الفصل الثامن عشر

ظل المهاجر موقنًا من أنه سيصل يومًا إلى غايته ومرفئه الآمن، برغم أن كل ما حوله كان يشي بعكس ذلك، فالعدوان يستشري عبر اللحظة وما يعقبها، ولا شيء يمكن أن يوقفه، يعيده إلى صوابه، لا العالم ولا شعوبه ولا نقاباته ولا رأيه العام أصبح في مقدوره.

الجميع أخفقوا إلى حد الفشل، وضعوا أصابعهم في الشق، كل شقوق هذا العالم الذي نعيشه، ومنها بالطبع الشقوق البشرية، اللحم الطازج الأبيض والأسمر والنحاسي البشري.

لا بد أن هذا ما يحدث.

وضع الأصابع في الشقوق خلفًا وأمامًا، عبر كل التكورات ثم الغشيان، التآمر.

قال: لعل الأمر لم يعد بنا هنا تحت القصف والحصار عن «فابيولات» الرءوس والرمال.

الاستخباء، الدفن.

وها هم الناس من حوله أينما حل يتحركون عبر الشوارع والساحات وشواطئ البحر، بلا طائل، لا مفر.

ماذا يحدث؟

تذكَّر حديث سيدة شابة كانت تنتصب في وجهه المنكس حين زارهم ليلًا خلسة محاطة بأسلحتها من مسدسات وخناجر ورشاشات، بانتظار لحظة وصول ميليشياتهم والتمشيط.

ها هو السلاح مكانه، لن أحركه، وإن حدث ليكن حيث ينبغي أن يكون في وجوههم المعدنية.

صرخت في وجهه: الفاشست … اللمامة.

وحين حاول إيضاح الأمر، وبأنه لا يبغي شيئًا سوى الراحة، لحظة اطمئنان، عاودت الصراخ.

هذه المدينة، كانت يومًا تصخب وتشتعل نيرانها ومظاهراتها لأي حدث عربي وغير عربي تافه في العالم، تتضامن وتعبر عن فرحتها، مساندتها، شجبها بالسلاح.

هدأت قليلًا وهي تكمل في مرارة: أين نحن الآن؟ القصف والدماء ليل نهار، ولا من يسمع العرب، العالم؟

بصقت: مؤامرة.

– مؤامرة؟!

هز رأسه خجلًا متحسرًا.

– صحيح … أين العالم؟ ما خارج الحصار، الناس في طرقات المدن، العواصم.

– لا شيء سوى القصف الذي التهب من جديد، وجاء هذه المرة عبر البحر.

سمعت عبر السلم الحلزوني دقات أرجل لبناتٍ ثلاثٍ نازلات مسرعات، عرف فيما بعد أنهن بناتها، حين اندفعن داخلات وهنَّ يلعنَّ خبر وصول المليشيات الغازية للتفتيش: ماما ماما وصلوا.

ولدهشته حين رأى الأم الشابة ثابتة في وضعها، فلم يرمش لها جفن، حتى إنه حاول الاقتراب أكثر منها لاستطلاع سبب ثباتها المريب ذاك الذي لم يقطعه سوى محاولة كبرى الشقيقات الاقتراب من الأسلحة، عندئذٍ انتفضت الأم واقفة بجذعها النحيل، شاهرة ذراعها، مانعة ابنتها من لمس السلاح: حذار ريما حذار. كل شيء مكانه. واتجهت ناحية باب مدخل الشقة — البدروم — وفتحته على مصراعيه.

– تعالوا.

حين ازدادت ربكته تفجر منه العرق مدرارًا.

كبت في نفسه رغبة قوية في الانسحاب، العودة من حيث أتى.

– إلى أين؟

ربط بين البنات من جانب، والأم في غلها من جانب مقابل، وتقدم منها محاولًا من جديد إقناعها بتمشية الحال، والتصرف على عادة ما اتبعه الناس في بيروت منذ الرحيل الدامي للمقاتلين، وخلو الجو لهم ليبيضوا ويصفروا بعد أن اقتحموا المدينة عقب رحيل حراسها ومقاتليها، وفي أعقابهم فلول القوات المتعددة الجنسيات، فالكل هنا أسلم سلاحه أو أخفاه، أو حتى مجرد التخلص منه بإبعاده في الزبالة التي شكَّلت بدورها حصارًا عمَّا يشكله الغزاة المدججون بأقذر الأسلحة وأحدثها، بدءًا بالنيران، مرورًا بالنيترون والفسفور، وانتهاء بالجراثيم والطواعين.

أصبحت الزبالة بدورها تشكل حصارًا، أكوامًا في الخرائب والساحات ومفارق الطرق ومداخل البنايات، وحتى الحدائق العامة لم تسلم منها.

ظلت عبر أيام الحصار تنمو وتتراكم، خاصة بعد أن أعلن الغزاة عبر مكبرات الصوت والراديو والمنشورات التي كانت تلقي بها الطائرات من فوق الرءوس، بالاستسلام وإلقاء السلاح.

وبإزاء الوضع والتهديد المتواصل، أخرجت المدينة عبواتها من سلاح ومتفجرات وبارود، ملقية به في الزبالة والنفايات.

حتى إذا ما لامستها النيران … بقايا سيكارة اشتعلت من فورها وتفجرت من هنا ومن هناك.

وبذا، لم يوقف تفاقم الأمر سوى تحذيرات المسئولين عبر الراديو والتليفزيون.

– أَبْعِدوا النيران عن الزبالة.

سمعت قرقعات أقدامهم وأسلحتهم الهمجية عالية وهم ينزلون سلم البدروم الحلزوني المفضي إلى حيث الشقة، وحين اندفعوا داخلين ثبت الجميع في أماكنهم كمثل دُمَى، الأم ومن حولها بناتها الثلاث.

وامرأتان من الجيران كانتا تلعبان الورق وهما تدخنان وتحتسيان رشفات القهوة الباردة تحت وهج شمعدان نُحي في ركن الجدار.

وحين دخلوا لم يتعرف سحنتهم أحد، ذلك أنهم صوبوا من فورهم بطارياتهم وأسلحتهم، حتى إن المهاجر تخاذل جالسًا قليلًا على أقرب كنبة، ثم هبَّ من فوره منتصبًا، دون تيقن إرادي من تصرفه العفوي على هذا النحو، كان مشهدهم مدججين بالظلام، بشعورهم الطويلة المرسلة وتسلطهم وأسلحتهم من مدافع وخناجر وقنابل.

كفت المرأتان عن اللعب، ومن فورهما هبتا واقفتين متداخلتين في تساند.

تبادل جميع الموجودين فردًا فردًا النظرات المريبة إلى حد الكراهية، انحباس التنفس ذاته، لجنود الدخلاء ذوي العيون الزرقاء والخضراء بخوذاتهم وتجهمهم وقنابلهم المتفجرة من حول أجسادهم.

والناس داخل بيوتهم، البنات الثلاث، المرأتان إلى بعيد، المهاجر الضيف في انزوائه، يده على جيب بنطلونه لحظة استعداد لإخراج هويته، حيث تجمدت يده، مما لفت نظر أحد الجنود الذي أرابه الأمر فاندفع مسلطًا ضوء بطاريته على عينيه. هنا أخرج الهوية والأوراق مقدمًا.

الأم في حنقها الدفين تتأملهم بأقصى شراسة يمكن لعينين أن تُفصِحا عنها هذه السيدة الرقيقة ذات التقاطيع السمحة، والتي كثيرًا ما أكل من يديها الحانيتين وهي تناقشه في كل شيء حتى حكايات القرى والضياع ولغوها. إلياس أبو شبكة وبودلير والتكافؤ مع الشر.

أية شرور يا لبنان!

هكذا تضرعت السيدة، في لحظة محاولة أحد الجنود لاقتحامها، استفزازها، إلى حد محاولة تمرير فوهة بندقيته المشرعة المصوبة إلى جيدها النافر كمثل حمامة أيك، ثم النزول بها إلى نهديها وما بينهما في بطء، مرورًا بخصرها وما بين فخذيها.

هنا اختطفت الأم من فورها طبنجة أفرغتها في جسده، في ذات اللحظة صُوِّبت عليها المدافع الرشاشة لتحيلها إلى كومة لحم محترقة أمام بناتها الثلاث.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤