الفصل الثالث

العمارة الحربية والمدنية

كانت العاصمة التي شيَّدها أحمد بن طولون قصيرة الأجل، وكانت انتصار الجُند العراقية بقيادة محمد بن سليمان إيذانًا بسقوطها بعد أن استباحوها، وألقوا النار فيها، فما لبثَتْ أن تهدَّمَتْ أبنيتُها ولم يبقَ منها إلا المسجد الجامع.

ونذكر في هذه المناسبة ما يذهب إليه بعض العلماء من المبالغة في أهمية تغيير العواصم عند الشرقيين، مُفسِّرين بعوامل سياسية وسحرية ما تشعر به الأسرات المَلَكِية والأمراء من رغبة في هجر العواصم والقصور القديمة، وابتناء غيرها لإقامتهم.١ والواقع أن تغيير العواصم هذا ليس كثير الوقوع جدًّا في الشرق، وفضلًا عن ذلك فإنه مُشاهَد أيضًا في الغرب قبل القرن التاسع عشر.
على أن هناك بناءً آخر من العصر الطولوني لا يزال جزء منه قائمًا حتى اليوم، يؤيد ما نقله إلينا مؤرِّخو العرب عن تقدُّم فن العمارة عند الطولونيين، ذلك البناء هو: قناطر ابن طولون التي إذا استثنيناها لا يبقى لدينا من وثائق لدراسة العمارة المدنية والحربية في عهد الأسرة الطولونية، إلا ما كتبه المؤرِّخون ومؤلِّفو الخُطَط، ولا سيَّما المقريزي الذي نقل ما تركه الذين سبقوه من مؤلفي كتب الخطط: كالكِندي،٢ وابن زولاق، والقُضاعي، وابن دقماق.

فنحن والحالة هذه مضطرون إلى الاكتفاء بدراسة تكاد كلها تكون نظريةً لتخطيط مدينة القطائع، ثم لأهم المؤسسات العامة التي شيَّدها ابن طولون، وهي: البيمارستان، والقناطر.

مدينة القطائع٣

إن تأسيس هذه العاصمة وتطوُّرها يُذكِّران تمامًا بتأسيس سامرَّا وتاريخها، فإن كان الخليفة المعتصم قد شيَّد سامرَّا فرارًا من الفوضى التي كان يُسببها جنوده وحُراسه في بغداد؛ فإن ابن طولون فطِنَ إلى هذا الخطر وعمل على درئه بتشييد ضاحية جديدة بالفسطاط، اتخذها حاضرةً لمُلْكِه، كما اتخذها خلفاؤه من بعده.٤

وأكبر الظن أن هناك أسبابًا أخرى دعت ابن طولون إلى تشييد ضاحيته الجديدة، من ذلك غرامِه بالعظمة والأُبَّهة، ورغبته في منافسة بلاط الخليفة العباسي.

ومهما يكن من شيء فإن مدينة الفسطاط كانت مقرَّ أمراء مصر منذ اختطَّها عمرو بن العاص إلى أن قدِمَت جيوش العباسيين في طلب مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية حين فرَّ إلى مصر سنة ٧٥٠ م/١٣٢ﻫ، فعسكَرَتْ هذه الجيوش في الصحراء بظاهر الفسطاط؛ إمَّا لرغبة في نوع من التجديد، أو لاضطرار إليه بسبب حريق يُقال إن مروان بن محمد أضرم نارها في الفسطاط.٥ وما لبثَتِ المساكن أن تجمَّعت حول الجُند أو حول دار الإمارة، وهي الدار التي بناها قائدهم صالح بن علي؛ لتكون مقرَّ الحكومة. وفي سنة ٧٨٥ م/١٩٦ﻫ بنى الفضل بن صالح جامعًا، وتمَّ بذلك تخطيط الضاحية الجديدة التي عُرفت: بالعسكر، والتي كانت تمتد في ذلك الوقت على شاطئ النيل قبل أن تنحسر مياهه عن المُرتفَع المُشيَّد عليه جامع عمرو، وتبتعد عنه تدريجيًّا نحو خمسمائة متر.٦ ولم يكن القوم في ذلك الوقت يَعدُّون العسكر جزءًا من الفسطاط، بل كانوا يعتبرونها مدينةً قائمةً بذاتها، كما اعتبروا القطائع بعد ذلك.٧

وظل أمراء مصر من قِبَل الخلفاء العباسيين ينزلون دار الإمارة بالعسكر، حتى قَدِمها أحمد بن طولون؛ فأقام فيها مدة، غير أنه كان لا مفرَّ له من التحوُّل عنها، فإن كثرة أتباعه وحاشيته وعِظَم البلاط الملكي الذي كان ينوي أن يتخذه ليفاخر به الخليفة نفسه، كل ذلك دعاه إلى أن يبني حاضرةً تليق به.

بحث الأمير إذن عن مقر جديد لمُلْكه، ووقع اختياره على المكان الواقع في سفح جبل يَشكُر، فأمر بحرث ما فيه من قبور اليهود والنصارى، واختطَّ موضعها عاصمته الجديدة إلى الشرق من العسكر، والشمال الشرقي من الفسطاط؛ حيث يوجد الآن: قرة ميدان، والمنشية، وميدان صلاح الدين.

وكانت العاصمة الجديدة مثل سامرَّا، فيها قَطِيعة لكل طائفة من طوائف السكان، أقطعهم الأمير إياها حين قسَّم الخُطط بين جُنده ورجاله ومَن احتاجوا إليهم من صُنَّاع أو تُجَّار، فصارت كل قَطِيعة منها تضم من السكان مَن تجمعهم رابطة الجنسية أو رابطة العمل، وأصبح اسم القطائع عَلَمًا على مدينة ابن طولون، بيد أنه كان معروفًا كل المعرفة في سامرَّا؛ حيث كان يُطلَق على أحياء العامة، أو بالأحرى على المدينة كلها، اللهم إلا القصور الملكية.

وكانت كل قَطِيعة تُعرف باسم مَن سكنها، فكانت هناك قَطِيعة الروم، وقَطِيعة السودان، وقَطِيعة البزَّازين، وقَطِيعة الجزارين … إلخ، وقد نقل إلينا بعض مؤرِّخي العرب — ولا سيَّما مَن كتب منهم في الخُطط — أحاديث أخرى تؤيِّد الصِّلة بين عمارة مدينتَي القطائع وسامرَّا.

وإن كانت القصور الطولونية قد خربت وعفت آثارها؛ فإن أكبر الظن أن مهندسيها نحَوا في بنائها نحوَ قصور الخلفاء في سامرَّا، كما فعل أيضًا المهندسون الذين بنَوا في أفريقية مدينة العباسية عاصمة بني الأغلب.٨

وكان لقصر أحمد بن طولون عدة أبواب كبيرة، لكل باب منها اسم يدل أحيانًا على الجهة التي يؤدي إليها، أو على نوع الخدم الذين اختصوا به، وكان هذا كله متبعًا في قصور سامرَّا.

أمَّا أهم أبواب القصر الطولوني: فباب الميدان؛ ومنه كان يمر الجُند. وباب الخاصة؛ للمقرَّبين من الأمير. وباب الصوالجة؛ يؤدِّي إلى الميدان الذي جُعل لهذا الضَّرب من الرياضة. وباب الحرم؛ ولا يدخل منه إلا امرأة أو خادم خَصِيٌّ. وباب الصلاة؛ يوصِّل إلى جامع ابن طولون. وباب الجبل؛ تُشرِف عليه تلال المقطم. وباب الساج؛ نسبةً إلى الخشب الذي اتُّخذ منه. وباب دعناج، وباب الدرمون؛ نسبةً إلى حاجبَين كانا يجلسان عندهما. وباب السباع؛ نسبةً إلى سبعَين كبيرَين من الجِبس كانا على جانبيه.٩
وقلَّد ابن طولون سامرَّا فيما اتَّخذه لقصره من ميدان كبير للعب الصوالجة.١٠ وجاء بعده ابنه: خمارويه، فأخذ عن تلك العاصمة العراقية حدائقها الغَنَّاء؛ إذ زرع أنواع الرياحين، وأصناف الشجر، وأحضر كل صنف من الشجر المُطعَّم العجيب، وغرس فيه الزهور، ثم بنى برجًا من خشب الساج المنقوش اتخذه ليقوم مقام الأقفاص، وبلَّط أرضه، وجعل فيه جداول يجري فيها الماء المُدبِر من السواقي، وسرَّح فيه أصناف الطيور ذات الأصوات الجميلة.
وشيَّد خمارويه في بستانه هذا بيتًا سماه: بيت الذهب،١١ ويحدثنا المقريزي عن جدرانه أنها كانت مطلية بطبقة من الذهب، فيها نقوش اللازورد، كما بنى في قصره الكبير قُبَّة سماها الدكة، وجعل لها الستر الذي يقي الحرَّ والبرد، فيُسدَل ويُرفَع حسب الحاجة، وكان خمارويه يُكثر من الجلوس في هذه القُبَّة ليُشرف منها على جميع ما في داره، وعلى البستان والصحراء والنيل والجبل وجميع المدينة.
ويذكر المقريزي أيضًا أن خمارويه جعل بين يدَي قصره الكبير حوضًا (فسقيَّة) ملأه زئبقًا، ويُذكرنا ذلك بالحوض الذي كان يُزيِّن قاعة الاستقبال في قصر الخليفة بمدينة الزهراء.١٢ ويزعمون أن السبب الذي حدا بالأمير إلى عمل هذا الحوض أنه كان مُصابًا بالأرق، فأشاروا عليه بالتكبيس، ولكنه أَنِف من ذلك قائلًا: لا أستسيغ أن يضع أحد يدَيه على بدني، فأمره الطبيب بأن يتخذ هذه البِركة، وطولها خمسون ذراعًا في مثلها عرضًا، وملأها من الزئبق، وجعل في أركانها سِككًا من فضة في زنانير من حرير في حِلَق من فضة، وعمل فرشًا من أَدَم يُحشى بالرِّيح حتى ينتفخ، فيُحكَم حينئذٍ شدُّه، ويُلقى على تلك البركة الزئبق، ويُشَّد بالزنانير الحرير التي في حِلَق الفضة، وينزل خمارويه فينام على هذا الفراش، فلا يزال الفراش يرتَّج ويتحرك بحركة الزئبق ما دام عليه، وكان يُرى لهذه البركة في الليل المقمرة منظر عجيب؛ إذا تآلف نور القمر بنور الزئبق.
ولسنا نعرف تمامًا المصدر الذي أتى منه خمارويه بالزئبق لبِركته هذه، ولكن أكبر الظن أنه أتى به من بلاد فارس التي أمدَّته أيضًا بكثير من أنواع الشجر.١٣
ومع أننا لا نشك في أن المقريزي قد بالغ في الوصف الذي نقله إلينا كل المبالغة، وأغرق فيه أيَّما إغراق؛ فإننا لا نستطيع أن نشك في صحته إطلاقًا، لا سيَّما والمعروف أن العامة كانوا يعثرون في موضع البركة بعد خرابها على بقايا الزئبق الذي كان يملؤها.١٤

ومهما يكن من شيء فإن ضاحية القطائع لم تبقَ طويلًا مقرَّ الأمير وحشمه ورجال حكومته فحسب، بل ما لبث أن اتَّسع نطاقها، وزادت عمارتها، وأصبحَتْ مدينةً كبيرةً زاهرة، وأُنشئَتْ فيها المساجد الجميلة والحمامات، والأفران، والطواحين، والشوارع، والحوانيت، وغير ذلك مما يصفه لنا المؤرِّخون وأصحاب كتب الخُطط.

أمَّا العمارة المدنية الخاصة في العصر الطولوني، فإن آثارها تكاد تكون قد عَفَت كلها، ولم يبقَ لنا شيء للاستدلال به على بعض قواعدها وأصولها، اللهم إلا أطلال منزل طولوني عُثِر عليه أثناء أعمال الكشف والتنقيب التي قامَتْ بها دار الآثار العربية في صيف سنة ١٩٣٢ بالتلال المجاورة لأبي السعود.١٥

وقد كشفت حفائر دار الآثار عن جدران جزء من دار كبيرة بالآجُر، وعليها زخارف من الجِصِّ على النحو المُتَّبع في سامرَّا، وفي الجامع الطولوني، وفي اعتقادنا أن هذه الزخارف كانت تغطي الأجزاء السفلية من الجدران، وليست الجدران كلها من أسفلها إلى آخر ارتفاعها كما زعم بعض الكُتَّاب.

ومهما يكن من شيء فإن ما بين هذه الزخارف الجِصِّية وبين زخارف سامرَّا من قرابة واضح جَلِيٌّ، ولسنا نذهب إلى أن زخارف البيت الطولوني مطابقة تمامًا لأي زخرفة من الزخارف التي وجدها الأستاذ هرتزفلد HERZFELD في سامرَّا، ودرسها في كتابه: Der Wandschmuek der Bauten von Samarra und seine Ornamentik، ولكن لا يستطيع أحد أن ينكر أنها كلها من أسرة الزخارف التي اصطُلح على تسميتها زخارف الطراز الأول من سامرَّا.

هذا وقد كان أولَ ما كُشِف من جدران هذه الدار الطولونية حائطٌ تعلو زخارفه الجِصِّية كتابة كوفية بارزة، نصُّها الشهادتان، مما يدل على أنه كان جدار محراب، وعلى كل حال فإن الشبه بينه وبين محراب في الجامع الطولوني لا يدع مجالًا للشك في صحة هذا الاستنتاج، وفي نسبة الدار إلى العصر الطولوني، ويؤيد ذلك سائر الزخارف.

وقد وُجدت في أنقاض هذا البيت الطولوني قطع من الجِصِّ عليها زخارف بارزة، تُذكِّرنا بأخرى في الأجزاء العلوية من جدران دير السرياني بوادي النطرون، الذي ستأتي الإشارة إلى زخارفه.١٦ أمَّا رسم البيت الطولوني فتسود فيه أيضًا التقاليد العراقية، أو بالأحرى: الساسانية التي اتخذها مهندسو العراق، ولا سيَّما في سامرَّا عاصمة الخلافة، وليست متنزَّه الخلفاء العباسيين كما كتب أحد الزملاء!١٧ والتي أخذها عنهم كثير من الأقاليم الإسلامية الأخرى. ويتلخَّص هذا النظام في قاعة طولها أكبر من عرضها، ويكتنفها من جانبَيها حجرتان، فيتخذ المجموع شكل T في اللغات الأوروبية.١٨ ويُزين الفناء المكشوف فسقيَّة تغذيها مياه تجري في أنابيب من الفخار، على النحو المتَّبع في أكثر البيوت التي كشفها في أطلال مدينة الفسطاط المرحوم علي بك بهجت.١٩
على أن هذا النظام قديم كما ذكرنا، عرفه الفُرس في عهد الأسرة الساسانية، وظهر في قصر شيرين٢٠ آخر الأبنية العظيمة التي تمت في عهدها، والذي شيَّده في العراق العجمي كِسرى برويز إمبراطور إيران بين سنتَي ٥٩٠ و٦٢٨. ثم ظهر النظام نفسه في قصر الأُخيضر٢١ الذي بناه العباسيون في القرن الثامن، ثم في قصور سامرَّا، وانتقل منها إلى مصر، ومن هذه إلى شمال أفريقيا حيث اتخذه البربر الخوارج Sedrata.٢٢

ويجدر بنا قبل أن نختم الكلام على البيت الطولوني أن نشير إلى أنه تبادر إلى الأذهان حين الاكتشاف أن هذه الأطلال ربما كانت أنقاض دار الإمارة، ولكن لا يستطيع أحد أن يجزم بصحة ذلك، نظرًا إلى أن مساحة البيت صغيرة لا تليق بدار للحكم، وإن كان ما فيه من زخارف جِصِّية يرجِّح أن يكون صاحبه من ذوي الجاه واليسار.

وأمَّا العمارة الحربية في العصر الطولوني؛ فإنه لم يبقَ من آثارها ما نستطيع به دراسة النُّظُم التي اتبعها أحمد بن طولون وابنه خمارويه في تحصين القطائع والفسطاط وغيرها من المدن التي كانت مُعرَّضة لأن تكون ميدانًا للقتال، بيد أننا نعلم أن ابن طولون لم يُرد أن يجعل القطائع مركزًا لمقاومة الجُند الذين قاموا من العراق لإخضاعه، بل اتخذ في جزيرة الروضة حصنًا، رأى أن يجعله معقلًا لماله وحرمه، إذا أفلح موسى بن بغا وجنوده في دخول مصر.

وقد أشار محمد بن داود٢٣ إلى ذلك في إحدى قصائده التي يهجو فيها ابن طولون، فقال:
بنى الجزيرة حصنًا يُستجنُّ به
بالعسف والضرب والصُّنَّاع في تعب
له مراكب فوق النيل راكدة
فما سوى القار للنُّظَّار والخشب
يرى عليها لباس الذُّل مذ بُنيَت
بالشطِّ ممنوعةً من عزة الطلب
فما بناها لغزو الروم محتسبًا
لكن بناها غداةَ الرَّوع للهرب٢٤
ولسنا نريد أن ننتقل إلى الكلام عن زخرفة الطولونيين قبل أن نتحدث قليلًا عن الأبنية التي شيَّدوها للمنفعة العامة، فإن مثل هذا الحديث لازم إذا أردنا أن نحيط بمبلغ تقدُّم العمارة في عهد أي أسرة من الأسرات المَلَكِية في الإسلام؛ وذلك لأن الاهتمام بتشييد هذه الأبنية لم يكن عامًّا بين الأمراء، فضلًا عن أن من الأبنية المذكورة ما كان تحفةً فنيةً تستحق الإعجاب.٢٥

قناطر ابن طولون

شيَّد ابن طولون في الجهة الجنوبية الشرقية من القطائع قناطر للمياه، لا تزال بعض عقودها قائمة، وكان الماء يسير في عيونها إلى القطائع. وقد جرى المؤرِّخون وكُتَّاب الخُطط على سُنَّتهم في نسج الأساطير والنوادر، فزعم القضاعي والمقريزي وغيرهما أن السبب في بناء هذه القناطر: أن ابن طولون خرج ذات يوم ومعه بعض حَشَمه وعسكره، ثم تقدَّمهم، فمرَّ وقد كَدَّه العطش بموضع فيه مسجد صغير اسمه: مسجد الأقدام، وكان في المسجد خيَّاط، فقال: يا خيَّاط، أعندك ماء؟ فقال: نعم، فأخرج له كوزًا فيه ماء، وقال: اشرب ولا تمدَّ (يعني: لا تشرب كثيرًا)، فتبسَّم أحمد بن طولون، وشرب فمدَّ فيه حتى شرب أكثره، ثم ناوله إياه وقال: يا فتى، سقيتنا وقلت: لا تمدَّ؟ فقال: نعم، أعزَّك الله؛ موضعنا هذا منقطع، وإنما أخيط جمعتي حتى أجمع ثمن راوية، فقال له: والماء عندكم ههنا معوز؟ فقال: نعم. فمضى أحمد بن طولون، فلما وصل إلى داره قال: جيئوني بخيَّاط في مسجد الأقدام. فسُرعان ما جاءوا به، وقال له الأمير: سِرْ مع المهندسين حتى يخطُّوا عندك موضع سقاية ويُجروا الماء، وهذه ألف دينار خُذها. وابتدأ في الإنفاق، وأجرى على الخياط في كل شهر عشرة دنانير، وقال له: بشِّرني ساعة يجري الماء فيها، فجدُّوا في العمل، فلما جرى الماء أتاه مبشِّرًا؛ فخلع عليه، واشترى له دارًا يسكنها. وكان قد أُشير على الأمير بأن يُجري الماء من عين أبي خُلَيد، فقال: هذه العين لا تُعرف أبدًا إلا باسم أبي خليد، وإني أريد أن استنبط بئرًا؛ فعدل عن العين إلى الشرق، فاستنبط بئره وبنى عليها القناطر، وأجرى الماء إلى الحوض الذي بقُرب درب سالم.٢٦

والظاهر أن بناء هذه القناطر تطلَّب مجهودًا كبيرًا، وأنها كانت من المتانة والإبداع بمكانٍ كبير، ولا غرابة أن أشار إليها سعيد القاص في عدَّة أبيات من قصيدته التي رثى بها الدولة الطولونية، ومن هذه الأبيات قوله:

بناء لو انَّ الجن جاءت بمثله
لقيل لقد جاءَتْ بمستفظعٍ نَكِر٢٧

وروى المقريزي أيضًا أن أسرة المادرائيين الشهيرة عملت على إنشاء مثل هذه القناطر، وأنفق أفرادها الأموال الكثيرة في سبيل ذلك دون أن يصلوا إلى تحقيقه.

وقناطر ابن طولون مبنية بآجُر يماثل في الشكل والحجم آجُر الجامع الطولوني، وأمَّا عقودها فستِّينيَّة أيضًا كما يظهر، بالرغم مما عُمل فيها من إصلاحات متأخرة.

والمعروف أن الذي تولَّى لابن طولون بناء هذه العيون هو المهندس النصراني الذي شيَّد له بعد ذلك المسجد الجامع، ويروي المقريزي أن هذا المهندس كان قد رأى في اليوم السابق لافتتاح هذه العيون موضعًا يحتاج إلى قصرية جير وأربع طوبات، فبادر إلى عمل ذلك، وفي اليوم التالي أقبل أحمد بن طولون يفتتح القناطر، فأعجبه كل شيء، ثم أقبل إلى الموضع الذي فيه قصرية الجير، وحدث أن غاصَتْ يد الفرس في الجير لرطوبته، فكبا بابن طولون، وظن هذا أن المهندس دبَّر له مكروهًا؛ فأمر به فشُقَّ عنه ما عليه من الثياب، وضربه خمسمائة سوط، وأمر به إلى المطبق حيث بقي إلى أن بلغه حديث الجامع، وعرض على الأمير أن يبنيه له بلا عُمُد إلا عمودَي القبلة.

وهذه القناطر التي شيَّدها ابن طولون تذكِّرنا بما عمله في أفريقية أمراء بني الأغلب من عيون ومجارٍ تُحضر الماء إلى مدينة القيروان من المرتفعات المحيطة بها.٢٨

البيمارستان

أمَّا المستشفى الذي شيَّده ابن طولون؛ فلم يصل إلينا منه شيء، كما أن مَن تكلموا عنه من المؤلفين لم يتعرضوا لرسمه أو تخطيطه، فهم يكتفون بإخبارنا أن أوَّل من أسَّس دور المرضى في الإسلام هو الخليفة الوليد بن عبد الملك، وأن ابن طولون شيَّد مارستانًا في العسكر، (وليس المقصود هنا بالمارستان أن يكون وقفًا على المصابين بالأمراض العقلية) وأنه شرط ألا يعالج فيه جندي ولا مملوك، وأنه عمل حمَّامَين للمارستان، أحدهما للرجال، والآخر للنساء، وشرط أنه إذا جيء بالعليل تُنزَع ثيابه ونفقته، وتُحفَظ عند أمين المارستان، ثم يُلبَس ثياب المستشفى، ويبدأ في علاجه حتى يبرأ، فإذا أكل فَرُّوجًا ورغيفًا أُمِر بالانصراف وأُعطِي ماله وثيابه.

وكان ابن طولون نفسه يركب في كل يوم جمعة، ويتفقَّد خزائن المارستان وما فيها، والأطباء والمرضى، فقال له مجنون مرة إنه يشتهي رُمَّانة، فأمر له بها، ولكن المجنون غافَلَه ورمى بها في صدره؛ فأمرهم ابن طولون أن يحتفظوا به، وأقلع عن زيارة المارستان.٢٩
هذا وقد روى المؤرخون أن ابن طولون حبس على مسجده الجامع وقناطره ومارستانه دخْل بعض الأبنية، ولعلَّ ذلك بدْء نظام الوقف٣٠ الذي نعرف أهميته في الحياة الاجتماعية للإسلام، وفي ازدهار فنونه أو انحطاطها حسب ما يتوفر من المال للإنفاق عليها.
١  قارن: G. MARÇAIS: Manuel، ج١، ص٤٠.
٢  انظر: مقال الأستاذ فييت G. WIET عن العلاقة بين الكِندي والمقريزي، في مجلة المجمع الفرنسي للآثار الشرقية Bulletin de I’Institut Français. d’Archéologie Orientale، عدد ١٢ سنة ١٩١٦.
٣  راجع: الانتصار لابن دقماق، ج٤، ص١٢١ وما بعدها. وخطط المقريزي: ج١، ص٣١٤ وما بعدها.
٤  قارن تأسيس العباسية عاصمة بني الأغلب في G. MARÇAIS: Manuel، ج١، ص٩، ١٦، ٤٠، ٤١.
٥  راجع: SEVERUS d’Hshmunain, ed. Evetts (Patrol. Orient. Tome V, fasc.I)، ص١٦٨، ودائرة المعارف الإسلامية، صحيفة ٨٣٧ بالجزء الأول من النسخة الفرنسية.
٦  راجع: الانتصار لابن دقماق. والخطط الجديدة لعلي باشا مبارك. وSALMON: Etude sur la topographie du Caire في الجزء السابع من Mémoire p.p les membres de I’Inst. franç. d’Arch. Orient. au Caire.
٧  انظر: خطط المقريزي، ج١، ص٣٠٤.
٨  راجع: G. MARÇAIS: Manuel، ج١، ص٤١. وKÜHNEL: Die Islamische Kunst ص٣٩٢.
٩  خطط المقريزي: ج١، ص٣١٥.
١٠  قارن: Schwarz: Die Abbassidische Residenz Samarra، ص٢٢. وL. MERCIER La chasse et les sports chez les Arabes، ص١٨١ وما بعدها. والخطط التوفيقية لعلي باشا مبارك ج١٢، ص٢١ وما بعدها.
١١  قارن: LE STRANGE: The Lands of The Eastern Caliphate، ص٢٨٤–٤١٨. وS. LANE-POOLE: The Art of the Saracens، ص٦ و٧.
١٢  قارن: H. TERRASSE: L’art hispano-mauresque، ص١٠٢.
١٣  قارن: LE STRANGE: ibid، ص١٠٢.
١٤  راجع: LANE-POOLE: History of Egypt in the Middle Ages، ص٧٥. و SALMON: topographie du Caire، ص٨.
١٥  انظر النماذج المحفوظة بدار الآثار العربية من الزخارف الجِصِّية التي عُثر عليها في أطلال هذا البيت.
١٦  راجع مقال الأستاذ FLURY، في مجلة: der Islam، صحيفة ٧١ وما بعدها من الجزء السادس.
١٧  انظر عدد مايو سنة ١٩٣٣ من مجلة الهلال، ص٩١٤، سطر٢٠.
١٨  قارن ما كتبه الأستاذ: G. MARÇAIS في Nouvelle histoire universelle de l’art (publ. par MARCEL AURERT)، ج٢، ص٣١١–٣١٣.
١٩  راجع كتاب حفريات الفسطاط لعلي بك بهجت، والمسيو ألبير جبرييل.
٢٠  راجع: G. L. BELL: Ukhaidir، ص٤٤-٤٥.
٢١  انظر: BELL: ibid، ص١٦٨، و BELL: Amurath to Amurath، ص٢٤٠.
٢٢  راجع: G. MARÇAIS: Manuel، ص٨، ٩، ٨٢، ٨٣.
٢٣  راجع: ZAKY M. HASSAN: Les Tulunides، ص٢٧٠.
٢٤  انظر: كتاب الوُلاة والقُضاة للكندي، ص٢١٨-٢١٩.
٢٥  قارن: G. MARÇAIS: Manuel، ج١، ص٥١.
٢٦  خطط المقريزي: ج٢، ص٤٥٧.
٢٧  خطط المقريزي: ج٢، ص٤٥٨. وكتاب الوُلاة والقُضاة للكندي، ص٢٥٥.
٢٨  راجع: G. MARÇAIS: Manuel، ج١، ص٥٢ و٥٣.
٢٩  راجع: خطط المقريزي، ج٢، ص٤٠٥. وكتاب الوُلاة والقضاة للكندي، ص٢١٦. والانتصار لابن دقماق، ج٤، ص٩٩. وAHMAD ISSA BEY: Histoire des Bimaristans à l’époque islamique، ص٣٢-٣٣.
٣٠  راجع: A. SÉKALY: Le problème des wakfs en Egypte، ومادة وقف Wakf في دائرة المعارف الإسلامية وما يشير إليه كاتبها من مراجع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤