الفصل الأول
المنسوجات١
كانت صناعة النسج زاهرة بمصر في عهد الفراعنة،
٢ ثم تقدَّمَتْ في العصر القبطي تقدُّمًا كبيرًا متأثرةً في الوقت نفسه
بتيارَين من المؤثرات البيزنطية والساسانية.
٣ أمَّا في العصر الإسلامي فإننا نلاحظ في صناعة المنسوجات وزخرفتها تطوُّرًا
منتظمًا غير فجائي، فبدئ في الاستغناء شيئًا فشيئًا عن الرسوم الآدمية والحيوانية التي
كانت في الفن القبطي، وقويَ الميل إلى الزخارف الهندسية، وبدأت الكتابة تلعبُ دورًا
هامًا في صناعة المنسوجات.
والمعروف أنه كان للنسج في مصر صناعة أهلية عليها رقابة حكومية، وسوف يأتي الكلام
على
هذه الصناعة، ولكن كانت هناك فوق ذلك مصانع حكومية تُسمَّى: طراز، ووجودها منذ العصر
العباسي تؤيِّده القطع التي وصلت إلينا من مصنوعاتها، والظاهر أنه كان هناك نوعان من
هذه
المصانع الحكومية؛ الأول: طراز الخاصة، وكان لا يشتغل إلا للخليفة ورجال بلاطه وخاصته.
والثاني: طراز العامة، وكان يتبع أيضًا بيت مال الحكومة، ولكنه كان يشتغل لحساب بلاط
الخليفة وأفراد الشعب.
ولفظ طراز مشتق من الفارسية: «ترازيدن» و«تراز»: بمعنى التطريز وعمل المُدبَّج broderie، ثم أصبح يدل على ملابس الخليفة، أو الأمير،
أو السلطان ورجال الحاشية، لا سيَّما إذا كان فيها شيء من التطريز، وعليها أشرطة من
الكتابة، واتسع مدلول هذا اللفظ حتى انتهى في العربية والفارسية بالدلالة على المصنع
والمكان الذي تُصنَع فيه مثل هذه المنسوجات، كما استُعمِل في أشياء أخرى ليس هنا مجال
شرحها.
ولسنا نعرف تمامًا أين نشأ احتكار الحكومات صناعة النسج، ولا أين بدأ نظام الطراز
على
النحو الذي نعرفه في الفنون الإسلامية، فبعض العلماء يظنه إيراني الأصل، ويظنه الآخرون
بابليًّا آشوريًّا، ويجزم فريق ثالث بأنه نشأ في بيزنطة.
٤
ومهما يكن من شيء فقد عرفت مصر الفرعونية إلى حدٍّ ما هذا الاحتكار لصناعة النسج؛
إذ
كان هناك مصنع مُلحق بكل معبد، وقد كانت منتجات هذه المصانع مشهورة في الشرق الأدنى
كله، وكانت تَدِرُّ على المعابد أرباحًا وافرة، كان الفراعنة يستولون على جزء منها، ويحتفظ
الكهنة بما يتبقى.
٥
وعلى كل حال فإن نظام الطراز لم يبقَ وقفًا على مصر؛ إذ إننا نكاد نجده في كل
الأقاليم الإسلامية: كسورية، والعراق، وإيران، وآسيا الصغرى، وإسبانيا، وجزيرة
صقلِّية.
وكان طراز الخاصة يشتغل بعمل المنسوجات للخليفة وكبار رجال الدولة، ولسنا نجهل العادة
الشرقية القديمة التي كان يتخذها الملوك في الخلع على رجال حاشيتهم وغيرهم من أفراد
الرعيَّة، وقد نَمَتْ هذه العادة في الدول الإسلامية، فكان الخلفاء والأمراء يُظهرون
رضاهم عن أفراد الرعية بما يخلعونه عليهم من حُلَل الشرف.
وفضلًا عن ذلك فقد كان الخلفاء والأمراء يتبارَون في إرسال الكسوة السنوية إلى الكعبة
من المنسوجات النفيسة التي كانت تُصنَّع عادةً في طراز الخاصة بمصر.
فليس غريبًا إذن أن عني الخلفاء والأمراء بكتابة أسمائهم على هذه الأقمشة النفيسة،
وقد كانت الكتابة على النسيج بلُحْمَة من الذهب أو الفضة أو الخطوط المتعددة الألوان،
وكان
الغرض من هذه الكتابات على الأقمشة الملكية بيان الأمير الذي عُملَتْ باسمه، أو الشخص
الذي خُلعَتْ عليه؛ إظهارًا لرضاء الأمير، أو علامة على تولِّي إحدى الوظائف الكبرى في
الدولة.
وقد كانت الكتابات على الطراز تشمل اسم الخليفة، وألقابه، وبعض عبارات الأدعية،
وكثيرًا ما كان يُذكَر فيها اسم المدينة التي فيها الطراز، واسم الوزير، وصاحب الخراج،
وناظر الطراز.
وفي مجموعة الأقمشة النفيسة بدار الآثار العربية قطعة من النسيج وُجدت في الفسطاط
باسم: الخليفة الأمين، وعليها الكتابة الآتية:
بسم الله، بركة من الله، لعبد الله الأمين محمد أمير المؤمنين، أطال الله
بقاءه، ممَّا أمر بصنعته في طراز العامة بمصر، على يد الفضل بن الربيع، مولى أمير
المؤمنين (انظر اللوحة رقم
٢٢).
وتظهر الكتابة على المنسوجات في القرن الثامن، ففي دار الآثار العربية قطعة من
الكتَّان الأبيض (انظر اللوحة رقم
٢١) تشبه كثيرًا الأقمشة
القبطية، وعليها شريط من زخارف به جامات فيها طيور تقليدية، ومنسوج على هذه القطعة
بالخط الكوفي البسيط سطر بالحرير الأحمر نَصُّه: «هذه العمامة لسمويل بن موسى، عُملَتْ
في
شهر رجب من الشهور المحمدية، من سنة ثمانٍ وثمانين». كما أن في متحف فيكتوريا وألبرت
قطعةً عليها: «مرون أمير المو…» وفي اعتقادنا أن المقصود هنا: مروان بن محمد، آخر خلفاء
بني أمية.
٦
وتشمل مجموعة دار الآثار العربية عددًا من قطع النسيج بأسماء الخلفاء العباسيين
والأمراء الطولونيين، والمعروف أن الجزية التي كانت ترسلها مصر إلى بلاط الخليفة
العباسي، ثم الهدايا التي أرسلها أحمد بن طولون إلى الخليفة المعتمد، والتي أرسلها
خمارويه من بعده إلى الخليفة المعتضد كان فيها شيء كثير من الأقمشة الثمينة والمنسوجات
النفيسة.
٧ ومن هذه القطع واحدة باسم الخليفة المعتمد، تاريخها سنة ٢٨٧ﻫ/٨٩١م، وتشبه
كل الشَّبَه قطعة أخرى باسم المعتمد أيضًا، وجدتها البعثة الألمانية في سامرَّا، وهي
محفوظة الآن بالقسم الإسلامي من متاحف برلين.
٨
وقد أحصى الأستاذ فييت ما نعرفه في المتاحف والمجموعات الأثرية من قطع المنسوجات
التي
عليها أسماء الخلفاء العباسيين، فوجد أن هناك واحدةً باسم هارون الرشيد، وواحدةً باسم
الأمين، واثنتَين باسم المأمون، وواحدةً باسم الواثق، واثنتَين باسم المتوكل، واثنتَين
باسم
المستعين، وواحدةً باسم المهتدي، وتسع عشرة قطعةً باسم المعتمد، وإحدى وعشرين للمعتضد،
وخمس عشرة للمكتفي … إلخ.
٩
وفي دار الآثار العربية قطعة باسم الخليفة المكتفي بالله، والأمير الطولوني هارون
بن خمارويه، تاريخها سنة ٢٩١ﻫ/٩٠٤م، وهي السنة السابقة لسقوط الدولة الطولونية، وهناك
قطعتان من السنة عينها: الأولى في مجموعة تانو
TANO،
١٠ والثانية في مجموعة تريفون
كلمكريان
TRIFON KALAMKRIYAN.
١١
أمَّا الصناعة الأهلية فكانت تسير جنبًا إلى جنب مع الطراز الحكومي، وكانت عليها رقابة
شديدة، وضرائب فادحة، وكانت الأقمشة تُختَم بالخاتم الرسمي، والتُّجار تُعيِّنهم الحكومة،
وكان عليهم تقييد ما يبيعونه في سجلات رسمية.
وكان حزم الأقمشة وربطها وشحنها يقوم به عمال حكوميون، ويتناول كل منهم ضريبةً معينة.
١٢
وقد لوحظ أن المراكز الرئيسية لصناعة النسج في مصر كانت في أكثر الأحيان الجهات التي
يكثُر فيها السكان الأقباط.
على أن النساجين القبط احتفظوا في العصر الإسلامي بكثير من الموضوعات الزخرفية
الساسانية التي وصلَتْ إليهم عن طريق بيزنطة، مثل الدوائر المتماسَّة، والحيوانات
المتقابلة، أو التي يولي كل منها ظهره للآخر، وبينهما شجرة الحياة الإيرانية
المقدَّسة.
وكانت في صناعة النسج بمصر مرحلة انتقال بين العصر القبطي البحت والعصر الإسلامي
البحت، ترى فيها زخارف من طيور متقابلة، وجامات بَيْضِية الشكل فيها حيوانات صغيرة أو
طيور.
١٣
وفي العصر الطولوني كانت التقاليد الزخرفية القديمة والقبطية لا تزال تسود صناعة
النسج، على أن هناك بعض قطع من النسيج عليها زخارف طولونية أو عراقية ظاهرة، على النحو
الذي درسناه في الكلام عن زخرفة المباني، أو الذي سندرسه عند دراسة الحفر على الخشب،
وفي دار الآثار العربية قطع عديدة أغلبها سميك ومنسوج فيه رسوم طولونية المسحة.
١٤
وقد كتب الدكتور كونل
KÜHNEL عن قطعتَين طولونيَّتَين
محفوظتَين بالقسم الإسلامي من متاحف برلين، في الأولى زخرفة من نوع الطراز الأول من
زخارف سامرَّا (طراز
C, D)، وتُذكِّرنا بالزخارف الجِصِّية
في المنزل الطولوني الذي كُشف في حفريات دار الآثار العربية،
١٥ وليست هذه القطعة في حالة جيدة من الحفظ؛ فإن زخرفتها قد سقطَتْ في بعض
أجزائها، ولكن من حُسن الحظ أن في متحف ليبزج قطعةً أخرى من القماش نفسه، زخرفتها أحسن
حفظًا، وأكثر ظهورًا.
وأمَّا القطعة الأخرى التي نشرها الدكتور كونل KÜHNEL
فزخرفتها غير ظاهر فيها المسحة الطولونية.
ولنذكر في هذه المناسبة أن الدكتور كونل يشك في أن المصانع المصرية اشتغلَتْ قبل
عصر
المماليك بنسج حريرٍ صافٍ، ويعتقد أن الحرير لم يلعب الدور الكبير إلا في عصر المماليك
أنفسهم.
١٦
Ob reine Seidenstoffe in dersclben periode
(abbasside-fatimide) in den ägyptischen ateliers überhaupt hergestelt
wurden, muss noch sehr fraglieh bleiben, Jedenfalls besitzen wir dafür kein
sicheres Dokument Erst in der Mamlukenzeil spielen sie ihre entseheidende
Rolle in der Textilindnstrie des islamischen Ägypten.
وكان القطن والكتَّان يُنسجان في البلاد المصرية المختلفة، ولا سيَّما في الدلتا بتنيس،
والإسكندرية، وشطا، ودمياط، ودبيق، والفرما، كما اشتُهرتْ أيضًا بنسيجهما مدينة
البهنسا.
أمَّا الأقمشة الحريرية فكانت تُصنع في الإسكندرية وفي دبيق،
١٧ وكانت هناك أيضًا مصانع للنسج في مدينتَي أخميم وأسيوط اللتَين كانتا
مركزَين هامَّين لصناعة النسج في العصر القبطي، وكانتا تُصدِّران إلى بيزنطة وإلى بابوات
روما كثيرًا من الأقمشة النفيسة، التي كان يوهب جزء كبير منها إلى الكنائس المسيحية.
١٨
ومهما يكن من شيء فإن فن النسج لم يطبع في مصر بطابع إسلامي ظاهر إلا ابتداءً من
العصر الفاطمي (٩٦٩–١١٧١). وكان العرب منذ الفتح يميلون إلى العناصر الهندسية والنباتية
في زخرفتهم، ولم يكن من الصعب إرضاؤهم في مصر وسورية؛ حيث غلبَتِ الثقافة الهللنستية
والتقاليد البيزنطية التي لم تكن الزخرفة الحيوانية شائعةً فيها شيوعها في فارس.
وعلى كل حال فإن في المتاحف الكبيرة والمجموعات الأثرية في مصر وفي البلدان الأجنبية
قطعًا عديدة، ترجع زخرفتها إلى عصر الانتقال من الطراز القبطي إلى الطراز الفاطمي،
ويصعُب في بعض الأحيان تمييزها من القطع القبطية، بينما يندر وجود القطع التي عليها
زخارف طولونية بحتة، تجعل من اليقين نسبتها إلى العصر الطولوني.