المقدِّمة

هذه فصولٌ في فنِّ الترجمةِ الأدبيةِ، تهدِفُ إلى إلقاء الضَّوء على هذا الفن المتخصِّصِ من خلال المشكلات التي يُصادفها من يُمارسه، سواءٌ كان ذلك من العربية إلى الإنجليزية أو العكس، وإلى طرح بعض المبادئ النَّظرية التي قد تُشجِّع الباحثين على دراستها دراسةً علميَّةً أشمل وأعمق.

وهكذا فإن هذه الفصول تُعتبر مقدِّمةً لاستقصاء المشكلات، والاهتمامُ بالأسئلة يفوقُ الاهتمام بالأجوبة فيها، والمادة فيها هي المادة «العملية» التي تناولتُها إما بالتَّرجمة أو بالدراسة، ولمن يريد الاستزادة أن يرجع إلى الدِّراسات التي كتبتُها بالإنجليزية في الكتابين التاليين:

M. Enani: Comparative Moments. Cairo, State Publishing House (GEBO) 1996. (with M. S. Farid).
M. Enani: The Comparative Tone: Cairo, State Publishing House (GEBO) 1995. (with M. S. Farid).

وكانت هذه الفصولُ التي كُتِبت متفرِّقةً أوَّل الأمر، أبحاثًا أُلقيت أو قُدِّمت إلى مؤتمراتٍ علميَّةٍ في القاهرة، على مدار العام المُنصرم، كما استُقي بعضُها من مقدِّماتي لترجمات شكسبير؛ وهي «تاجر البندقية» (١٩٨٨م)، «يوليوس قيصر» (١٩٩١م)، و«حلم ليلة صيف» (١٩٩٢م)، و«روميو وجولييت» (١٩٩٣م) ولذلك فالفصول تتَّسِمُ بقدرٍ محدودٍ من التَّكرار لم أشأ أن أتفاداه بالحذف أو بإعادة الصِّياغة حتَّى لا أُفسد وحدة كلِّ فصلٍ وتكامُلَه؛ ولذلك فأرجو ألا يغضب القارئ إذا صادف إنكاري المتكرر لوجودِ لُغةٍ خاصَّةٍ بالأدب، أو إلحاحي على ضرورة مزج بحورِ الشِّعر في المسرح، أو استطرادي في موضوعاتٍ خاصَّةٍ بالنَّقد واللُّغة؛ فالترجمة الأدبية تجمع بين الدِّراسة النَّقدية واللُّغوية، ولا يمكن الفصل بينهما في مبحثٍ كهذا.

والمبادئ النَّظرية التي أشرتُ إليها، قد تُشكِّلُ، وقد لا تُشكِّلُ نظرةً عامَّةً (ولا أقول نظرية) وقد تنمُّ على وجهات نظرٍ شتَّى، فلم يكن مرماي وضع نظريَّةٍ، ولم أطمح يومًا في أن أكون من المُنظِّرين، بل إن الكتاب يستند — كما قلتُ — إلى المشكلات العملية، وهي مشكلاتٌ حقيقيَّةٌ صادفتُها في غضون ترجمتي للأدب.

وهكذا، فإن هذا الكتاب يُعتبر امتدادًا لكتابي «فن الترجمة» (ط١، ١٩٩٢م، ط٢، ١٩٩٤م، ط٣، ١٩٩٦م) الصَّادر في سلسلة «أدبيَّات» هذه، والمادة التي يتضمَّنُها تَدِينُ بالكثير للعمل الذي انهمكتُ فيه — بعد أن منَّ الله عليَّ بالشفاء عام ١٩٩٣م — من تأليفٍ وترجمةٍ، فأخيرًا، أصدرتُ الترجمةَ الشعريةَ الكاملةَ لمسرحيَّةِ «الملك لير» لشكسبير (١٩٩٦م)، وترجمةً منثورةً لمسرحية «الملك هنري الثامن» لشيكسبير أيضًا (١٩٩٧م)، وكتاب Comparative Moments الذي ترجمت فيه قصائد لأربعين شاعرًا عربيًّا إلى الإنجليزية، مما زاد إدراكي لهذه المشكلات، ودفعني إلى كتابة الأبحاث التي أدرجتها هنا.

ولم أتردد في استخدامِ بعض المصطلحات النَّقدية الجديدة في هذا الكتاب، واثقًا من أن القارئ لن يقفَ عندها في حَيرَةٍ بعد أن ساهمتُ في إيضاحها بكتابي «المصطلحات الأدبية الحديثة؛ دراسةٌ ومعجمٌ» (١٩٩٦م) الصادر في هذه السلسلة نفسها.

وقد أشارَ عليَّ بعضُ الزُّملاء والأصدقاء ممن اطَّلعوا على مخطوطِ هذا الكتاب أن أتوسع في باب ترجمة أساليب النَّثر، تحقيقًا للتوازن المنشود بين ترجمة لغةِ الشِّعر ولغة المسرح الشعري ولغة النثر القصصي وغير القصصي، ولكن المشكلات التي أتناولها هنا لا تُفرق بين أساليب الفنون الأدبية المختلفة، ولا تقتصر على نوعٍ أدبي محدد؛ فهي تتناول ظواهر الأسلوب الأدبي بصفة عامة، ولو كانت الأمثلة ترجح كفَّة الشِّعر.

أما أساليب السرد narrative styles، فهي تتطلب مبحثًا مستقلًّا؛ لأن طرائق ترجمتها لم تتبلور بعدُ إلى الحد الذي يسمح بإفراد دراسةٍ خاصَّةٍ بها، وأما محاولة ترجمة الأسلوب النثري بمعنى محاكاة الصِّياغة الأجنبية، فأنا أرفضها بدايةً بسبب المخاطر الكبيرة التي تحُفُّ بها، ولأننا لم نصل بعدُ إلى نتائج علميةٍ ثابتةٍ عن ألوان أسلوب السرد وحدودها، ولأن محاولة المضاهاة بينها في اللغتين تتطلب بحثًا، بل بحوثًا أعمق وأشمل مما يتسع له هذا الكتاب.

ولو كانت هناك فكرةٌ واحدةٌ أتمنى أن يخرج بها القارئ من هذا الكتاب؛ فهي أن الترجمة الأدبية ضربٌ من ضروب الأدب المقارن، وأن ممارسة الترجمة الأدبية تتطلب دراسةً أدبيَّةً ونقديَّةً إلى جانب إجادة اللُّغتين، المترجَم منها والمترجَم إليها، وأنه لا يوجد ما يُسمَّى بالنَّص المثالي في الترجمة، (أو ما كان يُسمَّى بالترجمة النموذجية) لأن كلَّ عملٍ مترجم هو في الحقيقة محصِّلةٌ لتلاقي إبداع المؤلف، ومفهوم المترجم له على ضوء خبرته باللغة التي يُترجم إليها، وفي إطار ثقافته الخاصة، وأعراف أدب هذه اللغة! ولذلك فقد خصَّصت لهذه الفكرة فصلًا كاملًا، وأرجو أن أعود إليها في كتابٍ لاحق.

وبعدُ؛ فالمقدمة لا تعدو أن تكون مقدِّمَةً، وهي موجَّهةٌ لكلِّ من يدرس الأدب واللغة، لا للمترجم فقط، وأرجو أن يجدَ فيها القارئُ غير المتخصص بعض فائدةٍ أيضًا.

والله الموفِّق.

القاهرة، ١٩٩٧م
محمد عناني

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤