الفصل الثالث

ترجمة الشعر نظمًا ونثرًا

(١) ترجمة الإيقاع في الشعر

الإيقاع هو الترجمة المتفق عليها للكلمة الإنجليزية rhythm، ومقابلاتها باللغات الأوربية الأخرى، وأصلُها هو الكلمة اللاتينية rhythmus القائمة على اليونانية rhythmos، بمعنى مقياس أو حركةٍ محسوبة؛ أي يمكن قياسُ وحداتها، ولها علاقةٌ بفعل rheein، بمعنى يتدفق، الذي يعتبرُ «المادة» في اللغات الهندية الأوربية للجذع sreu بنفس المعنى، والذي أتى في الألمانية بفعل strom، وفي الإنجليزية بالفعل stream، والاسم منه.

والمعنى الدقيقُ الحديثُ للإيقاع هو التدفق المتواصل الذي يتَّسم بملامح منتظمةٍ متكررةٍ، تتميز بالتراوح بين لونين أو أكثر، أو بالتقابل بين ضربين من الضَّربات، مثل دقَّات القلب في الكائن الحي مثلًا.

والمصطلح الفنيُّ يتضمن إلى جانب هذين العنصرين — أي التدفق والتكرار المنتظم — عنصرَ النمط pattern، أي إمكان إدراك السامع أو الرائي للوحدات التي تشكِّلُ فيما بينها أنماطًا، بمعنى أن الوحدة الصغيرة التي قد تتكون من ضربتين، قد تتكرر بحيث تشكِّلُ نمطًا من عدة وحداتٍ يجمعُ بينهما جامع، والفيصل في هذا هو الممارسة الفنية؛ أي ما أخرجه المبدعون من إيقاعاتٍ مركبةٍ في الموسيقى مثلًا، أو في الشعر، بحيثُ يكون عملُ الدارس قائمًا على إنتاج قرائح المبدعين؛ فهو يضعُ تصنيفاته للأنماط الإيقاعية على أسس ما يدركه منها في الفنون السَّمْعيَّة أوَّلًا مثل الموسيقى والشعر، وفي الفنون البصرية ثانيًا، باستعارة المصطلح لاستعماله فيها، وأخيرًا في الفنون الحركية أو التي تجمع بين شتى تلك الفنون.
وقد شُغِلَ النُّقاد في العصر الحديث بالدلالة الفلسفية للإيقاع؛ أي من حيث معناه للإنسان، فقال قائلٌ: إنه دليلٌ على النظام الذي تقوم عليه الحياةُ، وقال آخر: إنه تجسيدُ لنزوع الإنسان إلى نظامٍ غير موجود، وذهب ثالث إلى أنه يفي بحاجةٍ إنسانيةٍ متأصلةٍ إلى الإحساس بالنظام في مواجهة عالمٍ لا يبدو أن فيه نظامًا من لونٍ ما؛ ومن ثمَّ ارتبطَ تحليلُ الإيقاع بمنظورين متعارضين: الأول يقول: إن الفن يضفي النظام على الكون، والثاني يقول: إن الفن يقدِّمُ صورًا تعكس مثل المرآةِ النظامَ الكائن في الوجود، وعلى اختلاف وجهات النظر اتفق الجمهور على أن الإيقاع الذي يتجلى في الشعر على صورة النظم له ضرورته، وأنه يستجيب لنزعةٍ أو لحاجةٍ بشريَّةٍ لا مِرَاء فيها، ومن ثمَّ فإن كلَّ دورةٍ أدبيَّةٍ تناهض النظم، تنتهي إلى دورةٍ أدبيَّةٍ تؤيده تأييدًا شديدًا، حتى وجدنا شعراء الحركة الإنجليز The Movement الذين كتبوا معظم ما كتبوه في الربع الثالث من القرنِ العشرين، يؤيِّدون النظمَ تأييدًا شديدًا، وكان شعرَ فيليب لاركن (المتوفَّى عام ١٩٨٩م) نموذجًا للشعر الموزون المقفى، بل العمودي، كأكثر ما يكون الشعرُ التزامًا بالوزن والقافية.

الإيقاع في اللغة

ولكن الإيقاع في اللغة لا يعتمدُ على الوزن وحدَه، فليست الأوزان قوالبَ مجرَّدةً؛ أي أصوات لها وجودٌ بذاتها خارج اللغة، ولكنها هي نفسُها الأصوات التي تشكِّلُها اللغة؛ ومن ثمَّ فمن العسير وفقًا لأحدث النظريات الأدبية فصلُ الكلمات عن الوزن؛ أي القول بأن كلمتين تشتركان في الوزن بمعنى البناء الصرفي morphology، أو البناء الوزني metrical structure، ستكون لهما نفس القيمة الإيقاعية rhythmical value، مهما تتشابه حروفُهما الصائتة — أي حروف العلة القصيرة — (الحركات) والطويلة (أي الألف والياء والواو والسكنات في العربية)؛ ومن ثمَّ تصبِحُ لكلِّ قصيدةٍ أنماطُها الصوتية؛ أي phonological patterns، التي من المحال تجريدُها إلا في حدود ما يضطر إليه الباحث للتبسيط والشرح، ومن المحال كذلك استبدالُ أنماطٍ صوتيةٍ أخرى بها دون تغييرٍ في الدلالة الفنية؛ أي في المعنى الشعري، بل وفي المعنى الإحالي كذلك.
ولما كانت الأنماط الصوتية خاصَّةً باللغة التي كُتِبَت بها، فمن الطبيعي أن ترتبطَ بالتراكيب الخاصة بتلك اللُّغة syntax، وسياقاتها، ودلالات ألفاظها الخاصة semantic features، وقد أفاض في ذلك أصحابُ المدرسة الشكلية الروسية The Russain Formalists، ومدرسة براغ The Prague School، ومدرسة موسكو-تارتو Moscow-Tartu، وأقطاب البنيوية في فرنسا وأمريكا، ومن ثم فلا حاجةَ لنا إلى تكرار ما قالوا، وما أسهبوا فيه إسهابًا، ولكننا نقفُ هنا عند قضيةٍ اختلفوا فيها، وهي مدى استقلال معنى الإيقاع عن العمل الفني، أو عن الدلالة، هل يمكن أن يكون للإيقاع في ذاته معنى؟ وهل هو مؤيِّدٌ ومسانِدٌ ومعضِّدٌ لمعنى الكلمات؟ أم يمكن أن يتمتع باستقلالٍ داخليٍّ عنه، بحيث يؤيده أيضًا، ويتناقض معه أحيانًا؟ ولنطرح السؤال بصورةٍ أخرى: هل يمكن أن يستعمل الشاعر الإيقاع لتعديل بعض معاني الألفاظ، أو لإضافة معانٍ أخرى إليها، أو أحيانًا لإلغاء معناها الظاهر، والإيحاء بمعنى مناقضٍ له؟

هذه أسئلةٌ لا تزال قيدَ البحثِ، وتقريبًا للفكرة الأخيرة من أذهان قرَّاءِ العربية أقول: إن بعض الإيقاعات قد ارتبطت تاريخيًّا بمعانٍ معيَّنةٍ، أو بنغمةِ جِدٍّ رفيعةٍ، كبحر الطويل في العربية الذي اعتدناه في المعلقات، وكذلك ارتبطت إيقاعاتٌ أخرى بأنغام أقلَّ جدًّا، أو حتى بالهزل؛ ولذلك فالقارئ لا يتوقَّع من الشاعر أن يخلطَ بين هذه الإيقاعات وما ارتبطت به، فعندما يقول شوقي:

مقاديرُ من جفنيك حوَّلْن حاليَا
فذقتُ الهوى من بعد ما كنتُ خاليَا
نفَذْنَ عليَّ اللُّب بالسَّهم مُرْسَلا
وبالسِّحر مقضيًّا وبالسيفِ قاضِيَا
لا بدَّ أن يشعر السامعُ برنَّةِ الإحالة إلى الماضي في التُّؤَدة الإيقاعية للطويل، ونعمة الجِدِّ التي تميِّزُ قناع الشاعر الكلاسيكي classical persona، وهو الذي طالما اتهم العقادُ شوقي باصطناعه؛ فالانتظام الذي يدعو للتمهُّل يُجبرُ المرء على البطء، مهما يحاول شوقي الإسراع ولو عن طريق حيل الصياغة التي أبدع فيها أيَّما إبداع:
مفسِّرُ آي الله بالأمس بيننا
قُمِ اليوم فَسِّرْ للورى آيةَ الموتِ
رُحِمْتَ مصير العالمين كما ترى
وكلُّ هناءٍ أو عزاءٍ إلى فوتِ
هو الدَّهر: ميلادٌ فشُغْلٌ فمأتمٌ
فذكْرٌ كما أبقى الصَّدى ذاهب الصَّوت

ولقد تعمدت أن آتي بشِعْرِ حُبٍّ في البداية قبل هذا الرثاء حتى أمهِّدَ لموضوعات أخرى تؤكِّدُ ما ذهبتُ إليه، فهذا شوقي يوجِّه الأبيات التاليةَ لعليٍّ ابنه، وهو في الثانية من عمره:

هذه أوَّلُ خُطوهْ
هذه أوَّلُ كبوهْ
لا تقُل كان أبي إيَّـ
ـاكَ أنْ تحذُو حَذوَهْ
أنا لم أغنمْ من النَّا
سِ سِوى فنجان قهوهْ
أنا لم أُجْزَ عن المد
حِ منَ الأملاك فَروهْ

ومجزوء الرَّمَل هنا يذكِّرنا بمجزوء الكامل الذي أغضب كثيرًا من الكلاسيكيين، وكان الأحرى بهم أن يذكروا مجزوء الهزج الشهير لبشار «ربابة ربَّة البيت» وعلى أي حالٍ، هذا ما يقوله شوقي:

قولوا له رُوحي فداهُ
هذا التجنِّي ما مداهُ
أنا لم أقُم بصدودِه
حتَّى يُحمِّلَني نَوَاهُ
سمَّيتُه بدرَ الدُّجَى
ومن العجائِبِ لا أراهُ
ودعوته غصن الرِّيا
ضِ فلم أجد روضًا حواهُ
وأقول عنه أخو الغَزَا
لِ ولا أرى إلا أخاهُ
ولا أدلَّ على خفة النبرة في الأبيات الأخيرة من قيام بعضِ الشعراء المُحْدَثِين بالسخرية من هذا الشِّعر، بل وإقدام شاعرٍ هازلٍ على نشر محاكاةٍ ساخرةٍ للقصيدة parody، في إحدى المجلات الأدبية في الخمسينيات، وأذكر أن البيت الأخير في قصيدة شوقي وهو:
أُذْنُ الفتى في قَلبِهِ
حينًا وحينًا في نُهاهُ

قد ظهر في الصورة التالية:

عينُ الفتى في وجْهِهِ
حِينًا وحِينًا في قفاهُ

والواقع أن مجالَ تأكيد الإيقاع للمعنى الشعري أكبرُ من مجال التعديل فيه أو إلغائه، ومن هذا المنطلق أتصوَّرُ أن الإيقاع عنصرٌ جوهريٌّ من عناصر الشعر الإيجابية، وأقول ما أقوله دائمًا: إن الوزن أيًّا كانت صورته أساسٌ من أسس الشعر، ولن يهتز إيماني بذلك طالما كان في العالم من يكتبون الشعرَ المنظوم، أما إذا مال معظمُ الشعراء المجيدين إلى كتابة النثر، لا قدَّرَ الله، وقد يسمونه نثرًا شاعريًّا أو شعريًّا أو شعرًا منثورًا أو نثريًّا، فسوف أعيدُ النظرَ في موقفي على ضوءِ إبداعاتهم العجيبة.

مشكلات المعادلة

إذا كان مترجِمُ معنى الكلام يسعى إلى إيجاد الكلمة العربية التي تنقلُ معنى الكلمة الإنجليزية، فإن مترجِمَ الشعر يحاولُ — أو نحن نتوقَّعُ منه أن يحاولَ — إيجاد الإيقاع الذي ينقلُ معنى الإيقاع في اللغة المنقول منها؛ أي إنه لن يأتي بالقوالب الصوتية نفسها والتي ترتبطُ — كما سبق أن ذكرت — بالكلمات الأصلية، ولكنه مثلما يحلُّ كلماتٍ عربيةً محلَّ الكلمات الأجنبية سوف يحلُّ إيقاعًا عربيًّا محلَّ الإيقاع الأجنبي، ومثلما يجدُ من الصعب عليه أن يأتي بكلمةٍ تترادف ترادفًا كاملًا مع الكلمة الأصلية، سيتعذَّر عليه إيجاد الإيقاع الذي يعادل تمامًا الإيقاع الأصلي؛ فلكلِّ لُغةٍ إيقاعاتُها، ولكُلِّ إيقاع أصوله وتنويعاته.

والمشكلة الأولى هي الاختلاف النوعي بين الإنجليزية والعربية في أصول الإيقاع الشِّعري؛ فالعربية ذات إيقاعاتٍ كمِّيَّةٍ؛ أي تعتمدُ على عدد الحروف السواكن والمتحركة جميعًا، باعتبارها أصواتًا تطرُقُ الأذن، بغضِّ النظر عن النبر stress؛ أي الضغط على البعض دون البعض، أما الإيقاع في الإنجليزية؛ فهو نبْريٌّ qualitative؛ أي إنه يعتمدُ على طريقةِ نطقِ المقاطع في الحديث العادي، لا على عدد الحروف أو المقاطع، وإيضاح ذلك مهم.
خذ كلمةً مثل «قيثارتي» (qee thaa ra tee.//././)، إنها تتكون وفقًا لنظام العَروض العربيِّ من ضربتين قصيرتين، تتكون كلٌّ منهما من حرفٍ ساكنٍ يتلوه حرفٌ متحرِّكٌ، تتلوهما ضربةٌ طويلةٌ تتكون من حرفين متحرِّكين، يتلوهما حرفٌ ساكنٌ، والضربة القصيرة تسمى سببًا خفيفًا، والضربة الطويلة تسمى وَتِدًا مجموعًا، وترمُزُ لها الأصوات التالية «إن لم تكن» (أو مستفعلن) أي إننا نقيسها بعدد الحروف المتحركة والساكنة، ونمطِ تكرار الحركة والسُّكون؛ فالكمُّ هنا هو المعيار، ولا عبرةَ بمن ينطِقُها بالضغط على المقطع الأول أو غيره، ولكننا إذا قرأناها باعتبارها كلمةً أجنبيَّةً، فستكون العبرةُ لا بالحركة والسكون، ولكن بالمقطع الذي يقع الضغط عليه، هكذا:

وفي كل مرَّةٍ يخرجُ لنا إيقاعٌ مختلفٌ، ولإيضاح معنى النبر، انظر معي هذا البيت الشهير، لكريستوفر مارلو:

وقد قطعته هنا التقطيع الآلي الذي يختلف عن القراءة الشعرية الحقيقية من باب الإيضاح فحسب، فهنا نجد أن كل كلمة هي مقطع مستقل، ولو كتبناها بالعربية لخرج لنا بحر الخبب الحديث (صورة المتدارك أو المُحْدَث الجديدة) ولكن العبرة هنا ليست بِالكمِّ، بل بأن الضغط يقع على مقاطع بعينها من البيت؛ أي على الكلمات المهمة في البيت، مثل الأفعال الرئيسية أو الأسماء ذات الدلالة، وإذا قرأت هذه الكلمات وحدها لَخَرَج لك ما يشبه المعنى للبيت، أما إذا قرأت المقاطع غير المنبورة لما خرجت بشيء!

مثلًا:

live / me / be / love

في مقابل:

come / with / and / my

ولو أن القراءة الصحيحة للبيت هي:

أي إنها تتضمن زحافًا في التفعيلة الأولى، على نحو ما سنشرح فيما يلي، المعادَلة النوعية مستحيلة إذن، ومن العبث أن نقيس لغةً بمقياس لغة أخرى، فاختلاف اللغة يفرض اختلاف الإيقاع، واختلاف استجابة المستمع؛ ولذلك — كما أرجو أن أوضح — من المحال، بل من العبث القولُ بأن بحرًا من البحور الإنجليزية يعادلُ بحرًا من البحور العربية.

البحور الإنجليزية

أما البحور الإنجليزية، فأقرب ما تكون إلى البحور الصافية بالعربية؛ أي التي تتكرر فيها التفعيلات المفردة، ولا تتضمن تشكيلاتٍ ثابتةً من التفعيلات مثلما نجد في بعض البحور العربية المركبة كالطويل والبسيط والخفيف وما إليها، وتنقسم من حيث النغم الموسيقي إلى قسمين رئيسيين: ذات النغم الصاعد rising beat، وذات النغم الهابط أي falling beat، بمعنى أن موجات الصوت تمثل انتقالًا في الحالة الأولى من المنخفِض إلى المرتفِع، والعكس في الحالة الثانية، وهذا الخط النغمي الأساسي هو ما نسميه الإيقاع الأساسي base rhythm أما في الممارسة الفعلية، فكثيرًا ما تطغی الزحافات والعلل على هذا النغم الأساسي بحيث يتحول من هابط إلى صاعد والعكس، خصوصًا في الأعمال الدرامية حيث يقتضي الموقف أو الحالة النفسية ذلك.
وفي النغم الأساسي الصاعد، وهو الأكثر شيوعًا في الإنجليزية، يكثر استخدام تفعيلة الأيامب iambus التي تتكون من مقطع خفيف، أو غير منبور يتلوه مقطع منبور أو ثقيل، وإلى درجةٍ أقلَّ تفعيلة الأنابيست anapaest التي تتكون من مقطعين خفيفين يتلوهما مقطع منبور. أما في النغم الهابط، فيكثر استعمال تفعيلة التروكي trochee التي تتكون من مقطع منبور أو ثقيل، يتلوه مقطع غير منبور أو خفيف، وإلى درجةٍ أقلَّ تفعيلة الداكتيل dactyl التي تتكون من مقطع منبور أو ثقيل يتلوه مقطعان غير منبورين؛ أي خفيفان.
هذه هي التفعيلات الأربع الرئيسية، وكل ما عداها يدخل في باب الزحاف modulations، ولكن ذلك يحتاج إلى تقديم قصير، فما أصل الحكاية كما يقولون؟
لم تكن الإنجليزية القديمة تعرف البحور الشعرية كما نعرفها الآن، وحتى الإنجليزية الوسطى كان المتَّبَع هو ما يُسمَّى ببحر سجع البداية alliteration أو the alliterative metre؛ أي اشتراك الكلمات في حروف البداية لا في حروف النهاية، ووفقًا لذلك النظام كان البيت يتكون من أي عدد من الكلمات شريطة أن يكون من بينها أربع كلمات مهمَّة، وأن تشترك الكلمات الثلاث الأولى منها في حرف البداية، ووصف الكلمة بأنها مهمة وصف غير دقيق بطبيعة الحال، ولكن المتفق عليه في كتب العَروض prosody هو أنها كانت كلمات محورية، يقع عليها ضغط القارئ إذا قرأ البيت قراءة عادية، بسبب دلالتها الأساسية للبيت، مثل الأفعال العاملة أو الأسماء الرئيسية.
وكان الفرنسيون — بسبب زيادة ارتباط لغتهم باللاتينية — أقرب إلى النظم الكمِّي، وكانوا يعتمدون على عدد المقاطع في البيت الواحد لا على النبر، وكان بيت الشِّعر في الفرنسية القديمة يتكون من عدد ثابت من المقاطع، وسرعان ما اقتبس الإنجليز من الفرنسيين فكرة العدد الثابت، وإن كانوا قد استعاضوا عن عدد المقاطع بعدد التفعيلات، وربما كان ذلك لأن الإنجليز كانوا ولا يزالون يُولُون للتنغيم intonation اهتمامًا يفوق اهتمام الفرنسيين به، ومن هنا نشأت فكرة العدد الثابت للمقاطع في البيت، وفكرة العدد نفسها.
وقد جدد بعض المحدَثِين هذا المنهج الإيقاعي فيما أصبح يسمى بإيقاع النبر stress rhythm، أشهرهم قاطبة هو: ت. س. إليوت، الذي أحيا النظام القديم؛ أي نظام العدد الثابت للمقاطع المنبورة في البيت الواحد، واتبعه حشد من المحدَثِين، الذين وجدوا فيه بعض التحرُّر من النظام القديم الذي يهدِّد أو يوحي بالجنوح نحو النظام الفرنسي، وإن كان كبار شعراء التراث الإنجليزي نادرًا ما يخرجون عنه، منذ العصر الحديث من شيكسبير إلى ملتون والكلاسيكيين، بل إلى وردزورث وشلي وبايرون!
وعمود الشِّعر الإنجليزي إذن هو عدد المقاطع في البيت الواحد، الذي قد يكون سطرًا monostich أو سطرين distich وقد يكون مقفًّى أو غير مقفًّى، وقد يتكون من فقرات يتفاوت عدد سطورها، والمهم ألا ننسى أن الزِّحَافات تُمثِّل عناصر جوهرية في عمود الشعر الإنجليزي؛ أي إنه من المحال تَصوُّر بحر شعر إنجليزي يخلو من شتى أنواع الزِّحَافات والعلل (خصوصًا علل الزيادة) ولهذا سأجملها فيما يلي:
  • (١)

    أول نوع هو حذف مقطع خفيف في التفعيلة الأولى بالبيت أو إضافة مقطع خفيف إليها، ونموذج الأولى من بحر الأيامب هو:

    Coleridge, The Ancient Mariner, 101
    البدر كان يعتلي السماء في بطءٍ ورِقَّةٍ
    ونجمة أو نجمتان في جواره
    [رجز]
    Milton, Comus, 926
    من ألف جدول صغير
    [رجز]
  • (٢)

    والثاني هو استبدال تفعيلة تروكي في مطلع البيت بتفعيلة الأيامب:

    Stevenson, Requiem
    تحت النجوم في السماء الشاسعة
    [رجز]

    أو في أي مكان آخر في البيت:

    Coleridge, The Ancient Mariner, 104
    صوت كأنه خرير جدول خفي
    [رجز]
    Tennyson, Morte d’Arthur
    فما الذي يميز الإنسان عندنا عن المعيز والغنم؟
    [رجز]
  • (٣)
    والنوع الثالث يخرج لنا صورةً مزاحفةً من تفعيلة الأيامب، أو من التروكي لا تقع إلا زحافًا؛ أي لا يبنى منها النظم وحدها، وهي توالي مقطعين غير منبورین: وتسمى التفعيلة في هذه الحالة pyrrhic:
    W. Wordsworth, To the Cuckoo
    أهلًا ومرحبًا ثلاثًا یا حبيبة الربيع!
    [رجز]
    Byron, Chillon
    فهُم إلى القدير يجأرون بالشكوى من الطغيانِ
    [رجز]
  • (٤)
    والنوع الرابع يخرج لنا صورة مزاحفة من الأيامب أو التروكي، لا تقع إلا زحافًا أيضًا؛ أي لا يبنى منها بيت كامل مثلًا، وهي توالي مقطعين منبورين، وتسمى في هذه الحالة spondee:
    Keats, La Belle Dame Sans Merci

    وحيث لا تشدو الطيور

    [رجز]
    Tennyson, Ulysses
    يَطوي نهارُنا الطويلُ صفْحتَه
    ويعتلي البدرُ الوئيدُ قُبَّة السماء!
    [رجز]
  • (٥)
    فإذا تلت البيريك تفعيلة سبوندي نشأ ما يسميه العروضيون ionic a minore ومثالها:
    Goldsmith, The Deserted Village
    والضِّحْكة الرنانة التي
    تشي بقلبِ مَن خَلا مِنَ الفِكَر!
    [رجز]
    Marvell, The Garden
    لفكرة خضراء حيث تمتدُّ الظِّلال الخضر!
    [رجز وهزج]
  • (٦)
    فإذا وقعت تفعيلة التروكي بعد الأيامب، سواء كان ذلك في أول البيت وهو الشائع، بل ما يكاد يمثل قاعدة زِحَافية، أو في الحشو؛ أي في منتصف البيت، ذهب العَرُوضيون إلى الجمع بين التفعيلتين في مركَّب واحد يطلقون عليه اسم choriambus، ومثاله:
    Keats, ‘To one who has been long in city pent’, Poems, p. 35
    وحيث أشرقت عليه بسمة السماء في زرقتها
    [رجز]
    Milton, Lycidas, 8
    Crabbe, The Borough, 12
    قد مات ليسيداس! قد مات في شرخ الشباب!
    [رجز]
    ملتون
    إنهم يمضون يومًا بعد يوم، رحلة من بعد رحلة!
    [رمل]
    کراب
  • (٧)
    ويعتبر الأنابيست anapaest من تفعيلة الأيامب المزاحفة كذلك؛ وعادة ما نصادفه في خِضَمِّ ذلك البحر:
    Coleridge, The Ancient Mariner
    وحيد على وجه بحرٍ عريضٍ مديدٍ
    [متقارب]
    Bridges, Shorter Poems, BK III, No. 15
    (Works, Vol. II, P. 113)
    قد أتاك الحبُّ يا قلبُ أفِقْ واطرح سُباتك!
    [رمل]
  • (٨)
    ويعتبر الداكتيل dactyl (/xx) من التفعيلات النادرة، وهي على أي حال من تفاعيل التروكي المزاحفة، وعادة ما يقع في صورة تسمح باعتباره تروکي، حين يكون المقطعُ الثاني غيرَ ثابت، ويسمى المقطع المنزلق gliding، وفيما يلي نماذج له:
    Tennyson, Morte d’Arthur
    مرَّ ومض البرق في أطراف مزن غائمة
    [رمل]
    Keats, Endymion, BK. II, 1, 335
    من جديدٍ حلَّ صمتٌ رازح لا ينتوي أن يرحلا
    [رمل]
  • (٩)
    ومن النادر أيضًا ما يسمی ترايبراك xxx) tribrach) وهو توالي ثلاثة

    من المقاطع غير المنبورة، والمثال عليه:

    Browning, The Ring and the Book, BK. 1 ,80
    حياةٌ أو مَمات … معجزات ومن نفحات قديس غريب
    [وافر]
    Wordsworth, The Daffodils
    وذات خيط متَّصلٍ … مثل النجوم البارقات في المجرة
    [رجز]
  • (١٠)
    ويعتبر زِحاف الأمفيبراك amphibrach (x/x) شائعًا في النَّظْم الخالي من القافية blank verse الذي تُكتبُ به معظم الأعمال المسرحية؛ لأنه يتضمن إضافة مقطعٍ خفيفٍ؛ أي غير منبورٍ إلى تفعيلةٍ الأيامب، وهذا هو الشائع في شكسبير مثلًا، ولكنه يُستَخْدَم أيضًا في الشعر الغنائي، وفيما يلي نماذج من الشعر الرومانسي:
    Keats, Endymion, I, 1
    كل جمال مصدر للفرح لا ينضب
    [رجز]
    Wordsworth, ‘Immortality Ode’, Stanza 6
    فكأنما كانت رسالته وحسب
    هي أن يحاكي الناس عن بعد وقرب!
    [كامل]
    ولكن الأبيات الطويلة من البحر السُّداسيِّ التفعيلة كثيرًا ما تتميَّزُ بوقفة في منتصفها تختلف عما يسمى بالقطع أو الشُّقَّة/القيصرية Caesura؛ لأنها لا تتَّسِم بقافية داخلية ولا بعلامة فصل بارزة، بل إن هذه التفعيلة هي ما يميِّزُها، وهي أكثر شيوعًا في شعر المحْدَثين، مثلًا:
    Masefield, Beauty, (P. W. , p. 62)
    إني رأيت الفجر والغروب في المروج والتلال في أيدي الرياح العاصفة
    وقد كساها الحُسْنُ من سكينته
    ما يشبه النَّغم التَّليدَ المتَّئِد … أيام إسبانيا القديمة!
    [رجز وکامل]
  • (١١)
    وزحاف باکیوس bacchius (//x) تنويع نادر، وهو غالبًا ما يُستَخْدَم في النَّظْم الدرامي، مثل النوع التالي، وهذا هو المثل الشهير:
    The Tempest, (III, i. 2–4)
    لِلْحِطَّة ألوان نتحمَّلُها وبعزَّة نفْسٍ نَرْضَاها
    بل أغلَبُ ما نَستَصْغِرُه يُثمرُ ثمرًا جمًّا
    [خبب]
  • (١٢)
    وزحاف أنتيباكيوس antibacchius (x//) هو عكس الزحاف السابق، ونادرًا ما يستخدم خارج الدراما.
    King Henry VIII, III. II, 446
    الصمتَ إذنْ، يا ألسنةَ الحُسَّاد! من يجنح للعدل فلا خوف عليه!
    [خبب]
  • (١٣)
    ويضع العَرُوضيون زحافات مركبة تسمى البيون، paeon وهي من أربعة أنواع، ويتكون كل منها من أربعة مقاطع، ولكنها افتراضية، فالبيون الأول هو (/xxx) والثاني (x/xx) والثالث (xx/x) والرابع (xxx/) أي إن عمادها هو المقاطع الخفيفة التي تشترك مع مقطع ثقيل واحد، فإذا كان أولها سُمِّيت التفعيلة بالبيون الأول وإذا كان ثانيها سُمِّيت التفعيلة بالبيون الثاني وهكذا.
  • (١٤)
    وعلى عكس تفعيلة سابقة (رقم ٥) توجد تفعيلة ionic a majore، وهي التي تتكون من تفعيلة سبوندي يتبعها بيريك.
  • (١٥)
    وأخيرًا يهتم العروضيون بما يسمونه تفعيلة كريتيك cretic وهي ثلاثية (/x/) وتشيع في الشعر الغنائي مثلما تشيع في الشعر الدرامي.

ويتضح من هذا العرض السريع لزحافات البحور الإنجليزية أن الأساس هو بحر الأيامب الصاعد النغمة، ولكن النظم الإنجليزي يختلف عن النظم العربي في شيء أهم من البحور أو الإيقاعات في ذاتها، ألا وهو شكل القصيدة، من حيث طول الأبيات، وتشكيلها في وحدات، وتفاوت أطوالها وفقًا لنوع النظم المستخدم.

أشكال النظم

ولسنا هنا في مجال تعديد أشكال النظم، ولكننا نود أن نشير فحسب إلى أن طول البيت يتحكم في الإيقاع في الإنجليزية، مثلما يتحكم طبعًا في إيقاع الشعر بأي لغة من اللغات، وإن يكن ذلك بصورة تختلف عن العربية في أن «الشعر الدَّوار» أي الأبيات التي يتصل بعضها بالبعض نحوًا ومعنی run-on lines تعتبر من الوسائل الأساسية في الشعر الكلاسيكي وحتى العصر الحديث. فالشعر العربي القديم يفضل وحدة البيت، ويكره التضمين بهذا المعنى؛ ولذلك فقد تُواجِهنا مشکلات نابعة من التمييز بين ما ينبغي الوقوف عنده من إيقاعات، وما ينبغي وصله enjambement ومتابعته.
وإلى جانب ذلك توجد صور شتى لتنظيم الأبيات في فقرات stanzas قد تتطلب إيقاعات أخف من إيقاعات البحور الطويلة، مثل ما يسمى بالفقرة الثلاثية terza rima، أو الرباعية quatrain أو فقرة البالاد (وهو الموال الغربي) والتي تتكون من أبيات تتكون من أربع تفعيلات وثلاث تفعيلات بالتناوب، وقد يتبعها قرار refrain أي سطر يتكرر بعد كل فقرة، وبين ألوان الفقرات في الشعر الغنائي والقصصي التي قد تتكون من ستة أبيات أو سبعة، وقد تتفاوت أطوالها، والفقرة الثُّمانيَّة ottava rima التي كان بایرون مغرمًا بها، والفقرة التي اقترن اسمها بالشاعر سبنسر وتُنسَب إليه، ولا يقِل طولها عن تسعة أبيات ولا يزيد على أحد عشر بيتًا. وأطوال هذه الأبيات وقواعدها العروضية مجال بحث عريض لا يتسع له المقام.
فالمترجم الذي يحاول أن ينقل صورةً إيقاعيةً لبحر من البحور الإنجليزية في العربية محكوم إلى حد ما بضرورة تقريب هذه الصورة إلى أسماع قُراء العربية، دون أن يغالي في الالتزام بالصورة الأصلية إلى الحد الذي يفسد فيه المذاق العربي للنص المترجَم، أو في الابتعاد عنه بحجة إضفاء أكبر قدر من الطابع الإيقاعي العربي عليه. فالحد الأقصى من الالتزام بالإيقاع الأصلي أو ما يقابله — مثل خمس تفعيلات مثلًا مقابل التفعيلات الخمس الأصلية — قد يتطلب إضافات لا تزيد عن كونها حشوًا لا لزوم له، والحد الأقصى في الابتعاد عنه قد يخرج لنا قصيدةً عربيةً يضحي المترجِم فيها بالكثير من الصور الأصلية مثلًا، ولْأَبدأ بنموذج من فقرة البالاد، وهي وحدة واحدة من قصيدة قصصية شهيرة هي «الملاح الهرِم» أو كما ترجمها بعضهم «الملاح القديم» The Ancient Mariner للشاعر كولريدج. والفقرة شهيرة وتتميز كالعادة بزحافاتها الكثيرة:
وحيدٌ وحيدٌ ودون رفيقٍ وحيدْ
وحيدٌ على وجه بحرٍ عريضٍ مديدٍ
وما مال قِدِّیس [عطف] رحيمْ
لينقذني من عذابي الأليم!

الملاحظ هنا أن الأبيات الإنجليزية أطوالها العروضية هي ٤ – ٣ – ٤ – ٣ وقوافيها هي (أ – ب – أ – ب)، ولكن الأبيات العربية أطوالها العروضية هي ٤ – ٤ – ٣ – ٣، وقوافيها هي (أ – أ – ب – ب) أي إن المترجم عدَّل من النظام الإيقاعي بين أطوال الأبيات وقوافيها، ربما ليتفق مع النظام العربي، مع التزامه بتفعيلة المتقارب غير المزاحفة إلا في ثلاثة مواضع مع الاحتفاظ بالزيادة في كل بيت.

ونلاحظ أيضًا أنه قد استغل التنوين في كلمات البيت الأول لإرجاع صدی حرف النون الغالب عليه، ولكن مثل هذه الحيلة قد لا تصلح في ألوان أخرى من الشعر. وقد لا يتمكن من إرجاع صدى الصوت في كل حالةٍ. خذ المثال التالي من قصيدة سيدة شالوت للشاعر تنیسون:

ولكن من يحصدون بوقت البكور
ببعض حقول الشعير النضير
تناهى لأسماعهم غنوةٌ في صداها السُّرور
من النهر إذ يتلوَّى بصفو الغدير
إلى برج قلعة كاميلوت!
وأول ما نلاحظه هو أن تنیسون يستخدم هنا بحر التروكي رباعي التفعيلة؛ أي إن الإيقاع الأساسي هابط، وأنه لا يسرف في استخدام الزحافات، بحيث تخرج الأنغام غلابة وذات جرس قاهر، كما أنه يستخدم قافيةً موحدةً، حاول المترجم الحفاظ عليها في الروي دون القافية، وإن كان بعض العروضيين يسمحون بتبادل الواو والياء في القوافي، ونلاحظ أيضًا أنه خرج عن الخضوع لإحساس الأذن العربية بالحروف المفردة، كما كان الحال في الترجمة السابقة التي تشابه فيها كلمة alone تمامًا كلمة «وحيد» في بنائها الموسيقي العربي، واعتمد هنا على أن تفعيلة المتقارب تتكون من مقطعين؛ الأول هو الوتد المجموع (فعو) والثاني هو السبب الخفيف (لن) مما يقابل تمامًا إيقاع بحر التروكي.

ولكن تلك الموازاة أو الموازنة، كما ذكرت في المقدمة خادعة. فأفضل الأنغام الإنجليزية هي التي تكثر من الزحافات تجسيدًا للحالات الشعورية. وقد بلغت فنون العروض أوْجَها بالطبع لدى كبار الشعراء، وما دُمنا لا نزال ننظر إلى المقطوعة القصيرة، فهناك بعض أبيات شهيرة للشاعر الميتافيزيقي أندرو مارفل:

أسمع دومًا من خلفي
خفق جناحَي مركبة الزمن المقتربة
بينا تنساب على البعد أمامي
أطراف فيافي الأبد الممتدة
إن الإيقاع الأصلي للأبيات الإنجليزية، وهو بحر الأيامب، يتميز بعدة زحافات أولها الأنابيست في البيت الأول، وثانيها السبوندي في البيت الثاني إلى جانب أنابيست محتمل في آخره، إذا اعتبرنا المقطع المنزلِق x مقطعًا قائما برأسه، ثم أنابيست آخر في منتصف البيت الثالث، ثم تفعيلة بيريك في آخر البيت الأخير. وهذا التنوع يبطئ من إيقاع ذلك البحر مع الضغط على بعض الألفاظ التي لا بد أن لها معاني مهمة في نظر الشاعر، وربما كان ذلك ما دفع المترجِم إلى الخبب الذي تتراوح صورة تفعيلته المزاحفة بين، فاعِلُ، وفَعْلُنْ، وفَعِلُنْ؛ أي بين تركيبات من الأسباب الخفيفة والثقيلة تتنوع وفقًا لموقعها في البيت، إذا كان هذا البحر «بحر سبب» كما يقول أحمد مستجير، أما إذا كان تحويرًا عن فاعلن، وهو بحر مهجور لم ترد فيه أشعار، وما كان للخليل بن أحمد أن يتجاوزه إلا لذلك السبب، فستظل المشكلة قائمة.

والممارسة تؤكد صحة أبحاث أحمد مستجير، فليس من قبيل المصادفة أن تؤكد الدراسات الرياضية التي استعان فيها بالحاسب الآلي صحة أوزان الخليل بن أحمد، وأن تثبت أن ما يقال من أن الأخفش قد أتی به تدارکًا للخليل ليس تحويرًا لفاعلن، بل بحر مستقلٌّ لا يقبل توالي الساكنين مطلقا! أليس من الغريب أن نرى في هذا البحر من الحركات المتوالية ثلاثًا وخمسًا وسبعًا بل وتسعًا أحيانًا، ولا نرى حركتين متواليتين مطلقًا؟

وعلى أي حال، فقد أثبت هذا البحر قدرةً فائقةً على التلون الإيقاعي في ترجمة الشعر، وقدرة على الخضوع للحالات الإيقاعية التي توحي بها القصيدة إلى حد جعله مؤهلًا للاستعمال في ترجمة المسرح، وخصوصًا في الحوار الذي يصعب قبول الأوزان المركبة فيه من قبيل الطويل أو الخفيف أو البسيط.

ولكنني يجب أن أحذر من الإسراف في استخدامه دون تروٍّ؛ لأنه قد يغري بالسرعة حين لا يجب الإسراع، وحين يغري بالغلبة الموسيقية حيث لا وجه لها، وهاك نموذجًا لما أعني، للشاعر شلي من قصيدة عنوانها: أبيات كتبت في تلال یوجانيا:

Shelley, ‘Lines Written among the Euganean Hills’, II. 275–285, Poetical Works, p. 553

وها هي الترجمة بالخبب أولًا:

تحت القدمين خَبَت جذوة
فغدا يشهد ألسنة النار المتَّقدة
تعوي في أجواء الظلمة
بألوف الألسنة المنتصرة
کي تهوي في ذُعر فَزِعَة
یا طغيان اشهد في هذي اللحظة
أضواء تشرق من حولك واسمع
أصوات اللهب تصاعد وتقعقع
ولتقذف في جنبيك الرعب
اقعُ على الأرض تمرغ وادفن في التُّرب
قطرات الزهو المسفوك من القلب.

وهذه — بعد ذلك — ترجمة أخرى من المتقارب للقطعة نفسها:

على قدميه الشرار انطفأ
فأصبح يشهد ما راعه من ضِرام
توقد منه وشق سماء كساها الظلام
ويعوي بألف لسان عُواء الظفر
ويهوي وقد نال منه الفزع!
لتشهد إذن أيها الطاغية
سنا كل ضوء حواليك واسمع
حسيس اللهيب الذي قد تصاعد وافزع
تمرَّغْ على الأرض ولتُخْفِ تحت الثرى
دم الكبرياء الذي قد ذوى!

ولسنا بطبيعة الحال في مجال المقارنة بين الترجمتين؛ فالذي يعنينا هو الفرق بين الإيقاع هنا وهناك، ومدى تأثير التفعيلة الأطول في الإبطاء بالحركة.

فإذا تركنا هذه البحور الرباعية، على اختلافها وأحوال زحافاتها، وضرورات القافية في فقراتها، فسوف نصل إلى ما أسميته في البداية بعمود الشعر الإنجليزي، وهو النظم المرسل أي غير المقفى، من بحر الأيامب الخماسي التفعيلة. فهو شعر الملاحم والمسرح الشكسبيري، وهو الذي استخدمه الشعراء في ترجمة الكلاسيكيات اليونانية واللاتينية. وإذا كنت قد عرضت لاحتمالات المتقارب والخبب، وملت إلى تفضيل هذا على ذلك أحيانًا، فأنا أتصور أن أفضل ما أفادني في خبرتي على مدى سنوات العمر كله هو بحر الرجز وتنويعاته — وأنا لا أقصد فقط ما يدخل عليه من الزحافات في العروض والحشو، إلخ — ولكن أيضًا ما يتحول إليه في خضم الممارسة الفعلية في ترجمة المسرح؛ إذ يشتبك مع زميليه في الدائرة الخليلية، وهما الرمل ثم الهزج. وكثيرًا ما كنت أتصور أن التحويل المقتسر لأحدهما إلى الآخر بالعضادات المعروفة لن يكون له لزوم إذا أبحنا لأنفسنا في الشعر العربي ما أباحه أصحاب اللغات الأخرى من مزجٍ للبحور، خصوصًا إذا كان البحران من دائرة واحدة؛ أي يشتركان في النغم الأساسي، أو إذا كان الفارق ظاهريًّا مثل تحول الكامل إلى رجز بإسكان الثاني المتحرك في تفعيلته المتكررة (متفاعلن).

ولأبدأ بالكامل إذن في ترجمة هذه المقطوعة التي هي نفسها ترجمة عن اللاتينية، ترجمها الشاعر ساري Surrey عن الإنيادة:
Surrey, The Aeneid, BK. II, P. B. 36
من ذا الذي يقوى على وصف الدم المهراق ليلتها إذن؟
من ذا الذي يحصي لنا القتلى وأعداد الضحايا والجثث
أو يذرف الدمع الهتون ليرثي الماضين حق رثائهم؟
سقطت صروح البلدة الشماء ذات العز والصيت التليد!
بعد الصمود على مدى الأعوام والأمجاد والجاه العريض!
وتناثرت أجساد من لا يسمعون ولا يرون بكل شارع
وبكل قصر شامخ وبكل أقداس الهياكل في المعابد!

والواضح أن ساري الذي ترجم عن اللاتينية كان متأثرًا بالنظم الكمي اللاتيني، فأخرج لنا أعدادًا منتظمةً من المقاطع ولا تكاد تتضمن زحافات ذات بال، مما دفع المترجِم العربي إلى محاكاته بإخراج ترجمة كمية، يتضمن كل بيت فيها خمس تفعیلات تامة، فكأنما هو يحاكي الأصل اللاتيني، ولا يقتصر على محاكاة الترجمة! على أن للمترجم الحقَّ في الخروج عن ذلك ولو في حدود الكامل نفسه ابتغاء التنويع الذي تتطلبه الأذن العصرية:

من ذا يُعبِّر عن مدى سفك الدماء بليلها؟
من ذا الذي يدري بأعداد الضحايا والجثث
أو يذرف الدمع الجدير بنعيهم؟
هوت العريقة والشهيرة في المدن
بعد الصمود طوال أعوام وبعد المنعة
وتناثرت أجساد من لا يشعرون بكل شارع
وبكل قصر بل وكل هياكل الأرباب فيها!

على أن النموذج الذي سيحسم القضية حقًّا هنا هو من الشعر المسرحي، وها هي ذي مقطوعة من أشهر ما أبدعه کریستوفر مارلو في رائعته «مأساة الدكتور فاوستوس» وسوف أنوه فقط بالزحافات الواردة في النص، ثم أقدم ترجمة من الكامل تسمح بالرجز وزحافاته وتسمح أيضًا بالهزج:

Sc. XIX, II. 133–153
أواه فاوستوس
لم يبق في عمري إذن غير سويعة [هنالك غير ساعة]
حتمًا ستفضي للجحيم الأبدي
فتوقفي عن سعيك الدائب أفلاك السماء [سبحك الموصول/المحتوم]
حتى إذا وقف الزمن، لم يأت نصف الليل وهو موعدي!
ولْتُشرِقي، يا مقلة الطبيعة الحسناء أشرقي [یا مقلة الكون الجميلة]
ولتمكثي في الأفق في عين النهار السرمدي
أو فليكن طول السويعة مثل عام كامل أو مثل شهر أو كأسبوع … بلی!
يومًا وليلة! كيما أُكفِّر عن ذنوبي وأتوب [تائبًا]
تمهَّلي في الركض، يا خيول ليلتي!
لكنما النجوم سائرة، والوقت سارب يكرُّ
وحالما تدق ساعتي، سيحضر الشيطان ثم أنتهي إلى سقر!
لا بد أن أسعى لربي … من تُرى يمنعني؟
انظر معي هذي دماء يسوع تجري في السما
ذي قطرة تنجيك من سوء المصير، بل نصف قطرة
أواه، يا مسيح، لا تصدع فؤادي إن ذكرت اسم المسيح
إني سأدعوه إلي!
لا تقتلنْ إياي، يا إبليس!
أين اختفى دم المسيح؟! قد مضى! وانظر فهذا الله مد ذراعه
نحوي ويعقد حاجبيه من الغضب!
أواه يا جبال، یا تلال أقبلي! ولتسقطي فوقي [رجز + هزج]
بل ولتهيلي فوق رأسي ما يقيني سورة الغضب الشديد.

ولقد أتيحت لكاتب هذه السطور تجربة هذا المزج في ترجمات شيكسبير من قبل، وكان الرضا الذي صادفه المزج مصحوبًا بتجهم العروضيين الذين لا صبر لهم على مزج البحور. ولا شك أن بعضهم كان محقًّا؛ فالإيقاع العربي الذي تستريح الأذن إلى رتابته يسبب قلقًا إذا «اختلف» (ولا أقول انكسر، وأنا أستعمل فعل المطاوعة عامدًا) فالأذن التي تتوقع الانتظام الكامل لن تسيغ تغيير النغمة، ولكننا خصوصًا في الشعر الدرامي لا نجد مفرًّا من ذلك؛ ولذلك فالحل الذي هدتني خبرتي إليه بعد طول معاناة هو المزج بين البحور الصافية، وحبذا لو كان الرجز هو الأصل، ولا ضير علينا إن قالوا إننا مترجمون رجَّازون، وهذا إذن نموذج من مسرحية «الملك لير» لم يكن هناك بد من المزج فيه بين البحور.

Let the great gods
That keep this dreadful pudder o’er our heads,
Find out their enemies now. Tremble, thou wretch
That hast within the undivulged crimes,
Unwhipped of justice; hide thee, thou bloody hand;
Thou perjured, and thou simular man of virtue,
That art incestuous; caitiff, to pieces shake,
That under cover and convenient seeming
Has practised on man’s life; close pent-up guilts,
Rive your concealing continents, and cry
These dreadful summoners grace. I am a man
More sinned against than sinning.
أربابَنا العظماء
يا من أثَرْتم كل هذي القعقعات المرعبات فوق رءوسنا
قد آن وقت قصاصكم من العصاة! ولترتعد يا أيها الشقي
يا من تكتَّمتَ الجرائمَ التي ارتكبتها ولم تَجْلدك أسواط العدالة
فلتختبئ يا ذا اليد التي تلطخت بالدم! یا شاهد الزور اختبئ!
وأنت يا من تستعير ثوبًا زائفًا من الفضيلة
يخفي انتهاكك المحارم! يا أيها الشقي! يا من تحت أستار الظلام
دبَّرْت اغتيال صاحبك، وفوق وجهك الرياء، فلترتعد فرائصك!
وأنتِ أيتها الذنوب المستكنَّة في الخفاء، مزقي الستور واطلبي
صفح الذين قد دعوكِ الآن للحساب! أما أنا
فإن ما ارتكبته من الذنوب
أقل مما حاق بي من الخطايا!

وتتفاوت الأعمال المسرحية الشعرية أيضًا في مدى اتكائها على هذا النوع من النظم الذي يمكن أن نطلق عليه النظم الدرامي، وتتفاوت في درجة تحررها من الإيقاع الشعري، كما تتفاوت أجزاؤها المختلفة في درجة اتكائها عليه أو تحررها منه، فشيكسبير دائمًا ما يُخضع لغته لمقتضيات فنِّه الدرامي وهو، كما ذكرت في مقدمة ترجمتي لمسرحية «تاجر البندقية» لا يتقيد بقوالب النظم الخارجية، ويكاد يبتكر أنواع الموسيقى التي تتطلبها مواقفه الدرامية. وقد حاولت عندما شرعت في ترجمة «يوليوس قيصر» أن أحاكي النظم الذي اختاره، أو أن أمزج بين النظم والنثر، مثلما فعلت في ترجمة «روميو وجولييت» (القاهرة، دار غریب، ۱۹۸٦م)، ولكنني كنت دائمًا أصطدم بعقبة كأْداءَ، وهي أنني لا أستطيع أن أضحي بأي جانب من جوانب اللغة المستخدمة تركيبًا أو تنسيقًا أو ألفاظًا في سبيل الإيقاع الشعري! فلغة المسرحية تسيطر عليها دقة نادرة قد تفسدها إعادة ترتيب العبارة أو تركيب الجملة نُشدانًا للإيقاع الشعري. ويسيطر على المسرحية — خصوصًا في المواقف الدرامية الحرجة — منطق المتآمرين ومنطق الثأر المدروس المتأني، حتى حين يبدو أن الشاعر قد أطلق العنان لمشاعر الشخصيات، وجعلها تُخرج ما في باطنها دون حساب أو تدبير؛ ولذلك فقد فضلت آخر الأمر أن أقلع عن محاولة الترجمة المنظومة، وأن أستعيض عنها بإيقاع اللغة العربية الذي يتفاوت من موقف إلى موقف، ولكنه يتجاوب في كل حالة مع إيقاع الإنجليزية المنظومة – فهو في رأيي يمثل «البديل» لنظم شكسبير.

وقد مكنني هذا «البديل» من أن أضبط الصياغة العربية لأخرج المقابل (الذي كثيرًا ما يصل إلى درجة المثيل) للجوهر الدرامي لمسرحية «يوليوس قيصر» الذي ينسجه شيكسبير نسجًا بارعًا حاذقًا لا في الحوار فحسب، ولكن أيضًا في البناء المحكم، فكل ما تقوله الشخصيات قائم على تفكير دقیق ومرسوم بتأنٍّ وتمهُّلٍ، حتى في المشاهد التي تلتهب فيها المشاعر ويلوح لغير الخبير أنها كُتبت عفو الخاطر.

أما السمة الأولى لِلُغة المسرحية وهي تفاوت مستوياتها بين النظم والنثر وبين اللغة الرفيعة (أي الأسلوب الرفيع) واللغة العامية، فيكفي للتدليل عليها أن نورد فقرات محدودة من المشهد الافتتاحي الذي يتضمن حوارًا يمزج بين هذه المستويات جميعًا:

Flavius:
Hence! home, you idle creatures, get you home.
Is this a holiday? what! know you not
Being mechanical, you ought not walk
Upon a labouring day without the sign
Of your profession? Speak, what trade art thou?
First Citizen: Why, sir, a carpenter.
Marcellus:
Where is thy leather apron and thy rule?
What dost thou with thy best apparel on?
You, sir, what trade are you?
Second Citizen: Truly, sir, in respect of a fine workman, I am but, as you would say, a cobbler.
Marcellus: But what trade are thou? Answer me directly.
Second Citizen:
A trade, sir, that I hope I may use with a safe conscience; which
is, indeed, sir, a mender of bad soles.
Marcellus: What trade, thou knave? Thou naughty knave, what trade?
Second Citizen:
Nay, I beseech you, sir, be not out with me; yet if you be out,
sir, I can mend you.
Marcellus: What meanest thou by that? Mend me thou saucy fellow!
Second Citizen: Why, sir, cobble you!
Marcellus: Thou art a cobbler, art thou?
Second Citizen:
Truly, sir, all that I live by is the awl: I meddle with no
tradesmen’s matters nor with women’s matters, but with awl.
(I. i. 21)

فالواضح هنا أن الضابطين فلافيوس ومارسيلوس يجنحان إلى النظم الكمي في معظم سطور حوارهما، بينما يلتزم الصانعان (النجار والإسكافي) بالنثر، ولكن الجميع يتحدث لغة عامية تتدني في حديث الإسكافي إلى مستوى البذاءة والسوقية، مما يغضب الضابط غضبًا شدیدًا، وترتفع في حديث الضابط إلى مستوى الأسلوب «الرسمي» ومعنى الأسلوب «الرسمي» هو الأسلوب الذي يفترض «مسافة ما» بين المتحدث والسامع، بحيث لا تشيع فيه رنة الألفة، وما يصاحبها من ظواهر أسلوبية معروفة مثل استخدام ألفاظ بعينها أو بعض التراكيب العامية الشائعة أو الخروج عن النظم الصحيحة لبناء العبارات، وفقًا لقواعد النحو في الفصحى أو اللغة المكتوبة، لغة التفكير العلمي والأدب «الرسمي» وما إلى ذلك. كما أن الضابطين يتحدثان بالنظم الحر الذي وصفته آنفًا، ويلاحظ أنه يقترب كثيرًا من أنماط النظم الحديثة التي تعتمد على عدد المقاطع المنبورة في البيت الواحد، رغم إبقاء شيكسبير على القاعدة الكمية أي على المقاطع العشرة في معظم الأبيات. وخذ نموذجًا على ذلك أول حديث للضابط مارسیلوس:

Where is thy leather apron and thy rule?
What dost thou with thy best apparel on?
You, sir, what trade are you?
فالملاحظ هنا أن كل بيت يتضمن أربع مقاطع منبورة رغم أن كلًّا من البيتين الأول والثاني يتكون من خمس تفعيلات (عشرة مقاطع) بينما لا يزيد الثالث على ثلاث تفعيلات أي ستة مقاطع فحسب! وإذا نظرنا إلى نظام النبر هنا فسوف يتضح لنا مدى تحرر شيكسبير من قيود الإيقاع التقليدية لبحر الأيامب؛ إذ يُدخل فيه عددًا من ألوان الزحاف تكاد تخرج به عن طبيعته تمامًا؛ فالبحر غير المزاحف يتكون من خمس وحدات (تفعيلات) تتكون كل منها من مقطعين الأول غیر منبور unstressed والثاني منبور stressed ويرمز له هكذا (من اليسار إلى اليمين):
وكما سبق أن شرحنا قد تدخل عليه ضروب الزحاف فتحل تفعيلات من بحور أخرى فيه أهمها: بحر التروکي trochee (وتفعيلته عکس الأيامب أي -x) وبحر السبوندي spondee (مقطعان منبوران - -) والبيريك pyrrhic (مقطعان غير منبورين xx) أو الأنابيست anapaest (مقطعان غیر منبورين يتلوهما مقطع منبور xx-). وإذا رصدنا التركيب الإيقاعي للأبيات الثلاثة خرجنا بما يلي:
معنى هذا أن استخدام شيكسبير لتفعيلات من بحور أخرى (وهو ما يوازي الزحاف لدينا في العربية) لم يؤثر على عدد المقاطع المنبورة في كل بيت، وهي أربعة في كل سطر، رغم تفاوت عدد المقاطع في كل بيت واختلاف جرسه وإيقاعه العام؛ أي إنه كما ذكرت يقترب في هذا من طريقة الإيقاع النبري stress rhythm الذي أحياه ت. س. إليوت عن الإنجليزية القديمة. وشيكسبير يستخدم هذا بحذق شدید – فهو يجعل مارسيلوس يعمد بعد إجابة الإسكافي إلى تنويع آخر على نفس البحر، مضيفًا مقطعًا إلى المقاطع العشرة ومستخدمًا تفعيلةً من بحر الأنابيست (xx-):

مع الإبقاء على عدد المقاطع المنبورة الأربعة، وذلك قبل أن يعود إلى صورة بحر الأيامب المنتظمة في البيت التالي له:

وقبل أن يزيد تفعيلة كاملة في البيت التالي له بحيث يصبح البحر سکندريًّا؛ أي يتكون من ست تفعيلات (ومقطع زائد أيضًا!):

وأخيرا يعود إلى البحر الثلاثي المزاحف:

وإن كان بعض النقاد يميلون إلى اعتباره رباعيًّا، حُذف منه آخر مقطع غير منبور أي إنه يجب أن يُعْتَبر هكذا:

والغاية التي أسعى إليها هي باختصار إيضاح مدى الحرية التي يتمتع بها الشاعر المسرحي الإنجليزي، والتي من المحال أن تتحقق في العربية؛ إذ إن شيكسبير هنا كاتب مسرحي في المقام الأول، وهو يتوسل بضروب منوعة من النظم للاتكاء على معانٍ خاصة بالموقف الدرامي، ولا يمكن إبرازها إلا عن طريق التغيير المتواصل للبحور والإيقاعات الداخلية من خلال الزحاف والعلل. ويكفي أن ينظر القارئ إلى السطور الافتتاحية للمسرحية (التي يقولها الضابط فلافيوس) ليدرك مرماي؛ فالسطر الأول يتكون من خمس تفعيلات تتضمن ستة مقاطع منبورة، والعبارة الثالثة التي تبدأ في منتصف السطر الثاني لا تنتهي إلا في السطر الخامس، وتتفاوت في السطور عدد المقاطع المنبورة تفاوتًا كبيرًا!

فإذا انتقلنا إلى أحاديث العامة، ويمثلهم هنا المواطنان الأول والثاني أي النجار والإسكافي؛ وجدنا أن شيكسبير يستخدم النثر من البداية إلى النهاية مع ما وصفته بالتدني إلى درجة السوقية والبذاءة، وإذا كان الهدف الذي وضعته نُصْب عيني في البداية (وأرجو أن يكون نَصْب عينَي كل مترجِم أدبي أيضًا) هو إيجاد المقابل الذي قد يرقى إلى مستوى المثيل، فربما كانت العامية المصرية أفضل مستويات العربية المتاحة لترجمة هذه العبارات، ولكنني اتبعت في ترجمة المسرحية كلها لغة عربية معاصِرة تستطيع أن ترقی إلى مَصافِّ اللغة الرفيعة، وأن تهبط إلى بعض مستويات العامية الدنيا؛ ولذلك فأنا نشدت البديل في الحالين؛ أي في ترجمة النظم المسرحي بنشر فصيح أعتبره بديلًا مقبولًا، وترجمة النثر المسرحي العامي بنثر مبسط يستخدم بعض المفردات ذات الدلالة الحية في العامية المصرية باعتباره بديلًا مقبولًا. وهذه هي ترجمة الأبيات العشرين الأولى:

فلافيوس :
انصرفوا! عودوا إلى منازلكم أيها العاطلون!
هل اليوم يوم عطلة؟
ألا تعلمون أنه يجب على أبناء الحِرَف
ألا يسيروا في الشارع في أيام العمل دون ما يرمز لحِرَفهم؟
قل لي أنت ما هي صنعتك؟
نجار : أنا نجار، يا سيدي!
مارسيلوس :
أين إذن المريلة الجلد والمسطرة؟
ولماذا ترتدي أفخر ثيابك؟
وأنت يا سيد! ما صنعتك؟
الإسكافي :
الحق، يا سيدي، أني لا أقارن بالصناع المهرة؟
فما أنا إلا مرقِّع، ولا مؤاخذة!
مارسیلوس : ولكن ما هي صنعتك؟ بلا لف ودوران!
الإسكافي : هي صنعة، يا سيدي، أتمنى أن أؤديها بإخلاص وأمانة، فأنا أرقع ما انخرم وأصلحه!
مارسيلوس : ما صنعتك أيها الوغد؟ أيها الوغد اللكعي، ما صنعتك؟
الإسكافي :
أرجوك، يا سيدي! لا تُخرِّم في الكلام معي!
فإذا خرَّمتَ، رقَّعتُ لك!
مارسیلوس :
ماذا تعني بهذه الألفاظ البذيئة؟
كيف ترقع لي، يا سليط اللسان؟
الإسكافي : أرقع لك، يا سيدي، حذاءك!
مارسیلوس : أنت إسكافي إذن؟
الإسكافي :
حقًّا، يا سيدي! كل ما أحيا به هو المخراز!
لا شأن لي بأمور التجار، أو أمور النساء!
إلا بالمخراز!

وليأذن لي القارئ أن أقتبس؛ إيضاحًا لهذه النظرة، ما سبق أن أوردته في كتابي «فن الترجمة» (الشركة المصرية العالمية للنشر لونجمان ط١ ۱۹۹۲م، ط۲ ۱۹۹٤م، ط ۱۹۹٦م) عن دقة الصياغة اللغوية في نص شيكسبير التي قد تفسد إذا اختار المترجِم إيقاع النظم بدلًا من النثر الذي يتيح دقة الصياغة دون عائق الإيقاع المنتظم. وليأذن لي أن أعيد ما ذكرته عن «التفكير الدقيق المرسوم بتأنٍّ وتمهل» وهو الذي يعتبر الأساس لكل ما تقوله الشخصيات حتى حين تلتهب المشاعر، ويلوح لغير الخبير أن كلامها يصدر عفو الخاطر. ولذلك فأنا أعيد الحديث عما ذكرته عن مشهد من أهم مشاهد مسرحية «يوليوس قيصر» وهو المشهد الثاني من الفصل الثالث الذي كثيرًا ما يقدم وحده باعتباره قلب المسرحية، ليس فقط لأنه يقع في منتصفها، بل لأنه أيضًا محور الارتكاز الذي يتغير عنده الحدث، عند بداية الانتقام من قتلة قيصر.

يبدأ المشهد بدايةً نثريةً؛ إذ يتخلی شيكسبير عن النظم کي يحكم بناء المنطق الذي يتحكم في بناء المشهد؛ ولذلك تجد أن الخطبة الأولى التي يلقيها بروتس، وطولها سبعة وعشرون سطرًا منثورة، وبعدها يقاطعه أحد الأهالي بسطرٍ قصيرٍ ثم يستأنف خطبته، ويتحدث على مدى أربعة عشر سطرًا أخرى نثرًا! وبعد ذلك يتحدث الأهالي في سطورٍ منفصلةٍ ومقطعةٍ يعربون فيها عن اتباعهم لبروتس حتى السطر ۷۸، وعندها يتكلم أنطونيو مع الأهالي حتى آخر المشهد تقريبًا (حتى السطر ۲٥٤) وهو يستأثر في الحقيقة بما يربو على مائة وثلاثين سطرًا تتخللها نداءات الأهالي وصياحاتهم.

ولكن ماذا يقول أنطونيو في هذه السطور الكثيرة؟ إن خطبته الطويلة التي تستغرق صفحات متوالية مقسمة تقسيمًا دقیقًا بين القسم الأول (من ٧٤–١٠٩) الذي يضع فيه أنطونيو بعناية أسس إدانته لبروتس وعصبته، وبين القسم الثاني (۱۲۰–۱۳۹) الذي يلقي فيه بخبر وصية قيصر حتى يثير فضول الجمهور، والقسم الثالث (۱٥۱–۱۷۰) الذي يعتبر نقطة تحول من الوصية إلى التركيز على بشاعة الجريمة التي ارتكبها الخونة وذلك في القسم الأخير (من ۱۷۰–۱۹۹) حيث تتحول مشاعر الجمهور تمامًا إلى مساندة أنطونيو، والعداء السافر لبروتس وكاشيوس وسائر المتأمرين، وبعد عدد من الصيحات التي يعرب فيها الجمهور عن عدائه لزمرة الخونة (۲۰۰–۲۱۰) يعود أنطونيو إلى التلاعب بمشاعر الجمهور؛ لكي يحوِّل استياءهم إلى موقف صلب؛ أي إلى عمل إيجابي، وهو يحسب لكل كلمة حسابها في هذا الخطاب، حتى يصل (۲۱۱–۲۳۲) إلى كلمة «الثورة» التي يرددها الشعب؛ أي الانتقام لمقتل قیصر … وعندها فقط يعود إلى ذكر الوصية التي يكون الجمهور قد نسيها، حتى يضمن ولاءه التام (۲۳۷–۲٥٤) فيسود الهرج والمرج، ويدخل رسول أوكتافيوس فيجد أن أنطونيو واثق كل الثقة من قدرة «كلماته» على أن تفعل فعلها في نفوسهم! (۲٥٤–حتى آخر المشهد).

إن هذه الخطبة الطويلة مبنيةٌ بناء هندسيًّا يتراوح بين الصعود وبین الهبوط — كما أوضحت آنفًا — أي إن أنطونيو يحسب حسابًا لكل كلمة يقولها، ويعرف معرفة وثيقة أين يضعها وفي أي سياق بالتحديد؛ ولذلك فالنظم هنا ثانوي، بل هو إطار يلتزم به البعض (مثل أنطونيو) ولا يلتزم به الآخرون (مثل بروتس والأهالي)، وعدد السطور في هذا المشهد مقسمة بين المنثور والمنظوم تقسیمًا شبه متعادل، كما أن النظم الذي يستخدمه أنطونيو لا يضم في ثناياه ما اعتدناه من شاعرية شكسبيرية؛ فهو يكثر من استعمال الزحاف والرخص الشعرية إلى حد الاقتراب من موسيقى النثر، کما شرحت ذلك من قبل، وهو يستخدم لغةً منطقية تخلو من الصور الشعرية، وليس من قبيل المصادفة أن تخلو هذه السطور جميعًا من الاستعارات الغلابة أو المهيمنة (dominant metaphors) أي الاستعارة التي تلقي بظلالها على الحديث برمته، وتشكل إطارًا نفسيًّا ومجازيا له! كل ما هنالك هو استعارات محدودة ومقصورة على موضعها في السياق.
ولنأخذ مثلًا السطور من ۲۱۹ إلى ۲۲٥؛ إذ يقول أنطونيو:
I am no orator, as Brutus is;
But as you know me all, a plain blunt man,
That love my friend; and that they know full well
That gave me public leave to speak of him
For I have neither wit, nor words nor worth,
Action, nor utterance, nor the power of speech
To stir man’s blood: I only speak right on:
(III. ii. 219–225)

ففي هذه السطور السبعة يلخص لنا أنطونيو صفات الخطيب المصقع في زمانه، وهي الخصال الست المعروفة:

(البديهة الحاضرة) (1) wit
(الألفاظ المنتقاة) (2) words
(المكانة المرموقة) (3) worth
(براعة الأداء) (4) action
(حسن الإلقاء) (5) utterance
(ذلاقة اللسان) (6) power of speech

وقد أجمع النقاد على أن شيكسبير كان يتعمد وضعها في هذا الترتيب؛ ليبين أن الصفة الأولى هي البديهة الحاضرة، وهي الصفة التي تميز أنطونيو أكثر من غيره من الشخصيات، ويليها حسن اختيار الألفاظ ومكانة الخطيب في المجتمع، ثم براعة أدائه التمثيلي أثناء الخطبة وحسن إلقائه، وأخيرًا ذلاقة اللسان أو قدرة المتحدث على إثارة مشاعر الناس! والواضح أن هذه الصفات التي ينكرها أنطونيو في نفسه هي أهم صفاته هو، مع أنه ينسبها إلى بروتس؛ أي إنه يثبتها حين ينكرها وبهذا الترتيب!

ومعنى ذلك ببساطة هو أن أي تغيير في ترتيب الألفاظ والعبارات سوف يقلل من تأثير هذه الفقرة التي تبدأ بإنكار صفة الخطيب المصقع، وتنتهي بادعاء الحديث العفوي! وها هي إذن ترجمتي لها، وأعتقد أنها أقرب ما تكون إلى هذا البناء:

لست خطيبًا مفوها مثل بروتس
لكنني — كما تعرفون جميعًا — رجل بسيط ساذج
يخلص الحب لصديقه، وهم يعرفون ذلك خير المعرفة،
من سمحوا لي أن أتحدث عنه أمامكم!
فأنا أفتقر إلى البديهة الحاضرة، والألفاظ المنتقاة
والمكانة المرموقة، وبراعة الأداء، وحسن الإلقاء
وذلاقة اللسان التي تثير مشاعر الناس!
لكنني أتحدث عفو الخاطر فحسب!

أما زيادة بعض الألفاظ (وكلها صفات) في النص العربي، فهذا يرجع إلى ما أسميه بضرورة التفسير الخاص للنص قبل أن يشرع المترجم في نقل العمل الأدبي، وهو ما تعرضت له في مقدمتي لترجمة «تاجر البندقية» المشار إليها آنفًا. وإنما ضربت هذا المثل لأبين أن حديث أنطونيو مرسوم بدقةٍ بالغةٍ، فإذا حاول المترجم أن يصوغه نظمًا عربيًّا لم يجد بدًّا من التضحية ببعض جوانب هندسة البناء الفكري التي يستند إليها البناء اللغوي، كأن يعيد ترتيب هذه الصفات، أو يستعيض عن كلمة بأخرى تتفق والوزن الشعري (وما أكثر ما يفعل الشاعر نفسه ذلك!) أو يضيف كلمةً طلبًا للقافية، وهذا كله مقبول بل ومحمود في ترجمة الشعر الغنائي الذي يلعب فيه الوزن والقافية كما قلت دورًا كبيرًا، ولكنه غير مقبول ولا محمود عندما يكون التركيب الفكري هو الأساس، لا الصورة أو الموسيقى والقافية!

وحتى لا يظن القارئ أنني لم ألجأ إلى الترجمة المنظومة كسلًا أو تراخيًا، سأورد صورة أعتبرها مقبولة في ترجمة الشعر الغنائي، صورة منظومة لهذه الفقرة، وأترك للقارئ الحكم على مدى جورها على الأصل، أما من يأنس في نفسه القدرة على إخراج ترجمة منظومة أكثر دقة فهو مدعو للمشاركة في هذا الجهد الجميل الممتع:

إنني لست خطيبًا مصقعًا مثل بروتس،
بل أنا — قد تعلمون —
ساذج بل وغرير
أخلص الحب لمن صادقت حقًّا
وهمو لا يجهلون!
كلهم يدرك ذلك
ولهذا سمحوا لي
بحديث صادق عنه إليكم!
أين لي حذق البديهة؟
أين لي سحر الكلام؟
أين لي شرف المكانة؟
أين لي حسن الأداء؟
لست ذا علم بإلقاء الخطب
لا ولا عندي أفانين الأدب
كي أثير العقل والقلب لديكم
بل أنا أُلقي كلامي
كيفما يأتي لشفتي!

أقول إنني أترك للقارئ الحكم على مدى ابتعادها (أو اقترابها) من الأصل، وإن كان لا بد لي أن أشير إلى أن الموسيقية الغلابة هنا، والقافية غير المقصودة؛ تجوران على الأصل ذي الإيقاع الخافت الذي يقترب كثيرًا من النثر! ويكفي أن أقول إن أنطونيو لو تحدث هكذا — بالنظم العربي الجَهْوَرِي — لأحس الجمهور بفن الصنعة الذي لا ينبئ عن نفس صافية صادقة؛ فالموقف الدرامي يرفض غلبة الموسيقى هنا التي قد تخلب الأذن دون أن تصل إلى العقل أو القلب، وأنطونيو يحاول أن يصل إلى قلوب السامعين وعقولهم، لا أن يخلب آذانهم! ومن ثم كان قراري بأن البديل النثري أقرب إلى تحقيق المقابل الدرامي من المقابل المنظوم، مثلما كان قراري بالالتزام بالعربية المعاصرة بمستوياتها المتعددة.

وهذا هو ما فعلتُه في الواقع في مسرحية تاريخية لم تحظَ باهتمام الدارسين العرب وهي «الملك هنري الثامن» (القاهرة، هيئة الكتاب، ۱۹۹۷م) إذ وجدت أن النظم قد يؤثر في الأبنية الفكرية والشعورية للعبارات والجمل الطويلة، مما قد يغير من روح الأسلوب (ترجمة مجدي وهبة لمصطلح tone أي النغمة على نحو ما أناقشه في فصل لاحق) خصوصًا بسبب الخلاف حول نسبة بعض أجزاء المسرحية إلى شيكسبير وإلى فلتشر Fletcher إذ رأيت أن التدخل بالإيقاع العربي سيضيف حتمًا (نغمة) غريبة عن هذه الأساليب، وأن محاولة الاقتراب الحرفي والدقيق من النص الأصلي نثرًا أصدق للمسرحيات التاريخية وأقرب للحفاظ على روح الحقائق (الوقائع) المروية؛ فالنظم العربي الذي حاولته في البداية كان يميل إلى إلغاء البعد الزمني وإيجاد روح الألفة، وهذا ما لا تتطلبه المسرحية التي تمثل لقراء العربية وقائع تاريخية حقيقية مرتبطة بزمان ومكان من المحال تجريد أي منهما.

وسوف أورد هنا فقرتين، تُنسب الأولى لشيكسبير والثانية لفلتشر، وإن كانت الدراسات الحديثة تقطع بنسبتها جميعًا للأول، وقد ترجمتُ كلًّا منها نظمًا ونثرًا لإيضاح مدى الاختلاف الذي قد يُحدِثه النظم في الأبنية الفكرية.

أما الأولى فهي إجابة الكاردينال وولزي على الملك هنري الثامن في المشهد الثاني من الفصل الثالث:

My Sovereign, I confess your royal graces
Shower’d on me daily, have been more than could
My studied purposes requite, which went
Beyond all man’s endeavours. My endeavours
Have ever come short of my desires,
Yet fill’d with my abilities: Mine own ends
Have been mine so, that evermore they pointed
To th’good of your most Sacred Person, and
The profit of the state. For your good graces
Heap’d upon me (poor Undeserver)I
Can nothing render but allegiant thanks,
My prayers to heaven for you ; my loyalty
Which ever has, and ever shall be growing,
Till death (that Winter) kill it.
III. ii. 166–179
مولاي إنني أقر بالعطايا الملكية
وكلِّ ما أمطرتني به من النعم، في كل يوم
تلك التي تفوق ما أسطيع أن أناله مهما بذلت من جهود
بل فوق ما يسطيع أي فرد أن يحققه
أما إذا كانت جهودي قد أتت ببعض خير لي
فإن غايتي كانت ولا تزال تحقيق الذي
يعود بالخير العميم دائمًا
لشخصكم وما له من بالغ القداسة
وثروة البلاد كلها!
وفي مقابل المكارم العظيمة
تلك التي أغدقتموها (فوق من لا يستحقها، أنا الضعيف)
لا أستطيع غير الشكر والولاء
وكل دعوة من أجلكم إلى السماء
وإخلاصي الذي ما انفك ينمو، بل وسوف يظل ينمو
بل ولن يفنيه إلا الموت (ذلك الشتاء).

أما النموذج الثاني فهو حديث منفرد يقوله وولزي أيضًا على المسرح بعد إدراك انهيار آماله وضياع حظوته لدى الملك واقتراب النهاية المحتومة:

So farewell, to the little good you bear me. 350
Farewell? A long farewell to all my Greatness.
This is the state of Man; today he puts forth
The tender leaves of hopes, tomorrow blossoms,
And bears his blushing honours thick upon him:
The third day, comes a frost; a killing frost 355
And when he thinks, good easy man, full surely
His greatness is a - ripening, nips his root,
And then he falls as I do. I have ventur’d
Like little wanton boys that swim on bladders:
This many summers in a sea of Glory, 360
But far beyond my depth: my high-blown Pride
At length broke under me, and now has left me
Weary, and old with service, to the mercy
Of a rude stream, that must for ever hide me.
Vain pomp, and glory of this World, I hate ye, 365
I feel my heart new open’d. Oh how wretched
Is that poor man, that hangs on Princes’ favours!
There is betwixt that smile we would aspire to,
That sweet aspect of Princes, and their ruin,
More pangs, and fears than wars, or women have; 370
And when he falls, he falls like Lucifer,
Never to hope again.
III. ii. 350–372
إذن وداعًا للقليل مما تضمرانه من كل خير! ۳٥۰
وداعٌ؟ بل وداع دائم للمجد والعظمة!
فذاك حال كل إنسان هنا! في يومه
قد ينشر الأوراق من آماله الغضة
ويشهد البراعم الحناء في غَدِه
ويحمل الورود القانيات الوافرات في مدارج الشرف
لكنه يرى الصقيع القاتل الثقيل قادمًا في ثالث الأيام ۳٥٥
وعندما يظن وهو ناعم في الخير والهناء
أن الثمار أوشكت على النضوج، وأن مجده لا شك قد أتى،
يرى الصقيع ناخرًا جذورها
والجذع قد هوى كما أهوى أنا!
لقد نزلت سابحًا في بحر مجد صاخب ۳٦٠
مثل الصغار السابحين يمسكون بالقِرَب
وكنت كل صيف أضرب الأمواج حتى اجتزت منطقة الأمان
وبعدها شهدت كبريائي مثل قربة الصغار تنفجر
ورحت أهوى منهكا محطمًا من طول ما جهدت
وتحت رحمة البحر العنيف إذ سيطويني إلى الأبد!
يا زيف مجد العالم الخاوي وزيف الأبهة! ٣٦٥
لشد ما أبغضكا! إني لأشعر أن قلبي يتفتح
ما أتعس الذي يعيش عالة على رضى الأمراء ما أفقره!
فبين بسمة نحاول اقتناصها وبسمة الرضى على المحيَّا
وبين وهدة السقوط والهلاك ألوان من الألم
وهوة من المخاوف التي تزيد عن هول الحروب أو مخاوف النساء
فإنه عند السقوط مُبلِسٌ كأنه إبليس قد ضاع الرجاء منه للأبد!
وقد وضعت الأرقام هنا لمساعدة القارئ على المقارنة. ويعلق هاریسون على الفرق بين النصين قائلًا: إن النهايات الضعيفة إيقاعيًّا في الحديث المنفرد الأخير هي مما يزعم أنه ينتمي إلى فلتشر أكثر مما يميز أسلوب شكسبير، والمقصود بالنهايات الضعيفة استناد حروف القافية على مقطع غیر منبور مثل left me (٣٦٢)، وhide me (٣٦٤) وhate ye (٣٦٥)، وهذا أيضًا مما قاله سبيدنج spedding، ولكنه ليس من جوهر حجته؛ إذ يستند جوهر الحجة على تفاوت المستوى اللغوي بين أجزاء المسرحية، وتفاوت الإيقاعات أيضًا، وهذا ما دفعني إلى اقتباس هاتين الفقرتين اللتين يزعم سبيدنج نسبتهما إلى كاتبين مختلفين. ولن أفيض في تحليل الإيقاعات فهي واضحة لمن يقرأ النص بصوت عال.

وهذه، بعد ذلك، ترجمة القطعتين نثرًا. وهذه هي الأولى:

وولزي :
إني أعترف يا مليكي أن نعمك وأفضالك الملكية
التي ما فتئتَ تمطرني بها وتغدقها عليَّ في كل يوم
كانت أكثر مما يمكن أن أحققه بجهودي مهما تكن،
وأكثر مما أستحق! كانت جهودي دائمًا تقصر عن تحقيق غاياتي
وإن كنت أبذل حقًّا كل ما أستطيع! ١٧٠
وإذا كانت جهودي قد عادت عليَّ ببعض الخير
فإن غاياتي كانت دائمًا ترمي إلى ما فيه الخير لشخصكم المقدَّس
ورفاهية الدولة وثرائها!
وليس في وسعي أن أقدِّم جزاءً على هذه النعم العظيمة
التي تغدقونها علَيَّ، أنا الضعيف الذي لا أستحقها، ١٧٥
إلا آيات الشكر العامرة بالولاء.
والدعوات التي أرفعها إلى السماء من أجلكم
والإخلاص الذي ما برح ينمو، وسيظل ينمو،
حتى يذوي ويموت في برودة شتاء الموت!

وهذه هي الثانية:

وولزي :
وكذا وداعًا للخير القليل الذي تكنونه لي! ۳٥۰
وداعٌ؟ بل وداع طويل لجميع أطراف العظَمة!
هذا هو حال الإنسان! ينشر في يومه أوراق الأمل الغضة
على أغصان حياته، ويشهد في غده البراعم وهي تتفتح،
وزهرات المجد وهي تزهو بألوان المجد الكثيفة من حوله،
ولكن الصقيع القاتل ينقضُّ عليها في اليوم الثالث! ٣٥٥
وعندما يقول واثقًا، وهو يتقلب في أعطاف النعيم،
إن ثمار عظمته أوشكت على النضج،
يرى الصقيع وقد نخر جذورها
والشجرة تهوي ساقطةً مثلما أسقط الآن!
لقد نزلت البحر سابحًا مثل الصبية اللاهين
بعوامات من القِرَب المنفوخة
وظَلِلْت في بحر المجد صيفًا من بعد صيف ۳٦۰
حتى ابتعدت عن شاطئ الأمان ووصلت لمنطقة أعمق من طاقتي!
وهنا انفجرت عوامة كبريائي المنتفخة، وتركتني خائر القوى،
منهكًا من طول الخدمة، وتحت رحمة بحر هائج متلاطم،
لا بد أن يبتلعني آخر الأمر إلى الأبد.
أيتها الأبهة الزائفة! یا مجد الدنيا الخاوي! ٣٦٥
لكَم أبغضك الآن! أشعر أن قلبي يتفتح الآن من جديد!
ما أتعس حياة الإنسان المسكين الذي يعتمد على حظوة الأمراء!
وفيما بين الابتسامة التي تحاول أن نحظى
بها من الأمير ومخايل الرضا على محياه،
وبين إسقاطنا وإهلاكنا، ألوان من الألم والفزع
لا تعرفها الحروب ولا النساء! وعندما يهوي الواحد منا ۳۷۰
فإنه يسقط سقوط إبليس، إذ يفقد الأمل إلى الأبد!

وأعتقد أن المقارنة سوف توضح الفروق بما لا يدع مجالًا للشك.

دلالة استخدام النظم

وليس معنى هذا أن شيكسبير يفصل فصلًا خارجيًّا بين استخدام النظم والنثر في مسرحياته، بل هو أحيانا يكتب ما يتصور القارئ أنه نثر وهو نظم، وقد أخطأ ناشرو طبعة الكوارتو الثانية (۱٥۹۹) لنص «روميو وجولييت» كما سبق أن ذكرت، عندما طبعوا حديث «الملكة ماب» المنظوم الذي يلقيه مركوشيو كأنه قطعة منثورة، وكثيرًا ما عجب النقاد من المزاوجة بين النثر والنظم في عدد من مسرحياته، وتعدد وظائف النظم أحيانًا، كما سوف نبین.

ففي مسرحية «تاجر البندقية» أيضًا يستخدم الشاعر النظم بمستوياته المختلفة، وقد يرتفع إلى مستوى الشعر كما نفهمه (في أحاديث بورشیا مثلًا) وقد يظل عند مستوى الحوار المنظوم للغة الحياة اليومية، وقد يهبط إلى مستوى النثر الحافل بالنكات اللفظية، والعبارات السوقية، بل والبذاءات كما يفعل في مسرحياته الأخرى، وقد دأب ناشرو شيكسبير على مر العصور على مناقشة هذه المستويات، والمقابلة بينها، وكثيرًا ما استوقفَتهم بعض التناقضات التي ترجع في بعض الأحيان إلى أخطاء النساخ؛ إذ إن الطبعات المختلفة للمسرحيات كانت تعتمد على النسخ التي كان الممثلون يستخدمونها على خشبة المسرح، وهي نسخ تتسم بالتفاوت في القراءات المختلفة، (وكثيرًا ما تدخَّل الناشرون، فحذفوا من النص ما تصوروا أنه يخدش الحياء، خاصة وأن المسرحية تُدرس للطلبة في المدارس والجامعات، وتقاليد العصر الفكتوري تقضي بعدم الإشارة إلى العلاقة بين الجنسين على المسرح) ولهذا كثيرًا ما تجد حديثًا كتب بالنثر دون مبرر في سياق الشعر أو النظم.

على أن أهم ما تتسم به هذه المستويات الفنية كما سبق أن أوضحت هو براعة شيكسبير في تنويع إيقاعاته بحيث يبدو الإيقاع الأساسي للشعر المرسل، وهو بحر الإيامب أشهر بحور الشعر الإنجليزي قاطبة؛ وكأنه بحر آخر. ونظام الزحاف في الشعر الإنجليزي يختلف عنه في العربية، كما سبق أن أوضحت؛ إذ إن للشاعر حرية تغيير الإيقاع تغييرًا جذريًّا دون أن يعتبر خارجًا على البحر. وهذا هو الذي يُمكِّن شيكسبير من كسر الرتابة التي يمليها البحر الواحد، بل وأن يجعله في مواطن كثيرة قادرًا على الإيحاء بأنغام متناقضة لا تصدر إلا عن شاعرٍ ملك ناصية الأنغام اللغوية. وقد رصد الدارسون خمسة وعشرين بابًا من أبواب الزحاف والعلل وتغيير البحر، إما باستخدام المزيد من التفعيلات أو تغيير التفعيلة نفسها، أو المزج بين التفعيلات من بحور مختلفة في «تاجر البندقية» فمثلًا يستخدم شيكسبير أطوالًا مختلفة من بحر الإيامب، فلديه البحر الخماسي المعتاد (ذو التفعيلات الخمس)، انظر أول بيت في المسرحية:

In sooth I know not why I am so sad
حقًّا لا أدري سر الحزن الراسخ في نفسي.

ولديه البحر السداسي (السكندري):

Because you are not sad. Now by two-headed Janus
فلأنك لست حزينًا! أقسم بإله المسرح (جانوس) ذي الرأسين.

ولديه البحر الرباعي الذي يستخدم تفعيلة مختلفة هي عكس تفعيلة الإيامب:

All that glisters is not gold
Often have you heard that told
ما كل برَّاقٍ ذَهَب
مثلٌ يدور على الحِقَب

ولديه البحر الثلاثي:

Who chooseth me shall gain
What many men desire
من يخترْني يَحْظَ بما تبغيه الكثرة

ولا داعي للاستطراد هنا، فشيكسبير يُخضع إيقاعاته للحالات الشعورية التي تقتضيها المواقف الدرامية، ولا يعمد — إلا في الأغاني — إلى تغليب النبرة الإيقاعية التي تتميز بها البحور العربية المنتظمة (أي التي لم يدخل عليها الزحاف). وأما القافية فهي مقصورة على نهاية المشاهد والأغاني، وهي عمومًا نادرة.

ولذلك أرى أن أفضل وسيلة لترجمة هذا النص ترجمةً أمينةً تقترب من إطاره النفسي والثقافي واللغوي هي استخدام ما يسمى بالشعر الحر تجاوزًا، أو الشعر الحديث خطأً، أو الشعر المرسَل أو شعر التفعيلة، وهي جميعًا صفات لا تبلغ حد التعريف، ولكنها تفيد في التمييز بين النظم الجديد وبين الشعر العمودي. وكان البحران اللذان استخدمتهما بالتناوب أقرب البحور إلى إيقاع النثر حتى لا تغلب الموسيقى على سائر مقومات الشعر، إلا في الأغاني التي التزمت فيها بانتظام الإيقاع والقافية.

والبحران هما الرجز والخبب، والأخير هو الصورة الحديثة من صور المحدَث أو المتدارَك وقد وجدت أنهما طيِّعان ومتناسقان، بل إنني كثيرًا (دون أن أعي ذلك) كنت أخرج من أحدهما إلى الآخر أثناء الترجمة، خصوصًا في صورهما المزاحفة، كما استخدمت بعض البحور الصافية الأخرى وأهمها الرمَل والمتقارب والهزج، وأحيانًا كانت تأتي الترجمة رغمًا عني في بحور مركبة، ولكن هذا نادر الحدوث، وقد أطلقت لأذني عنانها في الترجمة بحيث لا أفرض صورة معينة من بحر ما على النظم؛ إذ لم يكن النظم همي الأول؛ ولذلك جاءت ترجمة الأجزاء المنثورة وبها إيقاع يقترب كثيرًا من إيقاع النظم، وإن لم يكن مقطَّعًا تقطيع النظم. وأخيرًا فإن تغيير البحر عندي يبدأ عند انتقال الحديث من شخصية إلى أخرى لا أثناء حديث الشخصية، ولكنني اعتمدت في تلوين التباين في الحالة الشعورية على الزحاف، بل إنني اعتمدت على قدرة الكلمات نفسها على تحديد البحر وتلوين الاختلاف في إيقاعاته نفسها، ويكفي المثل التالي لإيضاح ما أعنيه، وهذا مقطعٌ من الفصل الرابع:

Sal:
My lord, here stays without
A messenger with letters from the doctor,
New come from Padua
Duke: Bring us the letters: call the messenger.
Bas:
Good cheer, Antonio! What, man, courage yet!
The Jew shall have my flesh, blood, bones and all,
Ere thou shalt lose for me one drop of blood.
Ant:
I am tainted wether of the flock,
Meetest for death: the weakest kind of fruit
Drops earliest to the ground; and so let me:
You cannot better be employ’d Bassanio,
Than to live still, and write mine epitaph
(Enter Nerissa, dressed like a lawyer’s clerk)
Duke: Came you from Podua, from Bellario?
Ner: From both, my Lord. Bellario greets you …

المشهد الأول

ساليريو :
يا سيدي! قد حل بالباب رسول قادم من بادُوا
معه رسائل من لدى الأستاذ
الدوق : هات الرسائل وادع ذلك الرسول
باسانیو :
بشرى خير يا أنطونيو! اطرح عنك الحزن! تجلَّد!
لن تسفك من أجلي قطرة دم
ولْيَفُز العبراني بلحمي ودمي وعظامي!

(يُخرج شيلوك سكِّينًا يشحذها على نعل حذائه.)

أنطونيو :
إني حمَلٌ مريض في القطيع …
أنسَبُ الأشياء لي موت سريع
إنما أول ما يهوي على الأرض الثمارُ الواهية
فدعوني اليوم أهوي مثلها …
ليت باسانيو يعيش بعد موتي
كي يخط لي الرثاء فوق قبري.

(تدخل نیریسا متنكرة في زي كاتب محامٍ.)

الدوق : هل جئت من بادوا؟ من عند بلاريو!
نیریسا : نعم مولاي منها … وبلاريو يحیِّيکم …

الواضح أن كل متحدث يستخدم بحرًا يختلف عن بحور الآخرين؛ فالقطعة تبدأ بالرجز والكامل «ساليريو والدوق» ثم الخبب «باسانیو» ثم الرمل «أنطونيو» ثم الرجز «الدوق» ثم الهزج «نیریسا». ويهمني أن يعرف القارئ أنني نتيجة لاتباع أذني التي تدربت على الشعر العربي قديمه وحديثه، لم أعد أفرق بين الكامل والرجز، وأتصور تداخل إيقاعاتهما تداخلًا حميمًا، فدارس العروض التقليدي سيجد تفعيلتين من الكامل في السطور الأولى، التفعيلة الأولى في السطر الثاني من القطعة، والثانية في السطر الثالث، ولكنني أعتبر أنه رجز، وأذني تسمح لي بزحافات الرجز في هذا البحر، وقد تكون هذه الاختلافات العروضية ومنها تحريك السابع الساكن في تفعيلة الرمل (التي أغضبت بعض الأصدقاء) من باب «التمرد العروضي» الذي أشار إليه صديقي الشاعر الدكتور أحمد مستجير (مؤلف كتاب «مدخل رياضي إلى عروض الشعر العربي» القاهرة، ۱۹۸٦م)، وقد تكون من باب العودة إلى فطرة الأذن بدلًا من اتباع القواعد التي استمدها السلف مما حکمت به الأذن! فبحر المتوفر «مهمل» ولكنه أحد بحور دائرة خليلية معترف بها.

وأما تغيير الإيقاع فهو لا يقع فحسب نتيجةً لتغيير البحر، ولكنه يقع أثناء البحر نفسه نتيجةً للحالة الشعورية التي تتغير ولو تغيرًا طفيفًا أثناء الحديث، ولا شك أن للموقف وللمعنى تأثيرًا كبيرًا في تحديد الإيقاع، فإيقاع الخبب في بداية حديث باسانیو مرح فرح؛ لأن رنة سعادته بوصول الرسول تغلب على حديثه. ثم يبطئ الإيقاع في نفس البحر عندما يرى السكين التي شحذها شيلوك على نعل حذائه؛ فالحالة الشعورية الآن يشوبها قلق فيه تحدٍّ؛ إذ يقول: إنه سيفدي أنطونيو بنفسه … وهنا يتحول الإيقاع إلى بحر الرَّمَل في حديث أنطونيو الحزين، وتكون آخر عباراته أسرع قليلًا، وأكثر انتظامًا؛ لأنها في الحقيقة رد على فكرة افتداء باسانیو له، ثم تدخل نیریسا فتعود الحركة إلى المشهد، ويعود الحوار «الساخن» والعبارات القصيرة في جو المحكمة الذي يخيم عليه الحزن، ويشيع فيه الأمل الآن (الرجز ثم الهزج).

أما البحور المركبة فأهمها الخفيف وصوره المختلفة، إلى جانب بعض صور البسيط التي فرضت نفسها في إطار الرجز، وربما كان هذا أيضًا من الجديد الذي لا أملك له دفعًا، بل ربما وجد بعض المتخصصين أنغامًا عروضيةً جديدةً أرجو ألا تكون بالضرورة غير مقبولة، وهناك لا شك فارق كبير بين القطع المكتوبة بالشعر العمودي (مثل الرسائل الموجودة في الصناديق والأغاني فهي كذلك في الأصل) وبين البحور المركبة (أو المختلطة) الموجودة داخل النص. قارن الأبيات التالية من الرجز (أو الكامل):

ما أعذب النور الذي ينام فوق الربوةْ!
فلنجلس الآن هنا … كي تسبح الأنغام في آذاننا!
ما أنسب الليل الجميل والكون الحالم
لتوافق الألحان فيما حولنا!

بالأبيات التالية (من الخفيف):

ما عدا الحب من مشاعر ولَّی
ومضى في الهواء مثل الهباء
من ظنون وبعض يأس شرود
أو كخوفٍ وغَيرَةٍ حمقاء!

أو بالأبيات التالية من نفس البحر (مع التحويرات المستحدثة):

أبلهٌ طيب النوايا أكولُ
وبطيءٌ في شغله وكسول
ونئوم طول النهار كقط من قطاط البراري.

وأعتقد أن هذه الأمثلة تكفي لإيضاح ما أعنيه؛ إذ إن من يُخضع كلَّ شيءٍ للحالة الدرامية لن يجد مناصًا من تغيير البحور أو حتى التجديد فيها ما دام ذلك مما تستسيغه الأذن، ولا يخرج عن «السلم الموسيقي» اللغة العربية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤