الفصل الثاني

رأى نفسه عبر الفراغ الجليدي اللانهائي ولدًا صغيرًا بطيء الإيقاع، يسعى عبر جموع زاحفة من صبيان وبنات وكهول وعواجيز ذات مطلع نهار — قبل طلوع الشمس — إلى أحد الموالد الموسمية القريبة، يتسمَّر مبهورًا أمام الأراجوزات والخلابيص، ومقاهي الهواء الطلق، وحركات الغوازي والصييتة من المغنين الشعبيين، مواصلًا تنقُّلاته عبر إيقاعات الأذكار، ومنشدي دلائل الخيرات، ودقات كوديات الزارات الهمجية المهيجة من سودانيين ونوبيين وصعايدة.

إلى أن كان يوم قرر فيه جمع وتدوين ما يسمعه من حكايات وأشعار من خضراء دنيوية لحمراء جنائزية، على ورق كراساته المدرسية، وكلما تراكمت نصوصها راح يسترجعها بالقراءة والتمثل على ضوء اللمبات الغازية، قبل أن تدخل الكهرباء بلدتهم.

لكم كانت رحلة شاقة وعرة مضنية امتدت لأكثر من ثلاثين عامًا! ولكم هجر كل شيء بحثًا عنها … الحواديت، حتى مدرسته، ومساعدة والديه!

أصبح لا شيء يمكن أن يتملك مخيلته سوى السعي، بلاد وقرى إثر بلاد بحثًا عنها من أفواه الناس، من سائلين وشحاذين ورعاة بهائم وندابات وممثلات وكوديات وحراس مقابر ولصوصها، الذين عادة ما تغشى عيونهم نهارًا في وضح ضوء الشمس، لكنها تبرق ليلًا، فيرون على عادة المعبودات الطواطم من كلاب وأبناء آوى.

حكايات تُروى وتفيض في سرد مواجع وآلام بطلاتها من أطفال جنينية تعاني الاضطهاد والمطاردة منذ أن كُنَّ نُطفًا في بطون أمهاتهن الحوامل، لحين اكتمالهن على مدى انقطاع حيض النساء، عبر أشهر الحمل التسعة، وذلك حين أقدم عمال وبصاص كل من فرعون مصر مع موسى، ونمرود بابل وما بين النهرين مع إبراهيم الخليل.

وأخرى توغل في رصد معاناة فتيات — بنوت — كست الحسن والجمال في مواجهة زوجة أبيها، وإخوة كبار في صراعهم مع أشقائهم الصغار، يقطعن من أجسادهم بالسكاكين؛ لتتحول الأعضاء المتقطعة من فورها إلى نبات زهور الأكاسيا الدامي عبر البراري، وبحيرات التماسيح مفتوحة الأفواه للالتهام وعيونها تسح دموعًا بلا هوادة في حالة أقرب إلى التحسر منها إلى أمراض العيون ورمدها، كما لو كن أناسًا من بين الإنس مُسخن إلى حيوانات خشبية مجففة، تسعى على طول البحيرات المسحورة، قارون، وبحر يوسف والنيل، عبر حالات التحولات والتبدلات في حكايات وخرافات سحر المشاركة والأثر، بين ساحر شائخ وصبيه الفتي الذي علمه كاره ومهنته يومًا، ولما فاقه واشتد ساعده رماه، مثلما حدث بتمامه في حكايات السريان النساطرة والسورية واللبنانية بين وزير البلاط الأول الحكيم إحيفار وبين صبيه وابن أخته الانتهازي نادال أو النذل، الذي انتهى به صراعه مع خاله إلى أن يواصل ضموره وتضاؤله ليصبح كمثل قملة الحنطة، يفسدها إلى حد معادة الإثمار والازدهار في جدلية علاقتها، ملازمة الإفساد للنماء، والموت والانتفاء، لمعاودة الحياة.

من حكاية نسائية نمطية لزوجات خائنات تظل تواصل اختزالها عبر العصور ملخصة في مأثور، أو نكتة بذيئة وخادشة ومحرضة.

زوجات لصات وفتانات ومخلصات وشبقات، نادبات أحوالهن في بكائيات جنائزية ذاتية:

مسيكي بالخير يا عود الأنا يا روحي
يا للي تيابك على الجسم ترد الروحي
بكرة آخذ اسمي واسمك وأكتبه في اللوحي
وأعلقه في الهوا الطاير لأجل البكا والنوحي

ومنها:

يجازيك يا دي العدو يجازيك
يا للي بتبحت في حضانا
بعد الجميل ما كان رامي الرماميل
خليته جفانا

حكايات تلوكها الحلوق، وهي الأصل فيما يحدث، سواء الآن على المحاور، أو في ذلك الاضطهاد المزري إلى حد التكافؤ بالتجاذب.

أن يلتقيا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤