الفصل الرابع عشر

قال محدثي: ولم تكن منيرة قانعة بمختار، إنما كان لها غيره من الشبان والشيوخ عدد كثير، وحدث أنها أوقعتها الظروف في شاب مريض بداء النساء، ومرض النساء هو المرض الذي نسبه الناس إلى الزهرة «إلهة الجمال عند الأقدمين»؛ لأنه يتسبب من الانقياد للجمال واتِّباع هوى النفس.

ومن الغريب أن منيرة كانت تخبر مختارًا بأنها مريضة وتهدده بالعدوى إشفاقًا عليه وخوفًا على صحته، ولكنها لم تكن تنصحه بكلام بيِّنٍ واضح، وتقول له: «لا تقربني، فإنني مريضة، وإذا دنوت مني ربما أصابك مرض.» إنما كانت تتيه عليه وتمتنع عنه، فيظنها المسكين تداعبه، ويحسب امتناعها دلالًا، فيزداد إليها شوقًا، ويكاد قلبه يقطر دمًا إذا أصرَّت على إبائها ومنعته لذة وصالها.

وكان مختار يرى على منضدة قاعة النوم زجاجات وآلات طبية، وكان يرى جسم منيرة نحيلًا ووجهها أصفر، على أنه لم يفكر ولم يحسب للمرض حسابًا؛ لأنه أعماه الغرام عن كل شيء، ومثله كمثل الفَرَاش يعلم أن النار تحرقه ولا ينفك عنها، ومن يدرينا أنه كان يعلم بمرضها، وهو يغش نفسه ويُقنع ضميره بأنها صحيحة؛ ليقضي لذة لا تدوم طرفة عين، ومن يدرينا بأن تلك اللذة القصيرة كانت هي نعيم مختار، ومن أجلها كان يعيش، ولا يستطيع الحياة بدونها، فكان يضحي في سبيلها كل شيء، وقد رأيناه يضحي ماله وشرفه وأمه، فكيف لا يضحي صحته؟!

ولما كان مختار يخبرني بذلك، وكنت ألومه على اندفاعه في تيار الملاذ، كان يقول: إن الحياة هي الغرام، ولا أدري ماذا كان يعني بالغرام، وأظنه كان يعني بالغرام القرب من منيرة ووصالها، على أن جسم مختار لم يكن يتحمل مضار الخمر والسهر، ويفرُّ من جراثيم المرض، فأصيب المسكين بداء إلهة الجمال.

ولما اكتشف ذلك، أتاني كالمجنون، وأخبرني بذلك آسفًا باكيًا، فهدأتُ روعه ورأيت أن اللوم والتعنيف لا يجديان نفعًا بعد أن سبق السيف العذل، فقلت له: وبماذا تحس الآن يا مختار؟ قال: أحس بآلام شديدة إذا أكلت شيئًا في لساني وحلقي، وفكري مضطرب، وشهية الأكل مفقودة مني بالمرة، وقد رأيت صباح اليوم جرحًا صغيرًا في … وعظامي توشك أن تتفتت، ومعدتي مرتبكة، وأحس بألم شديد في رأسي، ونومي قليل. قلت: هذا ما تحس به من المرض، فماذا تحس نحو منيرة، وأنت تعلم أنها سبب هذا المرض؟ قال: ما لنا ولهذا السؤال الآن؟ أنا في مرضي وقلبي في غرامه. قلت: إن شفاءك يترتب على جوابك لي. قال: إذا كان الأمر كذلك فاعلم أنني لا أزال أحبها، ولن أزال أحبها إلى الأبد مهما سببت لي من الأمراض والعاهات والعلل والفقر والحاجة! قلت: ألا تبغضها بعد ذلك؟ قال: ليته كان في وسعي أن أبغضها لحظة! قلت: وهل علمت منيرة بما أصابك، قال: نعم، قلت: وماذا قالت لك؟

قال: إنها اصْفَرَّ لونها، وقالت: إن كل الرجال يصابون بهذا المرض مرارًا … ثم لامتني على عدم قبول نصائحها، ووصفت لي بيت أحد الأطباء. قلت: ومن هو هذا الطبيب؟

قال: هو الدكتور «س»، وعيادته في شارع … نمرة ١٠، ولذلك أتيت إليك الساعة لتصحبني إليه.

وقد حزنت جدًّا لحال مختار، وعز عليَّ أن أتركه يذهب إلى الطبيب منفردًا، كما ذهب إلى منيرة منفردًا …

•••

ولما طرقنا باب الطبيب، فتح لنا شاب رومي، ثم دخلنا ورأينا خادمًا يحمل بين يديه دلوًا فيه ماء قذر، وسمعنا أصوات أبواب تُفتح وأبواب تُقفل، ودخلنا قاعة صغيرة فيها مقعد وأربعة كراسي، فجلسنا، وكان في القاعة شاب أصفر شاحب الوجه، عيناه بارزتان، وهو يتناول إحدى الجرائد مرة فلا تلبث في يده دقيقة حتى يلقي بها، وهو في كل لحظة يتململ في مكانه كمن يحس بألم شديد، أما قاعة الاستقبال أو الانتظار التي جلسنا فيها فكانت متوسطة في الحجم، وكان في وسطها منضدة عليها جرائد ومجلات مصورة، وعليها «علبة كبريت»، وكم يد قلبت هذه الجرائد والمجلات! وكم مريض أمسى الآن تحت الثرى جلس في هذه القاعة!

ومن عادتي أنني إذا جلست في غرفة الاستقبال في دار الطبيب أن صدري يضيق ضيقًا شديدًا، فبقيت أقلب أجفاني في هذه الغرفة، لعلي أجد ما أتسلى به، فرأيت صورًا كثيرة معلقة على الحائط، فقمت أنظر فيها، وقد استلفتتني كثيرًا صورة بسيطة، وهي صورة رجل وامرأة جالسين على مائدة الطعام وبجانبيهما طفلان صغيران، فهي إذن صورة السعادة المنزلية، ولو كنت رأيت هذه الصورة ألف مرة في غير هذا المكان، لما كنت دهشت لرؤيتها، ولكن كأن الدكتور «س» أراد أن يعلِّم مرضاه درسًا صغيرًا بوضع هذه الصورة، وكأنه يقول لهم: لو تزوجتم وأتيتم بأطفال يدلونكم على السعادة لما احتجتم إلى المجيء إليَّ، فتنبَّهوا وأصلحوا من شئونكم، وإذا شُفيتم اليوم فلا تعودوا إليَّ مرة ثانية.

فلما أطلت النظر إلى الصورة سألني مختار أن أجلس بجانبه ليحادثني، فجلست، ولكنني لم أشأ أن أكدره بكلامي عن الصورة؛ لأنني رأيته مهمومًا، ثم دخل علينا رجلان مصريان، أحدهما بعمامة وعليه علائم الوقار، والآخر بطربوش، أما صاحب العمامة فكان صوته خشنًا، ويظهر أن في حلقه عاهة تمنع خروج كلامه بالصوت الطبيعي، ويظهر أنه بقي كذلك أمدًا طويلًا؛ لأنه كان يتكلم بسهولة تامة كأنه تعوَّد على ذلك الصوت وتعوَّد ذلك الصوت عليه، ويظهر أن الشاب الذي كان معه كان فريسة جديدة وأتى به ليرشده إلى دار الطبيب؛ لأن الشاب كان خائفًا وجلًا، ثم دخل علينا شاب صغير لا يزيد عن ثمانية عشر عامًا، وتحت إبطه محفظة الكتب، فعلمت لأول وهلة أنه تلميذ في مدرسة، فقلت لنفسي: وماذا يعمل التلميذ في دار الطبيب الذي كتب على بابه:
عيادة الدكتور «س» …
اختصاصي بأمراض المثانة وأمراض النساء.
متخرج من كلية باريس وعضو الجمعية الملكية الطبية.

ولقد كادت تحملني الجرأة على سؤاله عن أمره، فخشيت أن يردني ملومًا وعيادة هذا الطبيب بالدور، ومعنى ذلك أن من أتى أولًا يراه الطبيب أولًا، فلما انتهى دور الشاب الأصفر الذي كان جالسًا عند دخولنا أتى إلينا مساعد الطبيب ودعانا إلى غرفته، فقمنا ودخلنا قاعة رحبة فيها في ناحية منضدة كبيرة عليها قنينات وأدوات طبية، وفي سقفها زجاجتان كبيرتان فيهما ماءٌ ودواءٌ لونه أزرق، وفي وسط الغرفة شيء شبيه بالسرير، وفي ناحية من الغرفة منضدة عليها ميكروسكوب، ومنظار كبير، وزجاجات صغيرة، ورأينا الطبيب واقفًا وهو لابس ثوبًا من القماش الأبيض ليقي ملابسه من قذارة العقاقير، فلما رآنا أدخلنا إلى قاعته الخصوصية، وفيها خزانة كبيرة فيها كتب، وخزانة أخرى فيها عِدَد الجراحة، وخزانة ثالثة فيها هيكل إنسان من العظم، وحول الحائط صور مصنوعة من الجبس تمثِّل أعضاء التناسل المصابة بأمراض النساء، وأقول الحق: إنه بمجرد رؤيتي لهذه الصور أحسست بخفقان شديد في قلبي، وغاب رشدي.

ولما جلسنا سألنا الدكتور عن حاجتنا، فحكى له مختار كل شيء، فقام إليه الطبيب، ووضع نظارته على عينيه، وفحصه، وجس نبضه، ووضع سماعة على قلبه، وفتح عينيه، وجس حلقه، ثم أخذه في غرفة مستترة ليرى ما خفي من جسمه، ثم عاد وهز رأسه، وجلس صامتًا، وكان مختار أصفر يرتجف من الخوف، فسألتُ الطبيب بالفرنسوية عن المرض، وكان مختار لا يعرفها، فابتسم ابتسامة برد لها الدم في عروقي، وقال: إن الإصابة بسيطة، ولكن هل أنت قريبه؟ قلت: لا، قال: إنه يشفى سريعًا، ولكن مرضه ينتهي بالجنون، فوجمت من هذه الكلمة، وقلت: راجع نفسك أيها الطبيب، قال: أنا متحقق مما أقول، وأول قاعدة عندنا في فن الطب هي أن لا نضر المريض وأن لا نكذب عليه، قلت: ومن أين عرفت أن مرضه ينتهي بالجنون؟ قال: لأنه ورث الداء من أبيه ثم أصيب وهو صغير السن، وهو مفرط في صحته، ويشرب الخمر كثيرًا، ويتناول الحشيش وما يتبعه.

وعند ذلك رأيت مختارًا مهتمًّا بحديثنا، فقلت له قبل أن يسألني: إن الطبيب يقول إن الإصابة بسيطة، ويجب عليك أن تمتنع منعًا باتًّا عن الخمر والدخان والعنبر والنساء والقمار؛ لأن الأولى تضعف الكبد، والثاني يضعف الرئتين، والثالث يضعف العقل، والرابع يضعف الجسم كله، والخامس يؤثر على الجهاز العصبي.

وعند ذلك تناول الطبيب قلمًا، وبقي يكتب طويلًا في دفتره الخاص، ثم أخذ ورقة، وبقي يكتب تذكرة الدواء، ثم أعطانا إياها، ووصف لمختار طريقة استعمال الحبَّات وطريقة شرب ما في الزجاجة، ثم قال له: عد إليَّ بعد خمسة عشر يومًا، ثم ودعنا وخرجنا من غرفته الخصوصية، فمررنا بغرفة العمليات، فرأينا منظرًا استوقفني طويلًا، وهو منظر ذلك الشاب الذي ظننته تلميذًا وهو نائم على السرير الموجود في وسط القاعة، وهو مكشوف الجزء الأسفل من الجسم، ومساعد الطبيب يعالجه بالدواء الموضوع في أعلى الغرفة، فلما رآنا الشاب خجل خجلًا شديدًا، واحمرَّ وجهه، وأغمض عينيه، فقلت في نفسي: ما كان أغناه عن تلك اللذة التي سببت هذه الرقدة …!

ولما خرجت من عتبة دار الطبيب وشممت الهواء النقي أحسست بأني خرجت من الجحيم إلى النعيم، ولكن نظرت فإذا بمختار بجانبي، فقلت: لا تزال معي قطعة من النار يحملها ذلك المسكين، وذكرت كلام الطبيب فبكى قلبي وبكت عيناي على ذلك الغصن الرطيب الذي تقصفه المنون قبل الأوان.

ولما بلغنا ملتقى الطرق، افترقنا ونحن صامتان، فذهب هو إلى داره، وذهبت حاملًا تلك الذكرى المؤلمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤