الفصل الأول

معنى الترجمة الأدبية

١

الحدود

يقع علمُ الترجمة الحديث بصفةٍ عامَّةٍ على تُخُوم علوم اللغة والفلسفة وعلم النفس والاجتماع، وتقع علوم الترجمة الأدبية على تخوم هذه العلوم جميعًا مع علوم الفنون السمعية والبصرية، والدراسات الثقافية والفكرية التي تُعتبر في مجملها من روافد علم السياسة الحديث، فإذا كان علمُ الترجمة الحديث، الذي اشتدَّ ساعدُه في التسعينيات بصدور سلسلة دار رتلدج Routledge في نظريات الترجمة، يستفيدُ من علم الألسنة الحديث linguistics، من حيثُ الأبنية، والتراكيب، والدراسة الآنية synchronic، وغير الزمنية diachronic أو التاريخية للغة؛ فهو يشترك مع الفلسفة في انشغاله بالمعرفة cognition لا من حيث إنها نظرية فلسفية، بل من حيث ارتباطها بطبيعة التفكير، وما أسهم علمُ النَّفس المعاصر به من نظراتٍ في هذا السبيل، وقد أثبت كتاب جاكندوف Jakendoff الصادر عام ١٩٨٩م بعنوان «دلالة الألفاظ والمعرفة» Semantics and Cognition مدى هذا الارتباط، مثلما أكَّدته الكتبُ الشعبية مثل كتاب The Language Instinct أي غريزة اللغة (١٩٩٥م) وغيرها، وهو يرتبطُ كذلك بعلم الاجتماع من حيث التطبيقات اللغوية في بقاع المجتمع المختلفة، ولا أقول الطبقات الاجتماعية أو الفئات، وهو المبحث الذي يهتم به علم التداولية أو pragmatics الذي يختصُّ باستعمال اللغة، ويركز خصوصًا في مبحث علم الألسنة الاجتماعي sociolinguistics على مظاهر التفاوت اللُّغوي من مكانٍ إلى مكان في نسيج المجتمع الواحد أو فيما بين المجتمعات، ودلالة كلِّ هذا للمترجم أوضحُ من أن تحتاج إلى إثباتٍ.
ولكن علوم الترجمة الأدبية تتجاوز ذلك جميعًا إلى مجال الفنون، ثم إلى مجال الفكر والثقافة؛ أي إن المترجمَ الأدبي لا ينحصرُ همُّه في نقل دلالة الألفاظ أو ما أسميه هنا بالإحالة reference أي إحالة القارئ أو السامع إلى نفس الشيء الذي يقصده المؤلف أو صاحب النص الأصليِّ، بل هو يتجاوز ذلك إلى المغزى significance وإلى التأثير effect الذي يُفترض أن المؤلف يعتزم إحداثه في نفس القارئ أو السامع؛ ولذلك فهو لا يتسلَّح فقط بالمعرفة اللُّغوية بجميع جوانبها السَّابقة، بل هو يتسلح أيضًا بمعرفةٍ أدبيَّةٍ ونقديَّةٍ، لا غنى فيها عن الإحاطة بالثقافة والفكر؛ أي بجوانبَ إنسانيَّةٍ قد يُعفى المترجم العلمي من الإحاطة بها.

ومن قبيل الإيضاح، أقول: إن من هذه الجوانب الإنسانية الإلمامَ بالمبادئ الأولى للفنون البصرية والسَّمعية، مثل توافق الألوان والأشكال، أو تفاوتها وتناقضها، ومغزى الاتساق الصَّوتي في المخارج والإيقاعات، والحسِّ الموسيقي بصفةٍ عامةٍ، ومغزى التَّكرار وأنواعه وألوانه، ودلالات المجاز والكناية، والأمثال الشعبية، والحكم التراثية، والقيم الدينية، والعادات الاجتماعية التي تؤثِّر في مدى تذوق السامع أو القارئ لقصيدة أو لقصة ما، وقِس على ذلك ما أسميته بالثقافة، وأقصد به أسلوبَ الحياة الذي هو جماع تقاليد موروثةٍ، وأعراف آنية، والتقاء تيَّارات الماضي بالحاضر، وتفاعلها وتطوُّرها على مرِّ الزمن، والمناهج الفكرية المتولدة من ذلك، وكلُّ ما عساه أن يُؤثِّر في مدى تذوُّق القارئ أو السامع للنص الأدبي.

وسوف أركِّزُ في هذه الدراسة على الفرق بين الإحالة التي هي الهدف الأول للمترجم العلمي، ومدى صعوبتها، وضرورة الاستعاضة عنها أحيانًا بالتعريب؛ أي بكتابة الكلمة كما هي بلفظها الأجنبي، وبين الإحالة في الأدب التي لا يمكن أن تكون هدفًا أوحدَ للمترجم، فإذا كانت الإحالةُ — كما سوف أبيِّن — تهدف إلى نقل المعنى الذي ترمي إليه الألفاظ في النص العلمي وتنجح غالبًا في ذلك، فإنها لا تستطيع نقل المعنى الأدبيِّ أبدًا؛ لأن المعنى في النص الأدبي لا يُمكن تجريده من الشَّكل الفنِّي الخاصِّ بالعمل، بل ومن الأنساق الثقافية لهذا العمل، وهي التي ترتبط — كما قلتُ — بجوانب إنسانية عامَّةٍ، وجوانب اجتماعيةٍ محدَّدَةٍ، يصعب إبعاد العمل الفني عنها؛ ولهذا فإن علماء دلالة الألفاظ يفرِّقون بين المعنى والدلالة، قائلين: إن الدلالة يُمكنُ الوصول إليها عن طريق الإحالة وحسب، أما المعنى، فيتطلب عوامل أخرى هي موضوع هذه الدراسة.

تعريف

الترجمة الأدبية هي ترجمة الأدب بفروعه المختلفة، أو ما يُطلق عليه الأنواع الأدبية المختلفة literary genres مثل: الشعر، والقصة، والمسرح وما إليها، وهي تشترك مع الترجمة بصفةٍ عامَّةٍ؛ أي الترجمة في شتَّى فروع المعرفة، من علوم طبيعية (كالفيزياء والكيمياء والأحياء) وإنسانية (كالفلسفة وعلم النفس والاجتماع والتاريخ) وتجريبية أو تطبيقية (مثل الهندسة والزراعة والطب) على سبيل المثال؛ في أنها تتضمن تحويل شفرةٍ لغويةٍ verbal code أي مجموعةٍ من العلامات المنطوقة أو المكتوبة oral or written signs إلى شفرةٍ أخرى، ووجود المبادئ اللغوية العالمية universals والطاقة اللغوية الفطرية المشتركة بين البشر جميعًا، لا ينفي أن الشفرات المستخدمة فعليًّا في الكلام والكتابة تختلف من لغةٍ إلى أخرى، وتقتضي التحويل transformation ابتغاء توصيل المعنى الذي هو الهدف الأول للمترجم، وقد يكون المعنى إحاليًّا محضًا referential، وقد يكون أدبيًّا يتضمن عناصر بلاغية وبنائية وموسيقية، ومن ثم أصبح تحويل الشفرة اللُّغوية هو مناط البحث في علم الترجمة، مما يتطلب مقارنات دائبةً على جميع المستويات بين اللغات، خصوصًا في علم التراكيب syntax والتداولية pragmatics، وعلوم اللغويات الثقافية والنفسية والاجتماعية التي تعتبرُ تخصُّصاتٍ مشتركةً interdisciplinary مع علوم طبيعية وإنسانية أخرى.

الشفرة اللغوية والإحالة

وإذا كانت الشفرة اللغوية هي مناط البحث في علوم اللغة بصفة عامة، فإن الشفرة الأدبية — ونعني بها مجموعة القواعد والأعراف السائدة في تراثٍ أدبيٍّ معيَّنٍ — هي مناط البحث في فنون الترجمة الأدبية؛ فالمترجِم الذي يهدف إلى توصيل المعنى الإحالي فحسب سينصَبُّ اهتمامه بطبيعة الحال على قواعد وأشراط الإحالة reference؛ أي التركيز على إحالة قارئ النص الأصلي المترجَم إلى نفس الأشياء (مجردةً كانت أو مجسَّدةً) التي يُحال إليها قارئ النص الأصلي، وهذه هي ما نسمِّيها بالترجمة التوصيلية communicative أحيانًا، وأقرب الأمثلة عليها ما يُسمى بترجمة الأخبار، أو ترجمة لغة وسائل الإعلام current affairs، فالمترجِم يختارُ من بين عدَّةِ صيغٍ formulae لغوية الصيغة التي يرى أنها أقدرُ على الإحالة إلى نفس مدلول النصِّ الأصلي؛ فالذي يُترجم خبرًا في الصحفية عن جهاز «تنظيم الأسرة» لا يقف عند معاني الألفاظ المفردة، بل يعرف أن الترابط فيما بينها أي syntagmatically في هذه الصيغة يحيل القارئ إلى الهيئة المعنية بتحديد النسل، أو تقليل عدد الأبناء والبنات في الأسرة.
وهو يسعى إذن إلى الإحالة إلى ذلك الشيء نفسه؛ أي إلى دلالة هذه العبارة بالنسبة لقارئ الإنجليزية مثلًا، بأن يُترجمها بالعبارة التالية: Family Planning Authority، وقد يستبدل بالكلمة الأخيرة كلمة Agency إذا كان يخاطب جمهورًا أمريكيًّا، ولن يخطر له بحالٍ أن يستخدم كلمة Organization بدلًا منها أو من Authority؛ لأنها لا تحيلُ إلى نفس المدلول في اللغة الإنجليزية، وفي كلتا الحالتين نجدُ أن المترجِمَ يعرف أن هذا الجهاز هيئةٌ حكومية، أو يفترض ذلك؛ ولذلك فهو لا يختار من البدائل كلمةً مثل Committee «لجنة» أو Commission «لجنة دائمة أو هيئة» ناهيك بأشباه المترادفات التي تبتعدُ به عن المقصد تمامًا مثل: Establishment، أو Foundation أو بالمقابل الدقيق لكلمة جهازٍ في العلوم الطبيعية، وهي apparatus.
والمترجمُ هنا أيضًا يبتعد عن المعنى التراثيِّ للفظِ الجهاز، الذي يصادفه في كُتب الغزوات مثلًا بمعنى العُدَّة والزاد للمحارب a fighter’s provisions، أو المعنى الاجتماعي الشائع مثل جهاز العروس؛ كالأثاث أو الملابس والمُعَدات الشخصية للزواج (trousseau)، بل إنه يُقصي عن ذهنه الشفرة القديمة التي كانت تحيل إلى نفس المدلول؛ أي تحديد النسل birth control، مدركًا أن الموضة تقتضي استخدام الكناية المهذبة euphemism في الإشارة إلى هذا الموضوع الذي كان ولا يزال خلافيًّا controversial في الدين، في أوربا والعالم العربي جميعًا، وقد أصبحت الكناية المهذبة في أيامنا هذه مجال اهتمامٍ كبيرٍ من دعاة المساواة ونَبْذ التمييز، وأصبح يُطلق عليها اللباقة الاجتماعية political correctness.
واللباقة هنا (والكلمة في الأصل تعني الصواب أو السداد) معناها هو تحاشي جرح شعور الآخرين، كأن تشير إلى المعوَّق handicapped بأنه مختلف different وإلى الفقراء بأنهم disadvantaged (أي المحرومون من المزايا)، أو underprivileged أي مَن يتمتعون بمزايا أقل منك، أو vulnerable؛ أي المعرضون للتأثر بصروف الحياة وغِيَرِها، وكأن تتجنب الإشارة إلى أن الكاتب رجلٌ أو امرأةٌ، حتى لا تتسبب في التمييز بين الجنسين، أو الإشارة إلى أن الكاتبة سيِّدة أو آنسة مساواةً لها بالرجل الذي يشار إليه دائمًا بالسيد، بغض النظر عن حالته الاجتماعية.
والملاحظ هنا أيضًا، أن مترجم عبارة Family Planning Authority إلى العربيَّة لن يستخدم لفظ (التخطيط) لترجمة الكلمة الوسطى، أو كلمة السُّلطة في ترجمة الكلمة الأخيرة، وكذلك لن يقول (السيطرة على المواليد أو على المولد) ترجمةً لتعبير birth control؛ فالمترجم يتعامل مع وحدةِ إحالةٍ كاملةٍ، لا مع مفرداتِ هذه الوحدة.
هذه الاعتبارات جزءٌ لا يتجزَّأ من الإلمام بالشفرة، اللازم لصدق الإحالة، وهو من عُدَّة المترجم الذي أخرجَ لنا جهاز تنظيم الأسرة، وقد فَطِنَ صلاح جاهين إلى جانب اللباقة المذكور، والذي يشار إليه اختصارًا ﺑ P. C.، عندما رسم رسمًا كاريكاتوريًّا يضمُّ أبًا وحوله رهطٌ من الأطفال من مختلف الأعمار والأشكال، وجعله يخاطب مسئول الجهاز المذكور قائلًا: «ها قد أتيت بالأسرة، أرجوكم نظِّموها لي!»
واللباقة جانبٌ جديدٌ من جوانب الشَّفرة، وهو مهمٌّ للمترجم الذي يرمي إلى صدق الإحالة وحسب؛ أي الصدق في توصيل المعنى خارج الأبنية اللفظية، أو خارج الشَّفرة اللُّغوية، فمن يقرأ عن تثبيت أسعار البترول في صحيفةٍ يوميةٍ يعرف أنها قد انخفضت، وربما لا يكون مطالَبًا هنا بالالتزام باللباقة في مخاطبة الجمهور الأجنبي مكتفيًا بالمعنى الإحالي وهو lower oil prices، وقس على ذلك تحريك الأسعار بمعنى زيادتها، أو الأقمشة الشعبية، أو المساكن الشعبية بمعنى رخيصة الثمن، أو سَيِّئة الصُّنع، أو الموَجَّهة للفقراء، لا بمعنى المحبوبة أو التي أنتجها الشعب، أو التي يُقْبِل عليها الشعب.

المترجِم التوصيليُّ إذن هو الذي يهتم بالإحالة، وإدراك المُحال إليه؛ أي المدلول في المقام الأول، ويتوقف نجاحه في الترجمة التوصيلية على هذا الإدراك، فإذا كان من أبناء اللغة التي يُترجِمُ منها، كان ذلك عليه يسيرًا، وإن كان من أبناء اللغة التي يُترجِمُ إليها، كان عليه أن يأخذ في اعتباره جوانب دلاليَّةً إضافيَّةً.

فكلمة activist التي عادةً ما تُستخدَمُ بصيغة الجمع، تتفاوت دلالتها، ومن ثم تتفاوت إحالتها وفقًا للغة المترجَم إليها، فإذا اقترنت بحقوق الإنسان human rights activists أصبح معناها يتوقَّف على موقف أصحاب اللغة المنقول إليها من هؤلاء، هل هم دعاة حقوق الإنسان؟ هل هم أنصار حقوق الإنسان؟ أم هم «جماعات» أو «تنظيمات» خاصة بحقوق الإنسان بما توحي به كلٌّ من هاتين الكلمتين من مناوَءةٍ للنظام؟
وقس على ذلك كلمة militants التي قد تقترب من معنى «المناضلين» إذا كنت تؤيِّدهم، وقد تقترب من معنى المناوئين أو المتمردين إذا كنت تعارضهم، وقد تقترب من معنى «الثوريين» إن كنت تميل إلى قَبولهم، وتخاطب جمهورًا قد يتعاطف مع الثورة بسبب مشاعر استياءٍ وسخطٍ دفينةٍ! وينطبقُ هذا على استخدام الكلمة الأولى activists في سياق الدعوة إلى تحريم الإجهاض، في إطار الكنيسة الكاثوليكية مثلًا، أو في سياقٍ مختلفٍ، مثل الدعوة إلى حقوق المرأة في كلِّ مكانٍ؛ ولذلك فقد نزعت الأمم المتحدة إلى ترجمتها ترجمةً محايدةً هي «العناصر النشيطة»؛ نشدانًا للسلامة من الشطط في التفسير الذي قد يغضب دولةً ما.

٢

المعنى الإحالي في الترجمة العلمية

وقد لا تكون مشكلة الإحالة من المشاكل التي يُعتدُّ بها في العلوم الطبيعية كالفيزياء والكيمياء مثلًا، بسبب ثبات المصطلحات، والاتفاق شبه الكامل على معانيها، خصوصًا بين اللغات التي تنتمي إلى أسرةٍ لغويةٍ واحدةٍ، أو التي شاعت بصورةٍ موحَّدةٍ بين شتى اللُّغات، كأن تغزو كلمةٌ مشتقَّةٌ من اليونانية عدةَ لغاتٍ أوربِّيَّةٍ، وإن اختلف هجاؤها وفقًا لكلِّ لغةٍ؛ فهي تُكتب بصورةٍ متشابهةٍ تعفي القارئ من ترجمتها، ولكننا نعرِّب بعضها في العربية، ونترجم البعض الآخر مما يسبب لنا شتَّى ألوان العَنَت.

فعندما اتُّفق على ترجمة atmosphere بالغلاف الجوَّي؛ تحاشيًا لكلمة الجوِّ التي يمكن أن تعني حالةَ الجوِّ weather (أو الطقس، الكلمة المحدَثة) أو الهواء المحيط بالأرض circumambient air، وخصوصًا air التي قد تشير إلى الهواء باعتباره مجموعةً من الغازات gases، والهباء aerosols (والكلمة تعني أيضًا بخَّاخات السوائل القاتلة للحشرات، أو الناشرة للعطر) أو إلى حالة الجو؛ فالطيارون يشيرون إلى all-air combat aircraft أي الطائرات المقاتلة في جميع الأجواء، ويقصدون بها all-weather أي جميع حالات الجو، ويستخدمون الاصطلاحين بالتناوب alternatively.
أقول: عندما اتُّفِق على تلك الترجمة، استنادًا إلى التفرقة بين الغلاف الجويِّ، والغلاف الحيويِّ مثلًا biosphere؛ أي الكائنات الحية من نباتٍ وحيواناتٍ على ظهر الأرض، نشأت مشكلةُ مفهوم الغلاف، فإذا كان معناه الغطاء، أصبح يشتبك مع تعبيراتٍ علميَّةٍ أخرى، مثل الغطاء الحرجي forest cover (أي الغطاء الذي يتكون من الغابات)، والغطاء الأخضر green cover (أي الغطاء النباتي)، والغطاء الأرضي ground cover (أي الأعشاب التي تزرعُ حتى تمنع التربة من الانجراف)، والغطاء الأرضي land cover (أي الغطاء النباتي للأراضي)، والغطاء النباتي vegetation cover، وكلها تشترك في معظم الدلالة، وتختلف اختلافاتٍ دقيقةً لن تُفصِح عنها الترجمة.
فالمقطع sphere الذي يوازي الغلاف هنا، ليس غلافًا بالمعنى المفهوم، ولكنه يدلُّ أصلًا على الشكل الكرويِّ اشتقاقًا واصطلاحًا؛ ومن ثمَّ تعذرت ترجمةُ الكلمات الأخرى التي تشير إلى طبقات الغلاف الجوي، مثل الأيونوسفير ionosphere؛ أي الطبقة المتأيِّنة، والكلمة الأخيرة معرَّبة عن الأجنبية ion، التي وضعها العالم الإنجليزي مايكل فاراداي Michael Faraday بصورةٍ توقيفيَّة arbitrary للإشارة إلى اكتساب الذَّرَّة شِحنةً موجبةً أو سالبةً أثناء التفاعل الكيميائي، وقد فضَّل العلماءُ الإبقاء على صورتها الأجنبيةِ لصعوبة استخدام كلمة الكهرباء ومشتقاتها، التي أصبحت تقتصر على الإلكترون electron (الكهرب) ومشتقاته، وقِس على ذلك الكلمات التي تشيرُ إلى سائر طبقات الغلاف الجوي، نوردها بسبب أهميَّةِ ترجمة مقاطعها المشتقة من اليونانية، والتي قد تضلِّل المترجِم إذا لم يكن محيطًا بالمادَّة العلمية، وهي ليست عسيرةَ المنال لمن يريدُ الاستزادة من العلم باللغة.
وهذه هي بالترتيب من أسفل إلى أعلى: troposphere (حتى ١٠كم)، ثم tropopause (١٠–٢٠كم)، ثم stroposphere (٢٠–٥٠كم) ثم stropopause (٥٠–٥٥كم) ثم mesosphere (٥٥–٨٠كم) ثم mesospause (٨٠–٨٥كم) ثم thermopause (٨٥كم) ثم thermosphere (٨٥–٥٠٠كم) حتى نصل إلى exosphere وهو المتاخم للفضاء الخارجي!
أما الكلمتان الأُوليان، فتتكونان من مقطعين، الأول هو tropo المأخوذ من اليونانية tropos بمعنى «الميل» وهو هنا ميلُ مدار الأرض حول الشمس، ومنها اشتُقَّ tropic أي مدار «السرطان أو الجدي» ومَدارِيّ tropical، ومنها اشتقت الكلمة الإنجليزية trope أيضًا، بمعنى التعبير المجازي (أي الذي ينحرف عن الحقيقة)، والثاني هو sphere أي النطاق المحيط بالكرة، وهكذا نرى أن المترجِمَ الذي يستند إلى الأصل الاشتقاقيّ لن يصل إلى المعنى الإحاليِّ للكلمة، وهو الطبقة الدُّنيا من الغلاف الجويِّ التي تتميز بوجود بخار الماء، وحركة الريح الرأسيَّة، وظواهر الطقس المعروفة، ونقص درجات الحرارة كلما ازداد الارتفاع عن سطحِ الأرض!
والكلمة التالية تجمع إلى جانب المقطع الأول مقطعًا يدلُّ على التوقُّف pause، ولكن هذا خادع، فكلُّ ما تعنيه الكلمةُ هو وجود طبقةٍ فاصلةٍ يستمرُّ فيها انخفاض درجات الحرارة قبل الوصول إلى ثبات درجاتِ الحرارة في الستراتوسفير، وينطبق ذلك على الستراتوبوز، ثم نأتي إلى كلمة mesosphere التي تتكون من المقطع الثاني الذي سبقت الإشارة إليه، ومقطع آخر هو meso، المشتق من اليونانية mesos، بمعنى وسط أو أوسط أو متوسِّط. فترجمتها بالغلاف الأوسط ستؤدي إلى الخلط؛ لأن هذه الطبقات متداخلةٌ، وهي ليست ثلاثًا حتى نحدد الأول والأوسط والأخير بسهولة!
وأخيرًا نأتي إلى كلمة thermopause، وهي تتكون من مقطع يفيد الحرارة thermo، والمقطع الذي يفيدُ التوقُّف، وقد ترجمتها الأمم المتحدة بطبقة الرُّكود الحراريِّ، إلى جانب تعريبها، وقد تكون هذه ترجمةً صائبةً؛ لأن درجةَ الحرارة تثبت فيها عند الصفر بعد الارتفاع التدريجي، ابتداءً من الطبقة السابقة، ولكن الصفة المضفاة على الترجمة لا تفي بالغرض؛ لأنها لا تنقل المعنى، خصوصًا عندما تترجِمُ الأمم المتحدة المصطلح الآخر thermosphere بالغلاف الحراريِّ، دون إتاحة التعريب؛ أي كتابة الكلمة بصورتها الأجنبية بدلًا من ترجمتها، وسرُّ الاعتراض أننا عندما نتصدى لتحديد المدلولات في إطار مجموعةِ مصطلحاتٍ متخصِّصَةٍ، ويأخذ بعضها برقاب بعض، فلا ينبغي لنا أن نمزجَ بين التعريب والترجمة، خصوصًا إذا كانت الترجمة ترجمةً للجذور الاشتقاقية، لا للمعنى الاصطلاحي المفهوم؛ أي الذي يحيلُ إلى مدلولٍ بعينه.

وأين الأيونوسفير إذن؟ إنه طبقةٌ يحدِّدُها العلماء على أسسٍ مختلفةٍ، فأساسها الأوحد هو قابليَّة الذرات للتأين؛ أي لتغيير شحنتها الكهربائية، وقد يمتدُّ من الستراتوسفير، حتى الثرموسفير! وإنما ضربتُ هذا المثل؛ للتدليل على أن الترجمة العلميَّة قد لا تُحقِّقُ المثل الأعلى للإحالة، وأن التعريب قد يكون أفضل في الوفاء بالغرض، وأن المتخصِّص قد يَفهم المادَّة ويَعرف معنى المصطلح، ثم يتعثَّر دون إلمامٍ واسعٍ باللُّغة؛ في وضعِ المقابل الدقيق، أو في صياغة الترجمة الدقيقة الواضحة إذا لم يكن لديه إلمامٌ كافٍ بفنون اللُّغة والكتابة.

إن الإحالة باعتبارها مثلًا أعلى للترجمة التوصيلية ليست ممكنةً دائمًا؛ فالترجمة دائمًا ما تؤدِّي إلى خلط المعاني، والتعريبُ في الترجمة العلمية؛ أي كتابة الكلمة بصورتها الأجنبية بحروفٍ عربيَّةٍ؛ أنجحُ في الترجمةِ العلميَّة، والكاتب الذي يطمئنُّ إلى ترجمة dust بالتراب، سيواجه معاني أخرى للكلمة، ففي بريطانيا يطلقونها على القمامة (أو الزبالة) بالعاميَّة المصرية (والمعجم الوسيط يورد الزبَّال فقط بمعنى جامع القمامة)، ويطلقون dustmen على جامعيها، وأذكر أنني أحسست بالحرج عندما سألني أحدهم where is your dust? أي أين وضعت القمامة؟ ولم أفهم إلا حين أشار إلى dust bin أي صندوق القمامة الذي يسمِّيه الأمريكيون garbage can ويطلقون على القمامة أيضًا trash وrubbish، والصفة منها dusty، تعني أيضًا «بِلَون التراب» (أي ترابي)، وتُطلقُ على من وَخَطَ الشيبُ شعرَهم، أو في الحقيقة تيمُّنًا بأن يُعَمَّرو حتى يَخطَّ الشيبُ شعرَهم، وهي تُطلَق على الرجل والمرأة، وأشهر من نعرفها هي المغنية Dusty Springfield، والتراب لا شكَّ أقربُ معاني الكلمة، ولكن ما بالُ أشباه المترادفات معها مثل العِثْير (وغدا العِثْير في الجوِّ سحابات سواد) والنَّقع (بيت بشار بن برد المشهور «كأنَّ مُثارَ النَّقْع فوق رءوسنا … وأسيافنا ليلٌ تَهاوَى كواكبُه») والرَّغام (بيت حافظ إبراهيم المشهور «يا حديدًا ينساب فوق حديدٍ … كانسياب الرَّقطاء فوق الرَّغام») والثَّرى (في قوله تعالى: لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (طه: ٦)) والأديم (بيت أبي العلاء المعرِّي المشهور «خفِّف الوطْء ما أظنُّ أديمَ الأرضِ إلا من هذه الأجسادِ»).
أقول: إن المعنى الأوَّلَ هو أقربُها؛ فهو المعنى الدِّيني Earth to earth, ashes to ashes, dust to dust (قوله تعالى: خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ (آل عمران: ٥٩)، أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ (النَّحل: ٥٩)، أئِذَا مِتْنَا وكُنَّا تُرَابًا (الصَّافَّات: ١٦)) ولكن الإنجليزية تستَخْدِمُ كلمة earth أيضًا للإشارة إلى التربة أو التراب، إلى جانب soil، واختيار المترجمِ التوصيليِّ غيرُ محدودٍ بالمعنى الشائع، فرغم أن الإحالة واحدةٌ في كلِّ حالةٍ؛ أي إن الكلمات تشيرُ إلى الشيء نفسه تقريبًا؛ فإن الاختلافات التداوليَّةَ؛ أي الراجِعَةَ إلى تداولِ اللُّغةِ واستخدامها pragmatics، هي التي تُملي على المترجم اللَّفظ الذي يختارُه ويرتاحُ إليه.

الدلالة والمعنى

ولكن مشكلةَ الإحالة اللفظيَّة في الأدب تزدادُ تعقيدًا حين نجدُ الألفاظ داخِلَةً في تركيباتٍ ربَّما لا يعيها المؤلِّف نفسُه الوعيَ كُلَّه، كما أثبت علماء النَّفسِ من المهتمِّين بالأسس النفسيَّة للإبداع الفنِّيِّ من أبرامز Abrams في كتابه المرآة والمصباح The Mirror and the Lamp، إلى مصطفى سويف، ومصري حنوره (وأخيرًا شاكر عبد الحميد) بل كثيرًا ما يدهَشُ الشاعرُ، كيف كتب هذا الكلام؟! وعندما يُحاول أن يكتب شيئًا على غراره ويفشل؛ يصاب بخيبة أملٍ واكتئابٍ! ولن نذهب بعيدًا للتدليل على ذلك، خذ مثلًا قصيدة «أنا والمدينة»:
هذا أنا وهذه مدينتي
عند انتصاف الليل
رحابةُ الميدان والجدرانِ تل
تَبِينُ ثم تختفي وراء تل
وُرَيقَةٌ في الريح دارت، ثم حطَّت
ثم ضاعت في الدُّروب
ظلٌّ يذوب
يمتدُّ ظلٌّ
وعينُ مصباحٍ فُضوليٍّ مملٍّ
دُستُ على شُعاعه لَمَّا مرَرْت
وجاش وجداني بمقطعٍ حزينٍ
بدأتُهُ ثم سكتُّ
مَن أنت يا … مَن أنت؟
الحارِسُ الغبيُّ لا يعي حِكايتي
لقد طُرِدْتُ اليومَ من غُرفتي
وصِرتُ ضائعًا بدون اسمٍ
هذا أنا، وهذه مدينتي!
لقد سبق لي أن تعرَّضت لهذه القصيدة بالتحليل في كتابي «النقد التحليلي» عام ١٩٦٣م، ولكني لم أترجمها إلا عام ١٩٨٥م، وعندها وقفتُ لأوَّل مرَّةٍ عند المشكلات التي كنتُ أظنُّ أنني حلَّلْتُها، الموقف في القصيدة يسيرُ الفهم: شخصٌ طُرِدَ من غرفته، وأصبح بلا مأوى، يعيش في المدينة دون أن يقطُنَ فيها؛ أي إنه يسكنُ المدينةَ كُلَّها، ولا يسكن أيَّ جُزءٍ منها؛ فهو مثل المال العامِّ في تعريف رجال القانون res nullus باللاتينية؛ أي الشيء الذي لا يمتلِكُه أحدٌ؛ ومن ثمَّ فهو مِلكٌ مشاع للجميع، ومع فُقْدان الشخص الذي يتقمَّصُه الشاعر؛ أي الذي يقول القصيدة على لسانه (وهو ما يُسمَّى بالقناع mask أو persona) لسُكْنَاه، يفقِدُ أيضًا ذاتيَّته أو هُويَّته، فيُصبحُ دون اسمٍ!
ولكن ما الذي يحدث في القصيدة؟ إن هذا الشخص — ولْنُطلِق عليه تعبير «بطل القصيدة protagonist» — يمرُّ في ميدانٍ ما في المدينة، وعينُه تلحَظُ بعض الأشياء، ثمَّ يُقابِلُ شُرطِيًّا يُسمِّيه الحارسَ؛ يسأله سؤالًا لا إجابة له، ثم تنتهي القصيدة بلحظةِ التكشُّف؛ أي إننا أمام بناءٍ قصصيٍّ، يستمِدُّ هيكله من الدِّراما؛ حيث يوجد حدثٌ له بدايةٌ، ووسطٌ، ونهايةٌ! والنهاية هي التكشُّفُ أو ما يُسمَّى اصطلاحًا بالتنوير، أو الحلِّ denouément، والإطار الزَّمني العامُّ هو الحاضرُ؛ أي إننا نشهدُ شيئًا يحدث أمام أعيننا، وحادثةُ الطَّرد نفسها قد حدثت اليوم، والعبارات تتراوح بين المضارع، وبين المبتدَأ والخبر، وبين المضارع التامِّ present perfect الذي هو أيضًا مضارع!
المترجِمُ إذن يواجِهُ موقِفًا يمكن تسميته بموقفٍ دراميٍّ، وهو يتضمن عباراتِ حديثٍ مباشرٍ وغير مباشرٍ (أو ما يُسمَّى بلغةِ النَّقدِ الحديث direct free discourse وindirect free discourse) ومن وصفِ ما يرى البطلُ، يُدرِكُ القارئ أنه يسيرُ ثم يقِفُ، يبدأ الغناء ثم يتوقَّف، يسأل فلا يُجيبُ، وهكذا … فإن لدينا أفعالًا مُجهَضَةً تتوالى، وتناقُضاتٍ داخليَّةً بين الانفساح والانقباض، وبين الضَّوء والظِّلِّ، وبين الكلامِ والسُّكون، وبين الظَّاهر والباطن، وهذه جميعًا مما تحتَفِلُ به مدرسةُ البنيوية، وتُصِرُّ على تأكيده!

وليسأل سائلٌ: وما لهذا كلِّه بالترجمة؟ والردُّ (دون لأْيٍ) هو أن المترجِمَ لا بدَّ أن يستوعب ذلك كلَّه حتى يُخْرِج المقابِلَ، إذا لم يستطع أن يخرجَ المثيلَ بالإنجليزية! فالقصيدة مكتوبَةٌ ببحر الرجز، وهو أيسرُ بحور العربية، وأقربها إلى النثر، وهو لسهولته كان يُسمَّى حِمار الشعر، بمعنى أن كلَّ إنسان يستطيع أن يركَبه، وكان الذي ينظم شعره كلَّه رجزًا يُسمَّى رجَّازًا لا شاعرًا، مثل رؤبة والعجَّاج، وكان الرُّواة حين يَرْوونه يقولون: «فارتجز قائلًا» لا «فقال قصيدةً هي».

وتيسيرًا على من لا يعرفونه؛ يتكوَّن هذا البحر من حركةٍ، وسكونٍ مرَّتين، ثم حركتين وسكونٍ، كأن تقول: «إنْ لم تَكْن» ثم تكرِّرُها، ويجوزُ في البحر تعديلُ هذه الحركاتِ والسكنات بعدَّةِ طُرُقٍ، تُسمَّى «الزِّحَافات والعِلَل» كأنْ تحذِفَ الحرف المتحرِّكَ الثَّاني، أو الرَّابع، وهلُمَّ جرًّا، وأهمِّيَّةُ ذلك للمترجم واضحةٌ، قد يُحاول مجاراةَ الأصل في الزمن، فيُترجِمُ البيت الأوَّل هكذا:

This is I and this my city
والبحر الإنجليزي هنا هو بحر الأيامب iambus (من اليونانية iambos)، الذي يتكون من مقطعٍ خفيفٍ، ومقطعٍ منبورٍ؛ أي يقعُ الضَّغطُ عليه؛ ومن ثمَّ فسوف يرى أنه قد افترض أن القارئ سوف يجعلُ الضغط واقعًا على فعل الكينونة is ثم على I ثم على my وأخيرًا على ty (أي المقطع الأخير في كلمة city)، مع قلب نظام النَّبر في التفعيلة الثانية؛ أي عكسها لتصبح تفعيلةً من بحر trochee، بحيث تكون I منبورةً، وand غير منبورةٍ، ولكنَّ استخدامَ ضمير المتكلِّم في حالةِ الخبر مرفوعًا؛ أي I بدلًا من me، يرجع إلى اللاتينية، ويتَّبع قواعد النحو اللاتيني، وهو كما يقول علماء اللغة (موضة قديمة) لأن الشائع في الإنجليزية المعاصرة أن تقول: This is me رغم أن me وفقًا لقواعد النحو في حالة المفعول به لا الخبر! ولكنَّ استعمال ضمير المتكلم I يأتي بقافيةٍ داخليَّةٍ مع my، ويتطلَّب الوقوف عليها أثناء الإلقاء This is I فإذا قرأت المقاطع الثلاثة التاليةَ and this my أحسست بالجَرْسِ النَّابعِ من الموسيقى الدَّاخليَّة الذي يُعمِّقُ من الإحساس بالمفارقة؛ إذ إنه هو ليس هو! أي إن المتكلِّمَ الذي يزعمُ ملكيَّةَ المدينة له في my — ليس من يقول إنه هو — أي ليس له هوية، والمدينة كذلك لا تنتمي إليه، بعد أن لَفِظته لَفْظَ النواةِ، وطرَحتْه طرْحَ القذاة، كما يقولون! وسوف يلعب الجَرْسُ دورًا حاسمًا أيضًا في الهبوط بحركةِ المدِّ الصَّاعِدَةِ في «آي» و«ماي» إلى «إي» و«تي» في كلمة city! أي إن حركةَ الأصوات هنا أصبحت جزءًا من المعنى الشِّعريِّ، ولا مكان للاحتجاج بقدرةِ المصطلح الشَّائع للغة الإنجليزية، على التعبير الأصدق عن النَّحو الجاري، أو حتى عن الفكرة!
ولكن قد يقول قائلٌ: إنَّ معنى هذا تقسيمُ البيت إلى ثلاث تفعيلاتٍ بدلًا من أربعٍ، الأُولَيان منها مُزاحَفتان تحوَّلتا إلى بحر الأنابيست anapaest؛ أي الذي يتكوَّن من مقطعين غير منبورين متبوعين بمقطعٍ منبورٍ! ولكن هذا مردودٌ عليه؛ فقارئ القصيدة بالإنجليزية له أن يضغط على أيِّ المقاطعِ شاء، وفقًا لمفهومه للإيقاع اللفظيِّ التابع والنَّابع من المعنى الذي يراه؛ فالتنغيم intonation يمكن أن يكون:

أو

أي إن الموجاتِ الإيقاعيَّةَ هنا لا تُحتِّمُ الزَّحافاتِ المحتجَّ بها، والمترجِمُ لا شكَّ واعٍ كلَّ الوعي بوقفةِ التفعيلة الأولى عند ألف مدِّ (أنا) في العربية، فتفعيلة الرَّجَز تُجبره على الوقوف، وإذا كان ذلك يتطلَّبُ مُزاحفَةَ تفعيلة الأيامب لإخراج المعنى الشعري، فَلِم لا؟!

فإذا انتقلنا إلى البيت الثاني وجدنا عجبًا! إن «رحابة الميدان» هي المبتدأ، والأصول هو الرَّحابة، وشتَّان بين أن تقول: الميدان الرَّحب، وأن تقول: رحابة الميدان! إن الرَّحابة تؤكِّدُها حروفُ العِلَّة الممطوطة في الألِفَين المتواليين، حتَّى نأتي إلى الجدرانِ المعطوفة، والتي تتضمَّنُ ألِفًا أخرى تجبرنا على ضمِّها إلى الميدان، خصوصًا بسبب النهاية المتشابهة، وهو ما نسمِّيه بالتَّجانس الصَّوتي assonance، ثم يتلوها ما يُشبه الخبر، وهو كلمةُ «تلّ»! لكنه ليس خبر المبتدأ؛ فهو خبرٌ كاذبٌ! فعبارة «والجدران تلٌّ» جملةٌ اسميَّةٌ معترضةٌ، ولكنَّها في موقعها من البيت تُلقي بظلالها على المبتدأ، ولا مَناصَ من قراءةِ البيت بهذه الصُّورة؛ أي «رحابة الميدان والجدران» = تل!
فكلمةُ تل لها ثِقَلٌ في العربية بسبب وقوعها في آخر البيت (end focus)، وضغط اللام الأخيرة في اللام السابقة لها، بحيثُ تُصبِحُ قيمتُها العَروضيَّةُ صفرًا، ومن المحال أن يمهِّدَ ذلك القارئَ للخبر الحقيقيِّ الواردِ في الشطر الثاني؛ أي في الشَّطر الآخر من البيت، وهي «تبين ثم تختفي وراء تل»! الشَّاعر يقول إذن على مستوى الإحالة، إن رحابة الميدان تختفي وراء تلال الجدران! لكنه لا يقول هذا في الحقيقة الشِّعريَّة؛ فالمعنى الإحالي هنا يصطدمُ مع المعنى الشِّعريِّ، ولا بُدَّ أن يعمل المترجِمُ حسابَ ذلك، وإلا خَرجَ بمعنًى لا هو إحاليٌّ، ولا هو شِعريٌّ، فماذا عساه يفعل؟! قد يقول:
The vast square and walls are a hill
Appearing to disappear behind a hill!

إن هذه الصيغة تحتفظ بالصورة الأصلية التي تتضمَّن الغموض الذي أشرت إليه، ولكنها تنحرف عن المعنى الإحالي الذي هو:

The vastness of the square, the walls a hill,
Appearing to disappear behind a hill!
المعنى الإحاليُّ وضع الجدران في موضعها الدَّلالي المحدَّد، مع حذف فعل الكينونة الذي هو مجرد auxiliary، وحذفه يُسمَّى suppression، وهو جائزٌ في الشِّعر، وأبقى على الفعل في موضع الخبر، باعتبار أن الخبر جملةٌ فعليةٌ، وماذا عن اختيار ترجمة الرحابة ﺑ vastness بدلًا من spaciousness مثلًا؟ هذه كلها اعتبارات تمثل ما أعنيه بمشكلات الدَّلالة في مقابل المعنى الشعري!
فإذا انتقلنا إلى البيت التالي وجدنا مشكلةً حقيقيَّةً: وُرَيْقة! ورقة صغيرة؟ ورقة كتابٍ أو كرَّاسٍ؟ ورقة شجر؟ أم قطعة من الورق؟ والورقة هنا مفعولٌ به في صورة الفاعل؛ أي ما يسمى في النحو الحديث patient؛ فهي تدور في الريح، بينما تديرها الريح في الحقيقة، أفعالها تسمى في العربية بأفعال المطاوعة، كقولك: فتحتُ البابَ، فانفتح البابُ؛ فالعبارة هنا تتضمن فاعلًا هو مفعولٌ به؛ أي إنها رمزٌ واضحٌ لإحساس المتكلم بالضياع والضآلة؛ لأنه في مهبِّ الرِّيح، لماذا رآها البطل؟ أو لماذا قرَّرَ الشاعر أن يجعله يلحظها ويثبتها فيما التقطه وعْيُه من مَشاهد ذلك الميدان في تلك الليلة؟ وانظر إلى تتابُع الأفعال المنسوبة إلى ذلك المفعول به، وتواليها في عبارةٍ متماسكةٍ «دارت ثم حطَّت ثم ضاعت!» فإذا قلنا: إنها ورقةٌ مما يُكتبُ عليه، استحال تصغيرها بالإنجليزية، والأيسر أن نفترض أنها ورقةُ شجرٍ، فربما لم تكُن في حاجةٍ إلى تصغير! هل هي إذن a scrap of paper طبقًا للمعنى الإحالي الظاهر؟ أو a leaf التي قد تعني لحسنِ الحظِّ ورقةً من كتابٍ أيضًا؟ أم هل نختار كلمةً مثل bit، أو a small piece! الاختياراتُ هنا لا يحكمها بالقطع المعنى الإحاليُّ الدقيق، بقدرِ ما يحكمها تفسير المترجِم الذي يضع نفسه في موضع الشاعر!
وليست الأفعال المتتابعة سهلةَ الترجمة هي الأخرى؛ فالشاعر يقدِّم شِبهَ الجملة «في الريح» وهي prepositional phrase عامدًا حتى ينتهي ﺑ «دارت» ويؤخر شبه الجملة الأخيرة إلى مكانها الطبيعي:
Circled, then landed, was lost in the alleys.
إن circled in the wind غير circled in the air، وتحديد معنى الريح أيضًا يتوقف على الإحساس الذي يحدِّدُ تفسيرَ حركةِ الهواء، والذي يترجمها بالإنجليزية eddied من eddy بمعنى دوامة الريح، يجعل حركة الهواء شبه ثابتةٍ في مكانٍ واحدٍ، على عكس من يختار circled، وهي الكلمةُ التي توسع من دائرة الحركة، أما الذي يبتعد عن الإحساس بتأثير فعل المطاوعة الموحي به، كأن يجعلَ الريحَ فاعلًا فيقول: swept by the wind أو blown round and round by the wind أو حتى bandied up and down by the wind فهو سوف يبتعدُ تمامًا عن المعنى الشعري، مهما اقترب من المعنى الإحالي!
ولْنَتأمَّل هذه الحيلة التركيبية التي تسمى chiasmus في البلاغة الإنجليزية، ونترجمها بمصطلح (العكس) أي إيراد بناءٍ للعبارة ينعكس في العبارة التالية:
في الريح دارت، ثم حطَّت، ثم ضاعت في الدروب.
لدنيا هنا ثلاث وحداتٍ: شبه جملةٍ وفعلٌ، ثم فعلٌ، ثم فعلٌ وشبه جملة؛ أي إن الوحدتين على جانبي الفعل ذواتا بنائين معكوسين chiastic structure، فهل يصرُّ المترجم على إبراز ذلك هكذا:
A leaf in the wind circled,
Then landed, was lost in the alleys.
مما يتيح للنص الإنجليزي أن يمثِّلَ أيضًا ما يسمى بالتركيب السَّائل fluid syntax بلغة النقد الأدبي، أو إمكان اختلاف التقطيع different segmentation بمصطلح اللُّغويِّين؟ ومعنى هذا أن يستطيع القارئ أن يقرأ البيت «وريقةٌ في الرِّيح» ثم يقف؛ قبل أن يأتي بالفعل في الترجمة تمامًا مثل الأصل! والواضح أنني لا أقف عند ترجمة الكلمات المفردةِ؛ فهذه أقل ما يقلق بالي في ترجمة الشعر؛ فالدُّروب هي الشوارع على اختلافها: طرقاتٌ واسعةٌ، وحَوارٍ، وأزِقَّةٌ، وعُطُوفٌ، وأقرب ترجمةٍ لها هي ways، قياسًا على قصيدة وردزورث wordsworth المعروفة:
She dwelt among the untrodden ways.
وإن كان عيب هذا الاختيار هو أن ways توحي بطرائق الحياة، كقولك: He must mend his ways أي لا بد أن يُحسِّن سلوكَه، أو عليه أن يُصلح من أخلاقه! والمعنى الإحالي هنا محالٌ؛ فالمعروف أن كلمةَ الشارع نفسها تتضمن هذا المعنى؛ فهي «الطريق الأعظم الذي يشرعُ فيه الناس عامَّةً» كما يقول «لسان العرب» ولا أدري لماذا يتجنبها أهلُ المغرب فيطلقون على الشارع «الجادَّة» و«النَّهج»؟! وهكذا كان يفعل خليل مطران في ترجمته لشكسبير، أما الدَّرب؛ فالأصل فيه هو المضيق في الجبل، ثم تطوَّر المعنى فأصبح الطريق النافذ، ومنه اشتُقَّ التدريب؛ أي تعلُّم الطرائق والسُّبُل، ومن ثَمَّ أصبحت الدُّربة صِنوًا للمِران والمِراس، والاختياراتُ الإحاليَّةُ لا نهاية لها؛ فالإنجليز يطلقون شتَّى الأسماء على شوارعهم، من avenue إذا كانت تظلِّلُه الأشجار، إلى crescent إذا كان على شكل هلالٍ، إلى cul-de-sac إذا كان زقاقًا، إلى mews إذا كان حارةً مسدودَةً، إلى lane إذا كان سِكَّةً من السِّكَك، أو خطًّا في طريقٍ، أو طريقًا ذا اتجاهٍ واحدٍ مثل one-way street، لا كما شاع من أنها حارةٌ (وبينما نحن نجوزُ حارةً، إذ فَاجَأَتْنا عندها سيَّارةٌ!) إلى آخر القائمة التي تطولُ فيضيق المقامُ بها، ولكن حتى road التي يُظنُّ أنها مقصورةٌ على الشوارع الرئيسيَّةِ أو التي تربطُ بين المدن، قد تُطلقُ على شوارع جانبيَّةٍ نافِذَةٍ؛ أي thoroughfare، أو مسدودَةٍ، وكلمةِ path ذات دلالاتٍ دينيَّةٍ ترتبطُ بالطريق القويم the straight path، وpathway قديمة، وfootpath هو المدقُّ، وهلُمَّ جرًّا.١
هل نعود إلى street؟ أو نَقْنَع بالكلمة الموجودة وحسب؛ أي alleys؟ الأهم من هذا أن نلحظَ البناء العكسيَّ في «ظِلٌّ يذوب/يمتد ظِلٌّ» أما الاستعارة الأولى، فيسيرةٌ؛ لأن لها مقابلًا في الإنجليزية هي to melt away، والبناءُ هنا له مقابلٌ في قصيدة «الأرض اليباب» The Waste Land، للشاعر «ت. س. إليوت» التي شاعت ترجمتها بالأرض الخراب، فإليوت يقول:
… your shadow at morning striding behind you,
or your shadow at evening rising to meet you.

فالظِّلُّ حين «يمتدُّ» وحين «يظهرُ» له مقابلٌ بالإنجليزية، ومع ذلك فالواضح أن «امتداد الظِّلِّ» يتضمَّن إشارةً إلى الآية الكريمة: أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا (الفرقان: ٤٥)، ومترجمو القرآن يذهبون أغرب المذاهبِ في ترجمتها، فمارماديوك بيكتول يترجمها هكذا:

Hast thou not seen how thy Lord hath spread
the shade—and if He willed He could have made it still.

ويوسف علي يترجمها هكذا:

Hast thou not turned thy vision to thy Lord?
How He doth prolong the shadow! If He willed,
He could make it stationary!

وداود يترجمها هكذا:

Do you not see how your Lord lengthens the shadows
Had it been his will He could have made them constant.
ورودويل Rodwell يتفق في نفس الفعل مع داود، وأربري وغيره يترجمها extends، وهكذا تتكاثرُ المعاني التي تُعتبرُ مضمرةً في كلِّ محاولةٍ للإحالة هنا، مع أن المعنى لا بد أن يكون واحدًا، وكلام الله — على أي حالٍ — لا يعلم تأويله إلا الله.
وإذا كنتُ أقول: إن الكلمات المفردةَ هي أقلُّ ما يُقلق بالي في ترجمة الشِّعر؛ فذلك لأن الكلمات المفردةَ قد تتعدد دلالاتها خارج السياق، ولكن السياق لا بُدَّ أن يحدِّدَ هذه الدلالة؛ ومن ثمَّ فالاهتمام يجبُ أن ينصبَّ على السِّياق، والسياق هنا يوحي بأن الظلال التي تنحسر (أو تذوب كما يقول الشاعر) وتمتدُّ؛ لا ترجعُ إلى حركةِ مصدر الضَّوء، (كما هو الحال في الآية الكريمة: ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيهِ دَلِيلًا ولا في إليوت؛ فهو يشير أيضًا إلى الشروق والغروب) بل إلى حركة الجسم السائر، فهل تُرى ينتمي هذان الظِّلان إلى شخصٍ واحدٍ يقترب من المصباح فيذوب ظِلُّه، ثم يبتعدُ عنه فيمتدُّ ظِلُّه، أم إلى عدَّةِ أشخاصٍ؟ وإذا كان ينتمي إلى شخصٍ واحدٍ، فهل ينتمي إلى بطلِ القصيدة الذي يقترب من المصباح، ثم يبتعد عنه؟ فالبيت «ظلٌّ يذوب/يمتدُّ ظلٌّ» يتبعه بيتٌ آخر يُفسِّرُه، هو «وعين مصباحٍ فضوليٍّ مملٍّ/دُستُ على شعاعه لما مررت» الغموضُ هنا أساسيٌّ في الصورة، ولا ينبغي للمترجم أن يسعى لإزالته، بل حبَّذا لو أبقى عليه وعلى التركيب العكسي chiastic في البيت مثلًا:
A shadow melts away,
While extends another.
وهذا ليس منافيًا للنحو الإنجليزي، ولكنه يتضمن قدرًا من التفسير ولا شكَّ، في while، أو أي رابطٍ، سواءٌ كان رابطَ تبعيَّةٍ، أو تنسيقٍ subordinating or coordinating، مثل but وand، والخروج من المأزق بنُشدان الحياد إيثارًا للسلامة ليس حلًّا مثاليًّا، مثلًا:
A shadow melts away.
Another stretches out.

ولكنه حلٌّ على أي حالٍ! وأحيانًا ما يضيق بمترجمِ الشِّعر الحالُ فيصيحُ: من يبغي جمالَ الصِّياغة العربية فعليه أن يعودَ إلى الأصل! ولكننا لا نصيحُ هذه الصيحات الغاصبة، وأمامنا مشكلة «عين المصباح الفضولي الممل»!

«فضولي»؟! أجل! فهو يمزِّق سترَ الظلام ليفضحَ! وهو لا يعنيه حالُ البطل! إنه يتدخل فيما لا يعنيه! فهو إذن intrusive، أو على وجه الدِّقَّةِ intruding أكثر من كونه inquisitive أو curious! ولكن المعنى الأخير قائمٌ في الكلمة ولا شك، فعين المصباح التي تكشف الخبيء، وتهتك الستر؛ تريد أن تعرف أيضًا ما حدث! ولكن ما بالُ صفةِ «الملل» التي يضفيها الشاعرُ على المصباح؟ لماذا يصفه بأنه «مملٌّ»؟! هل يعني أنه لا إثارة به ولا جِدَّةَ ولا رونق؟ ومن ثم فهو dull؟ أم أنه رَتِيبُ الضوء يبعث على الملل (monotonus and thence boring?) المشكلةُ هنا أن dull (وشبيهاتها مثل lacklustre) قد تنسحب على الضوء نفسه الذي ربما كان باهرًا قويًّا نفَّاذًا! والدليلُ على قوة الضوء إحساسُ البطل به، باعتباره شيئًا مادِّيًّا «دُست على شعاعه لما مررت!» إنه ليس قطعًا faint أو dim، وصفةُ الملل تنطبق دون شكٍّ على الإحساس لا على الضوء، فكأنما يشيرُ البطلُ إلى لونٍ من السأم والضَّجر القريب من صفة اﻟ weariness؛ ومن ثمَّ فهي تمثِّل انعكاسًا لحالته هو التي ينقلها إلى المصباح!

فهل نقول إذن:

The eye of a boring intrusive lamp
On whose beam I trod
As I passed on?

أم نقول:

The inquisitive eye of a bored lamp … etc.
وفي هذه الحالة نكونُ قد استخدمنا حيلةً بلاغيَّةً إنجليزية، هي تبادلُ موقعَي الصِّفَة والموصوف transferred epithet، بحيث يكون السَّئِمُ الضَّجِر هو البطل لا المصباح!؟ أم هل تستبدل كلمة peeping بصفة الفضولي؛ أي المتلصص الذي يسترق النظر؟
وما نكاد نفرغ من مشكلة الكلمات المفْرَدة حتى تواجهنا مشكلة التركيب: ما شأن هذا المصباح؟ وبالمناسبة، فإن lamp بالإنجليزية لا تعني اللمبة الكهربائية، بل المصباح كلَّه، أو حتى الأباجورة، أما اللمبة فاسمها bulb، وعمود النور هو lamp post، وكلمة bulb كما هو معروفٌ اختصارٌ لتعبير electric bulb، فهل تُرى يقول البطل: إنه كان هناك مصباحٌ وحسب؟ أم هل نفترض عطفًا على البيت السابق «يغيب … ويمتد»؟ قد يلجأ المترجِم الإنجليزي الحديث إلى اشتقاق فعلٍ من إحدى الصفات، وهذا شائعٌ، بل متفشٍّ إلى حدٍّ مذهلٍ، وفيه ما فيه من تجنٍّ على الأصل، كأن يقول:
The eye of a dull lamp
On whose beam I trod, passing by,
Peeped out curiously.

وجمالُ الصياغة هنا مع القافية الطبيعية، لا تمثِّلُ الحلَّ الأمثل؛ فالمترجم يحاولُ أن يتقمَّص المعنى الشعري، ويتمثَّله مع الحد الأدنى من التفسير، وهو هنا يتجاوز هذا الحدَّ!

وحلُّ هذه المشكلة يُفضي إلى مشكلةٍ أخرى، هي «جاش وجداني بمقطعٍ حزينٍ» وهو سطرٌ ذو صعوبةٍ خاصَّةٍ بسبب الصورة الدَّفينة sunken image أي التي تحملها كلمةُ جاش؛ فهي كلمةٌ عسيرةٌ بالغةُ العسر! هل المقصود أن وجداني (بمعنى مشاعري أو أحاسيسي) فاضَ، وهو المعنى القريب؟ أم المقصود هو المعنى الأصلي بمعنى «ارتفع»؟ والوسيط يأخذ من لسان العرب ما يراه شائعًا، ولكنَّ اللسان يضعُ المعاني في تسلسلٍ منطقيٍّ مُقنعٍ، فارتفاع البحر يعني هياجه، وجيشان العين ارتفاعُ الدمعِ فيها، وجيشان الماء تدفُّقُه؛ ومن ثمَّ يأتي معنى الغليان، وكذلك المعنى الأصيلُ في الكلمةِ، وهو الغثيان أو التقيُّؤ نتيجة ارتفاع الطعام إلى الفم!

وكذلك يأتي معنى الفزع والجزع! المعنى القريبُ هنا هو تحرُّك مقطعٍ من أغنيةٍ أو قصيدةٍ في داخل نفسه؛ أي ارتفاع مدِّ الحزن في أعماقه دون أن يفيضَ!

هذا الإيجاز الذي يُسمَّى في البلاغة الإنجليزية ellipsis (ويترجم المصطلحَ مجدي وهبة بإيجاز الحذف)، يفرض على المترجِم أن يختار ما حُذِفَ لإكمال المعنى، فإذا كان المقطع موسيقيًّا حدَّد ذلك a sad tune وإذا كان شعريًّا أفصح عنه a couplet, a stanza أما الجيَشان فاختياراته يحدِّدُها تفسيرُ ما حدث في الوجدان، وهل الوجدان هو القلبُ heart أم النفس soul؟ وكلاهما يستعملان في الشِّعر كنايةً عن الوجدان؟ مثلا:
A sad tune reverberated in my heart,
No sooner started than suppressed.

وفي هذا أيضا ما فيه من تفسير — أو:

My soul overflowed with a sad tune,
But it hardly rose before I was stopped.

وفيه تفسيرٌ أكبر — أو:

A sad couplet echoed in my mind,
But it was soon interrupted.

ولنا أن نضيفَ تفسيراتٍ أخرى إلى ما لا نهاية!

وأخيرًا لن نقف إلا عند كلمة «يعي» في عبارة «الحارس الغبي لا يعي حكايتي» هل قصَّ البطل قصته عليه فلم يستطع الحارس لغبائه أن يفهمها؟ أم هل يقصد الشاعر فحسب أن الحارس لا يعرف الحكاية أي الموضوع، وهو غبي لأن البطلَ يرى أن حراس المدينة لا بدَّ أن يكونوا أغبياء ما داموا لا يدركون مثل هذه الأمور؟ والإحالة هنا لن تشفي الغليل، فليس الوعي هنا هو المقصود، ولكن المقصود هو المعرفةُ وحسب، ولحسن الحظِّ يوجدُ في الإنجليزية ما يقابلُ ذلك تمامًا:

The stupid guard is not aware of my plight.
فتعبير is not aware معناه ببساطة: لا يعرف. رغم أن اﻟ awareness هو الوعي! أما الحكايةُ فقصَّةٌ أخرى، ويكفي ذلك.

٣

الدِّلالة إذن هي المعنى الإحالي، والمعنى هو كلُّ ما نخرج به من النص الأدبي من معانٍ لا تكمُنُ فقط في دلالاتِ الألفاظ، فتكرار ياء النسبة في حكايتي، وغرفتي، ومدينتي في آخر القصيدة مقصودٌ به تأكيد مفارقةِ عدم الانتماء! ونحمدُ الله على أن الشعر كلَّه ليس معقَّدًا هذا التعقيد، فهناك قصائدُ ميسَّرَة المأخذ، ولكن القصيدة التي تستولي على الذهن، وتعيش في الذاكرة، ويجيشُ بها الوجدان، هي التي تتضمن مشاكلَ تجعلُ ترجمتها معضلةً كَأْدَاء!

المعنى الشعري

والمعنى الشعري إذن هو مجموعُ الخصائص التي تميز الشعر عن النثر العلمي، أو تميز الأسلوب الأدبي عن غير الأدبي، وأودُّ أن أؤكِّدَ هنا أن الأسلوب الأدبي لا يعني وجود لغةٍ خاصَّةٍ بالأدب، ولا يعني قطعًا وجودَ أسلوبٍ أدبي واحدٍ، ولكن استعمال اللُّغة في الأدب قد يختلفُ عن استعمال اللُّغة في الكتابة العلمية، كما تعرَّضتُ لذلك في غير هذا المكان، ولكنني أحاولُ هنا فحسب أن أرصدَ جانبًا لم يتعرَّض له الكثيرون، وهو على تعبير ريتشاردز «معنى المعنى» The Meaning of Meaning، ذلك الكتاب القديم الذي ما فتئ يطلُّ علينا بالجديد كلَّ مرَّةٍ نقرؤه!

لقد أطلتُ في تحليل هذه القصيدة القصيرةِ عامدًا؛ لأنني لستُ من المولعين بالنظريات؛ فالنظريات لاحقةٌ على العمل، وهي لا يضعها المفكرون لكي يطبقها الممارسون، بل يخرج بها الدَّارسون من ممارسة الممارسين، وأظنُّ أن ما ذكرته من خلال هذه الرحلة الشاقة بين أبياتٍ معدودةٍ كفيلٌ بتبيان صعوبة النَّصِّ الذي قد يبدو لأوَّل وهلةٍ يسيرَ الفهم، عاطلًا من حِيَل الصنعة! وربما كان تركيزي ينصبُّ على الألفاظ وتراكيبها أكثر من الأنماط النغمية والإيقاعية؛ لأن هدفي كان تبيان الفارق بين المعنى الدلالي الذي أسميته المعنى الإحالي، والمعنى الشعري الذي عرفته الآن، ولكن السؤال يظلُّ قائمًا: هل يختلف المعنى الشعري باختلاف المترجم؟ أي أننا حتى لو استطعنا تحديدَ المعاني الإحالية للألفاظ والتراكيب في قصيدةٍ ما، فهل نستطيعُ تحديد معناها الشعري أيضًا بحيث نتوقَّعه في كلِّ مرَّةٍ تُترجم فيها إلى لغةٍ أخرى؟

التفرقة التي سبق أن ذكرتها في أول المقال بين ما يُسمَّى بالألمانية sinn und Bedeutung تتولى الإجابة على ذلك، فالكلمة الأولى sinn التي نترجمها بالإنجليزية sense تعني المعنى المعجمي للكلمة؛ أي تعريف الكلمة إن كان لها تعريفٌ محدَّدٌ مطْلَقٌ، وهو ما لا بدَّ من الإقرار به في الترجمة العلمية، أما الإحالة Bedeutung التي ترجمتها ﺑ reference؛ فهي إشارة هذه الكلمة إلى شيءٍ بعينه، وهذا من أشقِّ الأمور — كما بيَّن تحليلي السابق للقصيدة — حتى ولو كان الكاتبُ بالغَ الدِّقَّة؛ لأن اللُّغة مِلكٌ مشاعٌ للبشر في أماكن كثيرةٍ، وعصورٍ كثيرةٍ؛ ومن ثمَّ فاختلاف الصورة التي تفدُ إلى الذهن عند قراءة نصٍّ أدبيٍّ أمرٌ محتومٌ، فهل ينطبقُ ذلك أيضًا على العناصر الأدبية الأخرى التي تعتبر من صلب القصيدة؟ هل ينطبق على الوزن مثلًا؟ وإذا كانت المعاني الإحالية تختلف من مكانٍ إلى مكانٍ، ومن زمانٍ إلى زمانٍ، فهل يختلف إيقاعها كذلك في معناه المطلقِ والإحالي؟
الإجابة هنا ستكون قطعًا بالإيجاب، فموسيقى الشعر لها معنًى، ولكنَّه معنًى لا ينفصل عن الألفاظ بتراكيبها القائمة، والمترجمُ الذي يبغي الأمانة لن يفعلَ إزاءها ما يفعله مع الدلالات الإحالية؛ أي إنه لن يحيلَ السَّامع إلى واقعٍ خارجيٍّ، ولو كان ذلك نغمًا مجرَّدًا، أو مجموعةً من النبرات أو الصُّعود والهبوط في الصوت، أو سلسلةٍ من الإيقاعات المتوالية، فهذه ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالكلمات التي توحي بها، وأهمُّ من ذلك كلِّه؛ فهي ترتبط باللُّغة التي أُلِّفَت بها، والتي لا يمكن فصلها عن ثقافة المؤلِّف، والقارئ، والمجتمع، والعصر، وإذن، فلا معنى للمضاهاة بين الأوزان الشعرية في ذاتها؛ أي محاولة الموازنة بين الخبب مثلًا «في القصيدة التالية» وأي بحرٍ أجنبيٍّ آخر:٢
سلَّةُ ليمون
تحت شعاعِ الشمسِ المسنون
والولد ينادي بالصَّوت المحزون
عشرون بقرشٍ بالقرش الواحد عشرون!

الصُّورة مصريَّةٌ صميمةٌ، وهي — مهما تبلغ براعة المترجم — لن تنقِلَ إلى ذهن القارئ الأجنبي ما تنقله إلى ذهن القارئ العربي، بل لن تنقلَ إلى ابن المدينة ما تنقله إلى ابن القرية، أو من يعيش في بلدٍ عربيٍّ لم يشهد فيها هذا المشهد! فالقارئ الأجنبي عندما يقرأ:

A basketful of lemons
Under the sharp beams of the sun,
And a boy plaintively cries
Twenty for a penny, for a single penny twenty!
سوف يتصور سلَّةً كبيرةً مملوءة بالليمون الضخم الذي تنتجه أوربا، أو ما نسميه نحن «لمون أضاليا» — وربما كان أصلُ الكلمة أناضوليا — ولن يتصور مهما يشتَطَّ به خياله معنى «المسنون» فكلمة sharp التي تفيد حدَّة النصل القاطع لا تخلو من الإشارة إلى قرينتها التي يعرفها كلُّ مسلمٍ في الآية الكريمة: ولَقَد خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِن حَمَإٍ مَسْنُونٍ (الحجر: ٢٦)، والتي اختلف الشراح في معناها، واختلف المترجمون كذلك أيضًا، فبكتول يترجمها: We created man of potter’s clay of black mud altered.

ويترجمها يوسف علي هكذا:

We created man from sounding clay
From mud moulded into shape.

ويترجمها داود:

We created man from dry clay, from black moulded loam.

ورودويل:

We created man of dried clay, of dark loam moulded.
وهكذا يفعل أربري، وأسد، وغيرهما، بينما يورد الصابوني في مختاره ما ذهب إليه الجمهور، من أن المسنون هو «المتغير» وهو المعنى الذي ترمي إليه الكلمتان altered وmoulded، ولكن ابن كثيرٍ يقول:

«مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ» أي الصلصال من حمأ، وهو الطين، والمسنون الأملس، ورُوي عن ابن عباسٍ أنه قال: هو التراب الرَّطب، وعن ابن عبَّاس ومجاهد أن الحمأ المسنون هو المنتن، وقيل: المسنون ها هنا المصبوب.

والواضح من الراغب الأصفهاني وغيره أن المسنون تستندُ في اشتقاقها إلى السُّنَّة؛ أي سنِّ القانون والنُّظمِ التي تحكم الخلق، فهي أقرب ما تكون إلى معنى rule-informed أو proportionate باللغة الإنجليزية الحديثة؛ أي أن يخضع لسننٍ وقواعدَ تحكمُ تناسبه وعلاقاته الداخلية، والغريب أن هذا المعنى على بعده عن المعنى الأول؛ يأتي إلى الذهن بسبب القافية! فسورة «الحِجْر» تنتهي آياتها بنفس رَوِي القصيدة، وتكادُ توحي موسيقاها الدَّاخليَّة بما يحيلنا الشاعر إليه! خصوصًا الآية التالية مباشرةً وهي والجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (الحجر: ٢٧)، وقد يربط القارئ المُلمُّ بالتراث في ذهنه بين نار السموم والإحساس بشعاع الشمس المسنون، وقد لا يفعل، ولكن الإيقاع هنا يقوم بدورٍ حاسمٍ!

فالبحر هو بحرُ الخبب الجديد، وهو الصُّورة المعاصرة للمتدارك، الذي قيل: إن الأخفش قد أضافه إلى بحورِ الخليل، أو استدركَ الخليلَ فيه، فسُمِّيَ المُحدَث أو المتدارَك، وهو بحرٌ قريبٌ جدًّا من النَّثر، ويستخدم كثيرًا في المسرح؛ بسبب اعتماده على حُرِّيَّة الزِّحاف التي تجعله كما يقول الدكتور أحمد مستجير — استنادًا إلى كتاب شكري عيَّاد ومن اتبعه مثل كمال أبو ديب وسيد البحراوي — بحرَ سببٍ لا بحرَ تفعيلةٍ؛ أي إنه يعتمد على الوحدة الصغرى للإيقاع — أصغر وحدة — وهي الحركة والسكون، أو الحركتان المتواليتان، كقولك «لَمْ تَر» لَمْ = حركة وسكون، و«تَرَ» = حركتان، وبذلك جاز فيه ما لا يمكن أن يجوز في بحورِ الشعر الراسخة أو المعتمَدة، وهو توالي خمس حركاتٍ أو سبعةٍ، بل وفي بعضِ الأحيان تسعة! وانظر إلى الشطر الأول من البيت الأول: «سلَّة ليمون» أربعة أسباب، خفيف: أي حركة وسكون، ثم ثقيلٌ: أي حركتان، ثم خفيفان!

ولاحظ أيضًا تأكيد السكون الأخير بحرف ساكن قيمته العروضية صفر؛ لأنه لا يجوز تتابع السكونين، فتكون النتيجة حرفَ علَّةٍ ممطوطًا بلا نهاية! وكذلك يبدأ البيت الثاني والثالث بتفعيلةٍ جديدةٍ هي فاعل، ثمَّ تتلوها ثلاث تفعيلاتٍ، كلُّها أسبابٌ ثقيلةٌ تنتهي بنفس التأكيد للسكون الأخيرة!

لن يستطيع المترجِمُ إذن أن ينقل هذا الإيقاع مهما تبلغ مهارته، بل هو غير مطالَبٍ به؛ فهو هنا يفعل ما أسميه بالتحويل الفنِّي، تفريقًا له عن التحويل اللُّغوي الذي أشرت إليه في صدر المقال؛ أي تحويل الأنغام العربية إلى ما يقابلها بالأنغام الإنجليزية؛ لأنه حتى لو استطاع أن يأتي بنفس الأنغام، فلن يستطيع القارئ الإنجليزي تذوُّقها! وحتى لو أتى بالأنغام المجردة التي اكتسبت ثوبَ الحروف الإنجليزية، فكيف يأتي بتتابع الحروف السينية والشينية sibilants «شعاع الشمس المسنون» «عشرون بقرشٍ، بالقرش … عشرون»؟! ثم كيف يحيلُ القارئ الأجنبي إلى أنغام كتابِ الله العظيم؟
إن المعنى الشعري يعتمدُ إلى حدٍّ كبيرٍ على هذا الإيقاع، والإيحاء القرآني ليس متعمَّدًا، ولا أعتقد أن الشاعر كان يقصده، ولكن وجوده لا يمكن إنكاره، وإيقاع مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ينتمي إلى بحر الخبب، والشاعر يحاكيه على أعمق مستويات اللاوعي، والاختلاف في المعنى يؤكد قيمة التَّناصِّ intertextuality؛ أي إحالة نصٍّ حديثٍ إلى نصٍّ قديمٍ أو حديثٍ، وإشارته إليه بحيث يلقي الضوء على معانيه، والإحالة الفنية إذن تتضمن ما أسمِّيه بالتحويل الفني عند الترجمة؛ فالمترجِم الأجنبي يقوم في هذه الحالة بتحويل ما يدركه من إيقاعاتِ النصِّ العربي إلى ما يقابله، ويمكِّنُ أهل لغته من تذوقه.

وهذه هي الإجابة على السؤال الثاني؛ أي ما هو الهدف من الترجمة الأدبية؟ وتطبيق ذلك أيسر على الترجمة من الإنجليزية؛ فالمترجِم العربي يستوعب النص الأجنبي بعد دراسة أعوامٍ وأعوامٍ، ثم يقدِّمُ ما يراه المقابلَ الذي يستطيع أهل العربية أن يتذوقوه، فمثلما فعلت جانيت عطية عندما أخرجت أنغام أحمد شوقي وقوافيه في ترجمتها الرائعة لمجنون ليلى بالإنجليزية، يحاول مترجِمُ شيكسبير الملمُّ بالشعر العربي وعروضه أن يخرج موسيقى وقوافي شاعرِ الإنجليزية الأكبر، وهاكم نماذج نختتم بها حديثنا عن التحويل الفني الذي يشرح معنى الإحالة الفنية والمعنى الشعري.

يقول شكسبير:

If music be the food of love, play on,
Give me excess of it, that, surfieting,
The appetite may sicken, and so die.
That strain again! It had a daying fall:
O, It came o’er my ear like the sweet sound,
That breathes upon a bank of violets
Stealing and giving odour! Enough, no more;

ومن ترجم هذه الأبيات لينقل معناها الإحاليَّ يكون قد ضحَّى بقوة إيقاعها، وقدرتها على تجسيد معنًى شعريٍّ يحدِّدُ معنى المسرحية كلَّها، وهي هنا الليلة الثانية عشرة، أما ترجمتها نظمًا؛ فهي أقدرُ ما يكون على تجسيد ذلك:

إن كانت الأنغام قُوتًا للغرام، فاعزفوا ثمَّ اعزفوا!
وأتخموا شهيَّتي حتى إذا غُصَّت
فربَّما اعتلَّت وماتت!
هيا أعيدوا ذلك اللحن الذي يهوى فيذوي!
آه لقد مرَّ على أذني كصوتٍ ذي أريجٍ يتنفَّسْ!
قد جاء يسترق الخُطى فوق البنفسج في الرُّبا
ويشيع أنفاس الشذا، لا بل كفاكم!
والغريب أن الترجمة الشعرية على صعوبتها تتيح للمترجِم اختياراتٍ أكبر من حيث المعاني الإحالية والشعرية جميعًا، فمترجِمُ الشعر يحرِّرُ خياله مما ارتبط في ذهنه من كلماتٍ عربية بكلماتٍ أجنبية تكادُ لطول التصاقها أن تشبه الأزواج الكاثوليكيين — لا طلاق بينهم — وتفوقُهم في أنه لا طلاق بينها ولا زواج مع غيرها حتى بعد الموت! فكلمة food الإنجليزية ترتبط في الأذهان بالغذاء، أو بالطعام، وتترجمها الأمم المتحدة بصيغة الجمع؛ أي بكلمة «الأغذية» ولكن المعنى هنا هو ما يقتاتُ عليه الغرام، ما يمسك رمقه، ويقيم أَوَدَه؛ فهو القوت لا الطعام مهما يكن طعمه! وقس على ذلك الموسيقى التي قد تعني الألحان، أو الأنغام وفقًا للموقف الشعريِّ! ومترجِم الشعر يخضع أوَّلًا للموقف في العمل الأدبي، هل odour هو العَبير أم الشذا أم الأريج؟ إنه يعتمد هنا على تراث العربية الزاخر ينهل منه، وقد تكون الصياغة العربية هي الحكم في ذلك؛ فالتناعم الموسيقي يفرض الكلمة في «ويشيع أنفاس الشَّذا» ولو استبدلت كلمةٌ أخرى بها ما حلَّت محلَّها كما ينبغي!
ويتوقف اختيار البحر metre كذلك على الإحساس بالموقف في العمل الأدبي، هو هنا رجزٌ على نحو ما يقولُ شيكسبير على لسان الذهب:
All that glisters is not gold
Often have you heard the told
Many a man his life hath sold
But my outside to behold.
ما كلُّ برَّاقٍ ذهب
مثلٌ يدور على الحِقَبْ
كم باع شخصٌ روحَه
كيما يُشاهدني وحسب

ولكن البحر يتغيَّر عندما يقول شيكسبير على لسان «الفضة»:

The fire seven times tried this
Seven times tried that judgment is
That never did choose amiss.
Some there be that shadows kiss
Such have but a shadow’s bliss:
There be fools alive, I wis,
Silver’d o’er; and so was this.
Take what wife will you to bed,
I will ever be your head:
So be gone: you are sped
صهَرَتني الأيدي مرَّات سبعًا في النار
فتطَهَّر حُكمي مرات سبعًا
حتى ما أخطأ يومًا في أمر خيار
لن يسعد مَن لَثِمَ الأوهام
إلا بنعيم الأحلام
كم من حمقى لونُ الفِضَّة يكسوهم
وأنا منهم
فاصحب من شِئت إلى مخدع عرسِك
لن تخلع رأس الأحمق من رأسِك
آن أوانُ رحيلكَ
فامضِ لحال سبيلك!

ثم يتغير البحر كذلك عندما يقول شيكسبير في غناءٍ بين مطربٍ والجوقة:

Tell me where is fancy bred
Or in the heart or in the head?
How begot, how nourished?
Reply, reply
It is engender’d in the eyes,
With gazing fed; and fancy dies
In the cradle where it lies.
Let us all sing fancy’s knell:
I’ll begin it, ding, dong, bell!
مَا أصلُ وهْمِ الحُبِّ
في العين أم فِي القلبِ
قل كيف يولدُ … قُلْ!
وكيف يرتوي … أجب
أجب! أجب!
العينُ مولِدُهُ
فبنظرةٍ يُروى
لكنه يذوي
ويضيع في لحظهْ
انعوه يا صحبي
ولأبتدي الأتراح
وشاركوني الدمع
حزنًا على ما راح
لهفي على ما راح

والبحر يتغيَّر طبعًا بتغيُّر موقعِ الشعر في الدراما، ولكن هذه النماذج تكفي لإيضاح موضوع هذا المبحث.

١  قد تعني ally ما نسمِّيه (الحتة) بالعامية؛ أي the neighbourhood، أو مجموعة الشوارع الصغيرة المتجاورة التي يَعرِف أبناؤها بعضهم بعضًا، وهي تطلق صفةً على قطة الشارع alley cat، التي هي «بنت الحتة» مثل القصيدة المشهورة «سالي بنت حتتنا» Sally in our alley، وكلنا نعرف «مِين قال لك تسكن في حارتنا؟» وهي أغنية للمطربة شادية.
٢  انظر الفصل الخاص بترجمة الإيقاع في هذا الكتاب [الفصل الثالث: ترجمة الشعر نظمًا ونثرًا – ترجمة الإيقاع في الشعر].

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤