الفصل العاشر

بدا أن الرئيس ونائبته، إنما يتحرشان به، راوده هذا حين كان مأخوذًا يُدوِّن إحدى الملاحظات عقب تعليق موجز أدلت به زميلة باحثة فنلندية في موضوع، أو حقل الحزازير والفوازير، مما أربكه إلى حد متابعتها في عداء.

لكن ما إن التقت صدفة عيناه بعيني الرئيس ونائبته متقاربي الرأسين، وعيونهما الأربع تحط عليه، واهتزازة الرئيس إياها، التي دفعت ذات مرة بما كتب المغتال لأن يفض اجتماعه الوزاري رافعًا رأسه عاليًا إلى حيث الكوة النارية في أعلى سقف البهو الملكي، ومنها يطل شبح رأس الملك الشرعي الذبيح صارخًا بعلو صوته: لا تهز جدائلك الدامية.

لماذا يرقبانني على هذا النحو كما لو كنت المتهم الوحيد في هذا الحشد القفصي؟

انكب المهاجر من جديد وقد اختلج تنفسه قائلًا: الأمر لا يحتاج. ثلاث جلسات أرفع فيها إصبعي بأدب، ثم يدي فذراعي المشمر بكامله في طلب الكلمة، أية كلمة، وجهة نظر.

رفع ذراعه عاليًا، بل هو قام واقفًا احتجاجًا على مرأى من كل المؤتمرين، فنقر الرئيس على طاولته بخنجر نحاسي أُعد لتقطيع الورق، ودون أن يومئ إليه مباشرة.

جلس في مكانه، دون أن يلحظه أحد.

وارتفع صوت باحثة «حزر فزر»، فطغى على تساؤلات الحضور من الباحثين والصحفيين والمراقبين.

راحت الفنلندية الفاتنة تربط بين الحزازير والألغاز، وبين طاقات الذكاء الفطري لدى الأقدمين وورثتهم، فها هي ميكروفونات البث والتليفزيون الملون، يغرقوننا بفوازيرهم السخيفة خاصة مع تسالي رمضان، ثم ها هي الصحف السيارة لا تبعد بنا كثيرًا عن ملغزات جلجاميش، في مواجهة الإله الأكبر، سائلًا عن الموت قبل الحياة، متحديًا ذلك الإله الأزلي الخالد: اشمعنى أنت اللي خالد؟!

وذلك بعد أن ظل ذلك البطل الإلهي «جلجاميش» في العالم السفلي اثنتي عشرة ساعة مضاعفة متجولًا في الظلام الدامس، مقاومًا النوم ستة أيام وسبع ليالٍ، بحثًا عن الخلود والتيقظ.

حتى إذا ما وصل إلى عتبات كبير الآلهة «أوتونبشتم»، متعرضًا للكثير من امتحانات الذكاء والحزازير، منها وضع سبعة أرغفة على رأسه، «وأن يعجن الرغيف السابع، ويشكل السادس، ويبلل الخامس، ويترك الرابع يختمر، ويحمر الثالث، ويشوي الثاني، ويعد الأول للأكل وهو على رأسه»، غمغم متمخضًا: تعطيل.

من جديد تمددت ذراعه بكاملها، ومن طرفها تتدلى أصابعه المفكوكة الخمس، في وجه الرئيس ونائبته، بينما التحدي الغشيم يطغى على ملامحه بوجهه الأقرب إلى محاولات النحت الحديث، ودأبه في تشكيل الفراغ بدلًا من الكتلة وترهلها، تلك الاستطالات الغائرة، تلك العيون اليقظة الندبات، الأنف النحيف الدقيق الانسيابي الصقري، ثم ذلك الأسى المتمثل في زمة فمه، كمن يمسك عن القول: أجل الإفصاح، الجنب المريح الذي عليه ننام، نستريح، أن أعبر عن نفسي مثلكم، ألقي بدلوي، وجهة نظر.

تنبَّه ساحبًا يده السائلة، معتدلًا في كرسيه، مستديرًا إلى حيث اليد التي امتدت من خلفه منبهة؛ ليجد نفسه وجهًا لوجه مع تلك الفتاة الجنوبية الحنونة الصغيرة، فتاة راشيا الفخار، التي مالت على أذنه اليسرى مُسِرَّة، كمن آلمها وضعه ذاك فوجدت له مخرجًا هامسة: اكتب سؤالك وقدِّمه للرئيس.

شكرها حين انسحبت الفتاة مختفية في كواليس المؤتمر، وانكب مدونًا:

الزميل رئيس الندوة الدولية، منذ أمس الأول وأنا أرفع لكم يدي بالسؤال وما من مجيب.

الباحث المهاجر لديكم
المذكور

أشار من فوره في تعالٍ إلى أحد موظفي العلاقات العامة بالمؤسسة المعنية بشئون الشرق الأوسط ونكباته المستعصية، ودفع له بالورقة المطوية: للسيد الرئيس.

أخذ الموظف الوريقة ودفع لآخر بها، دفع بها لما يعقبه إلى أن استقرت في يد الرئيس الشارد، فقرأها وردها من فوره عبر موظفي وموظفات العلاقات العامة بشاراتهم الخضراء التي تعلو صدورهم، وتحمل طوطم المؤسسة ومناسبة المؤتمر، إلى أن استقرت من جديد في يده.

أعاد المهاجر قراءتها، مكتشفًا أنها ذات الورقة بلا إجابة، بل حتى سؤاله ذاته الذي سبق له تدوينه بقلم جاف الحبر مُحي تمامًا من سطحها، بنفس ما حدث بذهنه هو ذاته لومضة.

من جديد دفع بذراعه العظمية المنتهية بأصابعه الخمس مشهرة في وجه الرئيس، بل الندوة الدولية بكاملها، ولما لم يجد بدًّا هبَّ واقفًا على مرأى من الفتاة المجمدة في كواليس المؤتمر.

وظل هكذا مهتزًّا عاصفًا دون أن يسأل فيه أحد، إلى أن أعلنت دقات الرئيس المنذرة، فانكب جالسًا، قال: يبدو أنني سأظل هكذا على الدوام أقف في الخارج.

تذكر وقفته بعد منتصف الليل في مواجهة العين السحرية مبتسمًا إلى حد التوسل، وتمنى للمرة الأولى قهوة العالية، ذلك المغص الكلوي والمعوي الذي لم يبرأ منه لحين انعقاد الندوة.

وتصوره يومًا يمكن إضافته مع بقية أيام الأسبوع الأخيرة، تلك التي يختص كل يوم منها بكوكب أو جرم سماوي ويحمل اسمه.

وأدهشه للحظة ربط المحاضِرة الفنلندية بين الألغاز وحزازيرها وبين أيام الأسبوع السبعة، وما يصاحبها عادة من أحجية وملغزات، تنتهي في الأبراج وثقافتها، وهيافتها، كسلعة لها خانتها اليوم داخل كل بوتيك وصحيفة سيارة.

أخرجه من إحباطه ووقوعه في نكده الذاتي عينا فتاة الجنوب الحنونة، تدفع به من جديد إلى معاودة الكتابة والسؤال، قال مهمهمًا: وجهة نظر.

كتب رقعة جديدة ومررها من يد ليد إلى أن استقرت في كفة نائبة الرئيس، فالتهمتها دون أن تصل يد الرئيس، وراحت تمضغها مضغًا على مرأى من الجميع.

أخفي المهاجر من فوره وجهه الأصفر غائر الجلد إلى حد التواري تحت نتوءات العظام الطولية بين كفتيه المتناسقتين مع وجهه.

فخذا العالية تحت وهج نيرانها.

غمغم مطرقًا كفًّا بكف: ارحم.

سعل بشدة واضحة، تصاعد إلى حد الدوي عبر ميكروفونات البث والتسجيل من مسموع لبصري، وكاد أن يبصق على أوراق زميله العدني الذي دفع إليه بسلة خلسة من تحت المنضدة.

تذكَّر من فوره وجه صول عمان الفحل، بلا عينين، وبصق في منديله مسلطًا عينيه المحمرتين من فوره على الرئيس ومرءوسيه وزبانيته وباحثيه، وفتيات علاقاته العامة، دون أن يتخلى عن ألمه الواضح المرتسم على شفتيه … منطقة ذقنه الدقيقة، هزت رأسه أسفًا، إن لم تكن تشفيًا.

أشار بذراعه بكامله عبر الشرفة المواجهة المطلة على البحر بلا صوت حين سمع انفجارًا لسرب طائرات يخترق جدار الصوت.

واصل الرئيس دقاته بخنجر الورق عاليًا في عصبية، وواصل هو سعاله دون أن يثير التفاتًا يُذكر، سوى من فتاة الجنوب التي تسللت فقاربته مقدمة له كوب شراب ليمون، شربه فرحًا على دقات المنصة الرئاسية.

عبر الشرفة تبدت له رأس الملك الذبيحة، مواصلة اهتزازاتها، ودوي الانفجارات والأسلحة المطاردة يطغى صوتها على صوت تلميذة كارل كرون الفنلندية ومقاطيعها: لماذا أيها الرئيس؟

واصل اهتزازاته المنتظمة مسلطًا عينيه في عيني الرئيس غير المكترث، الذي كان ساعتها منجذبًا بفكره بكامله في أحبولات زوجته ومشاحناتها، رابطًا بينها وبين الفنلندية فارعة الجسد.

وحين دوى الانفجار الذي لحق شرفات المبنى انبطح مرتاعًا مع المنبطحين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤