الفصل الثالث والعشرون

ما إن حلت الهدنة المريبة، وبدأت دفعات المقاتلين في الترحيل البحري، حتى بدا ما تبقى من سكان بيروت تحت الحصار وفوهات مدافع العدوان كمن يستيقظون لتوِّهم من كابوس جماعي يكتم التنفس ذاته.

بدأت الجموع تأخذ طريقها إلى الشوارع، خاصة الحمراء التي دبت فيها الحياة من جديد، ففتحت معظم المقاهي والكازينوهات ومحلات الأطعمة الشعبية، ومنها اللحم بالعجين أبوابها.

وعادت وجوه الفتيات البيروتيات الرقيقات تزحم الشوارع ونواصيها.

وهن ذات الفتيات المقاتلات بزيهن الحربي، كما أنهن ذاتهن اللائي كن يبكرن في كل صباح، ويأخذن طرقاتهن إلى حيث ميناء بيروت ومرفئها لتوديع المقاتلين المغادرين وعائلاتهم، يلوحون لمن عاشروهم وقاسموهم حياتهم وخبزهم وكدهم اليومي، ودافعوا عن مدينتهم وهن ينثرن الزهور والورود من فوق رءوسهم في زهوة ووعود باللقاء.

وعلى هذا النحو، دأبت فتاة الجنوب ورفيقتها الدرزية في معظم أيام الخروج العصيبة.

وكم كان المهاجر يحس بالزهو حين كانت تعود إليه لتحدثه مختلجة عن هول ما أثاره الموقف من مشاعر، وما علق بذهنها من حكايات وقصص الغرام الدافق بين اللبنانيين والفلسطينيين، وهي العلاقة المتقدة التي جاء العدوان ليدمرها من جوانب عدة، تختتم على هذا النحو بالفراق، وخروج أولئك المطاردين أينما حلوا، من لا وطن لهم.

في تلك الأيام التي أصبحت تتسم بالحلاوة بعودتها، وسماعه للهجتها الجنوبية كمثل نغم، أو «ميلودية» عذبة تعاشر أسماع سامعها.

فبدأ المهاجر معها يستعيد أمنه وسلامته الذاتية، بإزاء ما عاناه عبر العدوان ولياليه وافتقادها والتشرد، والهروب المفتعل بالشم والمخدرات مع صديقه اللبناني الجديد طيب القلب، الذي قاسمه مسكنه مجزلًا له الأجر أضعافًا، في الوقت الذي كان يرفض فيه العريض عن جد أخذ أي شيء، والاكتفاء باستضافته في تلك المحنة التي حلت بالجميع عربًا ولبنانيين.

وفي بعض الليالي كانت تزوره صديقته الجنوبية؛ لتمضي الليل معه في أحضانه في غرفته المنعزلة إلى حد ما عن الغرفة التي اختارها صاحب المسكن لنومه الليلي المتقطع، وشخيره العالي المتصل، ومعاركه مع نفسه عبر كوابيسه الملازمة، التي ادَّعى لكل من حادَثه فيها بأن العتب ليس عليه، بل هي الحرب ودمارها حتى في النوم والمضاجع.

ودأب هو بدوره على زيارة صديقته التي دفعها واجبها إلى التطوع لخدمة المصابين والجرحى من الشباب والأشبال بمستشفى هذا المخيم الفقير الذي جمع معدمي الشعبين الفلسطيني واللبناني، ومعظمهم أيضًا من مهجري الجنوب الذين فروا إثر اعتداءات العدو المتسلط المتعاقبة، وآخرها هذا العدوان الذي وصل ذروته بحصار بيروت، بل واقتحام أطرافها وتقطيعها قطعًا على مشهد من أهلها المثقلين.

كان يأخذ طريقه إلى المستوصف عبر شوارع شاتيلا وأزقتها العفنة، مستطلعًا وجوه الناس البسطاء الذين لم يتخلوا للحظة عن ابتساماتهم البشوشة برغم جسامة المحنة بالعدوان والخطر الداهم المحاوط برًّا وبحرًا وجوًّا، في استباحة ما بعدها استباحة تجيء على هذا النحو منذ ما قبل ١٩٤٨، لحين التواجد الفعلي، والتباهي بالنجمة الغازية «الطوطم» المسدسة، تعلو بفعل وهج القنابل الفوسفورية، وعبر أستار الليل الكثيف، وانقطاع الكهرباء فوق أعلى معالم المدينة العاصمة بيروت، ورموز كرامتها، دون أدنى استحياء.

رغم ذلك، لم يتخلَّ هؤلاء القوم السمحاء عن ابتساماتهم المرحبة، خاصة للغرباء؛ حيث إن السكان بدورهم غرباء، ومن هنا يجيء التعاطف متجانسًا لا رياء فيه: وطن الغرباء.

بل هو تعرَّف إلى الكثيرين منهم رجالًا ونساءً، تعرَّف على أسرة شيعية لبنانية: أم وخمس أخوات في سن متتابعة متقاربة، وجميعهن حتى الأم لم يتركن لحظة وداع وتساند مع الخارجين أو المطاردين.

وحكت له الأم البشوش الهرمة كيفية إنقاذها لبناتها وأولادها هربًا بالجلد من مجزرة مدينة الخيام الأقرب من متاخمة الحدود الإسرائيلية في الجليل الأعلى حين اجتاحتها الميليشيات الإسرائيلية عام ١٩٧٨، فقتلت معظم ذكورها عن آخرهم من آباء وجدود وأشبال.

كما استمع من مصحح لغة عربية طويل القامة، أحمر الوجه، يدعى عساف قسيس، كيف أحالت إسرائيل بلدتهم بكاملها بالقرب من صور، بعد أن أجبرت سكانها قتلًا وتهجيرًا على أن يخلفوها مفرغة من كل حياة؛ لتقيم فيها القوات الإسرائيلية بروفات حرب حية على الطبيعة؛ لإتقان — أو إخراج — حرب المدن، بنسف الدُّور والمدارس والمستشفيات وكل مَعْلم لحضارة وحياة.

لماذا؟

كان يحلو له آخر النهار ومع حلول المساء اصطحابها من عند الباب الخارجي المطل على حديقة تفضي إلى سلالم المستوصف، حين كانت تمد له ذراعيها الاثنتين القصيرتين كمثل عصفور جريح محلق، ومن فورها تلقي بنفسها بين أحضانه لاثمةً مطلع عنقه، ويمضيان يجوبان الشوارع ولهما هيئة أب وابنته … وحيدته.

يغوصان في أوحال المخيم، يتطلعان خلسة إلى الوجوه المحاصرة في صمتها المطبق كمثل ذبائح الضحية، يعملون: يبيعون ويشترون ويتزاورون، ويتحلقون حول دكاكين وعربات الأكل والفاكهة وخبز الزعتر، انتظارًا لأن تعمل بدورها آلات الحرب الأمريكية القادمة عبر البحر فعلها في لحم أجسادهم وفقرهم «الدقة»، كما لو أن الهدف الفعلي هو اندثارهم: الفقراء.

كانت كثيرة التساؤل بلا كلمات: لماذا الأمر على هذا النحو؟

أما هو فكان يجيبها بأنه لا يصدق، وأكثر ما يضايقه هو هذا الأمر، أن لا تصدق ما ترى وتشهد إلى حد الدهشة.

صحيح أن مثل هذا الأمر كان من الممكن أن يصادفه عبر حكايات القرى والحقول، حين كان صاحب النجمة المسدسة يحرث أجساد أعدائه الفلسطينيين والأردنيين بالنوارج، والباجات ذات اللفافات حصدًا جماعيًّا.

لعله ما يحدث أو يقاربه؛ فالحصاد هذه المرة يجيء نيرانًا ونابالمًا عبر الزوايا الست أو المسدسة، بالإضافة طبعًا لمكبرات الصوت والبث ذات اللهجة المهذبة التي تُطالب أشلاء سكان هذه المدينة وغيرها بالفرار هربًا بالجلد.

– إلى أين؟

الناس لا يكفون عن الفرار، إن جنوبًا أو عبر أحياء العاصمة وشقوقها وأطرافها المقطعة وضواحيها، لا شيء أصبح يمكن أن يُرى سوى وفود وكوميونات المهجرين يسدون كل منفذ ومدخل لبناء، أو حديقة هامة، أو واجهة سينما بالحمراء.

وحيث كثيرًا ما يأخذان طريقهما إليها، يمضيان هكذا متسكعين من طوار لآخر بلا هدف واحد، سوى مجرد التطلع إلى وجوه وهيئات ما تبقى من أحياء، وحتى يحين الحين، بانتظار ما يستجد من أدوار وحصد.

وذات يوم، وجدا نفسيهما على مقربة من البناية التي فيها كان يقيم المهاجر، والتي لحقها القصف الجوى فتهدم طابقها العلوى ومدخلها الذي سُدَّ تمامًا، فشلت حركتها، وعنها رحل سكانها.

مضى يتأمل من داخل الجراج المهجور الواقع خلف البناية إلى حيث مسكنه الذي كان، كتبه ومخطوطاته وملابسه.

وكم كان حبوره وإكباره لفروسيتها حين أخبرته من فورها بأنها ستصعد مستعينة بسلم إلى بلكون بالطابق الثاني، ومنه إلى ما يليه حيث مسكنه، وستلقي إليه خاصة بمخطوطاته التي كان منشغلًا بالعمل بها قبل العدوان، وما يعنُّ له أيضًا من أشياء بسيطة.

في البداية، وحرصًا منه عليها، حاول ثنيها عن مثل هذا الفعل، فلا داعي للخطر، ويكفي ما نحن فيه.

إلا أنها أصرَّت معدلة عن كيفية التسلل عبر باب الشرفة إلى داخل المسكن بلا مخاوف.

ومن فورها، قفزت جارية إلى البناية المجاورة، ونجحت بمساعدة ناطورها في إحضار سلم خشبي، تسلقته حتى أصبحت داخل المسكن، وراحت تلقي إليه بأوراقه وما وقع عليه اختيارها من ملابسه وأشيائه ضاحكة، وهي تمازحه ممتنعة عن إحضار بعض الأشياء في عبث بناتي محبب، إلى أن نجحت نازلة: ها أنا قد نجحت … أنفع.

وضحكا طويلًا وهما يأخذان طريقهما بعد أن ساعدته في حمل معظم أشيائه في حنان، إلى حيث مسكنهما الجديد في شاتيلا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤