الفصل الخامس

من الطُّفولة إلى منتصف العمر

(١) الأمُّ والطِّفل

ذكرت في الفقرة الخامسة من الفصل السابق التقسيم الذي وضعه ﻫ. ف. هارلو وم. ك. هارلو لمراحل حياة الثدييات العليا، ومن بينها الإنسان، وأطلقا عليها النظم العاطفية الخمسة التي يتميز بعضها عن بعض، وقلت إنها تتفق مع المراحل التي يشير إليها يونج في المجلد الثامن، وعنوانه: «بناء النفس ودينامياتها»، وسوف أعرض في هذا الفصل أهمَّ الأفكار التي وضعها يونج أو بلورها وما وضع في وصفها وتحديد ملامحها من مصطلحاتٍ اشتهرت وشاعت، مقتصرًا على ما له صلة بالأدب أو ما يتناوله الأدباء، ملتزمين أو غير ملتزمين بمعاني هذه المصطلحات لدى العلماء. فالشاعر وليم وردزورث Wordsworth مثلًا يخصص أحد أقسام سيرته الذاتية الشعرية، قصيدة المقدمة (١٨٠٥م ثم ١٨٥٠م)، للحديث عن علاقة الرضيع بأمه، قائلًا إنها العلاقة التي تشكل التعاطف الأوَّلي primal sympathy في حياة الإنسان، وهو ما نشير إليه اليوم بمصطلح العلاقة الأولية primal relationship مسهبًا في وصف «التفاعل» بين ما فطر عليه الوليد وما فطرت عليه الأمُّ، معارضًا ما ذهب إليه السلوكيون من أن الطفل يولد ونفسه/عقله «صفحة بيضاء»، وهو ما أنكره يونج بعد أكثر من مائة عام، وهذا الشاعر نفسه هو صاحب المقولة الشهيرة «الطفل والد الرجل» التي يعني بها أن السمات الأساسية للشخصية تتكون في الطفولة المبكرة، وهو يحددها أحيانًا بالسنوات الخمس الأولى (مثل بعض العلماء المحدثين) وأحيانًا بفترةٍ أقل أو أكثر قليلًا. والمعروف أن الطفل في السنوات الخمس الأولى، يكتسب اللغة ويكتسب القدرة الحركية والعلاقة مع من حوله وما في دنياه المحدودة، ويؤكد يونج أن نظم الأنماط الفطرية تتجلى في هذه الفترة في أنشطة اللعب، واستكشاف محيط الطفل، والتمييز بين الأقارب والأغراب، وبدايات تكوين القناع والطفل، حسبما وُصفا آنفًا، والتمييز أيضًا بين الأنيما والأنيموس. ومثلما يتحدث يونج عن طاقة الطفل من حيث الأنماط الفطرية التي تربطه بأمه، كان وردزورث يؤكد وجود «روح الشعر الأولى» عند الرضيع:
مُبَارَكٌ يا أيُّها الطِّفْلُ الرَّضِيعْ! (إذْ أَنْتَوي أنْ
أَحْدِسَ البِدَايَةَ التي تُمَثِّلُ انْطِلَاقَ رِحْلَةِ الحَيَاةِ
فَوْقَ أَرْضِنَا وَوَفْقَ طاقتي) مُبَارَكٌ ذاكَ الرَّضِيعُ
وَهْوَ يَرْتَوِي مِنْ ثَدْي أُمِّهِ وفي أَحْضَانِهَا،
تَهُزُّهُ حتَّى يَنَامَ فَوْقَ صَدْرِها! ويَرْتَوِي ٢٣٥
بِرُوحِهِ مِنَ المَشَاعِرِ التي تَفِيضُ مِنْ عُيُونِ أُمِّهِ!
وهكَذَا فَحَضْرَةُ الحَبِيبِ ذَاكَ وَحْدَهُ
تُشِعُّ نورًا فَوْقَ مُدْرَكَاتِ حِسِّهِ
وإذْ بِهَا تَسْمُو بِهَا في ذلِكَ الخِطَابِ بَيْنَهَا
وبَيْنَ كُلِّ حَاسَّةٍ لَدَيْه. ٢٤٠
ولَيْسَ هذَا الطِّفْلُ مَنْبُوذًا ولَيْسَ حَائِرًا ولَا حَزِينَا
ففي عُرُوقِهِ رَوَابِطُ الطَّبِيعَةِ التي
تَرْبِطُهُ بهذِهِ الحَيَاةِ بارْتِبَاطِ الجَاذِبِيَّةْ
وبارْتِبَاطِ قُوَّةِ البُنُوَّة، هَلْ ثَمَّ زَهْرَةٌ يُشِيرُ في
ضَعْفٍ إلَيْهَا عَاجِزًا عَنِ اقْتِطَافِهَا ٢٤٥
إلَّا وقد تَحَمَّلَتْ فَيْضًا مِنَ الحُبِّ الذي
يَفِيضُ مِنْ أَصْفَى يَنَابيعِ الرِّيَاضِ كي
يَزِيدَهَا حُسْنًا علَى حُسْنٍ بهذا الحُب؟
وهذِهِ ظِلَالُ إشْفَاقٍ تَسَاقَطَتْ
مِنْ رِقَّةٍ لَدَيْهِ بَاطِنَةْ ٢٥٠
علَى القَبيحِ حَوْلَهُ مِنْ كُلِّ عُنْفٍ أو ضَرَرْ.
ما أَعْظَمَ الحَيَاةَ في جَوَانِحِ الطِّفْلِ الرَّضِيعْ
في ضَعْفِهِ وعَجْزِهِ!
لأنَّه نَزَيِلُ كَوْنٍ نَابِضِ الحَيَاةِ حَوْلَهُ
سُلْطَانُهُ الفطريُّ مِنْحَةٌ مِنَ الشُّعورِ عِنْدَهُ ٢٥٥
وكُلَّما نَمَتْ حَوَاسُّهُ يَزِيدُ ذلِكَ السُّلْطَانْ
كأنَّهُ خَلِيفَةُ الرُّوحِ العَظِيمِ الوَاحِدِ الأَحَدْ
ما دَامَ خَلَّاقًا ويَلْقَى مِثْلَمَا يَخْلُقْ
وعاملًا وحَسْبُ في تَحَالُفٍ مع الذي يَرَاهْ
وهذِهِ بالحَقِّ رُوحُ شِعْرِنَا الأوُلَى التي ٢٦٠
بعْدَ الخُضُوعِ للتَّنْمِيطِ عِنْدَمَا تَأْتي بهِ السُّنُونْ
يُصِيبُها الذُّبُولُ أو يُصيبُها انْطِمَاسٌ عِنْدَ مُعْظَمِ البَشَرْ
لكنَّهَا تَظَلُّ عِنْدَ بَعْضِهِمْ
رَغْمَ اخْتِلَافِ الحَالِ في النُّمُوِّ والتَّدَهْوُرْ
بَارِزَةً حَتَّى يَجِيءَ المَوْتْ. ٢٦٥
(وردزورث: المقدمة ١٨٥٠م، الكتاب الثاني ٢٣١–٢٦٥)
لا شك أن بعض القراء سوف يقولون هذا شاعر وينبغي ألا نطالبه بدقة التعبير التي يتسم بها التعبير العلمي، وهذا صحيح إلى حدٍّ ما، ولكنه على الرغم من اللغة المجازية التي تميِّز الشعر إلى جانب إيقاع النظم — كلامٌ يتسم بدقةٍ غريبةٍ؛ فهو ينكر أقوال دعاة المذهب السلوكيِّ الذين يرجعون ارتباط الرضيع بأمِّه إلى كونها مصدر الغذاء؛ إذ يطلق على دعواهم نظرية «حب صوان الطعام»، لكنَّ الشاعر هنا يقرن الرضاعة («يرتوي من ثدي أمِّه») بالحب («ويرتوي بروحه من المشاعر التي تفيض من عيون أمِّه») (٢٣٤–٢٣٦) وبهذا يفسر ذلك الارتباط attachment وفق نظرية الارتباط نفسها التي وضعها جون بولبي Bowlby (١٩٠٧–١٩٩٠م) في دراسته التي اعتمدتها منظمة الصحة العالمية، والتي يقول فيها (وهي مقالة منشورة عام ١٩٥٨م) إن الأطفال «يأتون إلى الدنيا مبرمجين بيولوجيًّا للارتباط مع الآخرين»، والمعروف أن بولبي كان متأثرًا بنظرية الإيثولوجيا العامة، خصوصًا نظرية لورنز (١٩٣٥م) المشار إليه آنفًا. وقد شاعت الإشارة إلى هذه النظرية باسم «نظرية بولبي للحرمان من الأمِّ»، ومعناها واضح؛ وهو أن موقف الأمِّ من الطفل يحدد موقف الطفل من الدنيا والناس في المستقبل، إمَّا إيجابيًّا أو سلبيًّا، ويؤكد يونج أنها علاقة متبادلة؛ لأن موقف كلٍّ منهما يفعِّل النمط الفطريَّ في الآخر، وهو ما كان فرويد يقول به، واصفًا العلاقة أنها «فريدة ولا مثيل لها … بل النموذج الأوَّلي لجميع علاقات الحب الأخرى، حتى بين الجنسين»، وكان يونج يقول: إن هذه «أعمق وأقوى علاقة نعرفها» مؤكِّدًا أصلها البيولوجي، واصفًا إياها بأنها «الخبرة المطلقة للنوع البشري، وهي حقيقة حيوية لا لبس فيها ولا غموض مثل العلاقة فيما بين الجنسين» (يونج، المجلد الثامن، الفقرة ٧٢٣).

ونحن نلاحظ في تلك النظرة الشعرية إيمان الشاعر المبنيَّ على الحدس وحسب بأن الطفل يتمتع بطاقةٍ فطرية على التواصل (وهو ما يسميه بولبي الارتباط) وأن تلك الطاقة غير مكتسبةٍ بل إن الحياة النمطية التي تُفرض على المرء فرضًا في المجتمع — تعود بالضرر عند معظم الناس على هذه الطاقة، إلا الذين يشعرون بها ويحرصون على تنميتها، وهي نظرةٌ حاول تفسيرها في قصيدة أخرى بفكرة أفلاطونية يشير إليها في هامش ديوانه، وهي التي تقول بأن الروح الخالدة تأتي إلى العالم بالمثال الذي ما تفتأ الحياة على الأرض تصرفه عنه بل وتقوِّضه؛ ففي سيرته الذاتية نفسها (المقدمة) يقول في الكتاب الثالث:

رَبَّ السَّمَاءْ! ما أَعْظَمَ الجَبَرُوتَ في هذي النُّفُوسْ
والطَّاقَةَ العَصْمَاءَ في دَاخِلِهَا!
إنْ كانَ قَيْدُ الأَرْضِ لمْ يُحْكِمْ عَلَيْهَا قَبْضَتَهْ
ولمْ تَكُنْ هذي الحَيَاةُ غَيْرَ حَقْلٍ بِكْر
قد بُذِرَتْ في أَرْضِهِ النُّفُوسْ.
(وردزورث، المقدمة، ١٨٥٠م، الكتاب الثالث، ١٧٧–١٨٠)

وفي القصيدة «الأخرى» التي اشتهرت باسم «خاطرات الخلود» يقول الشاعر:

إنَّ السَّمَاءَ قَرِيبَةٌ مِنَّا نَرَاهَا حَوْلَنَا
ونَحْنُ أَطْفَالٌ صِغَارْ
وكُلَّمَا شَبَّ الصَّبي
بَدَأتْ ظِلَالُ السِّجْنِ تُحْكِمُ حَوْلَهُ طَوْقَ الحِصَارْ
لكنَّهُ قدْ يَشْهَدُ الأَنْوَارْ
وحَيْثُما انْسَابَتْ رأى فِيهَا الفَرَحْ!
(وردزورث، «خاطرات الخلود»، ٦٦–٧١)

ومن الطريف أن الشاعر الذي نشأ يتيما محرومًا من حنان الوالدين، يبالغ في تصوير دور الأمِّ في التنشئة إلى الحدِّ الذي لا يذكر فيه الأبَ إلا عندما يروي في سيرته الذاتية يوم أن فقد أباه، وأمَّا الطبيعة فهي الأمُّ والمرضعة والمربية، وحتى حين يقول: إن الأرض تنهض بدور الأمِّ التي تقدم للطفل ما يلهيه عن «المجد» الذي جاء منه إلى الدنيا، فإنه ينسب إليها بعض فكر الأم وحنان المرضعة. ولا شك أن ذلك يؤكد تركيز فرويد ويونج على العلاقة الخاصة بين الطفل وأمِّه، ولكن يونج لا يتجاهل النمط الفطريَّ للأب؛ فهو يضعه في الكفَّة الأخرى حتى يتوازن مع النمط الفطريِّ للأم، وهو ما تناوله علماء النفس المحدثون تفصيلًا.

(٢) بين الأمِّ والأب

ومن أهمِّ من أسهم في تحديد طبيعة العلاقة مع الأمِّ — عالم النفس «الألماني الأمريكي» إريك إريكسون Erikson (١٩٠٢–١٩٩٤م) الذي تخصص في دراسة التطور النفسي منذ الطفولة، وقد اشتهر لدينا لأنه الذي ابتكر عبارة «أزمة الهوية» identity crisis التي كثيرًا ما نصادفها في دراساتنا النقدية، خصوصًا في دراسات «ما بعد الاستعمار»، كما اشتهر كتابه: «الطفولة والمجتمع» (١٩٥٠م) بسبب تحليله للعلاقة بين الأمِّ والطفل باعتبارها مصدرًا لما يسميه «الثقة الأساسية» basic trust ويعني بهذا المصطلح أن الأمَّ «التي تمثل له الدنيا والناس» (ص٥) — يمكن الثقة بها، ويقول إريكسون إن ذلك يجعل الطفل مطمئنًّا في علاقته بمن حوله وما حوله، وهذا يختلف عما يوحي به الأب للطفل في مرحلة لاحقة، فكما يقول يونج: يمثل الوالد القطب المقابل أو النمط الفطريَّ المقابل للنمط الفطريِّ للأم؛ فهو رمز للسلطة في المنزل، ويظهر في الأحلام وفي الأساطير وفي الأدب في صورة الحاكم أو الملك أو رئيس القبيلة، ويقول يونج: إن لحظة اشتباك الطفل بالأم تخلق رمز الحب Eros، ولحظة اشتباك الطفل مع الأب تخلق رمز السلطة، وهو يستخدم في الإشارة إليها الكلمة اليونانية logos التي يعني بها الحكمة والعقل، وغالبًا ما يشير إليها بتعبير مبدأ التعقل the logos principle.

يقول يونج:

النمط الفطريُّ للأمِّ هو أول نمط فطري مباشر يدركه الطفل، ولكنه عندما يزداد وعيًا وتتطور نظرته يصبح قادرًا على رؤية الوالد أيضًا، وتؤدي هذه الرؤية إلى تفعيل نمطٍ فطريٍّ آخر تتعارض طبيعته من عدة زوايا مع النمط الفطريِّ للأمِّ. ومثلما يتفق النمط الفطريُّ للأمِّ مع المفهوم الصينيِّ للين Yin يتفق النمط الفطريُّ للأب مع المفهوم الصينيِّ لليانج Yang، الذي يتحكم في علاقتنا بالإنسان وبالقانون وبالدولة، وكذلك بالعقل وبالروح وبدينامية الطبيعة. (يونج، المجلد العاشر، الفقرة ٦٥)

وأتصور أن القارئ سوف تساوره بعض الشكوك في التقسيم التقليدي الذي يستشهد فيه يونج بالفكر الصيني ويستشهد فيه غيره بأفكار قبائل الهنود الحمر وأفريقيا، استشفافًا لما يسمَّى الطبيعة، وللقارئ — ولنا — كلُّ الحقِّ في هذه الشكوك بسبب التحولات الاجتماعية التي عدَّلت إلى حدٍّ كبيرٍ من تصوُّر الأدوار التي يخصصها يونج للأمِّ وللأب؛ فالتفرقة القديمة المطلقة لم تعد قائمةً في كلِّ مكانٍ في هذه الأيام، بغضِّ النظر عن أية أحكامٍ قيِّمةٍ على ما استجدَّ من تطوراتٍ.

وإلى جانب علاقة الطفل بالأمِّ يرصد يونج قدرة الطفل على اكتساب اللغة، ويرى أنها قدرة فطرية، ويستشهد الشُّرَّاح بالأبحاث الحديثة في علم اللغة (نعوم تشومسكي وأ. ﻫ. لينبرج Lenneberg) التي تقول: إن الطفل يولد مزودًا في المخ بجهاز اكتساب اللغة، وتضيف أن هذا الجهاز يعمل بأفضل طاقةٍ في الفترة ما بين ثمانية عشر شهرًا وثمانيةٍ وعشرين، وأن ذلك لا يختلف باختلاف اللغات أو الثقافات. ويختلف دارسو قضية اكتساب اللغة في تحديد سنِّ النشاط الأقصى لاكتساب اللغة، مثلما يختلفون حول ما يسميه يونج: وجود قانونٍ أخلاقيٍّ فطريٍّ في نفس كل طفل، وأظن أنني قد عرضت لهذه القضية بصورةٍ غير مباشرةٍ حين ناقشت مصطلح الظلِّ عند يونج.

(٣) فكرة البطولة والرُّموز

أودُّ أن أشير إلى أن التفسير الرمزي لحقائق الوجود وما يعتبره يونج «حقائق» اللاوعي في الأحلام لا يزيد على كونه محاولةً للربط بين الواقع الماديِّ والواقع الروحيِّ، فهو يتبع (ولو لم يشر إلى ذلك) منهج إرنست كاسيرر Cassirer في كتابه: «فلسفة الأشكال الرمزية» (١٩٢٣–١٩٢٩م) وخصوصًا في الجزء الثاني الخاص بالأساطير ورموزها، والمعروف أن كاسيرر كان من أتباع الفكر الكانطي الجديد، وهو الذي يؤمن بوجود أشكالٍ فطريةٍ a priori في الذهن للفكر والمنطق البشريِّ بصفة عامة، ونلمح عند يونج هذا المنهج عند تحليله لفكرة البطولة، كما نلمح إيماءً إلى كتاب أصدره العلامة جيمز فريزر Frazer [مؤلف «الغصن الذهبى» The Golden Bough المنشور أصلًا عام ١٨٩٠م]، وكان عنوانه «عبادة الطبيعة» (١٩٢٦م) ويتحدث فيه عما يسمَّى الفصل بين أبوَي العالم في الأساطير باعتباره رمزًا لمولد الوعي عند الإنسان، وحاجته إلى تجسيد ذلك في صور للبطل الخارق أو الإله؛ إذ يقول فريزر:

كان الإنسان البدائي يؤمن بفطرته أن السماء والأرض كانتا ملتصقتين أصلًا، فإمَّا كانت السماء منبسطةً على الأرض انبساطًا كاملًا، وإمَّا أنها كانت ترتفع عنها بمسافةٍ ضئيلة لا تسمح للبشر بالسير مرفوعي القامة فوقها، وحيثما يسود هذا الإيمان، كان رفع السماء إلى مكانها العالي فوق الأرض يُنسب في حالات كثيرة إلى جبروت إله أو بطل خارق؛ أي إنه هو الذي رفع السماء إلى مكانها الحاليِّ الذي ظلت فيه إلى اليوم (فريزر، ١٩٢٦م، ص٥٥).

والذي يقوله فريزر باعتباره إيمانًا فطريًّا يشير إليه المولى عز وجل في كتابه الكريم قائلًا: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا (الأنبياء: ٣٠) ولكن يونج يؤوِّل ذلك «الفتق» تأويلًا رمزيًّا للدلالة على الفصل في الأساطير (التي يراها مجمع تأملاتٍ فطريةٍ بالغة الثراء) بين أبوَي العالم، وهما السماء التي تُعتبر الأب والأرض التي تُعتبر الأمَّ؛ ومن ثم للدلالة على انفصال الأنا والشخصية عن الأب والأم، وانفصال الأب نفسه عن الأمِّ في مرحلة تطور الصبي من مرحلة الطفولة إلى سن الرشد، ولما كان هذا الانفصال بطبيعته عملًا بطوليًّا أو مستلهمًا من البارئ جلَّ وعلا؛ فإن يونج يراه انفصالًا روحيًّا له ظواهره النفسية والمادية. ولمن يريد الاستزادة في هذا الباب أن يرجع إلى كتاب أستاذنا الدكتور شكري عيَّاد: «البطل في الأدب والأساطير»؛ حيث يؤصِّل نشأة فكرة البطولة نفسيًّا واجتماعيًّا.

أمَّا رمزية انفصال الأنا (والشخصية) عن الوالدين فواضحةٌ، وأمَّا رمزية انفصال الأب عن الأمِّ في نظر الطفل في مرحلة النمو فترجع إلى اعتبار الإنسان نفسه أقرب إلى الرَّحم الذي خرج منه ويرتبط به برباط الحبِّ (ما دام رمز الأم رب الحب Eros) إلى جانب «خضوعه» لنظام الكون الذي يمثله «عقل» الأب وسلطته، وهذا الانفصال يحفز الطفل على استكشاف عالمه ما بين العاطفة والعقل، فيُدير «حوارًا» مستقلًّا مع المحيط الذي يعيش فيه، وبذلك — حسبما يقول يونج — يوقظ الوعي الجمعيَّ في أعماقه؛ إذ يبدأ الطفل بتصوُّر أن الأمَّ تمثِّل العالم مهتديًا بقوة الحب الذي يربطه بها، كما يقول الشاعر وردزورث، ثم ينفصل الطرفان في وعيه، مدركًا اختلاف العالم ومعتمدًا على القاعدة الموثوق بها أو «الثقة الأساسية» وفق تعبير إريكسون، وهي حبُّ الأمِّ.
وانطلاقًا من «القاعدة الموثوق بها»، تبدأ مرحلة استخدام الرموز، وفقًا لما انتهت إليه أبحاث المحدثين والمفسرين لمذهب يونج، ومن أهمهم د. و. وينيكوت Winnicott (١٨٩٦–١٩٧١م) الذي كان أصلًا متخصصًا في طب الأطفال، ثمَّ اتجه إلى علم النفس (والتحليل النفسي) وكان من بين من وضعوا ما يسمَّى بنظرية «العلاقات الموضوعية» object relations theory وهو يرصد جذورها في قدرة الطفل على أن يستخدم رمزًا لوالدته مثلًا، وهذه القدرة التي حظيت باهتمامٍ كبيرٍ فيما بعد (أي بعد إصدار وينيكوت كتابه: «عملية النضج والبيئة الميسرة لها» عام ١٩٧٧م) — كانت من الأسس التي أقام عليها علماء اللغة واكتساب المعرفة وتشكيلها ما يسمَّى بالنظام الرمزيِّ، وكانت في الواقع تطويرًا تجريبيًّا قائمًا على ما يسميه يونج الحياة الرمزية للإنسان.
ومن صور الحياة الرمزية المشهورة عند يونج (من بعد فرويد) الأحلام والظاهرة التي تشترك مع الأحلام في الترميز؛ وهي التمثيل representation بأشكاله في الفنون اللغوية وغير اللغوية وفي اللعب أيضًا. أمَّا في الفنون فالتمثيل يقصد به الرمز لشيءٍ بشيءٍ آخر، وكانت الصورة القديمة (الأرسطية) له تقوم على المحاكاة mimesis ولكن نشأة الفنِّ الحديث في آخر القرن التاسع عشر، وازدهاره في القرن العشرين، نقض هذا المبدأ، فلم يعد الرمز يشترك مع لغة المجاز في ضرورة التشابه من زاويةٍ ما بين الرمز وما يرمز له، وكان هذا من المبادئ التي أكدتها مدرسة النقد الجديد، ويشرحها رينيه ويليك وأوستن وارين Wellek and Warren في كتابهما: «نظرية الأدب» (١٩٤٨م). وأما اللعب فأمر آخر تمامًا؛ إذ يقول يونج: إن اللعب في الطفولة ينشِّط أو يوقظ اللاوعي الكامن ويدرب الطفل على ممارسة ما يقضي به هذا اللاوعي من أنماط السلوك أو نظمها التي تعتبر ذات أهميةٍ حيويةٍ للحياة، ويرصدها الشُّراح بالتركيز على التعاون والصراع، وعلى العلاقة الوثيقة مع الأقران، والحياة الجنسية، والتنازع الجسديِّ، والتحكم في النوازع العدوانية، والصيد، والطقوس، والعلاقات الزوجية وتربية الأطفال والإبداع. ومن المعروف أن الطفولة فترةٌ «تتسم بحيويةٍ فائقةٍ، والقدرة على الابتكار وانطلاق الخيال إمَّا لاستكمال الواقع وإمَّا للتعويض عن نقائص الحياة اليومية» (ستيفنز ١٩٩٠م، ص٨٧).

ويقول يونج إنه أثناء أزمته النفسية، كان عليه أن يرخي العنان للاوعي عنده، قائلًا: إن استسلامه للاوعي أتى إليه بذكرى لعبه في سن العاشرة أو الحادية عشرة ببناء منازل أو قلاعٍ صغيرةٍ من قطع الآجُرِّ وما إليها، وإنه كان يلهو بها بشغف وحماس، قائلًا إنه كان يستخدم القوارير لتشكيل المداخل والسقوف. وإنه كان يستخدم الأحجار العادية بعد ذلك مستعينًا بالطين أو الملاط. ويضيف قائلًا:

ظلت هذه المباني تبهرني وقتًا طويلًا. وأدهشني أن هذه الذكرى أتتني مصحوبةً بقدرٍ كبيرٍ من العاطفة. وقلت في نفسي «إذن ما زالت في هذه الأشياء حياةٌ نابضةٌ. والصبيُّ الصغير ما يزال موجودًا وما زالت لديه حياةٌ خلاقةٌ أفتقر إليها الآن. ولكن كيف أستطيع الذهاب إليها؟» إذ إنني — باعتباري راشدًا — بدا من المستحيل لي أن أقطع المسافة التي تفصل حاضري عن عامي الحادي عشر. ومع ذلك فإذا أردت الرجوع إليها فلا مناص من إعادة الاتصال بهذه الفترة وأن أعيد نفسي لحياة الطفل وألعابه الطفولية. كانت تلك اللحظة نقطة تحوُّلٍ في مسار أقداري، ولم أستسلم إلا بعد جهودٍ لا حصر لها في المقاومة، شاعرًا بأنني أسلمت نفسي وحسب …

(يونج: ذكريات وأحلام وتأملات، ص١٧٣–١٧٤)
ويواصل يونج حديثه عن أهمية اللعب الذي كان يمنحه انشغالًا عمليًّا يتيح لمخيلته أن تنطلق كيفما تشاء، وكان يسجل كما يقول (ص١٧٤) كلَّ خيالاته، مبيِّنًا أن تلك الخيالات كانت تمثِّل الرابطة بين الوعي واللاوعي، وبين العالم الخارجي وعالمه الباطن، أو قل إنها ثمرة اللعب بين اللاوعي الجمعيِّ والظروف الحية للفرد. فالمخيلة تتيح للاوعي أن يستمدَّ مادةً خاصةً من تذكُّره للناس والأشياء، ولكن بأسلوبٍ يعبِّر عن المقصد الغائيِّ teleological للذات. فإذا كان فرويد يرى أن التخيلات تعتبر أسلوب نكوصٍ regression عن الواقع؛ فإن يونج يقول إنها الوسيلة الفعَّالة للنمو النفسي، مضيفًا: «إن الحياة غائيةٌ في المقام الأول: إنها الكفاح الباطن الراسخ في سبيل تحقيق غايةٍ ما، وما الكائن الحيُّ إلا جهازٌ system من الأهداف الموجَّهة التي تسعى لتحقيق ذاتها» (يونج: المجلد ٨، الفقرة ٧٩٨).
ويقول يونج: إن التخيلات تظهر في صورتين أساسيتين هما القصص والطقوس، وتتفق عالمة النفس الفرويدية ميلاني كلاين klein مع يونج في كتاب من أوَّل كتبها وهو التحليل النفسي للأطفال (١٩٣٢م) الذي أعيد نشره واقتطاف بعض ما فيه في كتب المنتخبات من أعمالها؛ إذ تقول: إن القوى الرئيسية التي تتحكم في نمو الأطفال هي القصص الباطنة، وتعرِّفها بأنها تشمل الخيالات fantasies والأساطير والحكايات، كما تبين كيف تتحول بعض القصص إلى طقوسٍ، بمعنى أن الطفل قد يحوِّل قصةً خياليةً إلى ما تسميه «ممارسة عملية متكررة قد تفقد صلتها بالقصة الأصلية، وقد تغير اتجاهها إمَّا إلى الجنس الآخر وإمَّا إلى باطن اللاوعي» (مختارات من أعمال كلاين، تحرير جوليت ميتشيل، ١٩٨٧م، ص٦٢).
وعلى الرغم من أن كلاين من أنصار فرويد؛ فهي تتفق في أمورٍ كثيرةٍ مع يونج، والمعروف أنها نمسوية الأصل بريطانية الجنسية (١٨٨٢–١٩٦٠م)؛ أي إنها عاصرت يونج، وكثيرًا ما تقتطف أشهر أقواله؛ فهي تؤكد في كتبها الكثيرة ما يذكره يونج عن اختلاف الجنسين، وهي لا تتوسع في مناقشة القضية، على عكس علماء النفس الآخرين الذين يستندون إلى أدلةٍ تجريبيةٍ، وهي تؤكد ما جاء به يونج عن قوة الأنماط الفطرية التي توجه المؤثرات الثقافية وقد تتحكم فيها، وربما يكون من أشهر هؤلاء الباحثة بياتريس هوايتينج Whiting التي أصدرت في عام ١٩٦٣م كتابًا حررته بعنوان: «ست ثقافات: دراسات في تربية الأطفال»، ويتضمن دراساتٍ لسلوك البنين والبنات في ست ثقافات؛ هي ثقافة الهند، واليابان (أوكيناوا) والفلبين، والمكسيك، وكينيا، وولايات نيوإنجلاند في أمريكا، وقد انتهت المؤلفة إلى وجود أنساقٍ سلوكيةٍ متشابهةٍ تشابهًا أساسيًّا عند البنين وعند البنات، في جميع هذه الثقافات، وانتهت إلى أن البنات كنَّ يملن إلى تقديم الرعاية والارتباط بذويهنَّ والحنان، وأن البنين يتميزون بالنشاط البدني والعدوان.

(٤) الأنماط السيكلوجيَّة

يقتضي المنطق تخصيص فصل كامل للحديث عن الأنماط السيكلوجية، (عنوان كتاب يونج الذي صدر عام ١٩٢١م)، وأهمها النمط الانطوائي للشخصية introversion والنمط الانبساطي extraversion؛ أولًا بسبب شيوع هذا التمييز وقبوله بصفة عامة من جانب المثقفين وكثير من المتخصصين، وثانيًا بسبب صدور الترجمة الإنجليزية الكاملة التي أبدعها بينز Baynes عام ١٩٢٣م (ولديَّ الطبعة الثالثة ١٩٢٦م) بعد تنقيحها تنقيحًا طفيفًا عام ١٩٧١م في سلسلة الأعمال الكاملة ليونج (المجلد السادس) فيما يقرب من ٧٠٠ صفحةٍ، والمراجع هو العلَّامة هَلْ Hull الذي كتب للنَّصِّ تصديرًا جديدًا. ولا تزيد ملامح التنقيح عن إدراج بعض الهوامش التي تسجل بعض تعليقات النقاد على النَّصِّ في العقود التي انقضت منذ صدور الترجمة الأولى، إلى جانب إضافاتٍ طريفةٍ متفرقةٍ. ولكنني أعتزم هنا أن أقدِّم أهمَّ ما يقوله يونج عن هذين النمطين من أنماط الشخصية في مرحلة الطفولة والانتقال إلى النضج. وأمَّا الفصل الذي يهمُّ دارس الأدب والنقد الأدبي فربما خصصت له مكانًا آخر في دراسةٍ أخرى.

ذكرت أن علاقة الطفل بأمِّه تهبه قاعدةً آمنةً ينطلق منها لاستكشاف العالم الذي حلَّ فيه، ويقول يونج: إن كثيرًا من الآباء والمربيات يذكرون أن بعض الأطفال يتجلى لديهم الميل إلى الانطواء أو الانبساط منذ الميلاد؛ فالأطفال الميَّالون للشخصية المنبسطة أكثر نشاطًا وأكثر انتباهًا وتجاوبًا مع المؤثرات الخارجية، وأكثر ميلًا للابتسام والنطق بالأصوات السابقة للكلام مع أبويهم من إخوتهم وأخواتهم المتَّسِمين بالانطواء. يقول يونج:

يبدأ الاختلاف بين النمطين في وقتٍ مبكرٍ، بل بالغ التبكير إلى الحدِّ الذي يرغمنا في بعض الحالات على اعتباره فطريًّا. ومن أولى العلامات على الطابع الانبساطي للطفل سرعة تكيُّفه مع البيئة، والانتباه الشديد الذي يوليه للأشياء من حوله وخصوصًا قدرته على التأثير في هذه الأشياء. ولا يكاد يكون لديه أدنى خوفٍ من هذه الأشياء؛ فهو يتحرك بينها بثقةٍ واطمئنانٍ. وردود أفعاله سريعةٌ ولكنَّها غير دقيقةٍ. وهو ينمو ويتطور، فيما يبدو، بسرعةٍ أكبر من سرعة الطفل الانطوائي، ما دام أقل ميلًا للتأمل؛ وعادةً ما يكون أقل خوفًا. وهو لا يحس بوجود حواجز بينه وبين الأشياء؛ ومن ثمَّ فهو يلعب بها بحرية ويتعلم منها. وهو يحب أن يتطرف في تنفيذ مشروعاته، ويعرض نفسه للأخطار. فكلُّ مجهولٍ جذابٌ. (يونج، المجلد ٦، الفقرة ٨٩٦)

ويضيف يونج أن الخوف القائم على نمط فطريٍّ معيَّنٍ من كل غريب — لا يظهر، فيما يبدو، عند الأطفال من ذوي الشخصية الانبساطية؛ إذ يضيف يونج في الفقرة التالية:

فإذا عكسنا الصورة، وجدنا أن إحدى العلامات المبكرة على الانطوائية في الطفل تتمثل في الميل إلى التأمل والتفكير، والخجل الواضح، بل والخوف من الأشياء المجهولة … فكل ما هو مجهول ينظر إليه بريبةٍ، وعادةً ما تواجه المؤثرات الخارجية بمقاومةٍ عنيفةٍ. فالطفل يريد أن يفعل ما يريده ولن يقبل، مهما تكن الظروف، الخضوع لقاعدةٍ خارجية لا يستطيع أن يفهمها. وعندما يطرح أسئلةً ما، لا يكون دافعه الفضول أو الرغبة في خلق إثارةٍ، ولكن لأنه يريد بعض الأسماء والمعاني والشروح التي تمكِّنه من إسقاط ذاته تجاه الشيء الذي يسأل عنه. (يونج، المجلد ٦، الفقرة ٨٩٧)

ولما كانت إمكانات الانطوائية والانبساطية قائمةً داخل بناء الذات، إلى جانب وظائفها الأربع — وهي التفكير والشعور والحدس والإحساس — فمن المشروع أن نسأل عمَّا عساه يحدد النمط السيكلوجيَّ الخاصَّ الذي يمكن أن يكتسبه أيُّ طفلٍ أثناء النمو، وعند اكتمال النمو. ويبدو أن يونج يحدد ثلاثة عوامل؛ أولها الوراثة: فقد تحدد الصفات الجينية سلفًا اتجاه الشخص إلى الانطواء أو الانبساط وتنمِّي وظيفةً أو وظيفتين من الوظائف الأربع المذكورة، والعامل الثاني: هو نمط الأبوين parental typology بمعنى أن الأبوين المتَّسمين بنمطٍ معينٍ قد يجعلان الطفل يحاكيهما في بعض الحالات أو يناقضهما من خلال التمرد ومحاولة إثبات مقومات شخصيته الخاصة، والعامل الثالث: هو المثابرة التنموية developmental perseveration ومعناها أن الطفل يثابر في اختبار أساليب العمل التي تكفل تنمية شخصيته فيختار ما يرى أنه أفعل وأقرب لتحقيق ذاته آخر الأمر. ويقول يونج: إن العوامل الثلاثة تتوافر معًا وتعمل معًا (ضاربًا أمثلةً من حياته الشخصية مع أبويه) ثم يرجِّح سلطان العامل الثاني؛ بمعنى أن الآباء ليسوا مجرد تجسيدٍ للأنماط الفطرية الأبوية بل إنهم يمكن أن يصبحوا نماذج يعبدها الطفل أو يقدِّسها. وتعريف النموذج المعبود an idolized figure هو النموذج الذي يسقط الطفل عليه إمكاناته التي لم تتحقق بعد، وهكذا يصبح النموذج الذي يتلقى الإسقاط مرآةً يتجلى فيها ما لم يتحقق من إمكاناتٍ، فيراها الطفل ويلتصق بها، وينبغي ألا ننسى أن الإسقاط هنا نشاطٌ من أنشطة اللاوعي، وقد يشار إليه بأنه آليةٌ غير واعيةٍ، ولكنها تنهض بدورٍ رئيسيٍّ في النمو النفسي.
وإذا سار التطوُّر النفسي للطفل وفق المعطيات التي تحددها العوامل المذكورة — فلن تنشأ على الأرجح مشاكل نفسيةٌ تذكر، أمَّا إذا حاول الآباء إرغام الطفل على اتخاذ مسلك يتعارض نفسيًّا مع ما فطر عليه أو اكتسبه، وفق العوامل «الطبيعية» المذكورة، أو إذا اكتشف الطفل أنه يتَّبع نفسيًّا نمطًا آخر يناقض ما تمليه هذه العوامل — فمن المحتمل أن تنشأ مشكلاتٌ نفسيةٌ قد تتخذ صورة العصاب، والأمثلة كثيرة في حياتنا اليومية، خصوصًا في ظل التحولات الاجتماعية (والتي ترجع في جانب منها إلى التحولات الاقتصادية والسياسية) حيث نجد أن بعض الآباء المنتمين إلى النمط الانبساطي الفكري يحاولون إرغام أبنائهم من المنتمين إلى النمط الانطوائيِّ الحدسيِّ على اتباع مسلكهم، وقد يضطرُّ الأبناء إلى اتِّخاذ ذلك السلوك الظاهر إرضاءً لآبائهم ولكنَّ التضادَّ في النمط قد يؤدى إلى مشكلاتٍ نفسيةٍ أو ما يسمَّى مركَّباتٍ مرَضية pathological complexes من نوع لا يكتشفه إلا المحلل النفسي، وما زلت أذكر بعض الحالات التي شرحها لنا الدكتور مصطفى سويف أثناء تحولاتنا في مصر في السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين.

وأختتم هذا الفصل بالإشارة إلى نمطٍ فطريٍّ آخر هو نمط الأسرة، وهو نمطٌ فطريٌّ ثبتت أقدامه على مرِّ القرون، وبغضِّ النظر عن التحوُّلات التي دخلت عليه أخيرًا في الغرب؛ فإن النمط راسخٌ في كل مكان في العالم تقريبًا، ولن يتغير لمجرد أن الظروف الحياتية قد دفعت البعض إلى إدخال تحويراتٍ فيه، ولا أظنُّ أن هذا مكان مناقشتها تفصيلًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤