الفصل الخامس والعشرون

جاءهما صاحب المسكن محمود العريض فزعًا مروعًا إلى حد أنه كسر مزلاج باب المسكن الخارجي، معلنًا أن الإسرائيليين «الجِزَم» لم يكتفوا بما فعلوه بلبنان، فاغتالوا الرئيس المنتخب بشير الجميل، وكبار جنرالات ميليشياته في ذات التوقيت الذي أعلن فيه تأهبه لافتتاح جسر فؤاد شهاب، أو جسر الاتصال بين العاصمتين، بيروت الغربية والشرقية؛ إذ كيف يتوحد لبنان وتلتئم لحمته؟ هم لا يريدون له سوى التمزق، عزل اللحم عن اللحم، تساءل ثلاثتهم، ولعلهم اتفقوا: لازم يعملوا حاجة.

يدخلون بيروت الوطنية بعد رحيل المقاتلين الفلسطينيين الذين أوقفوهم وصدوا عدوانهم بحجة تمشيطها، ويعملون مذابحهم.

هبَّت من فورها عن فراشها مؤكدة في صمتها العظيم: هنا.

– ما العمل؟

أجاب العريض وهو يتحرك بشكل مكوكي لا إرادي يأكل في نهم، ويحتسي البيرة، ويحشو منخاريه، ويعطس بحدة: هنا مثل هناك … لا مهرب.

تلاقت عيونهم في ذات اللحظة التي واجهت هي فيها المرآة بذات الصمت.

أعلن الراديو اغتيال الرئيس والحداد.

قال العريض: وجاءت الأخبار كالعادة سابقة لكل توقعات قبل حلول المساء الدامي وبصر العالم … الخول.

قبلته ضاحكةً وبدورها قبلت العريض: موعدي، عندي شفت الليلة.

– الليلة.

ود لو أنه قفز إليها معترضًا هذه المرة معلنًا هواجسه، ما يعتمل في داخله، ولا يعرف كيف يمكن أن يعبر عنه، يفصح عنه: بنتي.

انتفض واقفًا مجاهدًا في ألا يبدو منحنيًا، واندفع يلثمها في كل ما هو عار من جسدها جاثيًا على ركبتيه، حتى ملابسها، بنطلونها الجينز القديم، أذنيها، عينيها، سوارها الذهبي.

تجسدت له كلُبنان.

أرزة قصيرة في مقدور أي رياح معتدلة اقتلاعها.

أما هي فمضت تلحس حواف فمها غير مستوعبة ما يحدث، على عادة الضحايا … بل هي أعادت إيقافه على قدميه منتصبًا وتأملته لحظة.

وجاءت الأخبار كالعادة سابقة لكل توقعات قبل حلول المساء الدامي في شاتيلا.

غمغم لنفسه: الليلة تباع الرءوس بيع السماح.

تذكَّر كليب الفلسطيني ملك العرب.

أذاع راديو محمود العريض الترانزيستور «المتآمر» سلسلة من الأخبار التي جاءت كمثل جلد على بطن عارٍ.

واندفعت الفتاتان الفلسطينيتان اللتان اختفى مرحهما العربيد في أعتى ساعات المحنة عقب استشهاد رفيقتهما الثالثة شادية، داخلتين مُحمَّلتين بأخبار جديدة: لا قدم واحدة في الشوارع، مخلوق، سوى الكلاب الضالة المسعورة.

اندفعوا جميعهم خارجين مسرعين، وفي أعقابهم المهاجر «المصري»، نازلين السلالم متداخلين في الأجساد الكثيرة التي زحمت السلالم وما تحتها، وطرقات البناية، وقد عمَّهم الصمت، فتحولوا جميعهم من رجال ونساء وصبيان إلى عيون مفتوحة عن آخرها، تعمل فيما حولها من فراغ نصف مظلم، أما الآذان والحلوق فلا عمل لها، لا كلمات، ولا سماع لأناشيد الراديو الحماسية التي تبث غنائياتها عن لبنان: أحبك يا لبنان. يا وطني أحبك.

ثم سيول الأخبار المميتة حتى العظم للتهديدات الإسرائيلية لجيش الدفاع ضد من، هؤلاء الناس، والأطفال الرضع. خرجوا أربعتهم إلى الشوارع التي غطاها الصمت المترقب، لا سيارات ولا بشر ما عدا الكلاب التي تَزايَد سعارُها، في عراك ضارٍ حول أكوام الزبالة وصناديقها وروائحها.

ظلوا يمشون في ظل الحواري ميتة الحركة، ومنها إلى الشوارع، إلى أن قاربوا مبنى المستشفى التي تبدت وحيدة بيضاء، تنبض فيها بقية حياة، حيث تكوم الأهالي هنا وهناك، وزحموا حديقتها قصيرة الشجر العارية.

مرق سرب من الطائرات الأسرع من الصوت، وعليها ثبتت كل العيون عاليًا.

وكان قد انفصل عن العريض وفتاتيه الفلسطينيتين متخذًا خطاه وحده باتجاه المستشفى.

ألقى السلام على الجرحى وأهاليهم وصافح أحدهم مندفعًا صاعدًا السلالم المفضية إلى داخل عنبر الجرحى.

وما إن التقيا حتى أسرعت إليه ملقية بنفسها بين ذراعيه على مرأى من الجرحى والمصابين الذين ركزوا أبصارهم الكليلة عليها.

– ماذا يحدث؟

أزاحت قناعها عن وجهها النضر المبتسم: لماذا جئت؟

أفضى إليها بما يختنق به هذه الليلة: هذه الليلة الليلاء؛ دعيني أتأملك.

قدمت الفتاتان مسلمتين عليها، وفي أعقابها العريض.

– ما الأخبار؟

– يزحفون أكثر باتجاه بيروت بمدرعاتهم ودباباتهم.

صرخ أحد المقاتلين الجرحى دفعة واحدة على صوته من خلفهم: تعالوا.

وبدا كما لو كان يهب لتوِّه من نومه، أو يجاهد في أن يهبَّ واقفًا باحثًا عن سلاحه: خونة.

انسلت هي من بينهم منزلة من جديد قناعها على وجهها جارية إليه مسندة مهدئة، معبرة بذراعيها المفتوحتين، وصدرها الرحب العريض، وإيماءاتها بكاملها، خاصة تللك الابتسامة الحانية التي كانت تفتق الخباء أو القناع عن وجهها.

أخذته في صدرها ضامة معيدة رأسه المقاتل الشبل على نهديها الحانيين إلى وسادته؛ ليعاود النوم من فوره كمثل طفل بين ذراعي أمه: بيتقدموا صوبنا.

صرخ العريض بدوره مهتاجًا وهو يتراجع عن الشرفة المطلة على التلال القريبة، كان المساء قد بدأ يحط جاثمًا: العدو يزحف … يقترب.

سمعت الطلقات المدوية تجيء من كل الاتجاهات الأربعة المسورة للمخيم فترة.

وبدا الترقب الشديد على وجوه الجرحى والمصابين الذين قاموا جميعهم عن مضاجعهم في تحفز، بل إن البعض منهم تحامل ممسكًا بسلاحه.

انفتح الباب على مصراعيه؛ حيث قدم أهالي المصابين وذووهم، فلم يعرف من يحتمي بالآخر، سوى أن الأمهات قاربت أكثر أبنائهن وبناتهن.

– مهرب … مغيث.

النيران القريبة تواصل حصارها حيث تساقطت المباني، وارتفعت الحرائق، والتهب الجو بكامله، فتحول الفراغ إلى كتلة متوهجة من نارٍ تسدُّ كل منفذ وأفق.

قاربته أكثر وهو يتداخل في الأجساد المندفعة التي راحت تتقارب وتتلاصق، حتى إن الجرحى قاموا بدورهم عن سرائرهم، وتلاصقت الأجساد أكثر فأكثر، إلى أن أصبحت كتلة واحدة قابلة على الدوام للاستزادة بقدوم بقية المرضى والممرضين والأطباء.

وتحول الليل إلى نهار بفعل القنابل الفسفورية التي تفجرت في السماء كاشفة كل أرجاء المعسكر وتفاصيله، بل إن تفاصيل الجنود المعتدين بآلات حربهم التي تبدت أكثر شيطانية ووضوحًا وهم ينسفون البنايات المحيطة التي نزل عنها سكانها، متلاصقين على ذات النحو، كمثل جسد واحد يتعذر انفكاكه لحين أن تحصدهم النيران، فيسقطوا على ذات الوضع المتلاحم كتلة صماء واحدة … جثة.

حاول محمود العريض وهو يتداخل أكثر في الفتاتين وبقية الموجودين التنبيه لما يحدث، صوت مكبرات الصوت العالية التي لا يصل صوتها بفعل القذف المتواصل والانفجارات وصرخات أهالي المخيم، الذي تحوَّل بكامله إلى كتلة من النيران الزاحفة دون أن يسمع شيئًا.

كان المعتدون يصعدون البنايات المحيطة والمواجهة، بأيديهم مدافعهم وقنابلهم، بل وسيوفهم وخناجرهم التي تقطر دمًا، بفعل وهج القنابل الفسفورية: مذبحة.

أحاط بالمستشفى كتيبة كاملة من الجنود، وبدوا وهم أكثر قربًا مقنعين، لا يبين من وجوههم المتحفزة للقتل والتمثيل بالجثث لتغيب ملامحها سوى عيونهم الغريبة الملونة.

صرخ أحدهم بالعربية: العواجيز هنا.

هنا اندفع الجميع جريًا ينزلون السلالم، إلا أن بقية الجنود المهاجمين تفرسوهم مسرعين، معيدين الجميع، فيما عداه «المهاجر»، وفي أثره العريض الذي بدا للحظة مهدمًا لا يقوى على الوقوف.

وقبل أن يستدير المهاجر كانت النيران قد حصدت الجميع من ثلاثة اتجاهات، حيث سقطوا من أعلى السلالم كتلة واحدة.

وتقدم الباقون بأيديهم سلاحهم الأبيض، فمضوا من فورهم يجزون الرءوس، أحس بأن عينيها كانتا تحطان عليه، وهو يركض هلعًا عبر الأستار وأحد الجنود يمزع بطنها عرضًا: ابنتي.

ظل المهاجر ورفيقه اللبناني يجرون عبر أستار الليل، وانضم إليهما بعض الراكضين والهاربين، إلى أن خرجوا من أسر المذبحة … شاتيلا.

كان ما يزال نائمًا على مقعده، رأسه إلى الوراء وغطيطه المتقطع غير المنتظم يثير الركاب.

حين أعلنت مضيفة الطائرة الوصول بسلام إلى مطار القاهرة: سلام.

وداخل ردهة الوصول بالمطار، تمثل المنظر داخل مطار القاهرة ذاته هذه المرة، الجنود الإسرائيليون بخوذاتهم النحاسية وأسلحتهم وعدوانيتهم يحيطون فتاته من جهات عدة مطلقين النيران إلى أن سقطت ممددة على أرض المطار، فبقروا بطنها، قال: هنا … هذه المرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤