مبدأ السفر

إني كنت قد عزمت على السفر إلى بلاد اليابان من مدة، وكان العزم على الارتحال إليها في الوقت المناسب لذلك قبل هطلان الأمطار بها، وكان هذا يستدعي أن يكون السفر إليها في أول شهر مايو، ولكن لما حصلت الحوادث التي حصلت بإسلامبول كان ذلك باعثًا على التأخير، ولم نتمكن من السفر إلا في أول شهر أبريل، فنزلنا من الإسكندرية متوكلين على الله تعالى، وركبنا متن البحر في الباخرة النمساوية المسماة (الليد)، فأخذت تشق بنا عباب البحر، حتى وصلنا بحفظ الله تعالى وحسن رعايته إلى (تيريستا) بعد ثلاثة أيام ونصف يوم، ومنها قد ركبنا وابور البر ليلًا. ولم نزل سائرين حتى وصلنا صباحًا إلى (فينا) عاصمة النمسا، وقد مكثنا بها يومين لأجل أخذ التذاكر اللازمة لنا، والتوصية على حفظ أماكننا بواسطة شركة كوك، وبعد إقامتنا مدة هذين اليومين، وحصولنا على الغرض المقصود من الإقامة بها، قد برحناها ليلًا متوجهين إلى بلاد الروسيا، وبعد مضي يوم وليلتين من سفرنا هذا قد وصلنا إلى مدينة (موسكو)، وكان ذلك قبل قيام (الترنسيبريان) وابور سكة الحديد السبيري.

ولم نرد أن نتكلم على هذه الطريق لكونها معروفة بين الأنام، مطروقة للخاص والعام، وقد جعلنا مبدأ الكلام في رحلتنا هذه من بعد الوصول إلى موسكو ببلاد الروسيا. وفي الساعة العاشرة الإفرنجية ليلًا قد حملت عربة الفندق أمتعتنا إلى (أركتسك) بموسكو، التي بينها وبين الفندق عشرون دقيقة بالعربة، وقد توجهنا إليها بعد ذلك أيضًا، وكانت هذه الليلة ممطرة مطرًا شديدًا، ولما وصلنا إلى المحطة وجدناها في غاية من الازدحام، ووجدنا الترجمان الذي كان ملازمًا لنا بموسكو في انتظارنا، وبمجرد وصولنا إلى القاطرة توجهنا سريعًا لتفقد أماكننا التي وصينا عليها؛ لنعلم إن كانت محفوظة لنا أم لا، فرأينا أن خدام القطار لكثرة أسئلة الناس لهم، وشدة اشتغالهم بأعمالهم مع الازدحام الكثير لا يكادون يتمالكون الرد على أحد من السائلين، فلما رأيت ذلك اضطررت للتكلم مع ناظر المحطة وشاب تابع لشركة عربات النوم، فأجابا إلى ذلك بكل أدب واحترام، ولطف وابتسام، وساعدانا على ذلك فاهتدينا إليها بدون أدنى تعب ولا مشقة، بعدما كانت بعدت علينا في معرفتها الشقة، ووجدنا أن عربات النوم الموجودة بهذا القطار كسائر عربات النوم التابعة لهذه الشركة بأوروبا، ولا تفترق عنها إلَّا بالاستضاءة بالأنوار الكهربائية، فإن في عربة منها بطريات كهربائية تضيء سائر العربات، وفي كل عربة خادم كالعادة، لكنه يحسن التكلم مع الركاب باللغة الفرنسية والإنجليزية والألمانية، وقد تحرك القطار من هذه المحطة الساعة الحادية عشرة ونصفًا على حساب ساعة (سمترسبرغ) الموافقة للساعة الثانية عشرة ببلاد المسكوف، وحيث إن هذا هو المبدأ الحقيقي للسفر الطويل الذي قد عزمنا عليه، فقد توكلنا عليه تعالى، والتجأنا إليه أن يلحظنا بعين عنايته، ويكلأنا بالليل والنهار بحسن رعايته، ويمدنا بروح منه حتى نقوى على تحمل مشاق السفر ونأمن من غوائل الخطر.

ثم لما كانت عادتي أن أنام في أوائل الليل؛ توجهت إلى المحل الذي أُعِدَّ لي، ودخلته ونمت فيه طالبًا من الله أن يحرسني بعينه التي لا تنام، متيمنًا بقوله : «باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه …» وقضيت ليلتي هذه بحمد الله على أحسن حال، وأجمل مثال. ولما أصبح الصباح توجهت إلى المحل المعد للماء فلم أجد به ماء، فاضطرتني الحالة للبحث عنه، ولم أزل كذلك حتى اهتديت إليه، وأجريت ما هو لازم من وضوء وغسل، ولبست ملابسي وصليت، ثم توجهت إلى عربة الأكل، فوجدتها كسائر عربات الأكل المعروفة، ممتعًا النظر برؤية المزارع المجاورة للسكة الحديدية يمينًا وشمالًا، فوجدتها أحسن من المزارع التي رأيتها بقرب موسكو بكثير، وكان يلوح لي أن الزرَّاع رجال يحبون العمل، ولا يميلون إلى البطالة والكسل، وهم يتولون أمر زراعتهم بأنفسهم، ولا يشركون معهم نساءهم في أمرها أو يتركونها لهن كما هو شأن كثير من الجهات، وأن الأراضي بهذه الجهة مستوية صالحة للزراعة، جيدة التربة، خالية من الغابات والمستنقعات، فضلًا عن كون الأشغال العملية تكسبها قوة وتزيدها استعدادًا، ثم إني أخبرت أن الوابور به ثمانون سائحًا مختلفو الأجناس، وأغلبهم قاصد الصين أو اليابان، وكان بالقطار أحد المفتشين، فلما أخبر بعدم وجود الماء ببعض محاله، نبَّه على إصلاح مواسير المياه حتى صار الماء موجودًا بجميع مواضعه، فسررت بذلك؛ حيث إن وجود الماء قريبًا منا يسهل لنا تناوله بدون مشقة في جميع الاحتياجات التي تدعو إليه.

وبعد الظهر من هذا اليوم قد تقابلنا مع الوابور (الترنس سبريان) القادم من الصين واليابان إلى (السويد) بمحطة صغيرة، وصار اليابانيون الذين معنا فرحين بمقابلة أبناء جنسهم، وأخذوا يتبادلون التحية والتسليم، والتعظيم والتكريم، وبعد ذلك قد وصلنا إلى محطة جميلة البنيان، مشيدة الأركان، تسمى: (بنزا) وبقي الوابور سائرًا بنا بقية اليوم في أرض مستوية، والمزارع الكثيرة النضرة، والمراعي الجميلة الخضرة تحف السكة الحديدية من جهتيها، حتى كأن الوابور سائر في رياض زاهرة، ومروج باهرة.

وعند غروب الشمس قد وصل بنا القطار إلى أرض كثيرة الغابات الطبيعية، وبتنا ليلتنا هذه في صحة تامة، وراحة عامة. ولما أصبح الصباح أصبحت السماء مُصْحِيَةً، والهواء في غاية الاعتدال.

وفي الساعة الثامنة صباحًا قد تقابلنا بقطار مهاجري المسكوف الذين يهاجرون إلى (سبريا)، بعد أوان ذوبان الثلج ودخول الوقت الذي تكون أرضها فيه صالحة للزراعة الصيفية، وإن الحكومة الروسية تبذل غاية جهدها في مساعدة أمثال هؤلاء المهاجرين لأجل استعمار هذه الأراضي الواسعة الأنحاء، البعيدة الأرجاء؛ حتى يتسع بها العمران، وتكون عونًا لها في مستقبل الزمان، وهكذا جرت عادة جميع الممالك الراقية تسعى في اتساع العمران، ومساعدة بني الأوطان؛ حتى تصل إلى أعلى درجات التقدم والحضارة، وتكون جديرة بالعظمة والإمارة.

وفي الساعة الحادية عشرة قبل ظهر ذلك اليوم قد مررنا على مراعٍ واسعة جرت العادة أن يكون في مثلها كثير من أنواع الماشية، ولكن لم يكن فيها سوى الخيل.

وقبيل الساعة الثانية عشرة قد وصلنا إلى محطة (ياكوبووا)، ولما وصلنا إليها رأينا بهذه البلدة جامعين إسلاميين، وهذان الجامعان يدلان دلالة واضحة على أننا قد دخلنا بلاد التتار، ولم يمض على ذلك مدة إلا وقد رأينا كثيرًا منهم فتحققنا ذلك، وسررنا سرورًا كثيرًا لما رأينا أراضيهم مشغولة بالزراعة، ومخدومة خدمة جيدة تدل على أن لهم دراية وعناية بالزراعة، وأن عندهم نشاطًا ومحبة للعمل، وكراهة للتقاعد والكسل، وقبل غروب الشمس قد وصلنا إلى (أوفة)، وهي بلدة كبيرة موضوعة على تل مرتفع، وتحت هذا التل نهر متفرع من نهر (أورال)، وللوصول إليها قد اضطرتنا الحالة إلى المرور على كوبري كبير، وبعد المرور عليه قد وجدنا معامل كثيرة ومصانع شتى مكتوبًا عليها أسماؤها بحروف عربية، وكان الوقوف في هذه المحطة نصف ساعة، وفي أثنائها قد اشترينا أوراق بريد عليها مناظر جميلة.

ووقت الغروب كان المنظر جميلًا جدًّا يحار في وصفه الكتاب، ويدهش من حسنه الألباب، ويا حبذا لو وجد شاعر ماهر، ووصف تلك المناظر؛ وذلك لأن البحر قد حصل فيه مد حتى دخل فيه كثير من الأشجار والأعشاب التي كان لظلها شكل على الماء في غاية من حسن الرواء، وانعكاس احمرار الشفق وزرقة السحاب يكسبان لون البحر طلاوة، ويزيدانه بهجة وحلاوة، فكان ذلك المنظر من أحسن ما يشرح الخاطر، ويقربه الناظر، وبجوار هذه البلاد غابات كثيرة ومروج شهيرة.

وقبل زوال الشفق ودخول الظلام قد رأيت لأول مرة إبلًا من إبلهم، فوجدتها لا تختلف عن الإبل العربية إلا بطول وَبَرِها، وكونها ذات سنامين، وقد عوَّدوا هذه الإبل على جر عربات الحمل المثقلة، ولا يحملون على ظهورها كالعادة العربية، والذي سهل لهم هذا هو اعتدال الطرق واستواؤها بخلافها في بلاد العرب؛ لكثرة صخورها وتلالها ونجودها ووهادها؛ ولذلك امتن الله بها فقال: وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنفُسِ، وهذه الجهات فيها بلاد كثيرة، وقرى متقاربة؛ ولذلك تكثر فيها السكان في كل مكان، وفي هذه البلاد مساجد كثيرة أيضًا تشبه مساجد تركية؛ غير أن الجزء الأعلى من مناراتها مصنوع من النحاس المطليِّ بالذهب، وينتهي من أعلاه بهلال كذلك؛ ولذلك يُرى بريقها من مسافة شاسعة.

وفي هذا اليوم قد مررنا على جملة قطارات مملوءة من المهاجرين إلى سبريا.

وفي اليوم التالي لذلك اليوم قد استمر الهواء معتدلًا، وبقيت السماء مصحية، وغاية الأمر أن البرد قد اشتد قبيل الفجر، ولكن بمجرد طلوع الشمس صار الهواء في غاية الاعتدال، وكسيت المناظر أبهى حلل الجمال، وصار القطار يمر بنا مر السحاب، وكم مررنا على مناظر جميلة تدهش بحسنها الألباب. وفي أثناء سيرنا كنا نمر أيضًا على بلاد كثيرة بوسط غابات غزيرة، وهي موضوعة فوق تلال مرتفعة، وأَكَمات مجتمعة تسر النفس من حسن رؤيتها، وتبهج القلب بجميل بهجتها، وهذه البلاد تشبه بلاد سويسرا لما كسيته من حلل الجمال الطبيعية، والحالة البديعة الوضعية، إلا أنه يظهر عليها أنها وإن كانت في الصيف متمتعة بجودة الهواء، وعذوبة الماء، ونضرة الأشجار، وأرج الأزهار، فإنها لا بد وأن تكون في الشتاء كثيرة البرد والثلج، صعبة المعيشة، ويكون أهلها في غاية من الضنك والضيق، لا يملكون ما يقوم بضرورياتهم ويكفي لاحتياجاتهم. وبعد الظهر قد مررنا على بلاد في أرض مستوية، وبها بعض مستنقعات ومزارع كثيرة، وسرنا بجوارها مدة كبيرة، وقد مررنا على كثير من المحطات الصغيرة، ورأينا جملة قطارات تحمل كثيرًا من المهاجرين.

وهؤلاء المهاجرون وإن كانت حالتهم يظهر عليها الفقر والفاقة إلَّا أنهم لا يكترثون بما هم فيه، بل يظهرون الفرح والسرور، والبشر والحبور، ويظهر ذلك من ملاعبتهم لأولادهم، وملاطفتهم لنسائهم، وفضلًا عن ذلك فإنك تراهم عند وقوف القطار في أي محطة مشغولين باللهو والطرب.

وفي الساعة العاشرة صباحًا وصلنا إلى محطة (صليابس)، وقد مر بنا قطار كبير مملوء بالمهاجرين، وكان معهم حرس من العساكر؛ لأجل الحفظ ومنع ما عساه أن يقع منهم، وقد أردت أن آخذ صورهم فأُخْبِرت أن ذلك ممنوع ببلاد سبريا.

وفي الساعة السادسة بعد الظهر من ذلك اليوم قد وصلنا إلى (جورجان)، وهي بلدة كبيرة لكنها أصغر من أوفا، وهي واقعة في أرض مستوية ليس بها غابات ولا تلال.

وفي اليوم التالي لذلك اليوم وصلنا إلى (أومسك)، وكان ذلك اليوم شديد البرد، وقد انضم لقطارنا بهذه المحطة عربة صالون لخدمة دولة الغراندوق (قونستانتان)، وكان معه جنرالان وأميرالاي، وجملة من الضباط المستخدمين بحكومة سبيريا الذين كانوا يلازمونه لآخر مراكزهم، وكانت المحطة مزدحمة ازدحامًا كثيرًا، وقد وافق ذلك اليوم يوم الأحد الذي يتفرغ فيه الناس من أعمالهم ويستعدون للتنزه والتفسح، وبوصولنا إلى هذه المحطة وجدنا العساكر قد أحاطوا بالقطار من كل جانب؛ للمحافظة ومنع الناس عن كثرة الازدحام تجاه القطار مخافة حصول أيِّ أمر كان، وكانت عساكر (الجندرمة) في غاية من حسن الهيئة وتمام النظام، ولما رأى ذلك دولة الغراندوق نزل من القطار، وتمشى على رصيف المحطة مظهرًا السرور والبشاشة للوافدين، وقابلهم بكل احترام وهو قويُّ الشبه للعائلة الملوكية الروسية، طويل القامة، نحيف الجسم، طويل الأنف كسائر عائلة رومانوف، ثم ركب القطار، وسرنا بعد أن حيَّتْه الجماهير بالتحيَّة اللائقة به، والدعاء ببقائه، وكنا نمر في هذا اليوم على بلاد قليلة السكان وأغلب أراضيها مستنقعات على قدر مد البصر، وفيها كثير من الطيور المائية المغرِّدة التي تُطرب المسامع، وتُشجي بحسن صوتها السامع.

وبعد ظهر ذلك اليوم قد ابتدأ ظهور الغابات الكبيرة، ولكنها متأثرة من شدة البرد، وفي أراضي هذه الجهة أيضًا كثير من الأعشاب الطبيعية، التي لا تُمَكِّن أهلَها من الزراعة مع وجودها، ولكثرتها لا يمكنهم تنقيتها منها؛ ولذلك يحرقونها لأجل خلو الأرض منها، وجعلها صالحة للزراعة، وأهالي هذه الجهة يلبسون على رءوسهم قبعات من الفرو، إلا أنهم يجعلونها كبيرة جدًّا لتقيهم من شدة البرد.

وعند الغروب قد وصلنا إلى (نيكولا يفسك)، وهي بلدة كبيرة موضوعة على شاطئ نهر كأغلب بلاد سبريا، وهذا النهر واسع يشبه في سعته نهر النيل بجوار قصر النيل، وفيه كثير من المراكب الشراعية والبواخر البحرية، وقبل الوصول إليها قد مررنا على كوبري موصل لها، ولما وصلنا إليها رأينا كثيرًا من المستخدمين، وأعاظم طبقات الناس في انتظار الغراندوق، والكل يظهر عليه علامات الفرح والسرور، وقد علمت أنه محبوب لديهم كثيرًا أكثر من سواه؛ وذلك لإخلاصه في خدمة أمته، وسهره على منفعة بلاده، ورأفته بهم، وإحسانه إليهم، وهكذا جرت عادة الله في خلقه أن الإحسان يستعبد به الإنسان كما قيل:

أَحْسِنْ إلى النَّاسِ تَسْتَعْبِدْ قُلُوبَهُمُ
فَطَالمَا اسْتَعْبَدَ الإِنْسَانَ إِحْسَانُ

وكان يرافق القطار قومندان المركز العسكري، وأحد مفتشي السكة الحديدية.

وفي اليوم التالي كان البرد شديدًا، والهواء كثيرًا، وقد صحب هذا الهواء قليل من المطر، وقد ابتدأت هذه الحالة من نيكولا يفسك لما دخلنا وسط الغابات الكبيرة، وقد أخذ الجوُّ في الاعتدال والمطر في القلة إلى أن تلاشي وصفا الوقت، وانكشف السحاب في الساعة العاشرة، وكان المنظر جميلًا بالنسبة لبقاء الثلج المفكر بالشتاء ووجود أشجار كثيرة من أنواع مختلفة، ولم نزل سائرين طول اليوم في غابات كبيرة، وبعد الظهر قد تأملت فوجدت القطار يسير صاعدًا في مرتفع من الأرض؛ ولذلك كان سيره في غاية البطء، حتى أن الراجل ربما يمكنه أن يسير معه، وقد شاهدت تجار الأعشاب يقطعونها بالطرق القديمة المعروفة، ويحملونها على عربات متخذة من أعواد الخشب تزحلق على الأرض اللينة بدون عجل، يجرها حصان أصغر حجمًا من الخيل العربية، وشعر ذيول هذه الخيل ومعرفتها وغرتها طويل جدًّا. وبعد الظهر من هذا اليوم صار الهواء معتدلًا والجو صافيًا، وصار القطار كأنه يسير بنا في لجج من الماء؛ وذلك من كثرة الثلج الذي تذيبه حرارة الشمس فيعود ماء. وفي الساعة السادسة ليلًا قد وصلنا إلى (كراسنيوارسك)، ولما وصلنا إليها رأينا المدير وكبار المستخدمين ينتظرون بالملابس الرسمية، والازدحام شديد من كثرة الوافدين من الأهالي وغيرهم لرؤية الغراندوق، وهذه المديرية لها مدير يحكم على البلاد الموجودة على شواطئ نهر شيانشان، وهي تساوي حكومة فرنسا ثلاث مرات في أراضيها لا في سكانها، وهذا النهر أكبر من النهر السابق وأوسع منه، وأما الكوبري فإنه كان جاريًا فيه العمل ولم يتم نظامه؛ ولذلك كان المرور عليه بتكلف، وكان في هذا النهر كثير من الإِوَزِّ البري الذي ليس مملوكًا لأحد. وفي اليوم السادس قد تراكم المطر واشتد الهواء والبرد، وكان سيرنا في غابات كثيرة،وأشجار كبيرة، وكانت هذه الأشجار على عظمها مجردة من الأوراق، يظهر عليها التأثر من شدة البرد، وكنا نرى كثيرًا من هذه الأشجار محترقًا، وقد سألنا عن السبب الذي أوقع هذه الأشجار في العطب، وكيف وصل إليها هذا الحريق، فأخبرنا أحد السائحين أن هذا الحريق يحصل من تطاير الشرر أثناء سير القطار مع يبوسة الشجر وشدة حر الصيف، فتصير محترقة كما ترى، فإنه عند شبوب النار بهذه الأشجار لا يطفئها أحد؛ لبعدها عن البلاد، وقلة وجود المارِّ عليها، فكانت هذه الحالة مؤثرة؛ حيث إن هذه الأشجار الجميلة معرَّضة لهذه الآفات الكثيرة، فالذي ينجو من الثلج يحترق بالنار، والذي ينجو من الثلج والنار لا ينجو من قَطْعِ التجار، وبعد الظهر قد مررنا على أناس يشتغلون بعمل سكك وقناطر؛ لأن أراضيهم فيها كثير من المعادن، وقد أخبرنا أحد السائحين الذين كانوا معنا أن حالة هؤلاء الناس أحسن من فقراء المهاجرين الذين يتوجهون كل سنة إلى أمريكا، وقد دخلنا إلى النوم في أول الليل بالنسبة لكوننا عازمين على القيام في الساعة الرابعة صباحًا؛ لأجل تغيير القطار في أركتسك عاصمة سيبريا؛ ولذلك قد حصل لنا أرق شديد ناتج عن اشتغال الفكر بالساعة التي يحصل فيها التغيير؛ ولذلك كان النوم بالملابس المعتادة لأجل عدم العناء في الصباح في تغييرها، وقبل الوصول إلى أركتسك قد رأيت قسيسًا في محطة صغيرة بملابسه الرسمية، وبيده صليب، وصار يحيي الغراندوق بهذا الصليب، وقد وصلنا بعد ذلك إلى محطة أركتسك، فوجدناها محطة جميلة مبنية بالأحجار، ولما وصلنا إليها وجدناها مزينة بالبيارق وغيرها من أنواع الزينة، ومزدحمة ازدحامًا كثيرًا وكانت العساكر مصطفة تضرب بالموسيقى، وذلك ليس لقدوم الدوق فقط بل إن هذا اليوم قد وافق يوم ميلاد ولي عهد الروسيا أيضًا، فكان السرور مزدوجًا، والفرح عامًّا، وكان منظر هذه المحطة في غاية من البهجة والجمال، والعظمة والجلال خصوصًا لانحصار هذه البلدة في وسط جبال عالية مكتسية بأشجار كثيرة، ونباتات طبيعية ذات بهجة، ولم يزل الثلج موجودًا فوق رءوس هذه الجبال، وهذا الثلج عند ذوبانه يتكون منه عدة أنهر تحيط بالبلدة، وتزيدها حسنًا وجمالًا، وبهجة وكمالًا.

وهذه البلدة أعظم بلاد سيبريا، وبها آثار جميلة، ومناظر كثيرة، وقد صار التغيير من قَطْرٍ إلى آخر كان منتظرًا بالمحطة؛ وذلك لأن حكومة الروس لا تأذن لشركة عربات النوم بالاستمرار في السير أكثر من أحد عشر يومًا؛ ولذلك قد اضطرتنا الحالة لهذا التغيير، وبعد الخروج من هذه المحطة قد مررنا على كوبري من الحديد موضوع في آخر بحيرة بيكال، وكان المنظر حسنًا بالنسبة لوجود عدة جزائر صغيرة كثيرة، بها أعشاب طبيعية تكسب البحر رونقًا وجمالًا.

ومما رأيناه جديرًا بالعناية بالذكر أننا مع كوننا كنا في شهر مايو كانت بحيرة (بيكال) كلها مثلجة كأنها قطعة واحدة من الزجاج، فكأنها مرآة للناظر، وكان بداخلها وابوران محبوسان قد منعهما الثلج عن العبور، وعاقهما عن المرور؛ فإن صيرورة هذه البحيرة العظيمة البالغ قدرها مثل بحر مرمرة ثلجًا، وجعلها قطعة واحدة؛ لدليل على قدرة الصانع جل وعلا، وكان سفرنا بقية هذا اليوم ملازمًا لشاطئ هذه البحيرة، وكان الهواء جيدًا، إلا أن الوابور كان يسير بنا سيرًا بطيئًا، فسألنا عن سبب ذلك، فقيل لنا إنه خطر الطريق، وأرونا وابورًا ملقًى بجانب الطريق على الأرض، وعرفونا أن الأرض في هذه الجهة ليست صلبة، وأن الجبل فوقها، وكثيرًا ما يقع منه بعض أحجار على السكة فينحدر القطار، ويترتب عليه مثل هذه الأخطار، وينتج عنه حوادث مثل هذه الحادثة التي مات فيها رجل وجرح سبعة، ومع كون السير كان بطيئًا فإنه كان ينهال على الركاب رمل يثيره الهواء، مثل الرمل الذي يثار على الركاب الراكبين بقطر السويس، وبقدر ما كان الهواء باردًا في الصباح بقدر ما اشتد الحر بعد الظهر حتى صار بدرجة لا تقل عن الحر الذي يوجد بقطر مصر بهذا الأوان. ثم أخذ الوابور يسير بنا في جهات خَلَويَّة ليس بها إلا أشجار، وبعد عشر ساعات من ملازمتنا لسواحل البحر سار بنا في أرض يابسة، وغابات محترقة كالتي سبق الكلام عليها، وفي هذا اليوم قد رأيت خادمًا من خدام القطار من الصين، وهو أول رجل قابلته من الشرق الأقصى، وقبيل الساعة السادسة بعد الظهر قد مررنا على كوبري كبير جدًّا، ورأينا بحافتيه غابات كثيرة، ثم سرنا إلى أراضٍ مائية، وفيها كثير من الغابات، وفيها خيام نحو الأربعين، وكلها مرتبة ترتيبًا عسكريًّا، ومحشودة بالعساكر، وبالسؤال عنها أخبرنا أن هؤلاء ٤٥٠٠٠ عسكري بفناء بلدة في حدود منشوريا من المسكوف، وهذه البلدة تسمى: (أودتسك) وفيها محطة، فلما وصلنا إليها رأينا التريتساب الرسمية، وتلاميذ المدارس ذكورًا وإناثًا ينتظرون الغراندوق، فلما وصلنا إلى المحطة أخذوا يهتفون بالدعاء له ولعائلته بالبقاء؛ ولذلك قد نزل الغراندوق من القطار وسلم على الراهبات بيده، وأظهر لهم البشر والعواطف، وقد صار سيرنا بعد هذه المحطة نحو كيلو متر، ونحن بحذاء خيام العساكر البيادة والطوبجية. وكنا كلما مررنا على جهات فيها عساكر يهتفون بالدعاء إلى الدوق عند مرور القطار عليهم، وبقينا كذلك طول ليلنا، وعند صباح اليوم السابع قد أصبح البرد شديدًا كالعادة؛ لكنه ليس مصحوبًا بمطر، وفي الساعة الثامنة ونصف صباحًا قد وصلنا إلى شيطه، وهي ثاني بلدة عسكرية بمنشوريا وفيها ٨٠٠٠ عسكري من المسكوف، وفيهم الكوذاك الدون المشهورون بالشجاعة والتجبر والقوة الهائلة، ويظهر على أجسامهم الضخامة، وهم في غاية من حسن الهيئة، وتمام النظام، وكان وقوفنا في محطة صغيرة قريبة من محطة العاصمة؛ وذلك لأن العساكر كانوا منتظرين الدوق بها.

وأراضي هذه الجهة مستوية إلا أنها قليلة المزارع كثيرة الكلأ والمراعي الطبيعية، والسكك الحديدية بها منحنية تشبه أنصاف دوائر؛ ولذلك قد فكَّرتنا هذه السكة بالسكك الحديدية التي بالروملي الشرقي للمشابهة التامة بينهما.

وفي وقت الظهر قد تزايدت الحرارة، ولما جاء وقت الأكل قد حضر دولة الغراندوق إلى حجرة الأكل العمومية، وأكل معنا بكل سرور وابتهاج، ولم يظهر عليه ما يفيد أدنى تأفف، ولا تكبر، ولا أنفة، ولا عظمة؛ فعلمنا من ذلك أنه رجل وديع الأخلاق، كامل الصفات، يميل للتواضع والموادعة، ويحب المجاملة والمصانعة، وبعد الظهر قد وصلنا إلى محطة (بورياتسكايا)، ووجدنا فيها كثيرًا من الصينيين بملابسهم العجيبة ما بين ذكر وأنثى، ومما رأيته جديرًا بالاستغراب أنهم لابسون الفِراء في شدة الحر، ورأيت الفرسان منهم راكبين خيولهم بحالة لا بأس بها، إلا أنهم يرفعون الركاب إلى أعلى حتى تصير ركبهم مقوسة، وأرجلهم معوجة.

وأراضي بلادهم قليلة المزارع، كثيرة الرمال والصخور، ولولا وجود الثلج لما وجد عندهم شيء من الكلأ والمراعي؛ ولذلك يُرى على جميع مواشيهم أنها في غاية الهزال والاضمحلال. وفي هذا اليوم قد رأيت ببعض مراعيهم بعض جمال بيض، والخيل كثيرة عندهم؛ ولذلك يسوقونها للمراعي كما تساق الإبل، وسروج خيلهم كالسروج العربية؛ لها مسند من الأمام، ومسند من الخلف، ورأيت لهم تعودًا على الركوب والنزول بغاية السرعة والراحة، وخيولهم صغيرة الحجم، وهي في غاية من الهُدُوِّ، ويظهر عليها الهزال وعدم الراحة، ولعل ذلك ناشئ من كثرة الأسفار عليها، وعدم إعطائها من العلف ما يكفيها مع عدم الاعتناء بخدمتها، ومن عوائدهم أنهم متى نزلوا عنها يربطونها في أسفل عُمُد مجعولة لذلك الغرض، ورأيت الكثير منهم يركبها مسافة طويلة، مع أن الظاهر عليها أن ظهورها يابسة يحصل منها للراكب تعب كثير، ولكن بالنظر لكثرة تعودهم على ركوبها ربما تسهل هذه المتاعب والمشاق.

وفي هذه الصحارى الواسعة يوجد ملايين من الحيوان المعروف في أمريكا بكلب الغيط، وهو في الحقيقة نوع من أنواع الفأر البري، كبير الحجم، يماثل حجمُه حجمَ الثعلب، ويداه أصغر من رجليه، ويوجد أيضًا فيها كثير من الإِوَزِّ على اختلاف أنواعه وأشكاله.

وعند الوصول إلى محطة صغيرة قد رأيت كثيرًا من النساء الصينيات، فوجدتهن يضفرن شعورهن ضفيرتين ويرسلنها من الأمام، وأما رجالهم فإنهم يجعلون شعورهم جديلة واحدة ويرسلونها خلفهم، ويجعلونها مسدولة على ظهورهم.

وعند منتصف الليل قد طلبوا منا (الباسبورتات)؛ لكوننا قد خرجنا من حدود الروسيا ودخلنا منشوريا وهي تابعة للصين، إلا أن السكك الحديدية الشمالية فيها تابعة للروسيا ومحروسة بحرس منها.

وفي منتصف الساعة الحادية عشرة صباحًا قد وصلنا إلى محطة (يوكيدون)، ولما وصلنا إليها وجدناها مزدانة بزينة جميلة كالعادة، وكانت العساكر الموجودة للمقابلة من ألاي الأعمال الهندسية بالموسيقى، وكان بهذه المحطة الجنرال المسكوفي المناط به العمل في منشوريا الشمالية، كما أنه كان بكل محطة عشرون من عساكر (الجندرمة)؛ لأجل الحراسة والحفظ، وهم مقيمون بمحل واحد محاط بسور مرتفع، وفيه منافذ كثيرة للبنادق تشبه منافذ الخنادق، وفي هذه الجهة قد أذن لنا أن نأخذ الصور الفوتوغرافيَّة التي نريد أخذها؛ حيث إن هذا الأمر ليس ممنوعًا فيها؛ لأنها غير تابعة للروسيا، وقد جعل بهذه المحطة استعراض للعساكر، واصطفوا على جانبي السكة الحديدية حتى إذا قام القطار أخذوا يهتفون بالدعاء للغراندوق، وكانت الأراضي بهذه الجهة قليلة المزارع، كثيرة الجهات الرملية والحجرية، إلا أنه بعد مدة من الزمن قد وصلنا إلى أراضٍ جميلة المناظر تكسوها الطبيعة بهجة وجمالًا، وقد مر القطار بخندق صغير، وهو أول خندق قابلناه في طريقنا هذه.

وأهالي هذه الجهة معتادون على الحمل على ظهورهم، وقد وصلنا بعد ظهر هذا اليوم إلى بلدة كبيرة تسمى: (سيسيكار)، ولما وصلنا إليها رأينا الازدحام شديدًا والوفود كثيرين، ومن ضمن الوافدين رجل من عظماء الصين قد أرسل لمقابلة الغراندوق، ومعه عشرون من العساكر الصينية لابسين ملابس تشبه ملابس العساكر اليابانية، ولما شاهدتهم رأيت أنهم ليسوا متمرنين تمرنًا تامًّا، فاستخففت بهم، فقيل لي: إنك لو رأيتهم في بلادهم لرأيت جندًا منتظمًا، وجيشًا قويًّا، وملابس جميلة، وأعجبك تمرنهم على جميع الأمور العسكرية. وقد مررنا على نهر يسمى: (نونى)، وهذا النهر هو الذي فاض في العام الماضي فيضانًا كثيرًا حتى أغرق أربعة وتسعين كيلو مترًا عرضًا، وغرق فيه بلاد كثيرة، ولكنها في هذا العام لما مررنا عليها وجدناها في غاية من البهجة والنضارة، وفي الساعة الحادية عشرة ليلًا قد وصلنا إلى (خاربين) عاصمة منشوريا الشمالية، وهي مركز الوالي المسكوفي، ولما وصلنا إليها وجدناها مزينة تمام الزينة، متأهبة لقدوم الغراندوق على حسب العادة وفي انتظاره كثير من الناس، وبينهم ثلاثة من عظماء الصين لابسين حللًا زرقًا وعلى رءوسهم قبعات من الخوص بكل قبعة حجر من الأحجار النفيسة، وهذه الأحجار تدل على رتبة كل واحد منهم، وفضلًا عن ذلك فإن هذه القبعات عليها كساء من شعر الخيل، مصبوغ بألوان مختلفة على حسب اختلاف مراتبهم، وفي هذه المحطة قد نزل السائحون الذين يريدون الوصول إلى بلاد الصين؛ لينتظروا ليلتهم ويركبوا بالقطار الذي يؤمُّها صباحًا.

وفي آخر يوم قد أصبحنا بمحطة (أنجو) التي رأينا بها ألايا من الفرسان، وآخر من المشاة وثلاث بطريات، وجميعهم في انتظار الغراندوق، وحيث إننا قد قربنا من اليابان فقد رأينا ثلاثًا من نسائهم، وهذه أول مرة شاهدنا فيها نساءهم؛ فوجدناهن في غاية من حسن الشكل، ونظام الملابس، وقد مررنا على جملة محطات صغيرة، والذي تنبهت إليه أن عجائز نساء الصين وكذلك شيوخهم يشربون الدخان في عيدان طويلة كالتي كانت مستعملة من عهد غير بعيد في القطر المصري، كما أني رأيتهم يضعون الدخان في أكياس من الجلد كالعادة المصرية القديمة أيضًا، وبقي الهواء طول ذلك اليوم في غاية الاعتدال والجودة، إلا أن السحاب كان متراكمًا حتى خفنا أن يعقبه المطر، ولكن لم يحصل ذلك، وكنا نمر على جبال قليلة الارتفاع وأراضٍ زراعية مزينة بالزراعة، وقبل مرورنا على بلاد (نوتستك) نتكلم على السكة الحديدية، فنقول: إن هذه السكة لها إعلانات كثيرة ترغب الركاب، وإن قطاراتها مشتملة على كل ما يلزم من الاحتياجات من عربات أكل، وصالون، ومعبد، ومكتبة، وحمام، وغير ذلك مما يرغب المسافر ويجعله يعتقد تمام الاعتقاد أنها أوفى من السكك الحديدية الأوربية، ولكن الحقيقة أن قطاراتها لا تزيد شيئًا عن قطارات النوم الموجودة بأوروبا، وأن هذه الإعلانات كلها ترغيبات يراد بها جلب المنفعة ليس إلا، وأغرب من ذلك أن الوابور يوقد بالغاز أو الخشب أو الفحم، وأنهم يجعلون الوقود مما رخص ثمنه وقلت قيمته من هذه الأشياء، فعند المرور على بلاد يوجد فيها الغاز كثيرًا يوقدونه به، وعند المرور على الغابات الكثيرة والأشجار الكبيرة يجعلون وقوده من فحمها أو خشبها؛ حتى لا تكلفهم هذه الوابورات شيئًا كثيرًا في ذهابها وإيابها.

وبهذه السكة حرس مسكوفي، وهو ضروري لها بالنسبة لكثرة وجود فريق من عصابات اللصوص يسمى: (كونكوز) ينزلون على الركاب متى تمكنوا من ذلك، ويزعجونهم بضرب البارود في وجوههم، وغير ذلك من أنواع المخاوف التي تمكنهم من سلبهم ونهب ما معهم، ولطالما يركبون مع الركاب في زي سواح حتى إذا صار القطار، وهدأت الأفكار، ووضع الراكب حموله، وأرخى الليل سدوله، أخذوا يهددون الركاب، ويعذبونهم بأنواع العذاب، ويشهرون عليهم السلاح، حتى إذا عجزوا عن المدافعة والكفاح سلبوا ما قدروا على سلبه، ونهبوا ما تمكنوا من نهبه، ولولا خوفهم من الحرس لكثرت إغاراتهم، وقويت عصاباتهم، ووجود هذا الحرس يشعر بأن الولاء على هذه الجهات للروس.

وفي محطة من المحطات الصغيرة قد نزل رجل من الركاب الذين كانوا معنا، فرأيت كثيرًا من مستخدمي الجمارك الصينية في انتظاره، فسألت عنه فقيل لي إنه أحد رؤساء رجال الجمارك الصينية، وإن أغلب أكابر مستخدميها من الأوروبيين، وهؤلاء الموظفون الصينيون الذين كانوا ينتظرونه ترى عليهم سمة الوقار وحسن الهيئة.

وبعد قيام القطار من هذه المحطة قد أخذ يسير بنا متدرجًا في الارتفاع في جهات مرتفعة، حتى اضطروا لوضع ماكينة أخرى مساعدة لجر القطار حتى يتيسر المسير، ويسهل العسير، وبعد قطع هذا المرتفع قد وصلنا إلى محطة (نيكولا يفسك)، فرأينا بها عساكر كثيرة ومعهم رايات، وهم في انتظار الغراندوق، فنزل من القطار وركب حصانًا من جياد الخيل كان قد أعدَّ له، وذهب هو وحاشيته ومن معه إلى تلك البلدة، وفي الساعة الحادية عشرة ليلًا قد وصلنا إلى (نوكوستك)، فوجدناها منارة بالنور الكهربائي الكثير الذي يدل على أنها بلدة كبيرة لا قرية صغيرة، ومن حسن الحظ قد وجد معنا موسيو شفالي أحد مفتشي عربات النوم؛ فإنه قد دلنا على وابور البحر الذي يوصلنا إلى اليابان بدون تعب، وقد أخبرنا أحد مستخدمي السكة الحديدية أنه يمكننا أن نبيت بوابور البحر — ولو أنه يسافر صباحًا — فانشرح صدرنا لهذا الخبر، وسررنا به سرورًا كثيرًا؛ فإنه كفانا كلفة التنقيب والبحث عن محل نبيت فيه مع ما هو حالٌّ علينا من تعب السفر فضلًا عن مشقة الذهاب والإياب.

ولما وصلنا إلى السفينة البخارية وجدناها صغيرة مجعولة لحمولة ألف طولوناته، وهي تابعة لكمبانية همبرغ، مؤجرة من الحكومة الروسية؛ لأجل تسهيل السير بين الروسيا واليابان، فركبنا فيها وقلنا: بسم الله مُجْرِيها، ولم نزل سائرين حتى وصلنا بسلامة الله تعالى إلى (فلاديفوستوك)؛ فحصل لنا بذلك السرور إلا أنه لم يكن تامًّا؛ لأن الهواء كان شديدًا جدًّا، وقبل الدخول إلى حجرة النوم مكثنا مدة مع مفتش عربات النوم نتحدث معه، وكان مدار الحديث بيننا فيما يلزم لنا عند رجوعنا من حفظ الأماكن، وغير ذلك مما يكفل لنا الراحة، ويسهل طرق العودة.

ولما سأل المستخدمين عن وجود محال في العودة أخبروه أن جميع المحال مشغولة من أول شهر أبريل إلى آخر شهر سبتمبر، فلم نُسرَّ لهذا الخبر الذي يترتب عليه أن نبقى ثلاثة شهور ونحن في بعد عن الأوطان، وهذا مقدار عظيم من الزمان، ولكنه لم يحصل ذلك بل إنه بهمته وحسن عنايته أمكن والحمد لله أن نأخذ أماكن من الأماكن الاحتياطية في الوابور الراجع من خاربين في سبعة يوليو إلى أوروبا؛ ولذلك قضت الضرورة بأن يكون مكثنا في بلاد اليابان مقيدًا بهذه المدة، وفي هذه الليلة قد حصل لي أرق كثير، وتواردت عليَّ خواطر شتى، واشتغل الفكر ببعد المسافة التي بيني وبين وطني، وتذكرت أهلي وجيراني، وصحبي وخلاني، وتخيلت أن كل فرد من أفراد عائلتي، وكل صاحب من أصحابي، بل وكل شجرة في البستان وغصن من الأغصان؛ يطالبني بالرجوع إلى أوطاني، فأكثرت من الدعاء لله سبحانه وتعالى أن يعيدني إلى وطني سالمًا، وأن يحفظني في الذهاب والإياب، وعزمت على أني بعد انقضاء رحلتي هذه لا أتوجه إلى بلاد بعيدة بهذا البعد الشاسع؛ لأني تأملت فوجدت نفسي فريدًا في هذه البلاد لا أجد من يسامرني ولا من يخبرني عن الأوطان وما حصل فيها من الأمور المهمة والحوادث الملمة.

وفي منتصف الساعة الثامنة صباحًا قد تحرك الوابور للسفر، فلبست ملابسي سريعًا لعدم إمكان ذلك في البحر بالنسبة لكثرة هوائه ورداءة جوِّه، وكان قباطين الوابور كلهم من الألمان، وجميع عماله من الصينيين، حتى النجار والطباخ، وكان الوابور في غاية النظافة لاعتناء كل فريق من العمال بأداء ما وكِّل إليه من الأعمال، ورأيت الشيوخ منهم في غاية من قبح المنظر وتشويه الخلقة، وإن الشبان منهم رؤيتهم مقبولة، وصورهم مألوفة، فعجبت من التغير العجيب الذي يعتريهم عند الكبر فيغير خلقتهم، ويمسخ صورهم، وقلت سبحان مغير الأحوال من حال إلى حال.

وأما كلامهم فإنه يشبه كلام البرابرة، وهم يتكلمون بصوت منخفض بقدر ما يسمع أحدهم الآخر، ولهم اعتناء تام بالنظافة، لا يفترون عن ذلك طرفة عين.

وقد تغير حال البحر تغيرًا عظيمًا حتى مرض جميع من في السفينة من السائحين؛ ولذلك لم يبقَ معي إلا اثنان وقت الجلوس على المائدة قد استطاعا الحضور إليها، وكان الهواء جنوبيًّا غربيًّا، ومع اشتداده واستدامته قد تراكم السحاب، واغبرَّ الجو، وأظلم البحر، حتى صار القبطان لا يستطيع أن ينظر شيئًا أمامه واضطرته هذه الحالة إلى استعمال الصفير في كل خمس دقائق؛ مخافة من الوقوع في شيء من الخطر الذي يحصل من المصادمة.

وفي الساعة الثامنة ليلًا قد تحسنت حالة الجو، واعتدل الهواء، وانكشفت غياهب الظلماء حتى تمكنا من رؤية القمر وهدأ البال، سيما وأن القبطان قد أخبرنا أن هذه الجهة ليس فيها خطر كغيرها؛ لقلة وجود السفن السائرة فيها، وغاية الأمر أننا نتقابل غدًا الساعة التاسعة مع الوابور الآتي من اليابان قاصدًا (فلاديفوستوك).

وفي اليوم التالي قد أصبح الهواء جيدًا، وصار الجو معتدلًا، ولكن البحر لا يزال مضطربًا، والأمواج تلعب بالباخرة ومن فيها، فتارة ترتفع بنا حتى نتخيل أننا على طود من الماء، وتارة تنخفض حتى نظن أننا قد وصلنا إلى قاع البحر، وصار الناس في انزعاج عظيم من كل ذلك، ونحن في غاية الثبات متوكلين على الله تعالى، واثقين بكرمه ورحمته، وفضله ورأفته، ملتجئين إليه أن ينجينا من ظلمات البحر كما حفظنا من غوائل البر.

وبعد الزوال قد قِيس الأفق الذي نحن فيه، فعلم أننا قد برحنا النقطة التي كان يلزم أن نكون فيها بنحو خمسة عشر ميلا، وهذا من قوَّة الريح، وشدَّة تأثيره على الباخرة، وبهذه الحالة كنا ندخل في الساعة السادسة صباحًا إلى (سروجة)، وهي بغاز طوله عشرة أميال بحرية، فصرنا في غاية الوجل من أن يوجد سحاب أو أيُّ مانع يمنعنا عن الدخول في هذا البغاز؛ ولذلك قد أمرت خادمي أن يوقظني من النوم من مبدأ الساعة الرابعة صباحًا، ولكن بحمد الله تعالى، وجميل لطفه، وحسن تيسيره قد سهل الأمر، ووصلنا إليه، ولم نجد أيَّ مانع يمنعنا عن الدخول فيه، ولما كان الإنسان الذي يسافر السفر الطويل يحصل له سرور عظيم وفرح كثير إذا وصل بسلامة الله تعالى إلى الجهة التي يريدها؛ كان السرور في هذه الليلة لا يمكن وصفه، حتى أنه من شدَّته قد منعنا النوم، ووجدنا على سطح الباخرة بملابسنا العادية من الساعة الثانية بعد نصف الليل، إلا أني وجدت عزيزي علي بك رضا قد حصل له تعب كثير، وفتور زائد؛ لكونه مضى عليه يومان ولم يذق شيئًا من الزاد بالنسبة لحالة البحر واضطراب السفينة.

وقد شاهدنا دخولنا في البوغاز قبل طلوع الشمس، وكان المنظر جميلًا، أجمل من مناظر النرويج المشهورة بالألوان الكثيرة؛ وذلك لأن جبال اليابان كلها مزدانة بالنباتات الطبيعية، والأشجار المختلفة الألوان والأشكال، وهذه الأشجار موضوعة وضعًا طبيعيًّا بنظام جميل، حتى يُتَخَيَّلَ لرائيها أنها موضوعة بوضع بستاني ماهر، فسبحان من أبدعها على هذا المثال، وأوجدها على ذلك المنوال! وبالجملة فإني مهما وصفت هذا المنظر الجميل، والصنع المتقن الجليل؛ فإنه لا يمكنني أن أوفيه حقه؛ لما اشتمل عليه من الجمال والبهاء، وحسن الشكل، وجميل الرواء، فإنه لا يقوى على ذلك إلا ناثر قادر، أو شاعر ماهر. ولما وصلت الباخرة إلى البوغاز أكثروا من الصفير إيذانًا بوصولها، وبمجرد سماعه قد حضر نحو ٢٠٠ زورق صغير، وفي كل واحد من هذه الزوارق رجل واقف وفي يده مقذاف يقذف به الماء، إلا أن وقوفه في آخر الزورق لا في جانبه خلافًا للعادة المعروفة، وفي كل زورق فانوس من الورق وفيه كتابة باللون الأحمر، فكان ذلك المنظر شارحًا للصدور، موجبًا للسرور، سيما لرؤيته أول مرة، وجاء في أحد هذه الزوارق ضابط من ضباط البوليس ومعه اثنان من البوليس السري، وأخذوا يفتشون جميع الأماكن بدون أن يكلموا أحدًا، ولما انتهى عملهم أذنوا بالدخول لغيرهم، وبمجرد ذلك الإذن قد وجدنا جملة من الشبان قد دخلوا الباخرة، وصاروا يتكلمون بكلام غير مفهوم لنا، فسألنا عنهم، فأخبرنا أنهم من قِبل أصحاب الفنادق، ووجدنا الحمالين لهم تعوَّد على الحمل ومعرفة تامة به، وتظهر عليهم علامات القوة والشهامة، وعلى صدورهم وظهورهم بطاقات مكتوب عليها أسماؤهم (أو نمرهم) باللغة اليابانية، وخرج كثير من الناس، وبقينا حتى حضر رئيس الكمبانية لأجل أن يخلص ما معنا من المكس، ويوصلنا إلى المحطة، وأحضر سفينة أكبر من هذه الزوارق؛ لأجل حمل ما معنا من الأمتعة، وفيها شاب حسن الهيئة، نظيف الملابس، يحسن التكلم باللغة الإنجليزية، فودَّعنا القبطان وأعطيناه نقودًا؛ لأجل أن يعطيها للخدم منحة لهم وسرورًا بوصولنا بسلامة الله تعالى إلى البلاد اليابانية التي قصدناها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤