أقوال لتوفيق الحكيم

إن من المهم فتح الملفات، لماذا؟ لأنه في فتح الملف عدم اتهامُ فترةٍ بحالها. وإذا كان اتهامًا فحتى هذا يبقى شيئًا مطلوبًا. أيضًا، الاتهام معناه أنه فُتحت قضية، وفيها دفاع، وفيها خبراء، وفيها تقييم. إنما هم قالوا هجوم. هذا الهجوم يُفهم منه أنه توجد عمليةُ هدمٍ لشخص أو لفترة. فالمسألة هي أنه عندما نرجع لما حدث، نجد أني أقول يا ناس نحن نريد أن نفتح ملفًّا لنصل إلى حقيقة. وأنا أرجو أن هذا يُسفر عن براءة، أو تخفيف عن مسئوليات شخص أنا أحبه، وأعتبر أنه كان هناك كثير من التلاقي الروحي والتلاقي الفكري بيننا، ولكن لماذا هذا؟ لأن المسألة إذا انقلبت إلى ضريح وعبادة شخص، فمن الذي يستفيد منها؟ الكهنة والسدنة.

فالقضية هي أن الناصرية كعبادةٍ خطرةٌ على اليسار قبل كل شيء، لماذا ليست خطرًا على اليمين؟ اليمين سوف يكسبها. اليمين قوي جدًّا؛ لأن اليمين هو الأصل في الإنسان. الأصل في الإنسان أنه يميني، واليسار هو الطارئ، كيف؟ الأصل في الإنسان الأول عندما يولد طفلًا … فهو يميني، يعني يريد الأوضاع كما هي، وبعد ذلك يكبر على أوضاع قائمة وقديمة، فيقال له جدك كان يعمل كذا، والمسائل كذا. أما اليسار كما أفهمه أنا فهو التغيير الطارئ؛ يريد أن يعمل ما يريده … يريد أن يغير. فإذا بحثت عن ماضي اليسار، وفي أي زمن كان، سنرى أن ماضي اليسار على هذا المفهوم يرجع إلى أيام إخناتون، لأن إخناتون جاء فلقي أوضاعًا مستقرة في عبادة آمون، ولقي الكهنة مسيطرين وقد وضعوا تقاليد معينة، وأن لهم قوة كبيرة؛ لأنهم هم الذين كانوا يحكمون من وراء الفرعون. فجاء إخناتون كيساري؛ لأن اليسار هنا يعني الذي يريد تغيير وضع قائم وجامد. الأنبياء كانوا كلهم في عصرهم يساريين؛ أي مجددين، مثلًا محمد وعيسى جاءا للتغيير، يعني تغيير أوضاع استقرت في المجتمع، ويجب إصلاح هذه الأوضاع والأفكار والعقائد القديمة بتغييرها بعقائد وأفكار جديدة.

فعملية التفكير بعد استقرار الدين يظهر أنها غير مسموح بها، هي كانت مسموحًا بها مع الثائر الذي هو النبي. الثائر الأول يسمح لك بالتفكير والمعارضة؛ لأنه هو نفسه ثائر ويريد أن يعرف الحقيقة. إنما بعد أن عُبِد وبقي مقدسًا وأصبح له كهنة وسَدنة يغلقون عليه الأبواب ويمنعون التفكير والاجتهاد، فإن المجتمع يعود إلى الركود والتجمد … فإذن أنا أخاف من التجمد، أخاف من الناس الذين في طبيعتهم التجمد لأسباب طبيعية فيهم أو لفوائد ومصالح. وهؤلاء — مع الأسف — في كل الدنيا لهم أغلبية. إذن هناك ناس خُلِقوا على الأوضاع التي تُجمِّد. ومن هنا الخوف من تجميد الفكر. اليمين الرجعي يحب إما أن يثبت في مكانه وإما أن يرجعك إلى عهود قديمة لا تنطبق على وقتنا الحاضر ويجعلها هي المقياس … الوراء لا يمكن أن يكون مقياسًا إلا في الأشياء الثابتة الخاصة بأساس لا يتغير. يعني مثلًا شعورك بالقوة الكبيرة التي هي الله، كما جاءت به الأديان، لكن عندما يتدخل الكاهن ورجل الدين ليخطط لمجتمع حاضر بمفهوم قديم، يقول إن هذا التخطيط الذي صلح للماضي يجب أن ينطبق عليك حاليًّا، بلا اجتهاد وبلا تفكير، فهذه تبقى عملية تجميد للمجتمع وللإنسان البشري. يبقى أن هذا الإنسان لن يقوم له قيام. في هذه الحالة يقوم اليسار. لكن ماذا تعني كلمة يسار؟ كلمة اليسار في مصر شوهت؛ لأنه لا ضابط ولا رابط لها، حتى صارت تهمة. العملية إذن عملية عدم ضبط للمعاني وتحديد للكلمات، ولذلك لم أكن أحب أن أستعمل كلمة يساري ويميني؛ لأنها تأخذ معاني أنا لا أقدر أن أضبطها. ولذلك أنا كنت أقول أنا لا أعرف هذا الكلام ولا أحب هذه اللافتات. أنا خذوني بالسلوك والعمل، لكن لا تأخذوني بالأشكال. وعدم ارتباطي بالشكل السياسي في ثورة ١٩٥٢م هو ما يفسر موقفي.

•••

اليوم في الواقع المصري سوف تحصل عبادة لعبد الناصر تمنع من محاسبة أعماله، والأعمال التي حصلت في عصره، والذين يريدون منع المحاسبة أو وصفها بهجوم سيقيمون ضريحًا مقدسًا حوله كهنة سيستفيدون منه، ولن يستفيد منه اليسار أو التقدم البشري. إرجاعه إلى بشر مسئول يعني أننا سنحاسبه، إذا حاسبته فربما كان ذلك في مصلحته، وقد تصبح مسئوليته في الخراب الذي حصل ۲۰ في المائة، ويمكن ٣٠ في المائة يعني، فلنقل ٥٠ في المائة عبد الناصر ومن هم مسئولون معه.

أما الخمسون في المائة الباقية فهي مسئولية كل الناس؛ وهم من أول المخابرات ومن مراكز القوى؛ لأن مراكز القوى هذه مراكز تنشأ وتتكون دائمًا من الحكم الفردي المطلق أصلًا … أنا فعلًا موقفي كان الموقف النابع من التاريخ السياسي المصري في العشرينيات حتى مجيء عبد الناصر. كنت عارف الحكاية. يعني أنظر لها نظرة معينة. وهذه النظرة أن تاريخ مصر السياسي من العشرينيات، لغاية الثلاثينيات، لغاية الخمسينيات، التي هي الثورة المصرية، كان يسير في طريقة واحدة، وهي الاهتمام بالشكل دون المضمون: دساتير … الدستور، دستور ١٩٢٣م، فإذا جاءت أغلبيته مثلًا شعبية … يقول عبد العزيز فهمي الذي وضع الدستور: إنه ثوب فضفاض، ونحن نريد لنا دستورًا معينًا ليأتي بالمفكرين. ويأتي الوفد فيقول: نريد دستور ۱۹۲۳م. وبعد ذلك يأتي الملك والإنجليز ليوقفوا هذا وذاك. يوقفوا البرلمان، لدرجة أني كتبت أقول: البرامج أولًا، طيب أين برنامجكم؟ البرامج غير موجودة، فالمسألة كلها تدور حول الشكل، أي شكل الحكم. لكن أين مضمونه؟ أين برنامجكم؟ داخلين الحكم لماذا؟ وابتدءوا مهاترات في مسائل كلها مسائل شكلية، وتركوا البلد وتقدمها لنفسها، فإذا كان بنك قد أُنشئ فبمجهود رجل خارج الحكم، مثل طلعت حرب. وإذا كانت هناك نهضات أدبية وفكرية فقد قام بهذا الأفراد، أما الحكومات فكانت مهتمة بالشكل الدستوري، وظل هذا الشكل أغلبية وأقلية، والحزب الفلاني جاء والحزب الفلاني لا يمكن أن يحكم هكذا، ثلاثون سنة لغاية ثورة ١٩٥٢م. فإذا بثورة ١٩٥٢م تأتي وتعمل العكس. دخلت بمضمون وإنجازات بلا شكل، يعني جاءت كرد فعل للماضي. لكن أين الشكل؟ الشكل غير قائم، إنما هم جماعة جاءوا مخلصين، وشباب وطني، ودخل ينفذ المضامين والشكل لا يهم. ومسئوليتي في هذا جسيمة. لماذا؟ لأن هذا الكلام بالضبط قلته في «شجرة الحكم»، قلت: لا ينقذ البلد غير ثورة مباركة، ولا أعرف كيف حدث هذا، كيف حدث أن خطرت لي فكرة ثورة في عهد ملك؟ هناك إلهامات تأتي ولا أقدر أعلل كيف تأتي، يعني أنا غير مصدق كيف قلت هذا التنبؤ بثورة. كيف — وفي ذلك الوقت — أقول كلمة ثورة مباركة في عز المَلَكية؟ ماذا كنت أريد من الثورة المباركة؟ ما الذي تعمله؟

- أولًا: الأحزاب هاجمتها كلها. فأنا أدنت الأحزاب، وقلت أنا لا يهمني شكل الحكم، ولا الدساتير؛ لأن العبرة بالأشخاص المخلصين الذين يستقطبون ما يريده الشعب فعلًا.

وفي الكتاب (تحت شمس الفكر) مسائل خاصة بمظاهر، مثل إلغاء الطربوش! ودخلت في معركة مع رجعي اسمه خليل ثابت رئيس تحرير المقطم في سلسلة مقالات، وبعد ذلك كتبت مقالات اسمها كادر المقامات ضد الألقاب، وبعد ذلك تحديد المِلكية، ووضْع الفلاح. وفي المقالات التي نُشرت شرحت كيف كان برلماننا عبارة عن برلمان ملَّاك، والملاك الذين جاءوا هم الذين أعطوا أنفسهم الوصاية على بقية عناصر الشعب. كل هذا كُتب ونُشر قبل ثورة ١٩٥٢م. وطبعًا «عودة الروح» كان فيها مسألة هي الكل في واحد والزعيم المعبود: مصر في حاجة إلى زعيم معبود يلمها. «الكل في واحد» هذه رنت في ذهن عبد الناصر رنينًا قويًّا، وأيضًا حكاية إلغاء الأحزاب، واحكم بنفسك وبمفردك ولكن بمضامين. فجاء عبد الناصر ولم يكن يباشر الثورة في إطار شكلي، لم يكن يهمه الشكل، ترك الشكل ودخل في المضمون؛ كما كنت أتمنى، وإلا لما كنت تحمست له بهذه القوة. أين كنت عندما ألغيت الدساتير؟ هنا لا بد من ذكر أن من قاوم هذا الفكر الذي طرحته (عن الاهتمام بالمضمون دون الشكل) كانوا أولًا الأحزاب القديمة. الله! أين الدستور؟ اعملوا لنا دستورا! أنا لم يكن يهمني هذا الكلام، إنما أنا أدَنْت الدساتير المفتعلة، كان هناك اتجاهان: اتجاه الرجعيين واتجاه اليسار. واليسار في ذلك الوقت قال: هذه نازية. يعني تهيأت له أن هذه مسألة خطرة، أي عدم وجود شكل ديمقراطي لهذا النظام.

•••

أنا لما كانت لي كتابات سابقة كان فيها نقد شديد للاهتمام بشكل الحكم دون مضمونه، ودون وجود برامج، جعلني لما لقيت رد الفعل العكسي، وهو مضامين بلا شكل، رحبت بها. ثم كنت أشرت أيضًا إلى أن الدساتير لا تهمني وإنما تهمني ثورة مباركة تشتغل لمصلحة البلد من أشخاص مخلصين. يعني لا أريد الشكل. لكن اتضح أن إهمال الشكل أدى إلى المساوئ التي حدثت. وأنا لذلك أتحمل جزءًا من المسئولية فيها. وأنا لا أبرر موقفي، وإلا أكون أبني حياتي على تزييف. فلا بد أن الموقف يكون صادقًا؛ لأني أنا لم أكن أطمع في مناصب لا من هذا ولا من ذاك. كل ما أردته أن أرى حالة البلد لا بشكل نظري، ولكن بمضمون فعلي عملي نافع للشعب. كنت أسأل قبل كل شيء: كيف سيحكمون؟ هؤلاء جاءوا على الفور بإنجازات. قالوا: عملنا الإصلاح الزراعي، والنظام والعمل (حتى كلمة النظام ترددت في كتبي)، إذن كنت أنا قابل بالثورة، بهذا الوضع، بدون أن أرى أن هذه عيوب أو انحرافات يمكن أن تؤثر في مجرى الثورة. فكانت النتيجة أنني كنت معها بإخلاص، حتى لقد كتبت مقالة أقول فيها منذ ٣٠ سنة أنتظر هذا الرجل وهو عبد الناصر. وكنت مخلصًا في كل هذا؛ لأني كنت أعبر عن آراء لي سابقة قبل الثورة. وكان يمكن أن تكون آراءً مفتعَلة، لو أنني نظرت إلى عبد الناصر بعد أن جاء ولقيت في يده السلطة. لكن هذا لم يحدث. ولو أنه حدث لكنت أعطي لنفسي حرية الفحص، إنما هذه أشياء مغروسة في أفكاري القديمة بكتابات من ٣٠ سنة. فلما يأتي هذا الرجل لينفذها، فإذن من الطبيعي أن أقول أنا متحمس له. حتى أنا فاكر أن السنهوري لما جاء وقال لنا الثورة تريد أن يكون الحد الأقصى للمِلكية الزراعية ٥٠٠ فدان أو ٢٠٠ قلت له: لا، اجعلوها ٢٠٠؛ لأننا نريد ثورة كاملة لا أنصاف حلول. فإذن كنا متحمسين لهذا الاندفاع، أو على الأقل أنا. أما المعارضون وقتئذٍ فقد تنبهوا إلى ضرورة الشكل. ولذلك أنا اليوم مهتم بالشكل؛ لأنك إذا أنت عملت مضمونًا بلا شكل، وجاء حاكم في يده سلطات تكاد تصل به إلى العبادة، فتكون النتيجة أنه يعمل لنفسه شكلًا، أي أنه يشرع على الفور في البحث عن شكل يستطيع أن يقنِّن به سلطته العظيمة هذه. فيجمع المعبود الزعيم السلطة الشعبية الروحية والسلطة الفعلية المادية، وهذه الأمور ما كانت لسعد زغلول … سعد زغلول كان عنده السلطة الروحية، وهي الزعامة الشعبية التي لا شك فيها. إنما لم يكن عنده السلطة الحقيقية. قدامه الملِك، وهو ضده، وقدامه جيش الاحتلال الإنجليزي، فكان لسعد زغلول عبادة شعبية بلا سلطة حقيقية؛ لأن قدامه القوى التي تملك السلطة: جيش وملِك. فكان سعد زغلول ساعة يسقط وساعة ينهض. يعني سعد كان محل نقد من الصحف المعارضة له؛ لأن العبادة لم تكن تدعمها سلطة. العبادة كانت عبادة شعبية.

لما جه عبد الناصر تمتع بما لم يتمتع به أحد قبله … ولا حتى الفراعنة، فقد كانوا يحكمون بواسطة الكهنة … والكهنة، كانوا أتباع آمون، يقولون للملك لا تعمل كذا، واعمل كذا، ونحن الذين نتوِّجك … لكن سلطات عبد الناصر الكاملة بلا حدود لا يمكن أن نقول إنها تكررت في مصر.

لقد كانت لعبد الناصر سلطة شعبية وحكومية معًا، وكنت أحبه لأنه جاء كما أردت بمضامين وإنجازات، لم يتكلم في الشكل، ونظرنا فوجدنا إنجازات تتم … إصلاح زراعي وأشياء كثيرة ومجلس أعلى للفكر. كل ما كان الناس يريدونه (كل ذلك طبعًا بصرف النظر عن حقيقة التطبيق). طيب! يبقى ماذا حصل؟ الذي حصل أنه لما يبقى الشعب معه ويعبده عبادة لإنجازات تمت ولو في الظاهر، وبعد ذلك معه السلطة الفعلية، فلن يوجد مخلوق واحد يقدر يقول له الزم بيتك، كما كانوا يقولون لسعد زغلول، فهذا نوع من أنواع السلطة التي لم يتمتع بها أحد، هو بمفرده لا تشكيل بجانبه. فماذا حدث بعد ذلك؟ حدث على الفور أنْ ظهرت الجماعة التي نسميها مراكز القوى. والتف حوله ناس أخذوا سلطات كبيرة جدًّا؛ بحجة الدفاع عنه والمحافظة على حياته والمحافظة على نظامه … فيأتي له مثلًا فلان ليقول: آه، هذا فلان كان في نادي كيت وكان قاعد يشتم … ففلان يوضع تحت الحراسة ويأخذون فلوسه وحريته بدون محاكمة. نهايته كل ما وقع من سجن وتعذيب، يعني حاجة من الاثنين: يجوز هو كان عنده خبر بكل هذا ولم يكن يريده، لكن بعض الأحيان تجد بعض ناس يقولون هو أمر بأن هذا لا يصح، لكن هناك آخرين: وجايز يعملون هذا كله من وراء ظهره وهو لا يعرف، وجائز أنهم كانوا يقولون له: لا! أنت تُعرِّض للخطر النظام كله، إذا قامت المحكمة بتبرئة فلان.

وقالوا إن تبرئة المحكمة لفلان معناها أن القضاء سلطة أخرى … والقضاء هو أيضًا متعاطف مع القوى الرجعية … يعني كلامًا يُفهِّمونه للزعيم المطلق … فأصبح هناك قوة أخرى تنشط بدون مسئولية. وفي الناحية الاقتصادية أيضًا استولوا على قطاعات لمصالح خاصة وليس لمصلحة الشعب … يعني كل المساوئ التي رأيناها في حكمه.

ثم جاءت حرب اليمن. ما هي حكايتها بالضبط؟! هل كانت نتيجة معلومات مغلوطة عن حجم العملية؟ وهل كان الدافع الأول لها كما قيل أنها أمريكا والصهاينة لاستنزاف جهد مصر وأموالها في حرب بين العربي والعربي بعيدًا عن إسرائيل؟ ما هي الحقيقة هنا؟ وهل كلفت مصر حقًّا أربعة آلاف مليون جنيه كان الفلاح المصري ينتظرها لتحقيق اشتراكيته ورفاهيته؟

نحن عندنا فلاحون وعندنا القرى محتاجة لإصلاح … يعني ٤ آلاف مليون هذا كثير. فهل هذا حقيقي أو غير حقيقي؟ كيف نعرف كل هذا؟ كيف ندرك الحقيقة؟ لا بد إذن من فتح الملفات.

إن عودة الوعي كانت مطالبة بملف يُفتح، وإن هذا الملف يُفتح موضوعيًّا. وإننا نعمل كما حصل في الاتحاد السوفيتي لما رفض عبادة الشخص. لما جاء ستالين وكان قد جمع كل السلطات في يده؛ لأن قدامه نازية وأخطار خارجية، فجمع كل السلطات … كل سلطة تتجمع في يد فردٍ عبادةً وشعبًا وجيشًا وكل شيء، فهنا يلتف حواليه ناس يخلوه يرتكب هذه الكوارث الدموية … يعني ما حصل في أيام ستالين هو نتيجة تقارير. وبدأت العملية الدموية. من أين تأتي هذه العملية؟ تأتي من أن شخصًا «ليس هوايته طبعًا الحكم بالدماء، لا، وإنما هو حكم الفرد الذي ليس فيه معارضة» … هنا تجد ناسًا يغشونه ويقولون له: إلحق نظف قوادك وصفوفك … فالعبادة في الواقع تخدم ناسًا يستفيدون من وراء العبادة … هات أي حاجة واعمل لها ضريحًا مقدسًا. في الحال يطلع شيخ بصندوق نذور هو الذي يكتسب في النهاية من صندوق النذور. ويقول لك: «يا أخي ده سره باتع.» فلا بد أن عبادة الفرد تكون بهذا الشكل … كاهن وضع قطعة حجر وقاعد يقول القرابين … ما هي القرابين؟ تذبح كذا وكذا … وهو يملأ كرشه … فحيث توجد عبادة يعني كهنة يستفيدون.

•••

طبعًا أنا مسئول. أنا أدين نفسي؛ لأنه ما كان يصح لمفكر حر أن يكتب ويقول ما يشجع على ظهور زعيم معبود. لماذا؟ … لأن الكاتب الحر كان يجب أن يتنبه لعبادة الشخص ونتائجها، إنما الذي خلاني أنقاد أنه أولًا من ٣٠ سنة وأنا أمام أشكال من الحكم ليس فيها مضامين أبدًا … بمجرد ما جاءت الثورة ببعض المضامين … ثم أجدها تنفذ كلامًا أنا كاتبه في الورق … حاجات كانت آمالنا وتتحقق!

مسألة إنه ستصل هذه الأمور إلى عبادة الشخص بهذا الوضع لم يكن في تخطيطي هكذا. وإذا حصل أيضًا ما كان لي أن أرفضها؛ لأنه لا بد أن يثبت — بعد ذلك — ضرر هذه السلطة المطلقة التي بلا حدود. وقد ثبت بالفعل والواقع هذا الضرر. كما ثبت أنه لا بد لأي فرد بشر أن يكون قابلًا للمحاسبة. هناك من يقول: الناصرية لا أحد يمسسها … إن الذي يدافع عن الناصرية في هذه الحالة هم الناس الذين لا علاقة لهم بثورة ولا اشتراكية … جماعة يستغلون صندوق النذور! وطلعوا اليوم بشيء اسمه الفكر الناصري، ما هو إلا مجرد راية للوصاية على عقول الآخرين. إنما يوم أن تجعله بشرا قابلًا للمحاسبة … وتقول نعم هذه ثورة ملكي، ملك الشعب وليست ملك عبد الناصر، فهنا لا بد من أن نفتح الملف ونرى كيف اتجهت الثورة، فنسأل: لماذا فشلت هذه العملية؟ وماذا حدث في هذا الموقف بالدقة؟ ولماذا فعل عبد الناصر هذا؟ فإذا تمت المحاسبة بدون دفاع عن العيوب وتبرير للخسائر وببحث موضوعي، سنجد أن هذا الرجل مسئوليته تضاءلت ربما إلى حيزٍ ما كان يمكن أن نتصور درجته، وأن درجاتٍ كبيرةً من المسئولية قد تقع على آخرين.

•••

فإذن عودة الوعي هي إذن كذلك دعوة إلى البحث في درجات المسئوليات.

لقد قلت في هذا الكتاب إنه لا بد من كشف الحقائق لنعرف الحكاية! لا بد! وهنا مهمة الكاتب التي لا يمكن أن يتنازل عنها؛ وهي معرفة الحقيقة … لا بد أن أعرف الحقيقة … ولهذا فإن عودة الوعي إذا ما وُضِع أمام التحليل المنزه أعتقد أنه سيكون في مصلحة عبد الناصر … إذا تركناه للسَّدَنة والكهنة الذين يقولون لك: كفر! إوعى حد يمس عبد الناصر! … كفر! … فإن التاريخ لن يرحمه أبدًا.

•••

إن الإنسان لكي يجسِّم التهمة يقارن بما قبلها … يقول: ما قبلها كانت هناك حرية تعارض الحكم، وهذه الحرية كانت تبيح لنا أن نعارض. ولو أن المساوئ التي وقعت قبل الثورة في كتبي أنا كنت أدين الحكام عليها. ولكن الكارثة حصلت من العبادة والكهنة، والزعيم كان من الممكن يبرأ منها، لو كان الحكم فيه معارضة وفيه ديمقراطية سليمة؛ لأن السابقين (على ثورة ١٩٥٢م) وإن أدوا إلى مساوئ للبلد أضعفت بعض تقدُّمها لكن قبل الثورة لم يكن فيه كوارث، ولكن مجرد عرقلةٍ ما لتقدم البلد.

•••

كالعادة هناك تناقضات. يوجد مخلصون لمصلحة البلد، ويوجد من يقولون لك: نفتح الملف لنشنِّع على عبد الناصر، لأسباب انتقامية، ولأسباب نفعية لها طريقة أخرى وردة لعل وعسى أن نقول إن عبد الناصر لما خرب البلد، يصبح الحل أن نرجع لما قبل عبد الناصر، ويصبح المطلوب إلغاء فترة بكاملها لمصالح خاصة. ولكن إذا ثبت أنها كانت فترة ضرورية، فنحن من ناحيتنا نقول إنه لا بد من تعديلها، ولا بد من معرفة موقع الخطأ فيها حتى ندعمها. لأنك إذا قلت كلمة الاشتراكية فقد حدث فعلًا بعض تحولٍ ما نحوها. ولكن هذا التحول لماذا لم يأخذ كل قوته؟ الجواب لأنه كان يجب أن يكون هناك اشتراكية حقيقية. لكن لماذا ظهرت طبقات جديدة؟ … وكيف حدث أن هذا النظام يولد طبقات ثرية؟ فنجد مثلًا من يشتري شقة ﺑ ٢٠ ألف جنيه و٣٠ ألف جنيه.

•••

إن الأساس الشكلي للثورة لم يكن من الممكن أن يؤدي في آخر الأمر إلا إلى سيادة السلبيات. أنا تنبهت إلى هذا في الآخر. وأنا كنت متحمسًا للثورة بإنجازاتها، وأن عبد الناصر هو الرجل الذي انتظرتُه من ثلاثين سنة. ولم أكن أعرف أن كل هذا يؤدي إلى حدوث أثره، لكن الشكل السيئ لم يكن قد ظهر أثره في ذلك الوقت، فضلًا عن أني كنت غير راضٍ عن نظام الأحزاب. ولذلك تلاقيت مع الثورة.

لكن بعد ذلك أذكر أنه بعد صدور الميثاق تحدثت إلى بعض الأصدقاء لينقلوا كلامي إلى عبد الناصر، وقلت له: إنني ألاحظ الآن الرجل الذي يبيع بطيخًا في الشارع ربما عندما تطلع بطيخة «قرعة» يمكن يشتم عبد الناصر. معنى كلامي أن عبد الناصر أصبح يتحمل مسئوليات لا يستطيع أن يتحملها لأنه يحكم حكمًا مباشرًا. وقلت لصديق من هؤلاء الأصدقاء لماذا لا تبلغه أن ينظم ضغط الجماهير فيعمل حزبين، والشعب عندما يغضب يصب غضبه على الحزب الموجود في الحكم، ويأتي بالحزب الثاني. فمن واقع الميثاق، الميثاق يحتمل حزبًا معتدلًا وحزبًا متطرفًا؟! وقد قيل لي إن كلامي هذا نُقل إلى عبد الناصر فقال لكن أخشى أن تحدث صراعات في البلد ويعطلوا البلد وتصبح مشاغل كل حزب أن يحطم الحزب الآخر! وزمان كان التطاحن في البلد بهذا الشكل.

•••

في الواقع أنا دائمًا أحب أن أبحث عن جذور مواقفي وتفكيري، حتى لا أكون رهنًا بنوازع فجائية أو تلقائية أو دافع مناسبات. ذلك أن هذه النوازع والدوافع في الحقيقة تكون أحيانًا سطحية وموجهة لاعتبارات معينة. ومن هنا فإني دائمًا أرجع إلى الخط الرئيسي في تجربتي في الحياة أو في مواقفي؛ لأن هذا هو الأصح. فعندما أردت أخيرًا أن أحلل مواقفي، وجدت خطًّا معيَّنًا، وهو أنه في الثلاثين سنة السابقة على ثورة ١٩٥٢م كان لي موقف معين، وهو أني تنبهت إلى أن الديمقراطية انحرفت وأصبحت ديمقراطية مزيفة لعوامل كثيرة، وهي أنها لم تكن في بيئة حرة، ولكن بيئة تسيطر عليها السلطات، أو على الأقل سلطتان كبيرتان، وهما الاحتلال الإنجليزي والسراي. وكان فيه ثلاث قوًى موجودة في البلد، وهي الاحتلال الإنجليزي والسراي والشعب. الشعب ممثَّل في القيادة الثورية، قيادة ١٩١٩م؛ لأنه قبل ذلك كان الموقف الشعبي موقفًا غير واضح، كان يوجد مفكرون ومثقفون ثوريون مثل الحزب الوطني، أو قبل ذلك مثل الحركة العرابية. أين الشعب في ذلك؟ كان الشعب غير مركز في إطار … يعني مصطفى كامل كان يخطب ونحن بقلوبنا معه، ولكن ما هو الإطار الذي نستطيع أن نقول إن الشعب كان معه فيه؟ هل الفلاح في الريف كان يشعر بمصطفى كامل أو يتصل بفكره؟ هل العامل كذلك إذا كان وجد في ذلك الوقت؟ أعتقد أن من كان يفهم خطب مصطفى كامل هم طبقة المثقفين والمطربشين أو المعممين حتى، يعني المثقفين عمومًا، وفي إطار الإيقاظ الوطني العاطفي وليس بعد في إطار ثورة فعلية. ولكن ثورة ١٩١٩م كانت غير ذلك؛ لأنها بلورت قوة شعبية فعلية من فلاحين وعاملين ومثقفين ونساء طلعوا بالبراقع. فإذن كانت حركة شعبية مركزة، ومركزة ضد عدو موجود بيننا وهو الاحتلال الإنجليزي المركز في القاهرة نفسها، في ثكنات قصر النيل أمامنا. وفي الوقت نفسه كانت سلطة الاحتلال هذه تتدخل في شئوننا باعتبار أنها هي السلطة القوية التي تملي إرادتها على الشعب. فلما جاءت ثورة ١٩١٩م جاءت لتطالب بحق أصبح أيضًا محسوسًا عالميًّا، وهو أن الحرب العالمية الأولى وضعت لنفسها هدفًا إنسانيًّا. قالت إنها تحارب للحرية، وجاء ويلسون الأمريكاني، وكان أصله أستاذًا في جامعة، بالمبادئ التي نعرفها عن حق الشعوب في تقرير المصير. فتمسكنا بهذا وقلنا نحن أجدى وأولى بتقرير المصير، والشعب قام، ولذلك كانت ثورة شعبية.

بعد ذلك اعتُبر زعماء الثورة مجرد ثائرين؛ لأنه ليس لهم إطار معين ولا شكل معين. ثائرين ضد الإنجليز. ولذلك الإنجليز عند المفاوضة قالوا احنا نتفاوض مع رئيس حكومة مصرية ولكن لا نتفاوض مع رئيس الشعب أو ما تسمونه أنتم برئيس الشعب، وهو في الحقيقة رئيس عصابة ثورية، هو رئيس الثورة، ولم تَجرِ العادة أن تحدث مفاوضات بين حكومة رسمية وبين زعيم ثورة، هذا تحدٍّ للسلطات الإنجليزية، فرفضوا في الأول أنهم يفاوضون سعد زغلول باعتباره رئيس ثورة. قبل ذلك. والغريب أن هذا يحدث مع جميع الثائرين … يسمَّون في الأول باسم عصاة أو إرهابيين، كما يحدث الآن مع منظمة التحرير الفلسطينية وياسر عرفات. لماذا عصاة؟ لأن عرابي والناس الذين قاموا معه كانوا يسمون العصاة، لا ثورة عرابية، بل «العصاة» فقط. وكان يأتي من الباب العالي، السلطان يعني، أوامر باعتبارهم عصاة على سلطته؛ لأنهم قاموا بدون أمره بثورة ضد الخديو الذي كان هو الوالي رسميًّا المعيَّن بواسطة السلطان، فأصبح هؤلاء يسمَّون العصاة، زي ما يقال اليوم مثلًا عن اليساريين، كانوا في ذلك الوقت … كان لي جد اشترك قليلًا، أو ربما لم يشترك وإنما كان من الموالين للثورة العرابية، ففُصل من عمله، وكنت أسمع دائمًا في ذلك الوقت أنه كان يعتبر من العصاة، فسألتُ جدتي: العصاة يعني إيه؟ قالت بيقولوا عنهم العصاة، وبعدين سموها ثورة عرابي. إذن في الأول كان الثوريون عصاة، والثوري من العصاة، زي ما يقال اليوم مثلًا عن اليساريين إنهم كذا وكذا وكذا … أنا فاكر كلام جدتي حتى الآن … ولو أنها كانت مسكينة لا تقرأ ولا تكتب ولا تدرك شيئا، إنما كل الذي تدركه هو أن زوجها كان العصاة؛ لأن كلمة الثائر الوطني ضد السلطان كان لها صفة العاصي. ولكنها كانت معه باعتباره زوجها. فإذن نحن من نسل العصاة. يعني أنا منضم لهم بطبيعتي وبدون أن أدري؛ لأنها وراثة. إن الوراثة عندي أننا كنا من العصاة. ودائمًا الثورات الوطنية أو الاجتماعية أصحابها بالنسبة للسلطات خارجون على القانون، يعني عصاة. وفي الواقع يثبت التاريخ بعد ذلك أنهم كانوا في نظر أنفسهم من المصلحين، أو الوطنيين، وإن كانوا في نظر السلطات من العصاة.

استمرت المسألة لغاية سنة ١٩١٩م، واعتُبر سعد زغلول الذي قام بالمطالبة الشعبية بالاستقلال زعيم ثورة. لم يكن يوصف بالعصاة وإنما من الثائرين. وهذه الثورة وإن منحت سعد زغلول زعامة الأمة، لكن رسميًّا لا يحق له أن يعتبر أمام السلطات الحق أن يتكلم على مائدة مفاوضات، يتكلم باسم من؟ باسم ثورة؟ الثورة غير معترف بها أمام القوة، وإلا إذا كان الثورة يُعترَف بها أمام القوة، يبقى ما فيش تناقض.

بعد ذلك حدث تصريح ۲۸ فبراير أي الاستقلال، لأ. هو المناداة باستقلال مصر من طرف واحد تحت ضغوط الثورة. الإنجليز وجدوا أنهم مضطرون لتهدئة الثورة، وذلك بأن يعطوا مصر من طرف واحد وبدون مقابل الحكم الذاتي. والسلطان أعطوه لقب ملك، وبعدما كان الذي يمثل مصر في الخارج هي السفارة البريطانية، أصبح بعد تصريح ۲۸ فبراير فيه سفارات مستقلة تمثل مصر، وانفصلت السفارة المصرية عن السفارة البريطانية. وأصبح لنا الحق في دستور نيابي يعطي الشعب حق أنه يمثَّل في برلمان. وهكذا صار لنا دستور ۱۹۲۳م وبرلمان … وأصبح للثورة شكل.

أريد أن أشير إلى الشكل الذي تحددت فيه الثورة؛ لأن مسألة الشكل مهمة جدًّا لما نتكلم بعد ذلك. فبمجرد ما دخلنا في شكل برلماني، طبعًا الأغلبية جت الحكم، أي سعد زغلول … وبدأنا نعيش في نظام شكلي ديمقراطي ملكي. يعني نظام مصر أصبح هو الملكية الديمقراطية. طيب … عملت إيه الملكية الديمقراطية؟ طبعًا رحبنا بهذا، ومشينا في طريق الشكل الملكي الديمقراطي. شكل الأمة هذا في الظاهر، ولكن خارج هذا الشكل فيه حراب. هذه الحراب هي أسنة الرماح البريطانية؛ لأنه فيه احتلال. يعني أنت نظام ملكي ديمقراطي محاصَر من الخارج، بدون ما تشعر بقوة الاحتلال البريطاني. ولذلك الثورة في ذلك الوقت، لا أقول انحرفت، إنما كل شيء محاصَر ما دام فيه سلطة عليا هي سلطة احتلال أجنبي أو قوة عُليا في العالم تملك خمس قارات … بريطانيا. وبريطانيا في ذلك الوقت إمبراطورية عظيمة.

المهم … شيئًا فشيئًا شعرنا أن المسألة وصلت إلى برلمان … وانفجرت الخلافات على الكراسي في البرلمان. هذه لعبة الشكل لمجرد الشكل. والمضمون هنا أصبح في الخلفية التي لا يشعر بها الشعب. ولكن بنشعر بلعبة برلمانية ولعبة شكلية. ولست أدري كيف حصل انقسام في قوة الوفد التي كانت تمثل الشعب. تفتتت إلى أحزاب أخرى أقلية. وأنا أقدر وأحب وأعز عبد العزيز فهمي لقيمته الفكرية العظيمة ولوطنيته أيضًا، ربما أيضًا لبعض العلاقات التي تمت فيما بعدُ بيني وبينه لما دخلت المجمع اللغوي؛ لأنه كان عضوًا فيه، وكنت دائمًا أقدره. ولكن لا أنسى أبدًا — وإني هنا أحلل الأشياء بموضوعية ويجب أن أنحِّي العواطف والصداقات جانبًا — أن عبد العزيز فهمي بمواقفه كان من الأسباب التي ساعدت مع الأسف الشديد في تدمير الوحدة الوطنية التي تمثلت في الوفد … لماذا؟ لأنه كان أول من خرج على سعد زغلول وانضم إليه ناس آخرون، وتفتتت الوحدة الوطنية المصرية مع الأسف. وهو الشيء الذي لم يحدث للوطنية الهندية التي كانت تتلمذت علينا؛ لأن غاندي كان قد اندهش كيف نجح سعد زغلول في ضم صفوف الأمة كلها بعناصرها المختلفة، في حين أنه أخفق … يعني سعد زغلول نجح، أو الشعب المصري على الأقل، أو الوطنية المصرية نجحت في جعل الأقباط والمسلمين اندمجوا في وطنية مصرية واحدة، في الوقت الذي كانت إنجلترا تسعى فيه لتفريق المسيحيين عن المسلمين. وكانت تريد أن تتسلل بهذا إلى التفريق بدعوى حق حماية الأقليات. ومن قبل كانت تريد تقسيم القطر المصري، فتجعل للأقباط دولة عاصمتها أسيوط، كما فعلت بعد ذلك ونجحت في باكستان، وجعلت الباكستان منفصلة عن الهند. غاندي كان يريد وحدة تجمع بين الهندوس والمسلمين كما حصل بين المسلمين والأقباط في مصر. وكتب لسعد زغلول وقال له فعلت هذا ازاي؟ ده أنت حقيقة قائد لهذه الوطنية المتكتلة المتجانسة المتحدة. لكن جاء بعد ذلك عبد العزيز فهمي … وأنا آسف أن أُدينه وأرجو أن التاريخ يحلل لنا هذا الموضوع أكثر. إنما الذي أعرفه عن موقف عبد العزيز فهمي، لأنه كان عاطفيًّا جدًّا، أنه كان يعتقد أن سعد زغلول رجل مستبد برأيه. ومهما حدث فكنت أريد أن عبد العزيز فهمي يصبر على كل ما يراه من مساوئ لسعد زغلول؛ في سبيل أنه لا يحدث هذا التفتيت في الوطنية المصرية؛ لأنه ارتكبنا نحن الغلطة التي لم يرتكبها حزب المؤتمر الهندي. حزب المؤتمر الهندي ظل متماسكًا للآن، وتماسكه للآن سمح له بأنه يتطور بعد أن قعد فترة طويلة، إلى أن جاءت الظروف الاجتماعية واضطرت أن يتكون فيه حزب اشتراكي.

•••

هذا كله يهم المستقبل، لماذا؟ لأن أنا أريد أن أقول ما هو شكل الأمة المصرية؟ نحن دخلنا في الشكل الذي جعل أن من أول ما مارسنا الديمقراطية، تفتت الأمة إلى أحزاب أقلية وأكثرية، ولعبت في هذا السلطات المحتلة والسلطات اللي هيه بقى من وراء البلد، اللي هيه سواء سلطة الإنجليز أو سلطة الدولة في الداخل اللي كانت تمثلها السراي. ويظهر أيضًا أن الدستور، الذي كان أحسن الدساتير عندنا، يعني دستور ١٩٢٣م أو غيره، لا أعرف لأي سبب أهمل فقرة كان سيكون لها تأثير كبير في تاريخ مصر، وهي الحد من سلطة الملك؛ أنه لا يكون له حق إسقاط الوزارات، وأن يكون إسقاط الوزارات ليس في يد الملك، بل في يد الشعب أو الهيئة الممثلة للشعب في البرلمان. هذا هو الخطأ. منح الملك حق إسقاط الوزارات وإقالتها. وله سلطة حل البرلمان … وحصل الملك على سلطة استطاع أن يلعب بها في التاريخ المصري كله، البرلمان الذي لا يعجبه يسقطه، وإذا قام الشعب بمطالب معينة والبرلمان أيَّدها، يروح يحل البرلمان … لو كان الملك جُرِّد من سلطة إقالة البرلمان كان تغير الوضع إلى تقوية لسلطة الشعب. وهذا الخطأ أدى إلى التلاعب بالدستور والتلاعب بسلطة الشعب في ذلك الوقت، ووضع سلطة قوية جدًّا في يد الملك.

•••

إن التأثير على المستقبل أنه جعل الديمقراطية التي هي في ظاهرها مكسب حصلنا عليه، إذا بها انحرفت وأصبحت ضررًا على الشعب. ماذا كان موقفي من ثلاثين سنة، من واقع ما كتبته، كنت دائمًا أقول إن هذه الديمقراطية مزيفة.

إذن لا بد من الكلام في الشكل، وأنا أتكلم في الشكل؛ لأني أريد أن أحدد ما يعيب حركتنا الوطنية من أولها للآن؛ وهو أنه حصل تزييف في الأشكال التي نسميها ديمقراطية، وإذا بها ديمقراطية مزيفة. وإني أحب أن أحدد كل شيء من واقع موقفي القديم؛ لأني لا أستطيع أن آتي اليوم وأقول إني أصبحت يساريًّا. أبدًا … ولا يمكن أن أقول هذا ولا أغيِّر موقفي لإنسان أبدًا أو لأي هيئة، أنا أرفض تقييد حركة فكري بشعار أو مذهب أو لافتة من اليفط واللافتات. أنا حر في نظرتي واختياري لما يصلح لتقدمنا وتقدم الجنس البشري … وحاسبوني فقط على هذا الموقف النابع من طبيعتي ومن جذور التمرد والعصيان عندي على كل تجمد. كما يجب أن تحاسبوني على الماضي الذي يؤدي إلى المستقبل، وإلا لما تيجي تقول لي عودة الوعي، أقول لك لماذا عودة الوعي انكتب؟ وأنا لي موقف واحد، هذا الموقف الواحد هو أن تقرأ ما كتبته في شجرة الحكم وفي غيرها تجد نقدًا للحالة الحزبية والسياسية في مصر. كان كل واحد يقول لك ديمقراطية. أنا قلت إن هذه الديمقراطية مزيفة ونحن ننتظر الديمقراطية الحقيقية. وفي كتاب شجرة الحكم، في سنة ١٩٤٢م أو ١٩٤٧م، على العموم قبل الثورة، قلت ننتظر تغيير كل هذا؛ لأنه لا يمكن أن نظل في إطار شكل ديمقراطي مزيف. قلت لأ. وقلت أيضًا نحن ننتظر ثورة مباركة … بهذا الاسم … تطيح بهذه الأنظمة المزيفة وتأتي بنظام يقوم … حتى لم أقل نظام … لأني شبعت من الأنظمة والدساتير … تأتي بناس مخلصين يستطيعون أن ينهضوا بالأمة ويحققوا آمالها، ويكونوا مخلصين حقيقةً بصرف النظر عن الشكل. وكانت النتيجة أن جاءت ثورة ١٩٥٢م. ودخلت في مضمون بلا شكل. فأنا رحبت جدًّا وكنت فعلًا في غاية السعادة؛ لأنها قامت بإنجازات كنا بنطالب بها مثل تحديد الملكية، وكل اللي حصل … كلها كانت إنجازات. ولم تكن على أساس شكل.

بعد ذلك وجدنا أن المسألة أدت إلى أن الشكل نفسه لم يكن محددا. وبعضهم سماها من الأول الدكتاتورية البوليسية، وبعضهم سماها الدكتاتورية العسكرية … إنما أنا لم أكن ألتفت وقتئذٍ إلى هذا. وبعد ذلك استمرت إلى أن وجدنا أنه فعلًا انقلبت إلى نوع من الحكم المطلق في يد فرد. حوله مجموعة من الأفراد المتسلطين نبتوا مثل شجرة الموز. دائمًا بتنبت أشجار جنبها. نبتت قوًى أخرى خفية هي التي تسيطر على البلد بدون أن يحاسبها أحد؛ لأن المحاسب هو الشخص الذي أمامنا. وهو صاحب السلطة المطلقة. نحن بنحاسبه هو. ولكن بالنسبة له لم نكن نعرف هل كان يدري ببعض المساوئ أو لا. وعلى أي حال أصبح الحكم بالفعل حكمًا بوليسيًّا دكتاتوريًّا.

هذه هي مسألة فتح الملفات، وإلى أي مدًى كان مسئولًا. وهذه المسئولية عندما نفتح الملفات والوثائق ربما وجدنا المسئولية موزعة. إنما نحن على كل حال نسائله هو، ونفتح ملفه ووثائقه ويبرز لنا؛ لأنه هو الحاكم المطلق المسئول عن مصير الشعب؛ لأنه لم يكن هناك هيئات منظمة، يعني لو كان فيه أحزاب مسئولة، كنا نقول طيب فيه هيئات، تشكيلات نحاسبها? لكن لم يكن هناك إلا شخص واحد مسئول، فإلى أي حد كان مسئولًا؟ لا ندري بعد. إنما كل ما نستطيع أن نقوله بالقياس إلى التاريخ أن الحاكم المطلق بتنبت رغم أنفه قوًى تتسلم في الخفاء سلطات جسيمة جدًّا. وتلعب أدوارًا خطيرة جدًّا، سواء بدون علمه أو بعلمه. وهو لا يقدر أن يقاومها؛ لأنها تكون شبه حارسة على وجوده، وتُشعره بأنها هي المسئولة عن وجوده وعن أمنه، وتفعل ما تشاء. وهو ربما لا يصله من هذا إلا أخبار ملفقة أيضًا عن سلطانها، أو يعني إشاعات لا يستطيع أن يتحكم فيها. وحتى لو عرف كل شيء، فإنه لن يستطيع تغيير ذلك بسهولة؛ لأن الحاكم الفرد يصبح أسير حرَّاسه الأمناء على حياته ونظامه، ويعجز عن التخلص من تأثيرهم عليه. المهم أن هذا هو الذي أشعرنا بعد ذلك أن هذا الشكل أيضًا غير ملائم وخطر.

يعني في البداية أنا رحبت شخصيًّا بأي نظام. وكنت أرحب بهذا النظام الذي ليس فيه خصومات حزبية، وقلت عظيم جدًّا أن جاءت ثورة شباب مخلص بدأت بالإنجازات. وبعد ذلك وجدنا أن الشكل أصبح قيدًا. يعني أنا الآن أطالب بالشكل ولكن على ألا يطغى على المضمون. فعندما نتكلم عن المستقبل كما نريده، وبرنامجه، نبحث في الشكل إذن؛ لأننا عرفنا أشكال الحكم في مصر. فلا بد أن نتكلم في كيف يكون مستقبل الإطار الموجود في حكم البلد. أما المضمون فنحن واثقون من أن أي حكام مخلصين سيكون لهم مضمون مخلص. وهذا المضمون المخلص هو حرية الشعب وضمان عدالته وحقوقه، خصوصًا عندما نجد أنفسنا في نظام يقبل نوعًا من الرأسمالية. ونسميها رأسمالية وطنية أو غير وطنية. ولنكن، سواء أردنا أو لم نُرِد لأسباب اقتصادية، مستعدين أن ندخل رءوس أموال أجنبية أو عربية أو مصرية، ونقبل هذا لعدم وجود شكل معين محدد. وعندئذٍ سنواجَه بمسألة، وهي أنه إذا حدث أن رءوس الأموال هذه جاءت بوفرة في الإنتاج وجاءت بشيء من الثروة، فعند ذلك يقوم سؤال، في أي جيب دخلت هذه الثروة التي أنتجها التفتح الواسع لرءوس الأموال؟ إذا ثبت أن رءوس الأموال كانت قد أسفرت عن أرباح طائلة … أما إذا كانت رءوس أموال لم تأتِ بربح، فمصيرها مصير أي مشروع أخفق، ونرجع إلى حالةِ ما إذا نجحت رءوس الأموال في أنها تكتسب أرباحًا كبيرة، هنا من الذي سيحاسب؟ دخلنا في الشكل وفي الضمان للكادحين الذين سينتجون هذه الأرباح، لأن الأرباح لا تنبت بنفسها، ولكن بواسطة عمل، وهذا العمل من الذي يقوم به؟ عمال، وأقصد بالعمال هنا العمال اليدويين والذهنيين، يعني كلَّ مَن يعتمد الإنتاج على ذهنه وعلى يده، الاثنان واحد. ما هي الأرباح والفوائد التي تعود على المنتج بيده أو بذهنه وينتج فيها هذه الثروة؟ يعني تقسيم الأرباح لا بد أن تكون هناك هيئة تستطيع أن تحدد ذلك.

•••

نحن الآن في قلب المستقبل، وهو أننا مقبلون على وضع اقتصادي بالدرجة الأولى؛ لأن مصر الآن في حالة فقر وأزمة اقتصادية، ونريد أن نرمَّ أنفسنا. ولا بد أن يكون هذا موضوع مناقشة … ولكن الآراء المختلفة هنا غير واضحة؛ لأنه ليس هناك من يمثِّلها غير الدولة. الدولة تقول لنا إن الطريقة الوحيدة هي فتح البلد لرءوس أموال تتدفق إليها لأجل مصانعنا الواقفة تشتغل، حيث إن موارد البلد نفسها استُنزفت أو غير كافية. فما المانع أن نفتح أنفسنا؟ الدليل على ذلك أن أيضًا نفس البلاد الاشتراكية تقوم الآن بمثل هذا؛ يعني نفس الاتحاد السوفياتي بعد خمسين سنة إذا استمر بموارده وحدها، يجد أن عنده كنوزًا لم تُستغل، عنده سيبيريا بحالها. يقال إنه نايم على ثروات إذا استُغلت سيكون أغنى دولة في العالم، ونحن أيضًا كدولة اشتراكية سنفعل نفس الشيء. اشتراكية يعني إيه؟ يعني توزيع الثروات لا يكون متكدسًا في يد واحدة، وهي اليد التي تملك الثروة الضخمة، فيظهر فيه ثروات كبيرة جدًّا، هي التي تكفل للناس المستوى الضخم من الثروة، إيه بيعملوا إيه دول؟ ما تعرفش. أما الناس الذين عرقوا واشتغلوا فهؤلاء مستواهم لا يزيد إلا بالقطارة؛ لأنه لا يمكن للعمل اليدوي أو العقلي في ذاته أن يعطي ربحًا كبيرًا بغير خلق وإنتاج، كالسمسرة مثلًا … فإذن فيه مشكلة قائمة اليوم وقائمة دائمًا، وهي ناس لديهم ثروات هائلة، وهذه الثروات قلما يأتي بها العمل الإنتاجي.

•••

ما هو النظام الذي نستطيع أن نقول إنه عملي الآن؟ لأنه إذا أردت أن نقفز إلى نظام أسرع، أو شمولي، أو أقرب إلى الفاعلية، فهذا يجب أن يُبنى طبيعيًّا، والطريق الطبيعي أن نطالب بحرية الأحزاب. وأن يكون هناك حزب له برنامجه. وحتى إذا لم يقل إنه يساري فأنت عارف من جريدته وبرنامجه وتركيبه واندفاعه للدفاع عن القضايا المعنية أنه يساري. وبعد ذلك يشكل نفسه ويستطيع بالتكتيكات الخاصة به أن يوسع نطاقه … وهذه هي الليبرالية … أي كل الأحزاب … هذا النظام هو الممكن.

الشيء الثاني، ونحن لا بد أن نستعرض كل إمكانات الظروف الأخرى، قد يقول قائل: ولماذا لا نفعل مثل ما فعلته الصين الشعبية؟ … الصين الشعبية عمرها من عمر ثورتنا … ثورة ١٩٥٢م … ومع ذلك فإنها قد توصلت إلى صنع قنابل ذرية، وقدرت تحل إشكال عدد السكان، وتحل إشكالات كثيرة. وقدرت تقفز على مشكلة المجاعة … عملت إنجازات لا يمكن إلا أنك تقدِّر هذا وتحلله. لدرجة أنه أنا بدأت أفكر في كل هذا … أنا لا يهمني الأشكال ولا يهمني المذاهب. أنا يهمني قبل كل شيء تحليل النجاح في هدف معين … لماذا نجحت الصين الشعبية؟ هل هي نظام مثل نظام الاتحاد السوفيتي؟ الاتحاد السوفيتي هو ثورة البيض … أقصد ثورة أوروبية. يعني الثورة الاشتراكية التي تصلح بنجاح في بلاد الحضارة … لماذا؟

لأنها جت لقت حضارة قائمة، هذه هي شيوعية أوروبا. لكن الصين هذه هي شيوعية البلاد التي مثلنا … النامية الفقيرة … فإذن الفرق هو الحضارة. لينين رجل متحضر، أي جزء من حضارة أوروبا.

أريد أن أقول إن النظام الطبيعي هو فقط الممكن. الوصول إلى الاعتراف بشكل لليسار عن الطريق الليبرالي، هو الطبيعي الممكن في ظروفنا.

أما الطريق الآخر الأسرع، فهذا شاذ جدًّا؛ لأن ما حصل في الصين يحتاج لشيء قلما يحدث، وهو ما أسميه بالنبوة، أو ما يشبه ذلك. وكذلك ما حصل في فيتنام … ماذا أعني بالنبوة؟ زعيم يكون شبه نبي. بمعنَى أن ينزل إلى الطريق ويأكل في الأسواق كما يقال … ويعمل مع الثائرين، لا ينعزل في قصور ولا مكاتب، وبعد ذلك يؤمن به شعبه ويصبح قطعة منه ويقود كل شيء وراءه … وهذا مخالف للطريقة المعتادة في أوروبا؛ وهي أن ينبت الزعيم من الحزب، ينبت من تنظيم معين يستطيع أن يقود في إطار مبادئ الحزب فقط … أما في النبوة … لا … هي عملية يدخل فيها اعتبار أن الزعيم هنا هو في أول الصفوف. يعني يحفر بنفسه الأسس، وهو معك يأكل ويكدح معك ويعيش معك. ويكون قدوة … فتجد الشعب كله قام معه … فإذا كنت تراه متواضعًا إلى الدرجة التي فيها يكفيه كما يقال عن ماوتسي تونج يكفيه ٥٠ دولارًا مرتب. يعني هذه حاجة بسيطة جدًّا، وساكن في حجرتين إسطبل، وبعد ذلك تجده مع كل مشروع، مشروع يحتاج إلى عمل يدوي هو معه في العمل اليدوي، وهو أيضًا مع العمل الذهني. ولذلك أنا أستبعد هذا عندنا، لأن المسألة هنا تدخل في باب لا نقدر أن نتحكم فيه.

كيف نتحكم في إيجاد شخص له الصفات التي يستطيع بها أنه ينقل شعبه في ٢٥ سنة بهذه القوة الساحرة؟ وهي ساحرة ليه؟ لأنه ساكن معهم ويأكل أكلهم … يعني الواقع أنه ليس له منصبًا أو مركزًا خاصًّا … هذه عملية لا نقدر أن نكررها. ولا يمكن لأي حزب أن ينتج مثل هذه الزعامة، وإلا كان كل حزب يطلع لنا شبه أنبياء. ولكن هنا من غير شك لا بد من تنظيم من نوع خاص أيضًا، ولما نبحث تاريخ ماوتسي تونج طلع منين؟ و«هو تشي منه» طلع منين؟ نجد أن فيه تنظيمات وفيه مبادئ التزموا بها وظلوا عليها؛ بدليل أنهم كانوا مع ستالين واستنكروا الهجوم على ستالين؛ لأنهم رأوا فيه الرجل الذي وقف بصلابة في وجه النازية، وصان أول دولة اشتراكية، وقالوا إنه لا يجب أن نُدينه. الإدانة دي يعني إذن هم لهم الجانب النظري، إنما ما هو الظاهر في هذه الثورات؟ ليس هو الشخص … أي شخص. إنما هو الشخص الذي يكتفي بالزهد وإنكار الذات … وهذا الزهد يجعل أن جميع من معه ومن بعده مثله، إن القدوة بتعمل عمل كبير جدًّا. يعني هي نفسها ثورة … ثورة على النفس أولًا. وبعدما تكون ثورة على النفس يعني يكبح جماح ذاته. رغم أنه كان يستطيع بمجرد ما بقى زعيمًا أنه يسكن في قصر ويأكل عسلًا … وعنده كل شيء … كبح هذا الجماح وقال لا … أنا لازم أكون قدوة. لما يقول هذا يقول الشعب كله معه من أول الوزير … وكيل الوزارة … المدير العام … يعني كل السلسلة إياها في البيروقراطية. بهذا نجد الدولة اشتعلت ثورة حتى على نفسها … ونجد كل مشكلة حلت … لا فيه بضاعة مستوردة ولا مش عارف عايز يأكل جبنة منين ولا يأكل إيه … ولا يركب إيه … يعني البلد كلها بقيت عبارة عن ثورة تبني بأظافرها هذا البناء، وهذه العملية لا أعرف إذا كان هناك من يقدر أن يعملها أم لا. ولذلك أنا أستبعدها.

أنتم لا شك تتذكرون أنه بعد قيام ثورة يوليو اتجه الوزراء إلى أن يسلكوا مسلكًا بسيطًا، مثل الناس العاديين. وتذكرون مثلًا أن الشيخ الباقوري تأخر في عمله فنام في الجامع … وكان الضباط يأكلون طعمية في عملهم فاستبشرنا خيرًا … والضباط في الأول بقوا يركبوا عربات جيب ويجروا بها. قلنا هذا عظيم، ولكن بعد ذلك تغيرت الأمور وأصبحوا أمراء.

•••

أول شيء يجب أن يصنعه اليسار هو أن يتحرك من الواقع وليس من النظريات والأيديولوجيات. يجب أن يعمل على أن يعرف الناس أين توجد مصالحهم. على اليسار أن يتجنب الانطلاق من نظريات وأيديولوجيات. نقطة البدء ليست أن يعرف الرجل العادي أن اليسار ينتسب إلى ماركس، ولكن نقطة البدء أن يعرف الناس أن اليسار هو الذي يدافع عن مصالحه المحددة. ومن ثم فيما بعد إذا اكتشف الناس أن اليسار ينتسب إلى ماركس أو إلى هذا المفكر أو ذاك، فإن هذا سيكون أفضل … وهذا الأمر لا ينطبق على الناس العاديين وحدهم، بل ينطبق عليَّ وعليك. فمثلًا إذا كانت الدولة تأخذ مني عملًا أدبيًّا ثم تبيعه بعشرين ألف جنيه ولا تعطيني إلا مبلغا ضئيلًا، ففي هذه الحالة سأبحث عمن يدافع عن مصالحي في مواجهة رأسمالية الدولة. فإذن لا بد من البحث في الطريق التي توصلنا؛ وأمامنا الآن طريقان:

  • الطريق الأول: هو طريق الديمقراطية الليبرالية. وهنا، ما علينا إلا أن نطالب بديمقراطية لا يمكن رفضها. وفي ظل هذه الديمقراطية الليبرالية يستطيع اليسار أن يجمع نفسه في حزب وجرائد.
  • الطريق الثاني: هو طريق نظرية تأتي من خلال زعيم شعبي حقيقي، أي من خلال شخصية من نوع لينين أو «هو تشي منه» أو ماوتسي تونج. ولكن هذا الطريق غير مضمون؛ لأنه قد يظهر هذا الشخص الممتاز صاحب النظرية الشعبية، وقد لا يظهر.

هذان هما الطريقان الموصلان للشكل.

هل أنا مع الطريق الأول، طريق الديمقراطية الليبرالية؟ الواقع أني لم أكوِّن رأيًا محددًا بعد. أنا أضع أسئلة.

وهنا أسأل: هل يوجد طريق آخر غير طريق الديمقراطية الليبرالية؟ إن الشكل لا يزال مطروحًا للمناقشة.

•••

إن الليبرالية بالمعنى الاقتصادي طبعًا قد تكون معوقة بعض الشيء من الناحية الاشتراكية … لكن الليبرالية لها معنًى آخر، وهي الليبرالية الفكرية … وهذه الليبرالية الفكرية هي التي اعتمد عليها أحرار المفكرين في أوروبا لتحطيم العهد الذي هو التعصب الديني والخرافات واستبداد الكنيسة؛ لأن الليبرالية هي التي حطمت استبداد الكنيسة وقالت للكنيسة أنت ممنوعة من التعليم؛ لأن التعليم أصبح مدنيًّا، وإذا كنت تريدين التعليم فاذهبي إلى أفريقيا … وبذلك فتحت عندنا مدارس جزويت … إلخ. وصدَّروا إلينا هذا التعليم الديني. فنحن ارتددنا إلى الوراء في الواقع من بعد العشرينيات والثلاثينيات. إذا نظرنا اليوم إلى ما يحدث فسوف نجد أن بعض الناس يحاولون أن يجرُّونا إلى رجعية دينية خرافية لا تتفق مع جوهر الدين؛ لأنها تستبعد تمامًا دور الإرادة الإنسانية، ودور التعليم والتفكير والتدريب، وتحاول أن تُلغي العقل الإنساني تمامًا.

إن ما يحدث اليوم من هذه القوى المتخلفة التي تتستَّر باسم الدين لتُلغي تمامًا دور العقل؛ يذكِّرني بالمقالات التي كتبتها عام ١٩٣٩م، ووجهتها إلى فضيلة شيخ الأزهر وقتئذٍ.

لقد قلت له: إنك تتدخل في حرية الفكر. فكيف تفعل ذلك؟ وزير المعارف في ذلك الوقت قال لي: كيف تغضب شيخ الأزهر؟ … وطُلبت في مجلس الشيوخ ليسألوني. ومجلس الوزراء اجتمع. ووزير المعارف قال: إن لم تعتذر عن إهانتك للأزهر وتدخُّله في شئون الفكر فأنا لست مسئولًا عما سيحدث لك. فقلت له: أنا أرفض الاعتذار وهذا خطر عليك أنت؛ لأن تدخُّل الأزهر كمؤسسة دينية في شئون الفكر لا يصح.

ثم جاء شيخ الأزهر، الشيخ المراغي، وكان واسع الأفق، يعتذر بنفسه، وقال إنه لم يتدخل في شئون الفكر أبدًا. وسألوني في الصحف قلت: نعم، المسألة أنه حصلت سابقة مثل هذه عندما تدخَّل الأزهر في كتاب «جان دارك لبرنارد شو» المقرر في الجامعة في كلية الآداب قسم الإنجليزي، فقيل إن في هذه المسرحية ما يمَس العقيدة … ومُنع الكتاب. وأظن أن هذا كان في عهد طه حسين، وكيف لم يستطع أن يرفض طلب الأزهر بمنع هذا الكتاب؟! في ذلك الوقت قلت: طالما أنكم قبلتم أن الأزهر يتدخل في كتب الجامعة، وأن الجامعة تسمع كلام الأزهر في إلغاء كتاب للُّغة الإنجليزية، ولم يكن كتابًا دينيًّا، فمن حق الأزهر أن يسيطر على «الحياة العقلية» كلها إذن، حتى إذا لم يكن من كتب الدين.

خلاصة القول: إننا نحتاج اليوم إلى ثورة علمانية، وإلى إعادة العقل، سيطرة العقل، إعادة الطريقة العلمية لا الطريقة الخرافية. فمن الذي سيتولى اليوم هذه المعركة؟ إذا عهدت إلى اليسار بهذه المهمة سيقال الملحدين، فإذن هل نعيد الليبرالية لتساعدنا في المعركة ضد هذه الخرافية الثقافية؟ إن الليبراليين في البلد غير يساريين، أي غير متهمين بالإلحاد. وإذن فلا بد من هذه المعركة، معركة العلمانية، في التفكير والمنهج العلمي؛ لأن هذا هو الذي سوف يمهد طريق الاشتراكية السليمة؛ لأن الاشتراكية مبنية على العلم لا الخرافة. انظروا، كمثال، لمهرجان الملابس الذي لا أول له ولا آخر في الجامعة. سيقولون لنا إن هذا لبس كذا وهذا زي إسلامي … إلخ، لكن نسأل: هل كان هناك زي إسلامي حتى في أيام النبي؟ حدث في وقت المعركة أن النبي لبِس «اللأْمة» التي كان يلبسها الروم، فلما سئل النبي في ذلك قال لهم، ما معناه، إن هذا ما تتطلبه المعركة. مثال آخر جاء إليه سلمان الفارسي وقال له إننا في فارس عندما نحارب جيشًا أكبر فإننا نحفر الخنادق. النبي دعا إلى عمل خندق مثل الفرس، وكانت واقعة الخندق. فعل هذا رغم أن الفرس كانوا يعبدون النار. ونلاحظ أن النبي اشترك بنفسه في حفر الخندق. وعندما ضرب الفأس طلع الشرار من ضربة الفأس، فقال، ما معناه، إنني أرى من هذا الشرر، أرى قصور كسرى تتهاوى. وظل يثير حماس المسلمين فاستطاعوا أن يتغلبوا لأنه عمل معهم يدًا بيد.

مجمل القول: كانت هذه هي الثورة الإسلامية تقبل الجديد النافع مهما يكن مصدره. وكان الدين ثورة، ولم يكن قد تحول إلى كهنوت. والنبي كان ثائرًا. وعندما قالوا له نحن نعيش على دين أجدادنا قال لهم فكِّروا، وكانت الثورة فكرية أيضًا؛ لأنه أراد أيضًا أن يخرجهم من تفكير متجمد إلى تفكير حر، فيقول لهم فكِّروا بعقلكم، لقد أوتيتم العقل، فهل الأصنام تستطيع أن تعمل لكم خيرًا أو شرًّا؟ وأثبت لهم هذا؛ إلى أن استطاع أن يقنع مجموعة من العقلاء وعمل الثورة لتكون عقلية ودينية. لكننا نرى اليوم في بعض الأوساط تحجُّرًا يتخفى وراء مزاعم دينية، هناك من لا يزال ينكر أن الإنسان قد صعِد إلى القمر، ويزعمون أن هذا مخالف للقرآن الكريم. المسألة أنهم تجمدوا، بقوا زي قريش قبل النبي.

إذن فالمسلم الحقيقي أو الرجل المتدين الحقيقي عليه أن يأخذ الأنبياء كمثل ثوري؛ لأن هؤلاء كانوا ثائرين على أوضاع متجمدة، وقاموا لتغيير الحياة في البيئة الاجتماعية التي فيها ظلم الأغنياء للفقراء. فالمتدينون الحقيقيون عليهم أن يأخذوا المثل وبعد ذلك يطبقوه على واقع اليوم. إن بعض الجماعات الدينية حاولت من سنوات أن تعيدنا إلى مجتمع عمر بن الخطاب باعتبار أن هذا كان مجتمعًا مثاليًّا. لكن عمر بن الخطاب كان في مجتمع صغير، فكان يمشي بين الناس ويتعرف على مشاكل هذا وذاك. لكن عندما نرى أن المجتمع اليوم قد كبر وتعقدت مشاكله، فإن هذا يتطلب نظامًا جديدًا. فالواجب إذن هو تقليد عمر بن الخطاب في سعة تفكيره وقوة إرادته وحسن تجديده، أي في صفاته الإنسانية العليا، وليس في تصرفاته الصالحة لمجتمعه هو في زمانه ومكانه. إن عمر بن الخطاب كان صاحب ثورة عقلية، ونحن أيضًا نريد إذن ثورة عقلية أخرى. هذه الثورة الأخرى كان الأمل أن يقوم بها الليبراليون، فاتضح أن فئة منا تشكِّك في وجودهم؛ على اعتبار أنهم أصبحوا متخلفين عقليًّا. إذن الليبرالية ليست موجودة الآن كما كانت من قبل، وهي لن تعيد العقلانية، التي تؤدي إلى انتصار وسيادة العلم، وبعد ذلك يسهل أن ننقل على الاشتراكية العلمية. وهذا يفسر لماذا لم يكن من الممكن أن يأتي ماركس قبل عصر التنوير قبل فولتير. كان لا بد أن يأتي فولتير وروسو لينصروا العقل ويضربوا الخرافة. فجاء ماركس ليجد عصرًا علمانيًّا مستعدًّا لقبول النظرية العلمية، بعد تمهيد واسع وكامل، لكننا اليوم نجد الناس خائفين، ليس من الرجعية الاقتصادية، بل من الرجعية الثقافية أو العلمية. مع أن الدين جوهره ثورة على التخلف العقلي والمجتمعات المتخلفة. ومن ثم ظهر الأنبياء ليطوروا الإنسانية.

إذن نحن نريد للعقلية العلمية أن تسود كما كان الأمر في القرن التاسع عشر. في القرن التاسع عشر كله كان تغيير العقلية العلمية التي مهدت للقرن العشرين، فأنت الآن تَعتبر ما هو مستقبل هناك حاضرًا عندنا، يعني الحقيقة توقيت ساعتنا غير توقيت ساعتهم … يمكن فيه تخلف قرنين، مثل ما تكون راكب طيارة يقوم يقول لك أخِّر ساعتك ساعتين أو قدِّمها ساعتين. الواقع نحن نؤخر ساعتنا إلى القرن التاسع عشر.

•••

دعوة مصرية … مصر — كما أتصور — نشأت كحركة استقلالية عن التبعية العثمانية. هي إذن انطلاقة وطنية وليست اقتصادية. واستمرت هذه الانطلاقة بعد ذلك للمطالبة باستقلال مصر عن الإنجليز. في ذلك الوقت لم تظهر قضية «أنا عربي»؛ لأنك لو قلت هذا في ذلك العهد، لوجدت أن البلاد العربية مقسمة وموزعة بين تبعية تركية وأخرى إنجليزية وثالثة فرنسية … وكانت البلاد مقسمة ومحتلة. كان لا بد لمصر إذ ذاك أن تحدد تبعيتها. فلو كانت قالت إن تبعيتي عربية فقد كان العرب منقسمين، فلم يكن هناك مفر من أن تقول أنا أريد بلدي … أرضي … مصري. فالدعوة المصرية كانت وليدة ذلك الوضع، أي الرغبة في الاستقلال الوطني في مواجهة الاحتلال.

في الأربعينيات، وما بعدها، تم الاطمئنان على الاستقلال، بشكل أو بآخر. وبدأت القضية الاقتصادية تتحرك وتأخذ ثقلها. هنا رأينا مثلًا مولد أثرياء الحرب والباشوات الذين ظهروا مع المسرح السياسي، تحركوا ليدخلوا مجالس إدارات الشركات الأجنبية. وكان هذا قد ظهر بوضوح بعد إلغاء الامتيازات. فأرادت الشركات الأجنبية، التي بدأ المجال يضيق أمامها، أن تنقذ ما يمكن إنقاذه، فضمت مصريين إلى عضوية مجالس إدارتها، كما ضمت رجالًا من السلطة. هنا ظهرت الطبقة الجديدة التي ركزت على المسائل الاقتصادية، بعد أن أصبحت الوطنية المصرية كسياسة واستقلال مكفولة. وتعاظم الاتجاه إلى تكوين شركات، حتى لقد تكونت شركات وهمية للاحتيال، وكان فيها باشوات. وأتذكر أني كتبت عن هذه الظاهرة تمثيلية اسمها «اللص»، بطلها باشا من أصحاب الشركات الرأسمالية. أما الشخصية الأخرى فكانت أيضًا هي شخصية لص ولكنه كان فقيرًا، وكان يريد مائة جنيه فقط ليبني بها نفسه في المجال الحر، فسرق هذه المائة، وحذا حَذو الباشا. المهم أن كلمات الرأسمالي والرأسمالية ترددت كثيرًا في هذه التمثيلية. وبعد نجاحها لمدة أسبوعين أُوقِفت بتدخل أعضاء شركة زاما سنة ١٩٤٨م (شركة وهمية). الغريب أن ما أدهشني هو أن الرقابة في ذلك الوقت حذفت كلمة رأسمالية ورأسمالي.

إذن كان هناك طبقة رأسمالية تنبهت إلى خطورة الأقلام التي تتجه إلى الهجوم عليها.

وفي الواقع فإن فترة العشرينيات والثلاثينيات إذا كانت قد أبرزت مصريةَ مصر، وربطت ذلك بتاريخها وبحضاراتها المختلفة، فإن الفترة التي تلتها — فترة الأربعينيات — حدث فيها تحول انعكس على مواقف الكتَّاب والأدباء. وهذا التحول في مواقفهم لم يكن مخططًا أو وفقًا لخطة سابقة، وإنما يكتب الأديب، أو يعبر الفنان، وَفقًا لما يحسه وما هو موجود فيه. وإذا كنت في ۱۹۳۸م قد كتبت يوميات نائب في الأرياف وغيره، فقد كنت أعبر عن شخص وجد في الريف ورأى ما عليه الريف من فقر. وكان الكِتاب بذلك موجهًا إلى إنقاذ المصري المهضوم. لكن الأوضاع الاجتماعية لم تكن قد تبلورت في وقت يوميات نائب في الريف كما تبلورت بعد ذلك، خصوصًا من ١٩٤٥م.

نأتي الآن لموضوع الليبرالية. الواقع أن بلدنا فيها أكثر من «ليبرالية» وأكثر من «اشتراكية». وعليه فإن هناك فروقًا بين الليبراليين. هناك ليبراليون يريدون الليبرالية للعودة بالمجتمع إلى مجتمع رأسمالي حر، أي يريدون ليبرالية اقتصادية يتحقق فيها حرية اكتناز الثروات لطبقة أو فئة اجتماعية.

ولكن هناك ليبراليين من الذين قيل عنهم الآن إنهم ليبراليون مخلصون، تجدهم خصوصًا في أوساط المثقفين. فهؤلاء ليبراليتهم ليست من النوع الاقتصادي، أو بالمعنى السياسي المصطلح عليه، ولكن ليبراليتهم هي رد فعل للديكتاتورية البوليسية. هم وجدوا أن الاشتراكية نابتة في إطار ديكتاتورية بوليسية، وليس في إطار ديمقراطية شعبية؛ لأن الليبرالية لو كانت نبتت في الاشتراكية الشعبية، في الشعور الشعبي، لكنَّا في الواقع أمام شيء واحد هو الاشتراكية. وهذا ما عناه الأستاذ خالد محيي الدين (أحد ضباط ثورة ١٩٥٢م) في كلمة له بمجلة الطليعة أشار إلى أن الأمريكان، في الأيام الأولى، من ثورة يوليو، لم يكونوا يريدون الوفد ولا الأحزاب الشعبية؛ لأنهم عرفوا أنه سوف ينبت من هذه الليبرالية مبدأ الثورة، سينبت اتجاه إلى توفير الحريات للشعب. وفي هذه الحالة كان لا بد وأن يكون هذا الاتجاه، في تطوره، اتجاهًا يساريًّا اشتراكيًّا. وكان من الممكن في هذه الحالة أن يحصل تقارب مع الدول الاشتراكية، وهي الدول التي لم تكن أمريكا تريد أن يحدث تقارب بينها وبين الشرق الأوسط، وبينها وبين مصر والعرب. بمعنًى آخر كان هدفهم إبعاد مصر عن الديمقراطية الليبرالية، بل وإبعادها عن كل نوع من أنواع الليبرالية السياسية. وكانوا يظنون أن هذا سيُبقي المصريين في قبضة واحدة يستطيعون أن يتفاهموا معها. ولذلك كانت أهم الكلمات التي قيلت كلمة الأستاذ خالد محيي الدين؛ لأنها حددت بصراحة وضع مصر، في الأيام الأولى من الثورة، وعندما كانت تريد أمريكا صنع الاشتراكية بواسطة قوة أو سلطة علوية تكون ملامحها محددة. وعندما تكون الاشتراكية على هذا الوضع تفقد كثيرًا من مقوماتها لأنها تصبح محكومة، تصبح باختصار اشتراكية فوقية.

•••

إذن الليبرالية قسمان: وهناك ليبراليون بحكم أنهم يريدون معارضة الديكتاتورية البوليسية. وهؤلاء يمكن كسبهم إلى قضية الاشتراكية عندما يعرفون أن هذا الشكل من «الديكتاتورية» ليس ملائمًا للاشتراكية. وأنا أقول يمكن كسبهم إلى الاشتراكية بسبب أنه ليس لهم مصلحة اقتصادية في نظام اقتصادي حر «ليبرالي». فهؤلاء هم رجال فكر. وأنا إذا كنت بينكم الآن — وفي هذه السن من عمري — فليس لغرض، وإنما بهدف توضيح مواقف اليسار.

وبمناسبة اليسار أرجو ألا يسميني أحد يمينيًّا أو يساريًّا. فأنا لا يساري ولا يميني. بمعنَى أنني لا أستطيع أن أضع لافتة. ولكن عندما تحاسبني حاسبني على هدفي في الحياة. وسأقول لك في هذه الحالة: هدفي مع التقدم لا مع التجمد ولا مع الرجعية. التقدم ببلادنا العربية كلها، والتقدم البشري الإنساني. وما دمت قد قلت: التقدم والتغيير المستمر والحركة المستمرة، فلن يكون هذا في الاتجاه اليميني، ولن يكون إلا في الاتجاه اليساري.

لكن ما زلت أصر على ألا يدعوني أحد يمينيًّا أو يساريًّا؛ لأن معنى هذا أنني أتقيد ببرنامج معين. من يضع لي هذا البرنامج؟ لا أريد أن أجد نفسي مجرورًا إلى الأحزاب. وهذه مسألة تخصني وحدي. فأنا مع التقدم والتجدد لبلادي وللجنس البشري. وبهذا المعنى لا أرفض أن يقال إنني «ليبرالي» من حيث الفكر الحر.

أما النوع الثاني من الليبرالية والذي وقفت ضده، فهو المنتفعون من الليبرالية. وهذا النوع حاربته ووقفت ضده في «شجرة الحكم»، وأدنت الملك والأحزاب. ومن بينها حزب الأحرار الدستوريين ورئيسه محمد محمود. فهذا الحزب كان يريد أن يطردني من وظيفتي، فكيف يكون الحر الدستوري ضدي وهو ليبرالي؟ في الحقيقة أيضًا أنا كنت ضده؛ لأنه أراد أن يستغل الليبرالية لخدمة أهداف الإطار السياسي الذي كان موجودًا، وهو الإطار الرأسمالي. وهذا يفسر لماذا رحبت بالاشتراكية، ولماذا تحمست لجمال عبد الناصر، ولماذا لم أكن أطيق سماع كلمة ضد ثورة يوليو، حتى من أصدقائي القدامى الذين ينتمون إلى العهد الماضي.

وبهذه المناسبة ما سمعته منهم أخيرًا عندما قالوا إن التخريب الذي حدث قام به الشيوعيون. فكان ردي عليهم «يا ناس ما تبطلوا الكلام ده، هي الشيوعية دي كفر؟» إن «لكلٍّ على قدر حاجته». وأنا سبق أن كتبت في «شجرة الحكم» عن الجنة. فتخيلت زعماء البلد — في ذلك الوقت — قد وجدوا أنفسهم بحق «كلٌّ على قدر حاجته». لكن هذا لم يكن يكفيهم، فبدءوا يزاولون نشاطهم السياسي. وعندما جاء الوفد قال: أين الوفديون؟ أين الوطنيون؟ فعندما رأى الوفديون النحاس باشا (في شجرة الحكم) هتفوا له، وساروا في مظاهرة، واقتلعوا بعض الأشجار … إلخ.

نخلص من هذا كله إلى أن هناك نوعين من الليبرالية، فإذا وجدنا مثقفين يقولون بالليبرالية، فيجب أن نفهم هذا على أساس أنهم لا يمكن أن يكونوا ضد الاشتراكية؛ لأني أنا، ككاتب، لا تتحقق مصلحتي إلا في الاشتراكية. ونحن نعلم أنهم في البلدان الاشتراكية يقدمون لرجال الفكر إمكانات كبيرة: مسكن في مكان طيب، في غابة أو حديقة أو جبال لطيفة، وتجد أنهم يتركونه لفنه. وليس من أهدافه أن يكتنز. إذن أنا ككاتب لا أكتسب إلا في وضع الاشتراكية. فكيف إذن جاءت كلمة الليبرالية؟ كما قلت الخوف من الديكتاتورية البوليسية. وهي غير ديكتاتورية الحزب؛ لأنه في الحالة الأخيرة يوجد نوع من الرقابة والحساب. والشعب في هذه الحالة أصبح طبقة واحدة.

•••

أخيرًا عندما وجدنا أن الولايات المتحدة إذا كانت فعلًا من مصلحتها أن تحل قضية الشرق الأوسط وتحل السلام، وجدنا أنها لا تملك هذا حتى في بلادها. وقد وجدنا أن من قال كلمة الصدق من قادتها وقال إن إسرائيل فتحت لها ترسانة الولايات المتحدة بأكثر مما يجب، وإنه يجب أن نراجع أنفسنا في التحيز لإسرائيل، كل من قال هذا وجدناه يسقط، وكذلك الأمر مع نيكسون عندما أراد أن يحل المسألة.

إذن أمريكا ليست لها القدرة أن تحل مسألة الشرق الأوسط بمفردها، لماذا؟ … لأن إسرائيل هناك لها وضع يقيد الساسة في داخل أمريكا. من الجائز بشكل لا يتمشى مع مصالح أمريكا نفسها. فإذن الاعتماد على أمريكا سياسيًّا، كل الاعتماد، لن يؤدي إلى ما نتمناه دائمًا؛ لأنه بخلاف رغبة الحكام أيضًا ربما كان الحاكم يريد حل المسألة بما يناسبنا لأسباب خاصة بالبترول، خاصة بمصالحه، ولكن ماذا تفعل في القوى التي تقيده في الداخل؛ فيضطر أيضًا أنه يسحب كلامه المناهض لإسرائيل ويتمشى؟ إذن أنت أمام صديق مكبل لا يستطيع أن يمشي معك إلى آخر الشوط … لكن الصديق الآخر أيضًا يجب أن نراعيه ونجعله دائمًا في الصورة، وألا نضعه في وضع غير مشجع له على أن يقف بجانبنا؛ لأنه هو يستطيع أن يقف … لماذا يستطيع؟ لأنه غير مكبل في الداخل باتجاهات تمنعه من مساعدتنا. الشعب السوفيتي نشعر منه بكل صداقة في أشياء كثيرة … الحكومة أيضًا … إذن لا يوجد تخلخل في الداخل يمنع من تنفيذه لما يريد أن ينفذه فيما يختص بنا … أما الذي نرفضه دائمًا فهو النزعة العاطفية في العلاقات الدولية.

ثانيًا: الناحية الاقتصادية هنا تستطيع أن تجد نوعًا من أنواع التكامل الاقتصادي — ليس كاملًا — إنما نوع من أنواع التكامل، بالإضافة إلى أنه يمكن أن ننفتح على بعض التجارب الاشتراكية بدون أن نتقيد بنظام. لماذا؟ لأن نظام كل بلد نابع من ظروف تاريخية لا تتسنى للآخرين. وماركس، نفسه، ما كان يتوقع أن نظريته ستنشئ دولة في الاتحاد السوفيتي، أو في روسيا؛ لأنه هو خطط على أساس أنها ستكون في إنجلترا. إذن النبات الروسي كان مستعدًّا أكثر أن يطبق هذا. ثم خلق لهم لينين، الرجل المخلص، والمثقف الجامعي، ولم تكن لهم قوة عسكرية، لكن النظرية كانت دمه وجاهد من أجلها. واستطاع أن ينفذ اتجاهه. نحن هنا لا نستطيع هذا لأسباب كثيرة. أولًا نحن بلاد من أيام الفراعنة إلى اليوم الدين يلعب فيها دورًا أساسيًّا، والعقيدة تلعب دورًا أساسيًّا. أضف إلى ذلك، أننا نحن أيضًا لنا تقاليد عريقة في بنيان الأسرة، وبنيان الريف، وبنيان المجتمع، فإذن لا بد أن تكون لنا اشتراكية قابلة للنبات في طينة سوداء وفي نهر النيل المملوء بأشياء خاصة بنهر النيل. ولذلك عندما تقيم سدًّا عاليًا على النيل، فلن يكون نسخة مماثلة لسد عالٍ على — مثلًا — نهر الدنيبر، اختلاف الأرض هنا وهناك، قد يحدث ما لا يمكن أن يتنبأ به لا خبير سوفيتي ولا خبير مصري؛ لأنك لن تعرف رد الفعل لهذه الأرض وهذا الطين وهذا الطمي.

•••

يعني عندما تبني فبالتجربة ستظهر أشياء كانت خافية عليك … إذن أريد أن أقول: إذا كان هذا يحدث في الأرض فما بالك في طبيعة النفس البشرية! … نفس بشرية قد تكون مخالفة تمامًا للنفس البشرية في أي بلد آخر … إذن أنت تريد أن تنتفع بالاشتراكية لأسباب ضرورية لبناء مجتمع له آمال؛ لكي توزع ثمرات العمل بعدالة معينة لا يستغلها لصوص وطبقات تعيش عيشة بذخ، بينما الفلاح لا يزال في الجحور … إذن أنت تريد اشتراكية، لكن اشتراكية نابتة من أرضك … ثانيًا: الإطار السياسي. لا تقدر أن تعرف كيف سيكون الإطار السياسي الذي سيحمي هذه الاشتراكية … الإطار السياسي في الاتحاد السوفيتي نبت ولم يكن تخطيطًا. إنه نبات مَر بتجارب، ومر بأشياء كثيرة ما بين ستالين وتروتسكي وما بين كذا وكذا. ثم سبق هذه الثورة أيضًا في القرن التاسع عشر إرهاصات كثيرة، وثورات خبت وثورات نجحت. هذا تاريخ. وهذا التاريخ غير متوافر لك. لا يزال تاريخ الاشتراكية في مصر جديدًا جدًّا، فإذن لا تستطيع أن تنبت اشتراكية بالطريقة التي اتُّبعت في الاتحاد السوفيتي ولا في الدول الشرقية؛ لأنه كان فيها أيضًا تاريخ معين في هذا الاتجاه.

فإذن، كل ما يمكن أن يقال أننا لا نطبق نظامًا من بلد آخر في بلادنا. وكل ما نستطيع أن نطبقه هو رءوس موضوعات فيما يختص برأس المال المستغل والعمل وحقوق العمال في بلادنا، هذه تجدها عند الفلاح، والعامل، وكل إنسان يكدح ويأخذ لقمته بعرقه، سيجد أن هناك ناسًا لا تعطيه حقوقه؛ لأنها تستغل هذه الحقوق. فمن الذي سيدافع عن هذا … أو ما هو النظام؟ النظام كان دائمًا في مصر أن الذي وزع ثمرات العمل هو الحاكم، سواء كان من الملوك أو من رجال السياسة، من طبقة معينة، وفي إطار ليبرالية معينة. هؤلاء لهم المقدرة على توزيع العمل في ظل الرأسمالية المستغلة. اليوم لم يعد عندهم هذه المقدرة. ومن هنا نحن نبحث عن الأساس:

هل نحن نرجع إلى ليبرالية وينبت منها جناح اشتراكي؟ حاولنا هذا في ثورة ١٩٥٢م، ولا أعرف كيف انقلبت إلى إطار ديكتاتورية بوليسية لفرد لا لطبقة. وهذا الفرد هو الذي يطبق الاشتراكية من أعلى، لكن ثبت أن هذا لم يُفِد. فإذن نحن نريد إطارًا لهذه الاشتراكية لا يكون مقتبسًا مباشرة من دول أخرى؛ لأن الطبيعة مختلفة … هذا ما نبحثه الآن.

أما علاقات الصداقة التي بيننا، فهي علاقة تنبت من عدم وجود ما يشوب أو ما يعرقل هذه الصداقة … يعني نحن مع كل النية الطيبة في علاقتنا مع أمريكا، وأنا رحبت جدًّا أن يكون فيه علاقات بيننا وبين أمريكا. ولما جاء نيكسون هنا، قلت فعلًا إن مقابلته يجب أن تُشعر الأمريكان بأن إسرائيل على خطأ عندما تقول بأن الشعب المصري يكره من قلبه الأمريكان … الشعب المصري لا يكره أبدًا … بدليل أنه قابله مقابلة طيبة. لماذا؟ لأنه لا يكره … ولكن عندنا المصالح شيء والحب والكراهية شيء ثانٍ. مصلحتنا بعد هذا أننا أثبتا لإسرائيل بأن احنا لا نكره شعوبا؛ لأن إسرائيل كانت دعايتها أن الشعب المصري يكره الشعب الأمريكاني، فقلبت علينا كل الأمريكان حتى في بيوتهم. لما نقول لهم إن مصر يمكن أنها تكره الشعب الأمريكاني كشعب، نفس الاتحاد السوفيتي لا يكره الشعب الأمريكاني كشعب، ولكنه هو يتعامل مع حكام معينين، ومع نظام معين. نظام سيئ، ولكن الشعب نفسه فيه أيضًا شعب كادح لا يرضى عن النظام الرأسمالي في أمريكا، يعني نفس الشعوب واحدة في جميع الدول. الشعب لا يريد أن يحكم حكمًا استغلاليًّا، سواء كان في أمريكا أو فرنسا.

•••

إن مصر — حتى اليوم — لم تجرب تجربة صحيحة، فلم يكن عندنا ليبرالية سليمة ولا اشتراكية سليمة. ولذلك عندما نقول إننا مررنا من النظام الليبرالي إلى النظام الاشتراكي، فالواقع أنه لم تكن ليبرالية حقيقية؛ لأن الليبرالية الحقيقية تسمح بوجود حزب يمثل الطبقات الكادحة، ولكن ليبراليتنا قبل الثورة كانت ليبرالية ملَّاك؛ بمعنَى أن الأحزاب التي تحكم هي أحزاب أصحاب المصالح وأصحاب الأعمال ويمثلون الملَّاك. فإذن، فلو أنها كانت ليبرالية حقيقية، كما حدث في أوروبا، لكان هناك — على الأقل — حزب يأتي إلى الحكم، أو يتحد في وزارة ائتلافية، ويكون ممثلًا لعمال أو فلاحين. إذن هي كانت ليبرالية ناقصة، وإذن نحن لم نجرب الليبرالية الصحيحة الكاملة.

بعد ذلك، انتقلنا إلى ثورة ١٩٥٢م، والقول إنها نقلتنا من الليبرالية إلى الاشتراكية هذه. فهذه ليست اشتراكية. نعم مهدت، لكن أضيف أنها لم تمهد فقط، لكنها لحمت أشياء في أشياء بما يمكن أن نسميه الاشترأسمالية.

•••

الميثاق تجد فيه كلامًا في الاشتراكية … كلامًا عظيمًا … أين النتيجة؟! إذا كان هذا صحيحًا لكُنا تقدمنا تقدمًا عظيمًا. لكن ما حدث غير ذلك، أنت وضعت على الورق، وما أسهل وما أبرع ما تُصاغ كتب ومواثيق ومؤلفات وخطب من المنابر، وبعد ذلك نرسم نظامًا اشتراكيًّا. هذا النظام الاشتراكي المرسوم على الورق تسلمه مثلًا لمهندس أو نجار لكي يصوغ منه بناء، فإذا به يعطي لك عمارة، مثل عمارة هذا المقاول المعروف الذي ظهر أنه أولًا مقاول رأسمالي مستغل لص فسرق. والذي حدث أنك سلمت الاشتراكية — في التطبيق — لقطاع عام. هذا القطاع العام ليس عنده أبدًا أي روح اشتراكية، أي إنك سلمت الاشتراكية لغير اشتراكيين. سلمت الاشتراكية لرأسماليين، في ضميرهم، وفي تربيتهم، وفي تكوينهم، فإذا وجدنا عمارة كعمارة هذا المقاول، كلها مغشوشة من الداخل. وبعد ذلك نجد الكلام جميلًا أمام الناس وأمام العالم، كأن يقال: «نحن عندنا الإصلاح الزراعي الذي اقتبسته كوبًا» وعندنا … إلخ … إلخ. ثم تذهب إلى الريف أنت فعلًا فتجد ملَّاكًا نُزعت ملكيتهم، وبعد ذلك تجد مظاهر استعراضية جميلة جدًّا، وبعد ذلك مدارس. ما الذي تعلمه؟ التعليم في حالة يُرثى لها. تجد عندنا وزارة ثقافة، وقطاعًا عامًّا، في كذا، ثم تجد أن مستوى الثقافة في العشرينيات والثلاثينيات، عندما لم يكن أحد يقوم بالتثقيف غير الأقلام الحرة فقط، (والحكومة في واد والعقول المستنيرة في واد آخر) كانت هناك فعلًا نتائج. إذن أنت سلمت الاشتراكية كنظام مرسوم على الورق الجميل إلى المقاول الذي بنى العمارة إياها، وبعد هذا سلمها لناس لا يعرفون الاشتراكية … فعلًا، ولا يمكن أنهم ينفذونها فعلًا. فإذا اتفقنا على صورة للمستقبل نحن مقدِمون على بنائها، ثم اتفقنا على أن النظام الاشتراكي السليم هو المطلب؛ لأن بلدنا لا تستطيع أن تتحمل استغلال الطبقات الكادحة أكثر من ذلك. بالإضافة إلى أن الطبقات الكادحة ستستمر في هذا البناء وهي التي ستبني المستقبل.

المستقبل إذن هو للاشتراكية، ولكن … إذا كنا نقول اشتراكية ١٩٥٢م وثورة ١٩٥٢م سنخيب أمل جماهير كثيرة. ولذلك يجب أن نحسم ونكون واضحين، ولسنا عاطفيين، ولا مجاملين. نقول إنه كان فعلًا هنا اتجاه اشتراكي، نوايا اشتراكية سليمة؛ بدليل أننا رحبنا وصفقنا لثورة ١٩٥٢م. وإلا فإن الناس ستقول لي ما الذي أسكتك لغاية ١٩٦٧م؟ إن الذي أسكتني هو أنني رأيت فعلًا تحولًا في النوايا، ورأيت بعض الإنجازات، وقامت أشياء لمسناها بأيدينا. لكنها انحرفت بعد ذلك. إنها وقعت في يد المنفذين الذين ليس عندهم أي فكرة إلا أن يستفيدوا من هذا النظام. إلى أن رأينا أن القطاع العام كان يسلم نفسه لقطاع خاص مستتر، يأتي له بالأرباح ويضع هذه الأرباح في تقاريره السنوية على أنها أرباح القطاع العام. فإذن العملية في المستقبل تحتاج إلى تطبيق سليم للاشتراكية.

•••

فيما يتعلق بمسألة الانفتاح نريد أن ندرسها. الانفتاح، أنا أتصوره كما يلي: لقد استنفدنا كل ثروة البلد، يعني أن كل ما في البلد من نقود ومال لعمل تنمية غير كافٍ. فلا بد من معاونة رأس المال الأجنبي. ما يشجعنا على هذا ما وقع في الاتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية. وجدوا أن عندهم كنوزًا كثيرة، فإما أن يتركوها، وإما أن يتعاونوا مع رأس مال أجنبي، دون المساس بالنظام الداخلي؛ لأن كل ما سيأتي من هذا الانفتاح، أو هذا التعاون، سيرفع من مستوى الطبقات الكادحة، إلى مستوًى عظيم جدًّا. فإذن هذه عملية مفيدة لنمو الاشتراكية والتقدم إلى الشيوعية باستثمار كنوزهم، وإلا فسوف يبقى الاتحاد السوفيتي على خطأ وسيبقى بريجينيف على نظرية خطأ. لكن الواقع أنهم ساروا على نظرية صحيحة، وهي التعاون مع الرأسمال الأجنبي في استخراج كنوز البلد بدل ما هي معطلة؛ لأن رأس المال المحدود الموجود في الاتحاد السوفيتي، أو في مصر، لا يقفز بنا قفزة كبيرة في التنمية، فلا بد من هذا مع الفارق طبعًا. لكن ما أخشاه هو أنه إذا حدث هذا الانفتاح ستشعر بأن النتيجة دخلت في جيوب ناس نصف مليونيرات والشعب لا يزال هو الشعب. أخشى — على الأقل — أن يدخل فيهم الاشتراكيون المزيفون في القطاع العام، الذين يقولون نعم نريد الانفتاح. ثم تراهم قد ذهبوا ليأخذوا عمولة بنصف مليون جنيه ويُثرون على حساب عمليات الانفتاح. فإذن مسألة الانفتاح عندنا — مثل الاشتراكية — جميلة على الورق، وبعد ذلك تنقلب إلى مسائل بهذا الشكل … الانفتاح هو أنه إذا تم فعلًا، بهذه الطريقة فسيكون انفتاحًا على الطريقة الرأسمالية وليس انفتاحًا على الطريقة الاشتراكية في البلاد الاشتراكية المتأصلة. فإذن يتحتم أن نعالج كل مسألة على أساس طريقة التنفيذ والتطبيق على أساس الفكرة الرئيسية. إذن الفكرة الرئيسية، في كل شيء كانت صحيحة، والواقع أن الذي أبهرني في ثورة ١٩٥٢م وفي عبد الناصر هي النوايا واللافتات. ولم أتنبه — إلا أخيرًا — إلى أنه التطبيق … لقد كنت أسأل الفلاحين عندنا، فأجد التطبيق سيئًا جدًّا، وأن الحاكم بأمره هناك لا يزال هو الموظف … الموظف يبيع السماد في السوق السوداء … إلخ. باختصار يجب أن نضع في الاعتبار — في المستقبل — لا النظرية البراقة، بل من الذي يطبق، ومن الذي سيراقب … إن النظام الاشتراكي السليم هو الذي سيراقب هذا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤