلى اتفاقات تقدِّم منافع متبادلة (أو تعويضًا للخاسرين إذا لزم الأمر)، ولكن الاختلافات في القوة والمصالح المدركة يمكن أن تؤثِّر على حسابات الشروط المقبولة والتخصيص السليم للتكاليف. يمكن التغلب على العقبات بسهولة أكبر إذا كانت دولةٌ غنية وقوية على استعداد لدفع أكثر من حصتها النسبية من التكاليف الأولية للاتفاقية لضمان التوصل إلى نتائج مستقبلية أكثر فائدة، ولكن هذه التضحيات صعبة في ظل البيئة السياسية والاقتصادية الراهنة. توجد هذه العقبات في جميع مجالات التفاوض، لكنها تكون أكثر حدةً على مستوى المؤتمرات العالمية.

في حالة وجود إجماع داخل نطاق سياساتي، فإن الساحة المحلية عادةً ما تكون أقل تبعيةً. فعلى أيِّ حال، بمجرد وضع السياسة الداخلية، فمن الصعب تغييرها؛ حيث تظهر تحالفات للدفاع عنها ولمعارضة السياسات الجديدة ذات التكوينات المختلفة من الفائزين والخاسرين. ومن المتوقع أيضًا أن ينصاع صنَّاع القرار للسياسات القائمة — إلا عندما يكونون جددًا في مناصبهم — وأن يتجاهلوا المعلومات المناقضة ويبرروا الفشل باعتباره مجرد مقدمة لتحقيق النجاح في المستقبل. علاوة على ذلك، وعلى النقيض من نماذج صانع القرار العقلاني في صنع القرارات، فإن صانع القرار في العالم الحقيقي من المحتمل أن يكون غير متأكد من الأهداف والأولويات، ومنحازًا لخياراته، ومنجذبًا إلى مختلف الاتجاهات بفعل العاطفة والعقل، وخاضعًا لضغط شديد بسبب ضرورة انتقاء خيارات لا بد أنها تزعج بعض الجماهير المهمة.8 والصراعات المحلية مهمة في حدِّ ذاتها، لكن يمكنها أيضًا أن تقوض عملية التفاوض الدولي.

توجد مشكلة أخرى مع هذا الشرط هي أن قياس النجاح ليس واضحًا تمامًا، فالنجاح (أو الفشل) يعكس الأحكام الموضوعية والشخصية؛ ومن ثَم التحرك نحو تحقيق بعض الأهداف — مثلًا، تحقيق أهداف خفض الانبعاثات — التي يمكن قياسها بموضوعية، ولكن الأحكام الشخصية تتدخل أيضًا؛ إذ إنه يجب أن يشعر مختلف أطراف الاتفاق أن الاتفاق ناجح وفقًا لمعاييرهم الخاصة. وحتى لو بَدَا أن بعض الأهداف تحقَّقت على نحو موضوعي، فإن مسألة إن كانت كافية (على الأقل من حيث المعرفة الراهنة) تكون أو يمكن أن يكون الحكم عليها شخصيًّا إلى حدٍّ كبير. كما يوجد أيضًا التعقيد الإضافي الذي يتمثل في أن النجاح أو الفشل القصير المدى يمكن أن يتحول إلى فشل أو نجاح طويل المدى. باختصار، يمكن أن تكون الأحكام المبكرة بالنجاح أو الفشل مضللةً أو مدمرةً.

من المتوقع أن يكون العامل الثاني في تسهيل التفاوض بشأن الاتفاقيات الدولية هو وجود شعور واسع الانتشار — لا سيما بين المشاركين الرئيسيين — بأن أطراف الاتفاقية سوف يمتثلون لها، وأن لديهم القدرة على القيام بذلك مع وجود عقوبات ذات مصداقية وجدِّية لعدم الامتثال أو من دون وجودها، وأنهم لم يوقِّعوا الاتفاقيةَ بنِيَّة الخداع. ويدور جدل حادٌّ بين المتخصصين حول مسألة إن كان عدم الامتثال ينبغي أن يُعامَل على أنه انتهاك للاتفاقية يجب المعاقبة عليه، أو على أنه مشكلة يجب التغلب عليها عن طريق الإقناع ومحاولة تعزيز القدرة على الامتثال. مع ذلك، الإجاباتُ المجردة على هذا السؤال ليست مفيدة كثيرًا. يعتمد الكثير في هذا الأمر على خطورة المخالفة (على سبيل المثال، المخالفة خطيرة في حالة إيران ومعاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية)، وعلى أهمية الدولة المخالفة في سياق المشكلة الحالية، والقدرات الإدارية والفنية لطرف الاتفاقية الذي لم يمتثل. إن أوجُه الإبهام واضحة؛ فعدم امتثال الصين لاتفاقيةٍ للحد من انبعاثات الكربون يشكِّل انتهاكًا خطيرًا جدًّا، لكن ربما يتم تجاهُل محاولة فرض عقوبات صارمة، وإلا فستؤدي إلى جعل الصين تبتعد عن أيِّ التزام آخر للحد من الانبعاثات. لكن إذا لم تُطبَّق العقوبات، أو على الأقل إذا لم تمثِّل تهديدًا ذا مصداقية، فماذا سيكون الحافز للامتثال بالنسبة للصين في المقام الأول، بصرف النظر عن الإدراك المتزايد بأن الاحترار العالمي سيكون كارثيًّا بالنسبة للصين مثل جميع الدول الأخرى؟ وعلى النقيض، الدولة الأفريقية التي لا تمتثل لأنها تفتقر إلى القدرة على القيام بذلك لا ينبغي أن تكون مرشحًا لفرض عقوبات عليها: ربما لا يؤدي عدم امتثالها إلى أيِّ عواقب سوى العواقب المحلية (التي قد تكون شديدة)، وهي بحاجة إلى المساعدة الفنية والمالية لتصبح قادرة على الامتثال. وفي كلتا الحالتين، باستثناء وجود حالة طوارئ ناجمة عن معلومات جديدة حول الاحترار العالمي، فإن الإقناع والمساعدة يبدوان نموذجًا أكثر عقلانية للجهود الرامية إلى التعامل مع عدم الامتثال، أو ربما ينبغي للمرء أن ينتهي إلى الرد الاقتصادي الشهير على جميع الأسئلة؛ كل هذا يعتمد على الموقف. وما يعتمد الأمر عليه هنا هو الأحكام حول خطورة المخالفة المذكورة؛ على سبيل المثال، إذا استمر الاحترار العالمي في التصاعد، فإن عدم امتثال بلد كبير أو حتى العديد من البلدان الصغيرة يمكن أن يشكِّل تهديدًا قاتلًا يبرِّر فرض عقوبات شديدة. الحكم السياقي من النوع نفسه ضروري فيما يتعلق بالانتفاع بالمجان؛ يتوقف الأمر كله على مَن يفعل ذلك ومدى خطورة المشكلة في الوقت الراهن. علاوة على ذلك، يمكن السيطرة على الانتفاع بالمجان عن طريق أن يكون من المعلوم أن عدم الامتثال سوف يؤثر على العلاقات التي ستستمر في المستقبل، وستزيد احتمالات الامتثال أيضًا إذا كانت عقوبات عدم الامتثال شفافة ومتسقة، وإذا كانت توجد آلية لتسوية النزاعات.

من المتوقع أن يتأثر الامتثال والتنفيذ بشدة بنطاق السياسة الداخلية أيضًا؛ فإحدى المشكلات هي أن الأفراد الذين يتفاوضون على الاتفاقية الدولية من غير المحتمل أن يكونوا هم الأفراد المسئولين عن تنفيذها، فربما يتبدد الإحساس «بملكية» الاتفاقية، وربما تؤثر مجموعة مختلفة من المصالح ووجهات النظر في الأمر. إضافة إلى ذلك، تتغير في كثير من الأحيان الظروفُ التي كانت سائدة عندما تم التوصل إلى اتفاق، وفي بعض الأحيان يكون هذا التغير جذريًّا، كما تتغير الحكومات بوتيرة منتظمة إلى حدٍّ ما. ومن ثَم فإن الشكوك بشأن استعداد أو قدرة أطراف الاتفاقية الآخرين على تنفيذها بأمانة هي شكوك مزمنة، وربما تؤدي في الواقع إلى حلقة مفرغة؛ عمليات انسحاب استباقية من الاتفاقية توقعًا للانسحاب الاستباقي للأطراف الأخرى. وربما تكون الاتفاقيات التي لم تنفذ أسوأ من عدم التوصل لاتفاقية على الإطلاق؛ من حيث إنها قد تجعل التفاوض حول الاتفاقيات المقبلة أكثر صعوبةً.

يوجد سبب عملي آخَر لأخذ مسألة التنفيذ على محمل الجد؛ الغالبية العظمى من المفاوضات تكون بين الحكومات الوطنية في شكل مفاوضات ثنائية أو متعددة الأطراف، ولكن في كثير من الأحيان سوف تُنفذ الاتفاقية المتفاوض عليها على الصعيد دون الوطني؛ إذ إن السلطات الإقليمية والمحلية قد يكون لها السيطرة على أمور مثل إنتاج الطاقة وشبكات النقل وإنفاذ القوانين. وللتوضيح، قدر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أن الحكومات دون الوطنية تؤثر في «٥٠–٨٠ بالمائة من مشاريع خفض انبعاثات غازات الدفيئة؛ ما يجعل أيَّ اتفاق في كوبنهاجن بلا معنًى، ما لم تضع الحكومات البِنى اللازمة لضمان ترجمة الالتزامات إلى إجراءات على المستوى المحلي.»9 وتسيطر الحكومات الإقليمية والمحلية أيضًا في كثير من الأحيان على الموارد المالية الحيوية، ومن المرجح أيضًا أن تكون أول مَن يتأثَّر بالكوارث البيئية والمسئول الأول عن عمليات الإنقاذ. إضافة إلى ذلك، ربما تكون خبراتها ومعرفتها المحلية متفوقة على خبرات ومعرفة الحكومات الوطنية.

تشير هذه الاعتبارات إلى أن القدرات والمشاركة المحلية يجب أن تكون شاغلًا بالغ الأهمية في عملية التفاوض الدولي. ونادرًا ما تكون كذلك، ويعود السبب في جزء منه إلى أن البيروقراطيات والحكومات الوطنية تهتم للغاية بحماية دائرة نفوذها. وبطبيعة الحال، عادة ما تكون البنية التحتية والخبرات المحلية في البلدان النامية ضئيلة، ومن ثَم يضمن ذلك فشل السياسات ما لم تكن المؤسسات الدولية قادرة على المساعدة بسرعة وفاعلية، ويجدر أيضًا إدراك أنه في حين أن التنفيذ المحلي والإقليمي شاغلٌ بالغ الأهمية، سيكون دائمًا من الصعب دمج هذا الشاغل في سياق المفاوضات الدولية.

أخيرًا، يوجد شرط آخر ربما يكون له في بعض الحالات تأثير على احتمالات التفاوض على اتفاقيات ناجحة، يتعلق هذا العامل بتصميم الاتفاقية نفسها.10 مع كثرة الشكوك البالغة وتطور المعرفة بسرعة كبيرة وعدم استقرار تفسيرات المصالح، فإنه ليس من المستغرب أن تسعى الدول للحصول على تأمين ضد احتمالية أن يصبح التزام اليوم عبئًا في العام المقبل. وكما ذكرنا آنفًا، إحدى طرق التعامل مع هذا الوضع تكون من خلال إضفاء المرونة على أحكام الاتفاقية، من خلال تحديد فترات متكررة للتقييم والمراجعة، وربما عن طريق إنشاء نظام امتثال يُؤثِر الإقناع والمساعدة بدلًا من فرض عقوبات قاسية. ومن المؤكد تقريبًا أن تتغير الظروف التي تسود عند توقيع الاتفاقية المبدئية بطرق مهمة، ومن المنطقي أن يؤخذ ذلك في الاعتبار من البداية؛ فمحاولة فرض الامتثال للشروط التي عفى عليها الزمن أو الزائدة عن الحاجة أمر غير منطقي سياسيًّا واقتصاديًّا.

تمثِّل هذه التعميمات تحذيرًا يمكن أن يكون مفيدًا حول ما يحتاج المفاوضون وضعه في اعتبارهم؛ وهي لا تضمن النجاح لكنها ربما تيسِّره. ومع ذلك، في سياق الطاقة والبيئة حيث تمتزج السياسة والسلطة، والعلم والتكنولوجيا، وعلم الاقتصاد وعلم البيئة، والمحلي والدولي معًا بطرق معقدة، ربما نحتاج أكثر من ذلك؛ ربما نحتاج اقتراحات محددة وعملية حول كيفية التنقل خلال ساحة المفاوضات الوعرة التي تتطور باستمرار.

(٣) الجدل حول أماكن المفاوضات

ما هو أفضل محفل للتفاوض على اتفاقيات دولية تعاونية؟ سوف تؤثِّر إجابتنا على نوع الاتفاقية الدولية التي يجري التوصُّل إليها واحتمالية تنفيذها. هل هي على المستوى العالمي، تجمع دول العالم جميعها تقريبًا، والمنظمات الدولية ذات الصلة، فضلًا عن مجموعة كبيرة متنوعة من المنظمات غير الحكومية ووسائل الإعلام والعلماء والناشطين، في مكان واحد لفترة معقولة من الوقت للوصول إلى معاهدة تَعِد بحلٍّ أو بتقليل المشاكل التي تظهر في أحد نطاقات الاهتمام؟ أم ينبغي على المرء السعي إلى الوصول لاتفاق في أماكن أصغر، مثلًا بين أولئك الذين لهم تأثير قوي ومباشر فحسب على المشكلة (على سبيل المثال، المنتجون الرئيسيون لانبعاثات الكربون)، أو في مجموعات أصغر مُشَكَّلة بالفعل مثل مجموعة العشرين أو مجموعة الدول الثماني أو مجموعة الثماني زائدًا عليها خمس (الصين والهند والبرازيل والمكسيك وجنوب أفريقيا)، أو في «ائتلافات القوى الراغبة» المُنشأة خصوصًا لذلك؟

من المتوقع أنه لن يوجد مكان واحد كافٍ لجميع القضايا، وسوف تكون التنازلات حتمية، ويمكن أن يكون أيُّ مكان أو كافة الأمكنة مناسبةً بالنسبة لبعض القضايا، وغير ملائمة تمامًا لقضايا أخرى. إضافة إلى ذلك، يجب أن توجد عملية التفاوض كمتسلسلة؛ فلا يوجد مستوًى — من المستوى الشعبي حتى العالمي — غير ذي صلة، وستسعى عملية صنع السياسة الناجحة إلى ضمان أن الإجراءات والسياسات على كل مستوًى تتفق مع الإجراءات والسياسات على المستويات الأخرى وتكملها. وإذا فشلت المفاوضات بين الدول في التوصُّل إلى اتفاقيات فاعلة، وإذا تُرِكت كل دولة تقريبًا تتصرف كما تريد، ربما نحتاج إلى إعادة النظر في عملية وضع السياسات الدولية بأسرها، فربما نُضطر إلى قلبِ هذه العملية رأسًا على عقب؛ فبدلًا من التركيز على الاتفاقيات المتعددة الأطراف، قد نُضطر إلى التأكيد على حتمية وضع كل دولة لأهدافها وجداولها الزمنية الملزِمة قانونًا وخططها للاستجابات السريعة حال وقوع أزمةٍ ما. فعلى سبيل المثال، في اجتماعٍ ما قبل كوبنهاجن اقترح ممثل أستراليا سلسلة من «الجداول الوطنية» كبديل لنهج كيوتو. وربما تكون هذه البرامج الوطنية بمنزلة أساس لجهود لاحقة لوضع إطار عالمي مشترك للسياسات المتفق عليها بالتراضي.11 ويمكن أن تكون البرامج الوطنية نماذج أولية لما يمثِّل الحد الأدنى للتفاوض في المفاوضات المتعددة الأطراف، وهذه هي ثاني أفضل استراتيجية، ولكنها لا تزال سابقة لأوانها؛ فالمسار المتعدد الأطراف صعب ولكنه ليس ميئوسًا منه بعدُ، لكنه ربما يصبح كذلك، ونحن بحاجة إلى التفكير في بدائل الآن.

سنناقش ما حدث في كوبنهاجن في بداية الفصل الختامي، ويكفي هنا أن نشير إلى أنه على الرغم من سلسلة الاجتماعات التحضيرية الأكبر في تاريخ دبلوماسية المؤتمرات، فقد فشل مؤتمر كوبنهاجن في تلبية الآمال أو التوقعات. إن البحث عن بدائل مطروحٌ بالفعل، ولكنه غير مثمر حتى الآن بسبب المصالح المتضاربة.

وينبغي أن تكون فوائد أيٍّ من أماكن التفاوض الأصغر واضحة؛ فمن خلال جمع البلدان المتقدمة الكبرى والقوى «الناشئة» الكبرى — الصين والهند والبرازيل بالإضافة إلى بلد أو اثنين آخرين — مع تمثيل محدود للبلدان النامية الأخرى، فإنه ربما يكون من الأسهل التوصل إلى توافق في الآراء بين الأطراف المتماثلة نسبيَّا، وستزيد احتمالات أنه ستكون لديهم القدرة على تنفيذ الاتفاقات. بطبيعة الحال، ربما تجعل الصين والهند والبرازيل الوصولَ إلى توافق في الآراء صعبًا، ولكن يمكن أن يحدث الأمر نفسه مع المحافل الأكبر. وعلاوة على ذلك، بعض البلدان النامية التي اختيرت لتمثيل البلدان النامية ككلٍّ أو لتمثيل منطقة معينة داخل مجموعة السبع والسبعين (مجموعة بلدان العالم الثالث داخل منظومة الأمم المتحدة)، ربما تشعر بضرورة أن تكون أكثر راديكاليةً وتطلبًا مما قد ترغب في أن تكونه بنفسها من أجل تلبية المصالح الواسعة النطاق لبلدان العالم الثالث المتباينة للغاية. ومع ذلك، تظل هذه المحافل أكثر قابليةً نسبيًّا للإدارة من المؤتمرات العالمية، وتجمع فيها الدولَ الفاعلة الأبرز المسئولة عن الغالبية العظمى من انبعاثات الكربون. وعلى نفس المنوال، فإنها تفتقر إلى شرعية المحافل الأكبر، وبعض البلدان المهملة أو التي لا يمثِّلها سوى آخرين ربما تصبح من أكبر «مجرمي انبعاثات الكربون» في السنوات المقبلة، والدول غير الحاضرة قد لا تشعر أن أيَّ اتفاقٍ عادلٌ أو أنه يعكس مصالحها. باختصار، الاتفاقيات الأضيق بين البلدان الغنية والقوية وعدد قليل من البلدان النامية الرئيسية قد تكون فعالة نسبيًّا على المدى القصير، ولكن ستقل فاعليتها على المدى الطويل. ربما ينطبق الأمر نفسه بالنسبة لأصغر المنتديات: المفاوضات الثنائية التي تجرى بين الولايات المتحدة والصين باعتبارهما أكبر دولتين متسببتين في انبعاثات الكربون وأقوى بلدين. إذا ارتفعت حدة التوتر بين الولايات المتحدة والصين، فإن السماح للآخرين بدخول المفاوضات قد يكون مفيدًا، خاصة إذا كانوا ملتزمين بالسعي للوصول إلى اتفاق دولي ذي منفعة متبادلة. وهذا هو «ثاني أفضل» الحلول، ولكنه ربما يكون أفضل خيار متاح إذا لم يكن «أولُ أفضل» حل على المستوى العالمي متوفرًا أو مكلفًا أكثر من اللازم أو مستغرقًا لوقت أطول من اللازم للتفاوض.

بدأت مناقشة «ائتلافات القوى الراغبة» في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن العشرين، عندما أصبح عدم جدوى المفاوضات بين مجموعة السبع والسبعين والبلدان المتقدمة واضحًا على نحو متزايد. وحَّدَتْ مجموعة السبع والسبعين نظريًّا العالمَ الثالث الكبير جدًّا والمنقسم خلف مواقف مشتركة؛ في الواقع، لم تحقِّق مجموعة السبع والسبعين حقًّا مواقفَ مشتركة قطُّ، فجمعت كل المطالب ببساطة معًا في حزمة كبيرة وغير قابلة للتفاوض، وكانت النتيجة جمودًا لم يُفدْ أحدًا. ركَّزَ السعي نحو اتباع نهجٍ أكثر عملية وفاعلية في المفاوضات على ائتلافات القوى الراغبة التي تشاركت الولايات المتحدة المصالح معها في نطاق اهتمام معين، بغض النظر عن مستوى التنمية أو الموقع الإقليمي أو الأيديولوجية. وتشمل الانتقادات الرئيسية لهذه الائتلافات حقيقة أنه يجب إعادة تشكيلها متى ظهرت مشكلة جديدة، وأنه قد توجد تنازلات جديدة ضرورية، وأنها لا تكتسب عادات التعاون أبدًا.12 تبدو هذه العيوب طفيفة؛ فعملية إعادة تشكيل الائتلافات نفسها أمر ضروري في المنظمات الكبيرة والدائمة، وتوجد فائدة كبيرة في الفكاك من قيود منظومة المجموعات الجامدة داخل الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها، ولا يتضح سبب عدم اكتساب عادات التعاون ضمن ائتلاف القوى الراغبة. إضافة إلى ذلك، نظرًا لأوجُه القصور المعروفة لنظام موظفي الأمم المتحدة، والتي يبدو من غير المحتمل إصلاحها في أيِّ وقت قريب، والتي لا تكافئ الجدارة على حساب النوع أو الموقع الجغرافي إلا نادرًا؛ فإن البيروقراطيات الحكومية التي من شأنها تنظيم وتنفيذ قرارات تكوين ائتلاف القوى الراغبة يمكن أن تكون أكثر فاعليةً بكثير في التفاوض على اتفاقيات حقيقية.

لائتلافات القوى الراغبة مزايا أخرى عديدة، بصرف النظر عن تداخل المصالح الواضح، وإن كان حيويًّا، في مسألة معينة. تُذكَر المناقشة الموجزة في الفصل الثاني حول منافع النادي ضمن المفهوم الأوسع للمنافع العامة الدولية. منافع النادي غير تنافسية ولكنها تقبل الاستبعاد — على عكس المنافع العامة التقليدية — فعلى سبيل المثال يتطلب دخول حديقة وطنية أو استخدام الطريق السريع رسومًا. في هذا السياق، فإن ميزة ائتلاف القوى الراغبة هي أن الأعضاء يشتركون في مصلحة ويوافقون على قواعد النادي، ولكن يمكن لغير الأعضاء الانضمام متى يكونون على استعداد لقبول اتفاقياتها والالتزام بقواعدها. لا توجد استثناءات اعتباطية من خلال الموقع الجغرافي أو الانتماء الأيديولوجي أو حتى الثروة. وفوق كل شيء، هذه المجموعات الصغيرة لكن غير الحصرية تزيد احتمالات أن تكون قادرة على التوصل لمواقف مشتركة وتنفيذها بسرعة، وعلى التكيف سريعًا مع التغيرات في المعلومات أو الظروف الخارجية. ربما لا تزال المساعدات الخارجية والمساعدات الفنية ضرورية لبعض الأعضاء الأفقر والأضعف في الائتلاف، لكن تقل احتمالات حدوث ابتزاز على مستوًى كبير كثيرًا ما يحدث في الساحات العالمية؛ حيث يمتنع بعض المشاركين عن الموافقة ما لم يتم شراء موافقتهم. على أيِّ حال، في حين أن هذه الائتلافات ربما تكون من الناحية النظرية ثاني أفضل حل، فإنها ربما تكون أيضًا أفضل الوسائل المتاحة للوصول لتوافق واقعي في الآراء بين عدد معقول من الدول، ولفعل ذلك بسرعة، ولتوفير القدرة على التنفيذ الفاعل، وللسماح بانضمام أعضاء جدد بسهولة نسبية. وهذا الانفتاح أمام الأعضاء الجدد الذين يقبلون قواعد النادي هو الفارق المهم عن الأندية الحصرية مثل مجموعة الدول الثماني أو مجموعة العشرين.

ربما يوجد أيضًا تشابه مفيد هنا مع بعض الأفكار العملية التي ظهرت داخل الاتحاد الأوروبي للتعامل مع حقيقة أن توسُّع الاتحاد الأوروبي أضاف عددًا من البلدان الأكثر فقرًا والأقل نموًّا، التي تحتاج إلى مزيد من الوقت للتكيف مع قواعد ولوائح الجماعة. تعكس إحدى الأفكار الجدلَ حول «التوسُّع مقابل التعمُّق»؛ أيْ مسألة إن كان ينبغي أن يتوسع الاتحاد الأوروبي على نحو سريع ليشمل جميع الأعضاء المحتملين في أوروبا أو إن كان ينبغي أن يكون التوسع تابعًا لتعميق درجة التكامل بين الأعضاء القائمين. فضَّلَ الاتحاد الأوروبي جانب التوسُّع بقوة، ولكن في السياق الحالي ربما يجب أن يأخذ التعمُّقُ الأسبقيةَ. ومن المتوقع أن يحتوي حتى ائتلاف القوى الراغبة على أعضاءٍ على مستويات مختلفة من التنمية وذوي تفسيرات مختلفة للمصالح الوطنية. هكذا تزداد احتمالات استمرار الائتلاف وازدهاره إذا كان يسعى تدريجيًّا لتعميق التزامه بالمبادئ المتفق عليها، ولكن يدرك في الوقت نفسه ضرورة وجود درجات متفاوتة من الالتزام والتنفيذ، ويطلق الاتحاد الأوروبي على هذه السياسة اسم «هندسة المتغيرات»؛ وهي فكرة ألَّا يجب أن يشارك كل عضو منذ البداية في كل مبادرة سياسية. وقد نوقش هذا الإقرار «بالمسئوليات المشتركة لكن المتباينة» على نطاق واسع بين مقترحات السياسات حول المفاوضات البيئية، ولكنه غالبًا ما يصبح كناية عن التهرب من المسئوليات.13 ومع ذلك، في إطار ائتلاف القوى الراغبة (أو نادي القوى الراغبة)، ينبغي أن يكون من الأسهل إرساء فوارق واقعية، ومراقبة الامتثال، و«رفع تصنيف» الأعضاء الذين طوَّروا القدرة على الوفاء بمختلف الالتزامات على نحو تام.

ظهرت فكرة «رفع التصنيف» في المفاوضات التجارية الدولية للإشارة إلى أنه عندما مُنِحت بعض البلدان النامية وصولًا تفضيليًّا إلى أسواق البلدان المتقدمة، فإنها سترتفع تصنيفيًّا؛ بمعني فقدان وضعها التفضيلي عندما تصل إلى مستوًى معين من النمو. كان يوجد جدل حتمي حول معايير رفع التصنيف ومَن ينبغي أن يتخذ القرار. وفي السياق الحالي، تنطوي الفكرة على وجود معايير مغايرة وإن كانت متقدمة تدريجيًّا من أجل قياس التقدم المُحرَز وزيادة المتطلبات مع تحسن الأداء، وكذلك سيكون من المفترض أيضًا أنه سيكون من الأسهل توفيق السياسات المحلية (إذا كان ذلك على نحو مغاير) في ائتلاف القوى الراغبة، وتنسيق السياسات الوطنية لتجنُّب الإجراءات الأحادية الجانب. باختصار، يسعى المرء هنا إلى التوصل لإطارٍ تفاوضي يتمتع بأفضل فرصة في إيجاد الْتِزامات قوية بسرعة، ومن المتوقع أن يكون أكثر مرونةً، ولكن أيضًا أقل غموضًا من الالتزامات الرخوة في الساحات السياسية العالمية، وأن يفرق بين الالتزامات والمسئوليات للدول ذوات القدرات المختلفة، ولكن ليس إلى درجة التهرب.

اقتُرِح أحد بدائل ائتلافات القوى الراغبة في كتابٍ صدر مؤخرًا.14 أيَّدَ المؤلفون إنشاءَ مجموعة من ست عشرة دولة (مجموعة الدول الست عشرة)، من شأنها أن تجمع القوى الكبرى والقوى الصاعدة في محاولة لتوحيد القدرة على العمل ومسئولية القيام بذلك. ومن المفترض أن يكون من شأن الجوهر الثابت للعضوية التشجيع على القدرة على التنبؤ والمحاسبة، ويسمح بدرجة من الحوار المؤسسي لإيجاد التوافق في الآراء. وأيًّا كانت فضائل مجموعة الدول الست عشرة كمركز لصنع السياسات في الساحة العالمية حول الكثير من القضايا، فإننا لا نعتقد أنها ستكون متفوقة على ائتلاف القوى الراغبة فيما يتعلق بالطاقة والبيئة. فمجموعة الدول الست عشرة سوف تجمع في داخلها بلدانًا لها مصالح مختلفة للغاية وتفسيرات مختلفة لمخاطر الاحترار العالمي، وهذه الاختلافات يمكن أن تؤخر أو تحبط أو تقيِّد مقترحات العمل المشترك. على النقيض، في بيئةٍ تتحتم فيها الحاجةُ للتصرف بسرعة، فإن الائتلاف الذي يجمع الدول ذوات الأولويات نفسها وذوات الشعور نفسه بضرورة تجنُّب التأخير، ربما يكون أكثر فاعليةً.

(٤) التفاوض حول الاستراتيجيات المحلية والدولية

لا يمكن أن تنجح سياسة دولية إن لم تكن متوافقة مع السياسات المحلية، ولن تعمل سياسة محلية بفاعلية إلا إذا كانت متوافقة مع الاتفاقيات الدولية. ومع ذلك، ينبغي أن تكون إجراءات الدولة — ويمكن أن تكون — اللبنات الأولى في العالم السياساتي المتعدد الأبعاد، وفي الواقع كان الالتزام بوضع خطط وطنية طوعية للحد من الانبعاثات إحدى الاتفاقيات القليلة التي انبثقت عن مؤتمر كوبنهاجن. ومن أجل التوضيح، أشار هال هارفي — الرئيس التنفيذي لمؤسسة «كلايمت ووركس» — إلى مجموعة متنوعة من الإجراءات التي ينبغي للدول نفسها القيامُ بها، وهي إجراءات «ذاتية التمويل وتجْني أرباحًا بيئية هائلة، ولا تحتاج إلى أن توقِّع الدولُ المائة والتسعون معاهدةً لتحقق نتائج.»15 فيمكن اتخاذ إجراءات مثل تحسين معايير الكفاءة للأجهزة والمباني، أو تحسين المسافة المقطوعة بالأميال لكلِّ وحدة حجم من الوقود في السيارات، أو اتخاذ إجراءات لحماية الغابات الوطنية؛ يمكن اتخاذها على الصعيد الوطني وتعزيزها من خلال إجراء دولي لاحق.

ولكن ما هي استراتيجية التفاوض الدولية المناسبة للدول؟ يوجد بالطبع الكثير من نماذج التفاوض، والكثير من مختلف مناهج تسوية النزاعات. ومع ذلك، تميل المناهج الأبرز في المفاوضات إلى التفريق بين المفاوضات التوزيعية والمفاوضات التكاملية. النهج الأول أكثر إثارةً للخلاف لأنه يركِّز على مَن يحصل على أيِّ حصة من كعكة ثابتة الحجم، والنهج الثاني أكثر تعاونًا نسبيًّا لأنه يركِّز على زيادة حجم الكعكة بحيث يستطيع كلا الطرفين الحصول على مكاسب أكبر، مع أنه يمكن أن يوجد صراع حول مَن يحصل على الحصة الأكبر من الكعكة الأكبر. على الرغم من فائدة هذين النموذجين في وصف وتحليل بعض القضايا التقليدية في العلاقات الدولية، فإنهما لا يبدوان مفيدين في السياق الحالي؛ فيوجد تركيز ضمني في المناهج التقليدية على السلطة، وعلى مَن لديه القدرة لكسب حصة أكبر من الكعكة، وعلى ما يمكن للأضعفِ القيامُ به لتحسين احتمالات ما يحصل عليه، وعلى وقت أو أسباب اختيار الأقوى عدمَ ممارسة سلطته؛ فالمنافسة — وليس التعاون — هي بؤرة التركيز الرئيسية. وينبغي للمرء أن يلاحظ أيضًا في هذا الصدد أن بعض نماذج المفاوضات الأكثر أناقةً التي يفضِّلها خبراءُ الاقتصاد لا تؤتي ثمارها في السياق الحالي؛ لأنها تميل إلى التركيز على لقاء واحد، وليس على استمرارية العلاقة، ولأنه من الصعب تعيين قِيَم كمية لمجموعة من النتائج المختلفة.

لا تزال الاستراتيجيات التقليدية مواتية، إذا ركزنا — مثلًا — تحديدًا على السياسة الجغرافية للطاقة والصراع بين منتِجِي ومستهلكي النفط، لكنها أقل أهميةً، وربما تأتي بنتائج عكسية إذا ركَّزنا على المسائل الأوسع نطاقًا بشأن الجهود التعاونية لخلق اقتصاد طاقة جديد ولتقليل مخاطر الاحترار العالمي. فعلى نحو ضمني، ما يبدو أن الدول تتفاوض حوله في هذه الظروف ليس مجرد معرفة مَن يحصل على ماذا، ولكن أيضًا إرساء قواعد للسلوك في ساحة تعايُش تنافسي لكنه سلمي. والهدف هنا هو متابعة وحماية المصالح الوطنية، ولكن ليس لدرجة أن يوجد تهديد للنظام الدولي نفسه أو للمعاملة العادلة لجميع أعضاء المجموعة أو النادي. وفي هذا السياق يسعى المرء — ببطء لكن على نحو ثابت — لترسيخ فكرة أنه لا ينبغي السعي وراء المصالح الوطنية القصيرة المدى إلى الحد الذي يهدِّد استقرارَ النظام الدولي ذاته. وتجدر الإشارة إلى أن سياسات الصين في كوبنهاجن وسعيها للحصول على مزايا تنافسية في التجارة الدولية تبدو على خلافٍ مع ذلك المنظور الجديد للمفاوضات؛ إذ ركَّزَتْ سياساتها بقوة شديدة على تحقيق مصالحها الوطنية.

تتمثَّل إحدى المشكلات هنا في أن نماذج التفاوض التي من شأنها أن تكون أكثر ملاءمةً لعالم من رقع الشطرنج المتعددة الأبعاد يكون فيه التعاون ضروريًّا، ويجب أن تستمر المباريات فيه لعقود أو أكثر؛ لا تبدو موجودة. وتعاني مفاوضات السلام في الصراعات التي طال أمدها من العيب نفسه؛ لأن الهدف أكثر من مجرد إرساء نمط امتيازات متبادلة وتقارب تدريجي حول اتفاقية توافقية مقبولة؛ فالجانب الأضعف يسعى أيضًا للحصول على الاحترام والتقدير، ويقبل كلا الطرفين ضرورة تسوية الصراعات في النظام السياسي ويكون الهدف المشترك الطويل المدى هو إرساء قواعد جديدة للتعايش السلمي.16 ربما تقربنا النقطة الأخيرة إلى حدٍّ ما من نهج محسَّن للتفاوض بشأن قضايا الطاقة والبيئة، وإطار المفاوضات حول هذه القضايا غير مستقر لوجود مستويات عالية من المخاطر والشكوك، ولتغيُّر المعارف وتصورات المصالح بسرعة. ومن ثَم يجب أن يسعى النهج الجديد للتفاوض نحو إدارة التغيير السريع ووضع قواعد متفق عليها بصورة متبادلة حول كيفية القيام بذلك، وكيفية تفسير المعارف التي تتطور باستمرار.17 تميل التوقعات في نماذج التفاوض التقليدية إلى أن تكون تنافسية، ولكننا نبحث هنا عن توقعات يعزِّزها كلا الطرفين تتخذ التعاون والمنافسة أمرين مسلمًا بهما؛ مما يجب أن يؤثر على المعارف والمعلومات التي نسعى إليها، وأنماط السلوك التي يتبنَّاها الأطراف تجاه شركائهم في التفاوض.

بدأت بالكاد هذه الحركة نحو منهج بديل للتفاوض. وثمة صلة ممكنة مع بعض الكتابات السابقة الأكثر رصانة ومعيارية حول البيئة، والتي تركز على مسئوليتنا المشتركة نحو الأجيال المقبلة بتسليم الكوكب غير مدمَّر، ولكن لم تترسخ هذه الصلة حتى الآن على نحو واضح. ومن ثَم فإن المنهج الجديد مثالي؛ إذ إنه بمرور الوقت ربما يبدأ في تغيير المفاهيم والسلوك. ربما كان أقصى ما يمكن أن يقال في هذه اللحظة هو أن الجهود المبدئية ربما ينبغي أن تركز على أنماط التفاوض التكاملية: زيادة حجم الكعكة، والتركيز على حل المشكلة وعلى إقناع البلدان الغنية أن الالتزام الواضح بالإنصاف والتنمية ربما يولِّد استجابات تعاونية تبدأ التحركَ نحو التزامات عملية مشتركة لإرساء قواعد جديدة للتعامل مع الطاقة والبيئة.

(٥) منهج خاطف أم منهج متدرج متزايد السرعة؟

هل ينبغي أن نحاول التوصل إلى اتفاقية من خلال منهج «خاطف»، مثل مؤتمر كوبنهاجن؟ أم هل من الممكن تحقيق نتائج أكبر من خلال تدابير أصغر، وإنقاذ المنهج المتدرج ممَّن ينتقصون من فاعليته؟ سبق وأكَّدنا على شكوكنا حول صحة الاعتماد على المؤتمرات العالمية الكبيرة في اتخاذ قرارات واقعية، لكننا لم نوضِّح السبب وراء شعورنا بأن الأسلوب الأكثر تواضعًا في صنع السياسات في منتدًى أصغر قد يؤدي إلى نتائج أفضل. فالتدرج — الذي يَفترض أن أفضل دليل لسياسة الغد هو سياسة الأمس، وأن التغيير «تدريجي» — واجَهَ انتقادات شديدة في السنوات الأخيرة، لا سيما فيما يتعلق بعمليات السلام الفاشلة في الشرق الأوسط وفي أماكن أخرى. ويبدو كثير من الانتقادات مبرَّرًا عندما تفشل الخطوات الصغيرة في الاحتشاد لتحقيق تقدُّم مطرد نحو الهدف، فيمكن للصدمات والمفاجآت أن تُخرِج بسهولة أيَّ عملية عن مسارها قبل تحقيق تقدُّم كبير، وربما يُعتقَد أن الخطوات الثورية الحقيقية قد تتطلب مؤتمرًا كبيرًا (مثل اتفاقية كامب ديفيد في عام ١٩٧٨، أو اتفاقية دايتون في عام ١٩٩٥) يجمع كل الزعماء الكبار معًا من أجل التغلب على الجمود والركود، ولكن الظروف التي سهلت النجاح في تلك الحالات لا تتكرر بسهولة، خاصة مع وجود أكثر من ١٩٠ بلدًا يريد حماية مصالحه.

أشار فيرتسبرجر أيضًا إلى أنه في القرارات ذات المخاطر العالية توفر العملية التدريجية شعورًا زائفًا بالثقة في التحكم في الوضع، وتتسبب في تصلب معرفي يثبط التعلم.18 ولكن أيَّ عملية اتخاذ قرارات تنطوي على مخاطر عالية قد تفعل الشيء نفسه، وليس واضحًا إن كان تبنِّي استراتيجيةٍ «مستدامة» قائمةٍ على منهج التدرج لن يُسفِر عن نتائج أفضل أم لا. وهذا صحيح لا سيما إذا كان من المهم أن تبدأ عملية سياساتية جديدة بعد أن تدهورت المفاوضات المبكرة ووصلت إلى طريق مسدود غير ذي جدوى.
ما يبدو أن منتقدي المنهج التدريجي ينتقدونه هو الإجراءات التدريجية المنعزلة وغير المنسقة، وليس اتباع «استراتيجية» تدريجية تبدأ بهدف مشترك يتم الاقتراب منه تدريجيًّا من خلال الخطوات المخطط لها والتي تستمر في السراء والضراء. يقترب فاريل وبوزون مما نقصده هنا؛ فهما يعارضان «الرهانات الكبيرة على تحقيق إنجازات مذهلة صعبة البلوغ»، ولكن يؤيدان «حملة مركزة للقيام بمئات من التحسينات التدريجية التي تؤدي إلى تأثير تراكمي كبير على خفض استهلاك الطاقة.»19 فإذا كانا قد أيَّدَا أيضًا بذل جهد أوليٍّ يرمي إلى وضع أهداف مشتركة من شأنها أن توفر التوجيه لاختيار الإجراءات التدريجية، وإذا كانَا أكَّدَا على ضرورة التخطيط من البداية للتعامل مع الصدمات والمفاجآت التي لا مفر منها، كان منهجهما سيتطابق تقريبًا مع المنهج الذي ننادي به هنا. والهدف هو الحفاظ على التدرج وجعله التزامًا طويل المدى حول كيفية المضي قدمًا، وليس مجرد مجموعة من الإجراءات المنعزلة التي من السهل أن تحيد عن مسارها.

نعتقد أن هذا التركيز سيقلِّل من معظم أوجُه القصور التي تُعزى عادةً إلى التدرُّج. ربما يجد هذا المنهج مقاومة ناشئة ليس فقط من تاريخ الإخفاقات السابقة للسياسات التدريجية، ولكن أيضًا لأن الاستراتيجية التدريجية قد تبدو كبيرة (أو متكلفة؟) على نحو غير كافٍ بالنسبة لحجم المشاكل في مجالَي الطاقة والبيئة. وقد اقترح البعض المراهنة «بكل شيء» على تكنولوجيا ثورية واحدة محتملة، ولكن المبادرات الكبيرة قد تؤدي إلى احتفالات كبيرة في حديقة البيت الأبيض بدلًا من النتائج العملية عندما يحين وقت التنفيذ. أما المنهج المقابل لمنهج المقامرة الكبيرة فهو التركيز على مجموعة شاملة من التدابير السياساتية، والتي يُموَّل كل منها على نحو كافٍ، ويمكن أن يكون هذا مكلفًا للغاية ما لم تحدد أولويات واضحة. والتفضيل المقدم هنا هو التدرج المتسارع خطوة فخطوة، وسوف نحدد في الفصول الثلاثة المقبلة وجهة نظرنا بشأن الخيارات والقرارات التي يجب اتخاذها على كل فترة زمنية.

أكدنا بالفعل على معضلات ومخاطر صنع السياسة عندما يوجد الكثير جدًّا من الشكوك، وعندما تكون المصالح غير واضحة أو غير مستقرة، وعندما يكون الاقتصاد العالمي في حالة هشة للغاية. ربما يكون من الأفضل في مثل هذه الظروف أن يكون المرء حكيمًا، وأن يفعل ما يمكن فعله وليس ما قد يكون أو لا يكون من الضروري القيام به، وأن يسعي قبل كل شيء نحو بدء عملية لها تأييد واسع النطاق؛ عملية مستدامة يكون لديها القدرة على تحقيق نتائج كبيرة بمجرد إيجاد درجة من الزخم السياساتي.20 قد يعزو المرء جزءًا كبيرًا (ولكن ليس حصريًّا) من نجاح عملية السلام في أيرلندا الشمالية للاستراتيجية التدريجية المستدامة من قِبَل الحكومة البريطانية، والتي استمرت على مدى ٣٠ عامًا تقريبًا، وأصبحت قوية بما يكفي لتحمُّل حتى الاعتداءات الإرهابية الوحشية مثل تفجير أوماه.

من المهم ألَّا يساء الفهم هنا؛ فنحن لا نؤيد الاستراتيجية التدريجية بوصفها حلًّا سحريًّا أو باعتبارها الاستراتيجية السياساتية الوحيدة التي يجب اتباعها. إذا كانت المشاكل التي نناقشها تسبب تدهورًا بيئيًّا حادًّا، وإذا أصبحت خياراتنا صارمة وخطيرة على نحو متزايد؛ فربما يصبح من الحتمي القيام بمحاولة أخرى للتوصل إلى اتفاق عالمي يسعى لتحقيق نتائج معتبرة بسرعة. وحتى ذلك الوقت، ليس الفشل محتمًا، وربما يكون تبنِّي استراتيجية تدريجية مستدامة أفضلَ أملٍ لتفادي نتيجة محزنة.

(٦) خيارات في سياق المخاطر

إن حجم المشاكل التي تواجهنا ضخم، فهي تؤثر علينا جميعًا وربما تفعل ذلك لمدة قرن أو أكثر، وتثير قضايا أخلاقية وعملية شديدة، ويجب أن تخضع للتفاوض محليًّا ودوليًّا مع معرفةٍ تتطور باستمرار وغير مقنعة للبعض. والمشكلة الرئيسية في مثل هذه الظروف هي المخاطر؛ المخاطر الموجودة في المشكلات نفسها، والمخاطر الكامنة في السياسات المختارة للتعامل مع المشكلات، والمخاطر المحتملة بالنسبة لصانعي السياسات في حال فشل هذه السياسات.

يشعر مختلف الأفراد بالمخاطر بشكل مختلف في السياقات المختلفة. وعلى هذا النحو، تتأثر تفسيرات المخاطر على نحو كبير بعوامل مثل درجة تعقيد المشكلة، ودرجة عدم اليقين، والمدى الزمني، والسمات الشخصية. ومن المحتمل أن يبدو مستوى المخاطر أعلى بكثير إذا كانت الأحداث غير المتوقَّعة تبدو أنها متوقَّعة الحدوث؛ وهو ما يعني أيضًا أن تكاليف الفشل يمكن أن تتصاعد. وبيت القصيد هنا فيما يتعلق بالطاقة والبيئة هو أنه يبدو أننا نواجه «مجموعة عصيبة» من المخاطر؛ منها: فشل محتمل للسياسات مع عواقب وخيمة على كلٍّ من المجتمع وصانعي السياسات، وأخطار ناجمة عن تغير المناخ ستصبح واضحة على نحو متزايد وقريبة زمنيًّا على نحو متزايد، وتطورات ربما يصبح علاجها متعذرًا، وصناع قرار لن يتمكنوا من الفرار من مسئولية عدم التصرف في الوقت المناسب. فالتخطيطات القياسية للقادة العازفين عن خوض المخاطر — اتخاذ قرار من خلال عدم اتخاذ قرار وتأجيل القرارات الصعبة للمستقبل — لا ينبغي أن تكون كافية هنا، ولكن كما تشهد عقود من حديث الكثير من علماء البيئة بلا طائل، فإن الفجوة بين ما يجب على النظام السياسي أن يفعل وما سيفعل لا تزال كبيرة.

سعى هذا الفصل لتوضيح بعض العقبات السياسية التي أحبطت نجاح المفاوضات الدولية في الماضي، ولتقديم اقتراحات حول ما يمكن القيام به لتحسين احتمالات النجاح في المستقبل. يجب أن يكون الاختبار النهائي لجهودنا عمليًّا ومنسجمًا مع القيود الفنية والسياسية القائمة: ما هي القرارات التي يجب اتخاذها؟ ومتى يجب أن نتخذها في ضوء الكثير من العقبات التي ناقشناها؟ تعرض الفصول الثلاثة المقبلة خياراتنا المطروحة وتناقشها.

هوامش

(1) See “Coping with Climate Change,” International Herald Tribune, May 22, 2009 (Special Advertising Supplement), p. 1.
(2) The quoted material is from “Global Challenge and Summit Theme: How to Shape a New Green Economy?,” ibid, p. 1.
(3) See Anthony Giddens, The Politics of Climate Change (Cambridge, MA: Polity Press, 2009), pp. 73–5.
(4) A more recent and extensive analysis by Paul Krugman argues that any sensible solution must give all parties a self-interested reason to reduce emissions, which requires proper market incentives and direct governmental controls for problems that require immediate action. See Paul Krugman, “Green Economics: How We can Afford to Tackle Climate Change,” New York Times Magazine, April 11, 2010, p. 39. This sort of focus on both the market and government intervention (and thus politics) may reduce some of the conflicts between economists and political scientists.
(5) See Lawrence Summers, “Foreword,” p. xxi in Joseph E. Aldy and Robert N. Stavins, eds, Architectures for Agreement: Addressing Global Climate Change in the Post-Kyoto World (Cambridge, UK: Cambridge University Press, 2007). and Alan S. Blinder, Hard Heads, Soft Hearts: Tough-Minded Economics for a Just Society (Cambridge, MA: Perseus Press, 1987), pp. 138-9.
(6) Paul Krugman, “An Affordable Salvation,” New York Times, May 1, 2009, p. A21; also Nicholas Stern, A Blueprint for a Safer Planet (London: Bodley Head, 2009), pp. 90–8.
(7) See the preface to J. Samuel Barkin and George E. Shambaugh, eds, Anarchy and the Environment (Albany, NY: SUNY Press, 1999).
(8) See Yaacov I. Vertzberger, Risk Taking and Decisionmaking: Foreign Military Intervention Decisions (Stanford, CA: Stanford University Press, 1998), p. 109ff.
(9) Fiona Harvey, “Meetings are Global But Action is Local,” Financial Times, September 26, 2009, p. 1.
(10) See Scott Barrett, Environment and Statecraft (New York: Oxford University Press, 2003), and Barbara Koremenos, “Loosening the Ties that Bind: a Learning Model of Agreement Flexibility,” International Organization, Vol. 55, No. 2, Spring, 2001, pp. 289–325.
(11) See “Avoiding a Crash at Copenhagen,” The Economist, September 26, 2009, p. 8.
(12) See Stephen G. Brooks and William C. Wohlforth, “Reshaping the World Order,” Foreign Affairs, Vol. 88, No. 2, May, 2009, p. 55.
(13) Joseph E. Aldy and Robert N. Stavins, eds, Architectures for Agreement, op. cit., p. 359.
(14) Bruce Jones, Carlos Pascual and Stephen John Stedman, Power and Responsibility: Building International Order in an Era of Transnational Threats (Washington, DC: Brookings Institution Press, 2009), p. 51ff.
(15) Quoted in John M. Broder and James Kanter, “U.S. Climate Stand Worries Europeans,” New York Times, November 4, 2009, p. 4.
(16) See Ian E. Morley, “Intra-Organizational Bargaining,” pp. 203–24 in Jean F. Hartley and Geoffrey M. Stephenson, eds, Employment Relations: the Psychology of Influence and Control at Work (Oxford, UK: Blackwell, 1992).
(17) Ian E. Morley, Janette Webb, and Geoffrey Stephenson, “Bargaining and Arbitration in the Resolution of Conflict,” pp. 117–34 in Wolfgang Stroebe, Arie W. Kruglanski, Daniel Bar-Tal, and Miles Hewstone, eds, The Social Psychology of Intergroup Conflict (New York: Springer-Verlag, 1988).
(18) Yaacov I. Vertzberger, Risk Taking and Decisionmaking, op. cit., p. 33.
(19) Diana Farrell and Ivo Bozon, “Demand-side Economics: the Case for a New US Energy Policy Direction,” p. 60 in Kurt M. Campbell and Jonathan Price, eds, The Global Politics of Energy (Washington, DC: Aspen Institute, 2008).
(20) Paul Krugman also favors a “big bang” approach on the principle that even a small probability of a major catastrophe should justify a massive policy initiative. We would agree in a different political and economic universe but believe such an approach is not yet politically feasible and that it is imperative to start a policy process now even if it must be initially modest.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤