مقدمة تاريخية

فتحَ العرب مصر عام ٦٤١ ميلادية، ولكنهم لم يغيِّروا كثيرًا في النظام الإداري الذي خلَّفه فيها العصر البيزنطي، فظل وادي النيل زهاء قرنين من الزمن يحكمه وُلاةٌ يعيِّنهم أولياء الأمر في بلاد العرب. على أن عرب مصر في صدر الإسلام كان اتصالهم وثيقًا بالحوادث في شبه جزيرتهم، وبما نشب بين المسلمين فيها من خلافاتٍ وحروب، بل قد سار منهم وفد لعب دورًا كبيرًا في الحوادث التي انتهَتْ بقتل الخليفة عثمان.

ثم كان في وادي النيل بعد ذلك شيعة لعليٍّ، وأنصار لمعاوية، وأرسل الأول من قِبَله إلى مصر ثلاثة وُلاة آخرهم محمد بن أبي بكر، الذي ارتكب خطأً سياسيًّا كبيرًا بتسييره أنصار معاوية إلى الشام، فلم يلبث ابن أبي سفيان بعد أن تقوَّى ساعِده بالمدد الجديد أن بعث إلى وادي النيل بجيش على رأسه عمرو بن العاص. وانتصر جيش الشام؛ فاستقر الأمر في مصر لبني أمية، وعاد إلى حكمها عمرو سنة ٦٥٨ من قِبَل معاوية الذي كافأه على إخلاصه ودهائه، بأن جعل البلد طُعْمَة له بعد عطاء جندها ونفقة إدارتها.

ثم قُتِل علي، واستتبَّ الحكم للأمويين؛ فوليَ مصر من قِبَلِهم بعد وفاة عمرو واحد وعشرون واليًا: وليَ اثنان منهم الأمر مرتَين، وواحد ثلاث مرات، وحكم واحد منهم البلد نحو تسعة أشهر نائبًا عن ابن الزبير إلى أن سار إلى مصر مروان بن الحكم؛ فطرده منها.

ولمَّا كانت الدولة الأموية عربيةً بحتة، فقد كان وُلاة مصر في عهدها كلُّهم عربًا، كغيرهم من كبار عُمَّال الدولة ومُوظَّفيها.

وفي سنة ٧٤٩ قويَتِ الدعوة لبني هاشم، وانتهت بسقوط بني أمية سنة ٧٥٠، واستقام عودُ الخلافة لبني العباس؛ ففرَّ إلى مصر مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، وتبعه جيش عباسي على رأسه صالح بن علي بن عبد الله بن عباس، فقتل مروان، وتقلَّد زمام الحكم صالح بن علي من قِبَل أبي العباس السفاح، وتوالى على مصر حتى سنة ٨٦٨ أربعة وستون حاكمًا: وليَ أحدهم الأمر ثلاث مرات، ووليَ تسعة آخرون الحكم مرتين.

ووُلاة مصر في العصر العباسي لم يكونوا كلهم عربًا، فقد طغتْ على مصر الصبغة الفارسية التي طغت على بقية أجزاء الدولة العربية؛ إذ قامتِ الدولة العباسية على أكتاف الموالي، فاستعملهم خلفاؤها وقدَّموهم على العرب.

ولكن نفوذ الجُند من الأتراك في خدمة البلاط العباسي ما لبث أن ظهر وأخذ في الزيادة؛ حتى أصبح بيدهم مقاليد الأمر، وعَزْل الخلفاء وتوليتهم، واستولَوا على أكبر وظائف الدولة، فأصبح منهم الولاة والعُمَّال، وقدِم إلى مصر أوَّل والٍ تركي الأصل سنة ٨٤٦.

على أن الإمبراطورية العربية كانت من السَّعة بحيث استطاعت عوامل الضعف أن تتطرَّق إليها؛ فاستقلَّتْ بلاد الأندلس، وتبعتها بلاد المغرب؛ حيث نشأتْ عدَّة دُويلات مستقلة، ولم يبقَ من بلاد شمال أفريقيا تابعًا للخلافة العربية إلا بلاد إفريقية، التي تُعرَف اليوم ببلاد تونس. وما لبث هارون الرشيد أن رأى عجزه عن حكم هذه البلاد؛ لكثرة ثوراتها والفتن فيها؛ فأقطعها دولة الأغالبة التي ظلت تحكم الإقليم معترفة بسلطانٍ اسميٍّ لخليفة بغداد، وتدفع له جزية كانت في أكثر الأوقات اسميَّة.١ أمَّا مصر فقد جاء دورها نحو سنة ٨٢٧، حين بدأ الخلفاء سُنَّة إقطاعها أولياء عهدهم، ثم قُوَّاد الجُند من التُّرك، ولكن هؤلاء القُوَّاد الذين كانوا يُمنَحون مصر طُعْمَةً سائغة، لم يكونوا يرغبون في البُعد عن حاضرة الدولة وبلاط الخليفة وما فيهما من دسائس ومكائد، ولم يكن الخليفة نفسه يتوق إلى ابتعادهم عنه، خشية أن يعملوا على الاستقلال وشقِّ عصا الطاعة؛ ولذا ترى أن هؤلاء الوُلاة لم يحكموا مصر بأنفسهم، وإنما كانوا يبعثون إليها بعُمَّال من قِبَلهم، وكان هؤلاء يرسلون إليهم ما يتبقى من الخراج والجزية بعد دفع نفقات الدولة والإدارة، وكان أصحاب الإقطاع يدفعون إلى بيت مال الخليفة مما يتلقَّونه من مصر مبالغَ كانت تتفاوت قيمتها.

وفي سنة ٨٦٨ تقلَّد حكم مصر القائد التُّركي باكباك، فاستخلف عليها أحمد بن طولون الذي أسَّس فيها أسرةً لعبَتْ في التاريخ الفنيِّ لوادي النيل دورًا كبيرًا.

وقد كان طولون (والد أحمد) مملوكًا تركيًّا من بلاد منغوليا، أرسله حاكم بخارى إلى بلاط بغداد، فظل يرتقي حتى صار قائدًا لحرس الخليفة.

ووُلِد أحمد بن طولون ببغداد في سبتمبر سنة ٨٣٥، ثم هجر الخليفة المعتصم مدينة المنصور، وانتقلت الحكومة إلى سامرا (العاصمة الجديدة)؛ حيث تلقَّى ابن طولون علومه العسكرية، وأخذ — فضلًا عن ذلك — بقسطٍ وافر من العلوم الدينية، ثم وفَد ابن طولون إلى مصر من قِبَل باكباك الذي كان قد تزوَّج أرملة طولون بعد وفاة زوجها.

ولما توفِّيَ باكباك ولَّى الخليفة على مصر قائدًا تركيًّا آخر، كان ابن طولون قد تزوَّج ابنته؛ فثبتت بذلك قدم ابن طولون وزاد نفوذه، وأصبحت الإسكندرية تابعةً له بعد أن كان لها حاكم مستقل عنه.

ثم كانت وفاة هذا الوالي الجديد إيذانًا بفساد الأمر بين ابن طولون وبلاط بغداد؛ فأرسل أولو الأمر في العراق جيشًا لإخضاع ابن طولون، وكان فشل هذا الجيش وعجزه عن التقدُّم إلى مصر مشجِّعًا لأحمد بن طولون على المغالاة في مطامعه؛ فشقَّ عصا الطاعة، وسيَّر لإخضاع سورية حملتَين، ومدَّ سلطانه على جزء من آسيا الصغرى، فأصبح خطرًا يتهدَّد الخلافة، وأحسَّ بذلك الموفَّق أخو الخليفة وصاحب الأمر في الدولة، وكان قد انتهى من إخضاع ثورة الزنج، ورأى أنه بالرغم من ذلك لا قوة له على مواجهة ابن طولون؛ فعمل على مصالحته، غير أن مرضًا أصاب ابن طولون أرغمه على ترك سورية والرجوع سريعًا إلى مصر حيث توفِّيَ سنة ٨٨٤.

وظن بلاط الخليفة أن موت ابن طولون إيذان بانقراض دولته، ولكن سلسلة من الانتصارات أحرزها ابنه وخليفته خمارويه على جيوش العراق أرغمَتِ الخليفة العباسي على مسالمته، وعقد معاهدة اعترف فيها بخمارويه، وبورثته — مدة ثلاثين سنةً من بعده — ولاةً على مصر وسورية وبعض أقاليم آسيا الصغرى وأرمينيا.

وتوفِّي الخليفة المعتمد بعد ذلك ببضع سنوات، وتزوَّج خلفُهُ المعتضد بقطر الندى ابنة خمارويه، وزعم كثير من المؤرخين أن الخليفة قصد بذلك إفقار بني طولون؛ فقد كان خمارويه مُسرِفًا جدَّ الإسراف، توَّاقًا إلى الأُبَّهة والعظَمة، فجهَّز ابنته بما لم تُجهَّز به عروس من قبل، واستنزف ذلك وغيره خزائن الدولة؛ حتى تركها خاويةً حين قتله خَدَمه سنة ٨٩٦.

وتطرَّق الاضمحلال إلى دولة بني طولون بعد وفاة خمارويه، ووليَ البلاد بعده ابنه جيش، فتنكَّر لقُوَّاد أبيه ولكبار رجال الدولة، وانغمس في اللهو والشراب؛ فخُلِع وقُتِل. وخلَفه أخوه هارون بن خمارويه، ولكن الداء كان قد تمكَّن في إدارة البلاد، وظهرت روح الثورة في الجُند، وانقسموا فِرقًا يؤيِّد كل منها قائدًا من قُوَّاد الجيش، وزاد الطين بِلَّة أن ظهر القرامطة في الشام وهدَّدوا مصر؛ فسار إليهم جيش منها عاد بالهزيمة.

وكان الخليفة المُعتضد قد توفِّي وخلفَه المكتفي؛ فأرسل هذا لإخضاع القرامطة جيشًا على رأسه محمد بن سليمان، أوقع بهم هزيمة كُبرى. ثم واصل السير إلى مصر، ولم يلقَ فيها مقاومة تُذكَر، وحاول المصريون إنقاذ الموقف بقتل هارون وتولية عمه شيبان بن أحمد بن طولون، ولكن ولاية هذا لم تزِدْ عن بضعة أيام، واستطاع محمد بن سليمان وجنوده القضاء على الدولة الطولونية، وأصبحَتْ مصر ثانيةً إقليمًا تابعًا للخلافة العباسية، تُرسَل إليه الوُلاة من قِبَلها.٢
١  راجع: VONDERHEYDEN: La Bérberie Orientale sous la Dynastie de Benon-L-Aglab المطبوع بباريس سنة ١٩٢٧.
٢  راجع: ZAKY M. HASSAN: Les Tulunides, Etude de I’Egypte Musulmane à la fin du IXe Siècle 898–905 (Paris 1933).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤