خاتمة

تكلمنا في الفصول السابقة عن المنسوجات والخشب والخزف والتصوير، ولا ريب أن في ميدان الفن الإسلامي المصري فروعًا أخرى، ولكنا لا نستطيع أن نُطيل القول؛ فإن ما نعرفه عن فجر الفنون الإسلامية في وادي النيل ليس فيه من الحقائق الملموسة أكثر مما ذكرنا.

على أن صناعة المعادن كانت في مصر الفرعونية مزدهرة كل الازدهار، ونَسَج القبط على منوال أسلافهم، وليس هناك ما يدعو إلى أن نعتقد أنهم تركوا هذه الصناعة في القرون الأولى بعد الفتح الإسلامي،١ ولكنا — لسوء الحظ — لم يصل إلينا شيء من مصنوعاتهم المعدنية قبل ظهور طراز إسلامي بحت في العصر الفاطمي.
وأمَّا إبريق البرونز الذي كُشف في الحفريات الألمانية في أبي صير الملق، والمحفوظ الآن بدار الآثار العربية؛ فإنه يرجع إلى القرن السابع، ولكنه ساساني الصناعة والزخارف.٢

ولا ريب أن صناعة أخرى لقيَتْ في العهد الطولوني رواجًا كبيرًا، ونقصد صناعة الأسلحة التي كانت لازمةً للجُند ولحرس الأمير، والتي كانت المصانع الحكومية تصنع جزءًا كبيرًا منها بالرغم من وجود صناعة أهلية زاهرة.

وقُصارى القول إننا إذا صدَّقنا المؤرخين العرب؛ فإنه من الصعب ألا نتصوَّر تقدُّمًا كبيرًا في صناعة المعادن في خلال العصر الطولوني، فضلًا عن أن دقة الصناعة وجمال المصنوعات في زمن الفاطميين يجعلنا نعتقد أنها كانت في ذلك الوقت ذات تقاليد ثابتة وماضٍ مجيد.

أمَّا النقود في مصر قبل العصر الطولوني فليس هناك شيء خاص يمكننا ذكره عنها، والمعروف أن الوُلاة كانوا يتخذون من الدراهم والدنانير٣ ما تتخذه العاصمة في بلاد العرب، وقد كانت الدولة الإسلامية في أول أمرها تستعمل النقود الساسانية والبيزنطية، وظل الحال على هذا المنوال حتى أوائل العصر الأموي حين بدأ الخلفاء في ضرب دنانير ذهبية إسلامية.٤
وفي المتاحف والمجموعات الأثرية بعض قطع من النقود الطولونية، وفي الرسالة التي كتبها المقريزي عن النقود أحاديث عن النقود الطولونية، بعضها أقرب إلى الخُرافة منه إلى الحقيقة التاريخية، وعلى كل حال فهو يؤكد أن دنانير ابن طولون كانت من الصفاء بحيث استُعمِلَتْ خاصةً للتذهيب.٥
ولا نظن أن صناعة الزجاج أُهملت في العصر الإسلامي؛ فإنه فضلًا عن عمل الأوزان الزجاجية٦ والخواتم والأختام التي كان يُطبَع بها على الأواني لبيان أحجامها المختلفة، كان المصريون لا يزالون محتفظين بأكثر ما عرفه أجدادهم من أسرار صناعة الزجاج.٧

على أن الظاهر أن المركز الرئيسي لهذه الصناعة أصبح بعد الفتح العربي مدينة الفسطاط، بعد أن كان قبله في الإسكندرية.

وقد عثرَتْ دار الآثار العربية في حفريَّاتها بأطلال الفسطاط على قطع من الزجاج القديم، سيأتي الكلام على أكثرها في الجزء الثاني من كتابنا هذا؛ لأن أقدمها يرجع إلى العصر الفاطمي.

وقد حصل متحف اللوفر في العام الماضي على قنينة عليها زخرفة طولونية ظاهرة تشبه كثيرًا الزخارف الطولونية المحفورة على الخشب، أو التي أشرنا إليها عند الكلام عن العمارة الطولونية وزخرفة المباني، كما أن في دار الآثار العربية بعض قطع عليها مثل هذه الزخارف الطولونية الظاهرة (انظر اللوحة رقم ٣٧).
وكذلك في متحف المتروبوليتان بنيويورك قنينتان قديمتان وُجدتا في سامرَّا٨ بين الزجاج الكثير الذي ظهر في حفائر الدكتور زرَّه والدكتور هرتزفلد.٩

•••

وهنا نصل إلى نهاية المرحلة في كلامنا عن فجر الفنون الإسلامية في مصر، وعن تطوُّرها حتى نهاية العصر الطولوني، وقد رأينا أن رجال الفنون والصناعات في القرنَين الأول والثاني بعد الهجرة كانوا من المصريين الوطنيين، سواء في ذلك مَن اعتنق منهم الإسلام ومَن ثبت على المسيحية،١٠ وقد واصلوا جميعًا السَّير على تقاليد الفن المصري التي كانت قد تطوَّرَتْ على مَرِّ العصور؛ حتى أصبحَتْ في العصر القبطي مزيجًا أثَّرت فيه الفنون البيزنطية والساسانية وغيرها أثرًا كبيرًا.

وكما عمل الوطنيون في الحياة الاجتماعية على مسالمة العرب الفاتحين وإرضائهم، فإن الصُّنَّاع منهم ما لبثوا أن بدأوا تطوُّرًا منتظمًا، كان أهم عوامله إرضاء المسلمين والتحبُّب إليهم، وإنتاج ما يوافق ميولهم وتعاليم ديانتهم. وتأثَّر المصريون بالشَّعْبَين الآخرَين اللذَين كان يتألف منهما العالم الإسلامي: أي بالإيرانيين وبالتُّرك، وأخذ هذا التأثير في الظهور شيئًا فشيئًا في الحياة الاجتماعية، وفي الفنون المختلفة على ضفاف النيل.

وكانت مصر في العصر الطولوني متأثرةً كل التأثير بالفن العراقي في مدينة سامرَّا التي كانت بدورها أكثر تأثُّرًا بالفُرس وبالتُّرك من أي عاصمة إسلامية أخرى.

بيد أنه عندما استولى الفاطميون على عرش مصر بعد ذلك بنحو ستين سنة ٩٦٩م، بدأ في الظهور على ضفاف النيل فن إسلامي فيه جمال، وفيه تقاليد مصرية وأساليب مختلفة ستكون موضوع دراستنا في الجزء الثاني من هذا الكتاب.

١  انظر: BUTLER: Islamic Pottery، ص٢٩. ودليل المتحف القبطي لمرقص سميكة باشا، ج١، ص٨٩.
٢  راجع: WAIT: L’éxposition persane de 1931، ص٦٣. وقارن: DIEZ: Die Kunst der Islamischen völker، ص٢٠١، شكل ٢٧٨.
٣  انظر مادتَي: «درهم»، و«دينار» في دائرة المعارف الإسلامية. وS. LANE.POOLE: Catalogue of Oriental Coins in The British Museum. وJ. STICKEL: Handbuch zur Morgen-ländischen Münzkunde. وJ. KARABACEK: Ucber mohammedanische Vicariatsmünzen und Kupferdrachmen، في Wiener Num. Zeitschr. سنة ١٨٦٩.
٤  راجع: MIGEON: Manuel، ج١، ص٣٩٩ وما بعدها.
٥  راجع: E. T. ROGERS: Coins of the Tuluni Dynasty (Numism. Orient. IV)، وLANE-POOLE: History، ص٦٧، ٧٣، ٧٥. وZAKY M. HASSAN: Les Tulunides، ص٢١٠ وما بعدها.
٦  راجع: FLINDERS PETRE: Glass Stamps & Weights (London 1926).
٧  راجع: BUTLER: ibid، ص٢٤ وما بعدها. و MIGEON: Manuel، ج٢، ص١١٧ وما بعدها.
٨  انظر: DIMAND: Handbook، ص١٨٥.
٩  راجع: LAMM: Das Glas von Samarra.
١٠  راجع: ما كتبَتْه الآنسة فان برشم في CRESWELL: Early Muslim Architecture، ص١٦٤-١٦٥. وانظر في الكتاب نفسه (ص٣٠) الإشارة إلى نظرية ابن خلدون في تأخُّر الفنون عند العرب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤