الفصل الأول

الفن الطولوني وسامرَّا

الفن الإسلامي فن مَلَكيٌّ بطبيعته، ونقصد بذلك أنه مَدين بكل شيء للسلطان؛ فالمثَّالون، والمصوِّرون، والمهندسون، وغيرهم من رجال الفن إنما كانوا يشتغلون إجابةً لطلبه، وتحقيقًا لرغبته، وإشباعًا لشهواته. ونحن إذ استثنينا السلطان فلن نجد للفنون الجميلة رُعاةً إلا من بلاطه وحاشيته، أو في الأُسَر القليلة التي تسكن العاصمة وتعتمد في معيشتها على السلطان وبيت ماله، ولسنا نقصد أن هذا الأمر مقصور على الفن الإسلامي؛ ولكنَّا نقول إنه أصبح فيه ظاهرة كبيرة يصحُّ معها أن تُنسَب المراحل المختلفة في التاريخ الإسلامي إلى الأُسرات الحاكمة، فيُقال: فن أُموي، وفن عباسي، وفن طولوني، وفن فاطمي … إلخ.

وإذن فليس غريبًا أن تظلَّ مصر قبل الطولونيين تابعةً للخلافة الإسلامية في الفن، كما كانت تتبعها في السياسة، وليس غريبًا أن تكون نشأة الفن الإسلامي في مصر وحياته فيها قبل العصر الطولوني يحيط بهما شيء من الغموض.

والفن الطولوني أول مرحلة واضحة جلِيَّة في تاريخ الفن الإسلامي بأرض الفراعنة، وسيَرَى القُرَّاء أنه لم يكن مستقِلًّا كل الاستقلال عن فن الخلافة العباسية في ذلك العهد، ولكنه — على تبعيَّته له واشتقاقه منه — كان منافسًا له، ولا غروَ؛ فقدِ استطاع بنو طولون أن يتَّخذوا لأنفسهم بلاطًا كبلاط الخليفة في سامرَّا وبغداد، إن لم يَفُقْهُ أُبَّهةً وعظمة، وأصبح البذخ والترف في مصر يربو على ما في العراق وبلاد العرب؛ حيث كانت ثورة الزنج والفتن الداخلية قد استنزفَتْ أموال الحكومة وجهودها.

والمصادر التاريخية والأدبية حافلة بذِكْر عظمة الطولونيين وتعضيدهم الفنون، يؤيِّد ذلك ما وصل إلينا من الأبنية والطُّرَف الأثرية.

وممَّا يُلاحظه علماء الآثار الإسلامية أن الفن الطولوني مُستقِل في التاريخ الفني لمصر، له صفاته ومميزاته، فإن كان الفن الفاطمي مُشبعًا بالتأثيرات الفارسية، والعوامل السورية والطولونية، مع اقتباسات قليلة عن فنون البربر في شمال أفريقيا؛ وإن كان فن المماليك قد احتفظ بذكريات فاطمية وسلجوقية ومغولية، مع بعض تأثيرات مغربية وأوروبية؛ فإن الفن الطولوني يكاد يكون قد أخذ كل أصوله عن الفن العراقي الذي ترعرع في سامرَّا عاصمة الخلافة العباسية.

وقد كان الفن الطولوني وعلاقته بسامرَّا موضع جدل ودرس طويلَين، وكتب فيه كثيرون من علماء الآثار والمستشرقين، نذكر منهم: كوربت CORBETT، وفان برشم VAN BERCHEM، وسلمون SALMON، وهرتز باشا HERZ PACHA، وسلادان SALADIN، وزرَّه SARRE، وهرتزفلد HERZFELD، وشتريجوفسكي STRZYGOWSKI، وفلوري FLURY، وكريزول CRESWELL، وعكوش، وهوتكير HAUTECOEUR، وفييت WIET.

•••

ويعزو الأستاذ فون لوكوك VON LE COQ التقدُّم الذي وصلَتْ إليه الفنون في مصر في عهد ابن طولون وبيبرس إلى أن «هذين التُّركيَّين لم يكونا من الهَمَج المتوحشين، بل كانا من القبائل الهندية الأوروبية (الآريَّة) التي غلبَتْ عليها الصبغة التُّركية، وورثا الفن السيتي الذي ازدهر في أواسط آسيا.»١ وهذا زعمٌ غير صحيح؛ فنحن نسلِّم بتأثير هذه القبائل التُّركية وفنونها على ما نسمِّيه الطراز الأول من زخارف سامرَّا التي سندرسها قريبًا، ولكنَّنا نظن أنه من غير المحتمل أن يدَّعي مثل ابن طولون وبيبرس وغيرهم من الأتراك والمماليك أنهم ورثوا عن بلادهم الصحراوية القاحلة فنونًا زاهرةً حضرية، كفنون مصر في عهد الطولونيين والمماليك، وفضلًا عن ذلك فقد عرف الفن الإسلامي في مصر في عهد الفاطميين (وهم ليسوا من الجنس الهندي الأوروبي الذي غلبَتْ عليه الصبغة التُّركية على حد قول فون لوكوك) تقدُّمًا وازدهارًا لا نظير لهما، بدليل ما وصل إلينا من الأبنية والتحف الأثرية، وما كتبه المقريزي عن كنوز الخليفة المستنصر بالله.

ومهما يكن من شيء فإن نظرة إلى مسجد أحمد بن طولون، وإلى المصادر التاريخية العربية تكفي لأن تقنعنا بأن الفن الطولوني مأخوذ عمَّا كان من فن في بلاد الجزيرة، وخاصةً في سامرَّا التي كانت عاصمة الإمبراطورية الإسلامية حين ظهر أحمد بن طولون على المسرح السياسي.

قضى أحمد بن طولون شبابه في سامرَّا التي كشفَتْ فيها حفائر الأستاذَين زرَّه SARRE، وهرتزفلد HERZFELD عن أنواع مدهشة من الأبنية والزخارف الفنية والتحف الأثرية، وظلَّت ذكرى هذه العاصمة العباسية باقيةً في ذهن ابن طولون الذي كان يحرص كلَّ الحرص على أن يرتقي ببلاطه وبعاصمته في مصر؛ حتى يكون منافسًا لعاصمة الخلافة وما فيها.

وإذ إننا سنضطر في كثير من الأحوال إلى الالتجاء إلى هذه العاصمة؛ لنتفهَّم أصول الزخارف الطولونية؛ فإنه يجدر بنا أن نبدأ بدراسة مُفصَّلة لتاريخها ولِما ازدهر فيها من فنون.

سامرَّا

أُسِّسَتْ على يد «أشناس»، أحد قُوَّاد الأتراك، بأمر الخليفة المعتصم سنة ٨٣٦، وظلَّت حينًا من الدهر عاصمة الإمبراطورية الإسلامية، فسكنها ثمانية خلفاء، هم: المعتصم؛ ثم ابناه: هارون الواثق، وجعفر المتوكل؛ ثم محمد المنتصر بن المتوكل، وبعده المستعين أحمد بن المعتصم، والمعتز أبو عبد الله بن المتوكل، والمهتدي محمد بن الواثق، والمعتمد أحمد بن المتوكل.

والسبب في بنائها: أن الخليفة المعتصم كان قد أكثر من شراء الجُند الأتراك، وكان من الصعب التوفيق بينهم وبين سكان بغداد، فكان هؤلاء الأتراك العجم — كما يقول اليعقوبي٢ — إذا ركبوا الدواب ركضوا، فيصدمون الناس يمينًا وشمالًا، فيثب عليهم الغوغاء فيقتلون بعضًا، ويضربون بعضًا، وتذهب دماؤهم هدرًا، فثقُلَ ذلك على المعتصم، وعزم على الخروج من بغداد.
ولعل الأستاذ الفرنسي فيوليه VIOLLET كان قد أخطأ قليلًا في فهم عبارة اليعقوبي؛ فكتب في مقالته عن سامرَّا بدائرة المعارف الإسلامية (جزء ٤ صحيفة ١٣٦): أن الخليفة كان مهدَّدًا في بغداد بفتن جنوده المرتزقة من التُّرك والبربر؛ فعمل على أن يتخذ لنفسه عاصمة يكون فيها أكثر أمنًا، وأقل عُرضة لهذا التهديد.

ولعل اسم سامرَّا مشتق من اللغة الإيرانية القديمة، بمعنى: المكان الذي تُدفع فيه الجزية، ومهما يكن من شيء فإن العرب يسمونها: «سُرَّ مَن رأى»، ويزعمون أن موضعها كان مدينة سام بن نوح.

وتقع مدينة سامرَّا على الضفة اليُمنى لنهر دجلة، على بُعد مائة كيلومتر شماليَّ بغداد، وترجع شهرتها إلى الأبنية العظيمة التي شيَّدها فيها المعتصم وخُلفاؤه. وقد حفظ لنا اليعقوبي وغيره من مؤرخي العرب أسماء عدد من هذه القصور الشاهقة، كالجوسَق: للخليفة المعتصم، والهاروني: للواثق؛ ثم عروس، وبلكوار، ومختار، ووحيد: للخليفة المتوكل الذي عزم قبل وفاته بنحو سنتين أن يبتني مدينة يتخذها عاصمة له وتُنسَب إليه؛ فشيَّد حاضرة جديدة شمالي سامرَّا، سُمِّيَتْ: الجعفرية،٣ وأقام في قصوره بها تسعة أشهر إلى أن قُتل، وخلفه المنتصر الذي انتقل إلى سامرَّا؛ فخربَتِ الجعفرية وقصورها. على أن سامرَّا نفسها لم تَعُدْ إليها عظمتها الأولى، وبالرغم من أن الخليفة المعتمد شيَّد في جانبها الشرقي قصر المعشوق، فقد تركها، وأرجع البلاط والحكومة إلى بغداد سنة ٨٨٣؛ فما لبثتْ أبنية سامرَّا أن سقطَتِ الواحد بعد الآخر، اللَّهم إلا المسجد الجامع، وأمَّا الآن فليست مدينة المعتصم إلا قرية صغيرة في منتصف الطريق بين بغداد وتكريت، وبجانبها آثار حفائر كانت تقوم بها البعثات الأوروبية قُبَيْل نشوب الحرب العظمى.

وقد ظلت سامرَّا منذ ألف سنة مزار الشيعة ومحل تعظيمهم؛ فهم يزعمون أن بجوار مسجدها الجامع قبر إمامهم الحادي عشر أبو محمد حسن العسكري الذي تُوفِّي في سامرَّا سنة ٨٧٤، والذي يُنسَبْ إلى أحد أحيائها المعروف باسم: عسكر سامرَّا؛ حيث كان الخليفة قد نقله ليأمن جانبه، وليكون تحت مراقبته. ويعتقد الشيعة أيضًا أن في سامرَّا السرداب الذي اختفى فيه إمامهم أبو القاسم محمد المهدي سنة ٨٧٨ وهم يزورون هذا السرداب معتقدين أن المهدي المذكور سيظهر منه في نهاية الأيام.

ولا يخفى ما للكشف عن أنقاض سامرَّا من أهمية في دراسة الفن الإسلامي؛ فإن المصادر التاريخية (ولا سيَّما ما كتبه اليعقوبي) ذكرت لنا كيف أحضر المعتصم أشهر الفنانين من أنحاء الإمبراطورية الإسلامية؛ ليجعل من عاصمته الجديدة أكبر منافس لبغداد، مدينة جدِّه المنصور، وواحدة من أكثر المدن ازدهارًا في التاريخ الإسلامي بأجمعه، وكيف أنه كتب في إرسال البَنَّائِين والفَعَلَة وأهل المهن من الحدَّادين والنجارين وسائر الصناعات، وفي حمل خشب الساج وغيره من أنواع الخشب وجذوع الأشجار من البصرة وبغداد وأنطاكية وسواحل الشام. واليعقوبي يخبرنا صراحةً أن المعتصم استقدم من كل بلد مَن يعمل عملًا من الأعمال، أو يعالج مهنةً من مهن العمارة، والزرع، والنخيل، والغُروس، وهندسة الماء ووزنه واستنباطه، والعلم بمواضعه من الأرض، وحمل من مصر مَن يعمل القراطيس وغيرها، وحمل من البصرة مَن يعمل الزجاج والخزف والحُصُر، وحمل من الكوفة مَن يعمل الخرق ومَن يعمل الأدهان، ومن سائر البلدان من أهل كل مهنة وصناعة.٤
وليس بغريب أن اهتمت الهيئات العلمية الأوروبية بالكشف عن آثار تلك العاصمة، وتوالَتْ للبحث فيها البعثات الأثرية، فبدأ بذلك الفرنسيَّان: الجنرال بيلييه DU BEYLIÉ، والمسيو فيوليه VIOLLET، ثم المس بل BELL الإنجليزية. ولكن الفضل كل الفضل يرجع إلى البعثة الألمانية، وعلى رأسها الأستاذان: الدكتور زرَّه SARRE، والدكتور هرتزفلد HERZFELD اللذان استطاعا دراسة الأنقاض الباقية، والوقوف على أهم الموضوعات الزخرفية والطُّرُز المعمارية فيها، كما يتبيَّن ذلك من تقاريرهما عن العمل، وفي المؤلَّفات التي كُتبَتْ بعنوان: «حفائر سامرَّا» Die Ausgrabungen von Samarra.
ولما كان ما وصل إلينا من الأبنية الطولونية في حالة جيدة من الحفظ إنما هو المسجد الجامع الذي شيَّده أحمد بن طولون؛ فإنه يهمنا على الأخص من آثار سامرَّا: المسجد الجامع الذي شيَّده الخليفة المتوكل بين عامَي ٨٤٦ و٨٥٢،٥ وهو مسجد ذو أَرْوِقة،٦ يشبه جامع ابن طولون من عدَّة وجوه، فعمارتهما غير متأثرة بالأبنية المسيحية السورية، كما تأثَّرَتْ قبة الصخرة والمسجد الأموي بدمشق، بل هي تشبه كثيرًا رسم الحرم النبوي في المدينة، سواء في ذلك كان هذا الحرم في عهد النبي مسجدًا، أو كان بيتًا خاصًّا له كما يرى المستشرق كيتاني CAETANI، والأستاذ كريزول CRESWELL.٧ ومسجد سامرَّا مكوَّن من مستطيل كبير ذي جدران مرتفعة من الآجُر، تتخلَّلها أبراج مستديرة،٨ وسوف نعرض للكلام عن أجزائه المختلفة حين ندرس المسجد الطولوني.
على أن عمارة الأبنية في سامرَّا تختلف كل الاختلاف عن عمارة الأبنية الأموية؛ فالحجر لا يكاد يظهر في سامرَّا، بل الآجُر هو المستعمل في كل شيء حتى في الدعائم أو الأَرْجُل Piliers وفي الزخارف الخارجية.

وقد كشفَتْ حفريات البعثة الألمانية أنقاض بعض القصور الملكية، وكثير من دُور الخاصة، وكلها تسود فيها الأوضاع والتقاليد المعمارية الإيرانية، ولا غرو فقد كان سقوط الدولة الأموية وانتقال العاصمة إلى بغداد إيذانًا بضعف التأثيرات البيزنطية والسورية في العمارة العربية، بل في الفن الإسلامي بأكمله، وغلبَتْ بعد ذلك التأثيرات الفارسية والأساليب المعمارية العراقية والساسانية.

وكانت الزخارف تلعب دورًا كبيرًا في قاعات الأبنية ورَدَهاتها بسامرَّا، ولا سيَّما في الأجزاء السفلية من الجدران؛ فقد كانت هذه مغطاة بطبقة من الجِصِّ عليها رسوم بارزة وأخرى محفورة بعناية كبيرة، ودقَّة متناهية، ولكن زخارفها هندسية أو نباتية؛ فالزخارف الخطية تكاد لا تظهر في سامرَّا، وكثيرًا ما كانت السقوف والطبقة الجِصِّية تغطيها صُوَر ملوَّنة.٩
ولهذه الزخارف الجِصِّية التي وُجدت في قصور سامرَّا وبيوتها أهمية كبرى في تاريخ الزخارف الإسلامية. أمَّا موضوعاتها فتتراوح بين رسوم بسيطة خالية من الفروع النباتية العربية Arabesques إلى موضوعات نباتية تقليدية جدًّا أغنى زينةً وأكثر عُمقًا في الجِصِّ، وقد تختلط الموضوعات الهندسية بالموضوعات النباتية، فنرى زهرة تقليدية تتوسَّط أشكالًا هندسية مُتَّصلًا بعضها ببعض بأشرطة أو بحبَّات تتقاطع أو تنثني، فتتخذ أشكالًا هندسية أخرى، أو تُكوِّن فروعًا نباتيةً عربية تُحيط برسوم دقيقة لأغصان وعناقيد من العنب.
وقد درس الأستاذان: الدكتور زرَّه SARRE، والدكتور هرتزفلد HERZFELD الزخارف المذكورة دراسة وافية، وقسَّماها إلى ثلاثة طُرُز بحسب خواصها، والمصدر الذي يظنان أنها ترجع إليه، على أن أكثر مؤرِّخي الفن الإسلامي يرَون أن العالِمَين الألمانيَّين المذكورَين قد بالغا بتقسيمهما هذا في الفروق بين الطُّرُز المختلفة، واتَّبعا طريقة تنقصها المرونة.١٠
ومهما يكن من شيء فإن أقدم هذه الزخارف الجِصِّية طراز فيه رسوم لعناقيد عنب وأوراقها، وهي ليست بعيدةً جدًّا عن العناقيد والأوراق الطبيعية، بالرغم من أن فيها شيئًا من التنسيق والتهذيب Stylisation. وتُذكِّرنا هذه الزخارف بتلك التي نراها في قصر المشتى MSHATTA١١ بشرق الأردن لما بينها من الشبه في الصناعة، ويُعتبر هذا النوع من زخارف سامرَّا الطراز الثالث في تقسيم الدكتور هرتزفلد، ويظهر أن مصدره إيران وبلاد المسيحية الشرقية، على أننا نجد في قصر الطوبة الذي يرجع تاريخه إلى أواخر العصر الأموي زخارف بينها وبين زخارف هذا الطراز الثالث شبه كبير.١٢

وأمَّا في الطراز الثاني فإن الزخارف التي شرحناها في الطراز الثالث تبعد عن الحقيقة الطبيعية، ويزداد فيها التهذيب والتنسيق حتى تصبح في الطراز الأول — وهو أحدثها جميعًا — زخارف قطوعها خطيَّة، وليس بينها وبين الحقيقة الطبيعية صلة تُذكر. وزخارف الطراز الأول مصبوبة في قالب، وليست محفورة في الجدران نفسها، كما هي الحال في زخارف الطرازَين الثاني والثالث.

ومن المعلوم أن تغطية الجدران بطبقة من الجِصِّ محفور فيها رسوم مختلفة؛ صناعةٌ زخرفيةٌ قديمة وُجدت عند البارثيين والساسانيين؛ ففي القسم الإسلامي من متاحف برلين، وفي متحف المتروبوليتان بنيويورك نقوش بارزة من الجِصِّ بها موضوعات هندسية ومراوح نخيلية Palmettes يمكن اعتبارها أصل الزخارف الجِصِّية في سامرَّا، أو خطوة أولى في سبيل تكوينها١٣ (اللوحة رقم ١).

وصفوة القول أننا نرى في زخارف هذه العاصمة العباسية تطوُّرًا طبيعيًّا إلى الموضوعات الزخرفية والمعنوية البعيدة عن الطبيعة، والتي يسودها التهذيب والتنسيق اللذان يمتاز بهما الفن الإسلامي.

ولسنا ننكر أن هذا التطوُّر قد أدَّى إلى صناعة وموضوعات زخرفية نجد مثلها في أواسط آسيا قبل تشييد سامرَّا، ونجد مثلها أيضًا في الهند والصين قبل هذا التاريخ، ولكنا لا نرى في ذلك ثورة زخرفية، أو نشأة زخارف عباسية متأثرة بأساليب أواسط آسيا كما يعتقد الأستاذ الدكتور كونل KÜHNEL الذي يقول بأن آخر تطوُّر لزخارف سامرَّا؛ إنما هو أكبر ظاهرة في حياتها كلها، فقد بلغ من الأهمية أن خلق ثورة زخرفيةً كاملة، وأسَّس طرازًا زخرفيًّا عباسيًّا فيه تأثير تركي كبير؛ لأن الروح التي تسود هذا الطراز الجديد هي تلك التي ورثتها القبائل الطورانية عن فنون قبائل السيت SCYTHES وأساليبها.١٤

فالواقع أننا لا نرى في زخارف سامرَّا هذا المقدار من أساليب الفن السيتيِّ، ولسنا نميل إلى أن نبالغ في أهمية الجُند التُّرك الذين أخذ الخلفاء العباسيون يستخدمونهم قبل تأسيس سامرَّا بنحو عشرين سنة؛ فقد كان الدور الذي لعبوه كبيرًا في السياسة والإدارة، أمَّا الناحية الفنية فلم تكن لهم ولم يكونوا لها، وكان الفُرس بماضيهم الفنيِّ المجيد أكثر استعدادًا منهم للتأثير في الفنون الإسلامية.

ومما نستطيع أن نسوقه للدلالة على صحة نظريتنا هذه: ما نلاحظه من عدم وجود طُرَف أثرية معدنية من القرن التاسع الهجري، يتبيَّن منها مثلًا أسلوب قبائل السيت في تصوير الحيوانات، متداخلًا بعضها في بعض بطريقة اختُصُّوا بها، وصارت من أهم مميزات فنونهم، ويوضِّحها ما كُشف من آثارهم في أواسط آسيا وجنوبيِّ روسيا.١٥
وعلى كل حال فقد يكون سهلًا أن يذهب المرء مذهب الأستاذ شتريجوفسكي STRZYGOWSKI، فيقرِّر أن العرب أخذوا عن الآريِّين وسُكان الطاي ALTAI فنونهم البدوية،١٦ ولكن ليس من اليسير تأييد مثل هذه النظريات بأدلة علمية قاطعة.١٧

هذا وقد عثر رجال البعثة الألمانية في أنقاض بعض البيوت في سامرَّا على بقايا صُوَر حائطية لم تكن — لسوء الحظ — باقيةً في أمكنتها الأصلية إلا فيما ندر، وكان أغلبها في حالة سيئة من التَّلف. وممَّا يلفت النظر أن أكثر هذه الصُّوَر لا يكوِّن مواضيع متصلًا بعضها ببعض كما في قُصَير عمرا؛ وإنما يشمل صوَرًا زخرفيةً لحيوانات وأشخاص في الصيد، أو لنساء يرقُصن.

ومن المعلوم أن الحيوانات في صوَر قُصير عمرا متأثرة بالأساليب الفارسية،١٨ بينما تتجلَّى التأثيرات البيزنطية في تقاطيع الوجوه وأوضاع الأشخاص. أمَّا في سامرَّا فإن الأساليب الفارسية تتغلَّب على غيرها، ويتبيَّن ذلك في التناسُب La symétrie الذي نراه في تصوير الأشخاص والزخارف، وفي الطريقة التي تُرسم بها ثنايا الملابس، هذا فضلًا عن أن المنسوجات التي تظهر صوَرها في سامرَّا كلها من منسوجات خوزستان، ومع ذلك كله فلسنا نذهب إلى نفي كل تأثير بيزنطي في صناعة تصاوير سامرَّا؛ فإن ياقوت الحموي يحدثنا أنه كان في قصر المختار الذي بناه المتوكل في سامرَّا صوَر عجيبة، من جملتها صورة بَيْعَة فيها رُهبان.١٩ وقد وجد الأستاذ هرتزفلد في أنقاض سامرَّا بعض إمضاءات إغريقية،٢٠ فيُحتمل أن يكون بين الفنانين الذين رسموا هذه الصُّوَر بعض النقَّاشين الإغريق.

على أن الفنانين من مسيحيِّ الطوائف الشرقية كان لهم بعض التأثير في صناعة الصُّوَر المذكورة، كما كان لهم الفضل الأكبر في النهضة بصناعة الصُّوَر المُصغَّرة في المخطوطات، وممَّا تجدُر ملاحظته أننا لا نرى في تصاوير سامرَّا أي أثر يُذكر لأساليب التصوير في أواسط آسيا.

وقد أثَّرَتْ صناعة التصوير في سامرَّا بدورها على التصوير عند الفاطميين في مصر، كما يتبيَّن ذلك من النقوش التي عثرت عليها دار الآثار العربية في شتاء سنة ١٩٣٣، بجهة أبي السعود في جنوبيِّ القاهرة، والتي يرجع عهدها إلى الفاطميين، وتتكوَّن من صوَر كانت على الجدران،٢١ وفي صناعتها تأثير ساساني واضح، يشهد بمبالغة الدكتور هرتزفلد حين يزعم أن تصاوير سامرَّا آخر ما يعطينا أيَّ فكرة عمَّا كانت عليه تلك الصناعة في عهد الساسانيين.٢٢
ولن يفوتنا قبل أن نختم هذا الفصل عن مدينة المعتصم أن نشير إلى ما كُشف في أنقاضها من خزف يشبه ما وجده المنقِّبون في الرَّيِّ ببلاد إيران، وفي الفسطاط وغيرها،٢٣ وسوف نعود إلى الكلام عليه حين نتحدث عن الفنون الفرعية.
١  انظر: Exploration archéologique à Tourfan في مجلة: Journal Asiatique عدد سبتمبر-أكتوبر سنة ١٩٠٩، ص٣٢٣-٣٢٤. قارن VON LE COQ: Buried Treasures of Chinese Turkestan ص٢٨. السيت SCYTHES: قبائل بدو من الجنس الهندي الأوروبي، سكنوا شمال غربيِّ آسيا، وشرقيَّ أوروبا بضعة قرون قبل الميلاد، وكان لهم فن تأثَّرتْ به فنون الأمم المحيطة بهم.
٢  راجع: كتاب البلدان لليعقوبي، ص٢٥٦ (المجلد السابع من المكتبة الجغرافية العربية Bibliotheca Geographorum Arabicorum)، ومعجم البلدان لياقوت الحموي، ج٣، ص١٤ وما بعدها (طبعة ليبزج).
٣  راجع كتاب ELSE REITEMEYER: Die Städtegründung der Araber، ص٦٦.
٤  راجع: كتاب البلدان لليعقوبي، ص٢٦٤ (المجلد السابع من المكتبة الجغرافية العربية Bibliotheca Geographorum Arabicorum).
٥  انظر الحديث عن هذا المسجد في المؤلَّفات المختلفة التي نشرها عن سامرَّا الأستاذان: الدكتور زرَّة SARRE، والدكتور هرتزفلد HERZFELD، وخاصةً كتابهما: «رحلة أركيولوجية في إقليم الدجلة والفُرات» Archäologische Reise im Euphrat-und-Tigris-Gebiet، ص٦٩ وما بعدها، و٨٧ وما بعدها من الجزء الأول. وانظر أيضًا: SCHWARZ: Die Abbassiden-Residenz Samarra، ص٣١، وLE STRANGE: The Lands of the Eastern. Caliphate، ص٥٣ و٥٦. وE. DIEZ: Die Kunst der islamischen Völker، ص٤١.
٦  انظر أنواع المساجد المختلفة في المادة «مسجد» بدائرة المعارف الإسلامية، جزء ٣، ص٣٤٢ وما بعدها من النسخة الفرنسية. وراجع أيضًا: HAUTECOEUR ET WIET: Les Mosquées du Caire، ص٢٠٢-٢٠٣.
٧  راجع: CRESWELL: Early Muslim Architecture، جزء ١، ص٢ وما بعدها.
٨  ذكر الأستاذ محمود أحمد في البيان التاريخي الذي كتبه عن الجامع الطولوني (ص١١ و١٢) في مناسبة الرحلة الثانية من رحلات حضرات أصحاب السموِّ المَلَكي الأمير فاروق، والأميرتَين فائزة وفوزية لزيارة المساجد الأثرية؛ أن المقارنة بين جامع المتوكل بسامرَّا وبين جامع ابن طولون بالقطائع أقصر جدًّا ممَّا صوَّره لنا المؤرِّخون والأثريُّون، وعلَّل ذلك بأن تخطيط الجامع الطولوني لا ينطوي على مظاهر تسترعي النظر؛ لأنه ليس إلا تهذيبًا للتخطيط الأول للمسجد النبوي. وسيرى القارئ أن لنا في هذا الموضوع رأيًا آخر.
٩  انظر: HERZFELD: Die Malereien von Samarra، وراجع: MICEON: Manuel d’art musulman، جزء ١، ص١٠٨، وKÜHNEL: Die Islamiche Kunst، ص٣٥٩، وكتاب «التصوير عند الفُرس» للدكتور زكي محمد حسن.
١٠  قارن: G. MICEON: Manuel d’art musulman، ج١، ص٢٣٥.
١١  راجع مقالة دائرة المعارف الإسلامية في هذا الموضوع (جزء ٣، ص٦٥٣ وما بعدها من النسخة الفرنسية)، والفصل الذي عقده الأستاذ كريزول CRESWELL للكلام عليه في كتابه: Early Muslim Architecture، وراجع أيضًا الرسالة التي أصدرها القسم الإسلامي من متاحف برلين.
١٢  انظر كريزول: CRESWELL: Early Muslim Architecture، لوحة C79.
١٣  انظر: MIGEON: MANUEL، جزء ١، ص٢٣٢، و DIMAND: Handbook of Mohammedan Decorative Arts، ص٧٩.
١٤  راجع: KÜHNEL: Die Islamiche Kunst، ص٣٩٥.
١٥  راجع: BOROVKA: Scythian Art؛ وP. PELLIOT: Quelques Réflexions sur L’Art Sibérien et L’Art Chinois à Propos des la Collection David-Weill، في العدد الأول (أبريل سنة ١٩٢٩) من مجلة Documents.
١٦  راجع: STRZYGOWSKI: Die Bildende Kunst des Ostens، ص٢٤.
١٧  قارن: BRIGGS: Muhammadan Architecture in Egypt، ص١٧٧.
١٨  قارن: DALTON: Treasure of the Oxus, p. LXII، وقارن أيضًا: BINYON, WILKINSON & GRAY: Persian Miniature Painting، ص٢٠.
١٩  راجع: ياقوت: معجم البلدان، جزء ٤، ص٤٤٠.
٢٠  انظر: HERZFELD: Die Malereien von Samarra، ص٩٦، ٩٩. وقارن: ARNOLD: Painting in Islam، ص٣١.
٢١  انظر اللوحة ٥٢ واللوحة ٥٣ من ألبوم معرض الفن الفارسي الذي عُقد بالقاهرة سنة ١٩٣٥، وانظر اللوحة رقم١ من كتاب: التصوير عند الفُرس، للدكتور زكي محمد حسن.
٢٢  انظر: HERZFELD: Die Malereien von Samarra، ص١٠٧.
٢٣  راجع: F. SARRE: Die Keramik von Samarra.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤