الفصل الأول

التصور الساذج

(١) المعنى المجرد الكلي

نفتتح القول إذن بإثبات مغايرة الأفعال العقلية للأفعال الحسية. ومتى ثبتت هذه المغايرة ثبتت أصالة العقل، وثبت له وجود خاص، من حيث إن كل فعل فله بالضرورة فاعل معادِل له. ونقصد بالأفعال العقلية على وجه التحديد الأفعال الثلاثة المعروفة في المنطق بالتصور الساذج والحكم والاستدلال (بنوعيه من قياس واستقراء). ومعلوم أن التصور الساذج — أي البسيط — سمي كذلك بالنسبة على الحكم والاستدلال؛ فإنه محض إدراك معنى ما، كالعلم والإنسان والمثلث والفضيلة، بينما هما إدراك بإثبات أو نفي يجمعهما تحت اسم التصديق. وعلى هذه الأفعال يدور هذا الباب الأول.

المعنى يمثل ماهية الشيء المدرك، أي طبيعته دون تمثيل لما تبدو فيه الماهية أو الطبيعة من الأعراض. ويحصل عليه العقل بتجريد الماهية عن المادة الشخصية وعن الأعراض الملازمة للمادة، كالمقدار واللون والصوت والرائحة والطعم والحرارة والبرودة. ولما كانت الماهية الممثلة في المعنى مجردة هكذا عن كل ما يخصص الوجود الواقعي؛ فإن العقل يتصور إمكان تحققها في ما لا نهاية له من الأفراد، ولو لم تعرض عليه التجربة سوى فرد واحد لماهية واحدة. وبهذا الاعتبار يقال للمعنى المجرد إنه كلي، ويقال لأفراده إنها جزئيات لأنها بمثابة أجزاء له. وواضح أن التجريد سابق على تصور الكلية؛ لأن المعنى إنما يطلق على كثيرين لكونه غير متضمن لشيء مما يعين ويخصص في الواقع. وهذه الملاحظة على جانب عظيم من الأهمية، وهي تقتضينا ألا نقول «المعنى الكلي» إلا حيث تكون الكلية مقصودة فعلًا، وأن نقول «المعنى» أو «المعنى المجرد» حيث نقصد الماهية فقط، أي المفهوم دون الماصدق، فنرفع لبسًا كان مثارًا للخطأ عند كثيرين من الفلاسفة.

والتجريد على هذا النحو أساس «العلم» الذي هو وصول العقل إلى معنى الشيء، ومتى وصل العقل إلى معنى الشيء فقد عرفه بعلته، أي أدرك علة تكوينه وعلة خصائصه وعلة أفعاله. ولما كانت الماهية الممثلة في المعنى المجرد ثابتة، كان العلم بها ثابتًا لا يلحظ تغير الأعراض ولا يتغير بتغيرها، فضرورة العلم لازمة من ضرورة الماهيات. وتبعًا لذلك لا يكون العلم إدراك الجزء بما هو جزئي حاصل على كذا وكذا من الأعراض التي تميزه من سائر أفراد نوعه، بل يكون العلم إدراك الكلي، على حد القول المأثور عن أرسطو وأتباعه، أي إدراك الماهية المجردة التي هي كلية بالقوة من جراء تجردها، وتصير كلية بالفعل متى التفت العقل إلى جزئياتها الحقيقية والممكنة.

ويتفاوت التجريد على ثلاث درجات: في الدرجة الأولى يتناول العقل الشيء المادي كما هو ماثل في الصورة الخيالية، فيجرده عن أعراضه المحسوسة بالفعل، كمقداره وشكله ولونه وحرارته … إلى غير ذلك مما هو خاص بشخصه لا بماهيته ونوعه، مثلما نجرد صورة زيد عن أعراضه التي من هذا القبيل فنحصل على معنى الإنسان. بعد هذا التجريد يبقى المعنى مشتملًا على مادة مخصوصة داخلة في حقيقة الماهية؛ فإن الإنسان يوجد حتمًا في لحم وعظم، لكنها مادة معقولة إجمالًا، أي مجردة عن الأعراض. وهكذا الحال في سائر الكائنات الطبيعية، نتصور كلًّا منها في المادة التي تخص ماهيته لكن مجردة مجملة، والكائنات المتصورة على هذا النحو هي موضوعات العلم الطبيعية.

وفي الدرجة الثانية يتناول العقل هذه الموضوعات، فيجردها عن المادة المخصوصة المجردة أو الإجمالية، فتبقى لديه المادة على العموم، وهي التي لَمَّا جُردت على المادة المحسوسة شخصية وإجمالية لم تعد محسوسة، بل أضحت معقولة فقط، تتصور أبعادًا وأشكالًا، أي خطوطًا وسطوحًا وحجومًا دون أي عرض من أعراض الكائنات الطبيعية، فيحصل العقل بذلك على معنى الكمية المتصلة وينشأ علم الهندسة، ثم يحصل على معنى الكمية المنفصلة أو العدد، وذلك بالتمييز بين كميات متصلة مختلفة والجمع بينها، أو بقسمة الكمية المتصلة والجمع بين الأقسام، وينشأ علم الحساب الذي هو أكثر تجردًا من الهندسة لعدم تعلق الأعداد بالمكان كتعلق الأبعاد والأشكال، وأخيرًا يحصل على معنى الكمية إطلاقًا، وينشأ علم الجبر الذي هو أكثر تجردًا من الهندسة والحساب.

وفي الدرجة الثالثة يجرد العقل الشيء عن المادة المعقولة أيضًا، فلا يبقى لديه سوى معنى الموجود، وهو معنى غير متعلق بالمادة بالذات؛ إذ قد يكون الموجود جسمًا وقد يكون روحًا. كذلك يلحظ العقل بعض معانٍ توجد تارة في مادة وتارة في غير المادة: كالجوهر والعرض والكيفية والإضافة والقوة والفعل والكلي والجزئي والعلة المعلول والغاية والوسيلة، فيعلم العقل أنها تلحق الموجود من حيث هو موجود لا من حيث هو جسم طبيعي أو رياضي، ويحصل بذلك على موضوعات ما بعد الطبيعة.

فالتجريد واسطة الاتصال بين العقل والوجود، وفيه ضمان موضوعية العلم وحقيقته. والفلاسفة الذين ينكرون العقل ويحاولون الاكتفاء بالحس (مثال هوبس لوك وهيوم ومل وسبنسر) ولا يستطيعون تسويغ العلم الذي يدور على الماهيات المجردة والقوانين الكلية، بينما الحس لا ينال سوى الجزئيات. والفلاسفة الذين يؤمنون بالعقل وينكرون هذا التجريد (أمثال ديكارت ومالبرانش وليبنتز وسبينوزا وكنط)، لا يستطيعون تعيين العلة الحقة للمطابقة بين العقل والأشياء.

(٢) المذهب الحسي والمعنى

ينكر الحسيون وجود معانٍ في أذهاننا، ويبنون هذا الإنكار على اعتبارين: أحدهما أنه لما كان كل موجود حسيًّا، كانت معارفنا إما إحساسات أو راجعة إلى إحساسات. والاعتبار الآخر أن المعنى الكلي تَصوُّر متناقِض يلغي عجزُه صدرَه؛ إذ إن الكلية تمنع عن المعنى التعيين، بينما كل موجود وكل تصور فهو معين حتمًا. هل نستطيع تصور إنسان لا هو أبيض ولا أسود ولا أصفر ولا أحمر، ولا هو طويل أو قصير، ولا هو كذا أو كذا مما يسمى بالأعراض؟ هل نستطيع أن نتصور حركة متمايزة من الجسم المتحرِّك ولا هي سريعة ولا بطيئة، ولا مستقيمة ولا منحنية؟ هل نستطيع أن نتصور مثلثًا لا يمثل نوعًا من أنواع المثلثات ويشملها جميعًا؟ ويقاس على ذلك سائر المعاني التي لها التجرد والكلية.

غير أنهم يجدون أنفسهم مضطرين للإقرار بما يشبه المعنى المجرد الكلي، فيحاولون تفسيره ابتداءً من الحسي، فيقولون إنه صورة تكتسب بالانتباه على الخصائص المشتركة بين الجزئيات وفصلها عن الخصائص الذاتية لكل جزئي، وهذا هو التجريد عندهم، فنحصل على صورة ناقصة تحوي بعض خصائص الشيء دون بعض. وندل على هذه الصورة بلفظ، فنخلق بينهما علاقة عرفية يكون من أثرها أنه كلما سمعنا اللفظ أو قرأناه بدت في ذهننا صورُ أشياء حاصلة على تلك الخصائص، وهذه هي الكلية عندهم، تتسع أكثر فأكثر بتناقص عدد الخصائص المستبقاة في الصورة على ما تشير إليه كتب المنطق حين تعين العلاقة بين المفهوم والماصدق. ومِن الحِسِّيين مَن يعترف للذهن بفاعلية ذاتية في المضاهاة بين الخصائص والانتباه إليها، ومنهم من يرى أن الذهن منفعل وحسب، وأن تكرار الإحساس أو شدته تبرز الخصائص المشتركة وتفرض الانتباه على الذهن، فتحدث الصورة حدوثًا آليًّا. والحسيون المعاصرون يؤيدون تفسيرهم للتجريد بتلك «الصور المركبة» التي حصل عليها جالثون حوالي سنة ١٨٨٠؛ إذ وضع في فانوس سحري بضع ميداليات تمثل كليوباترة ووَجَّه الضوء إلى موضع واحد، فظهرت صورة هي متوسط الميداليات. وكذلك صنع بميداليات تمثل إسكندر الأكبر، وبصورة شمسية تمثل أفراد إحدى الأُسَر، فكانت هذه التجارب دليلًا ماديًّا على ترسخ المشابهات وتلاشي الفوارق.

(٣) المعنى والصورة

نُقَسِّم ردنا على هذه الأقوال إلى قسمين: الأول مقارنة بين المعنى والصورة، والثاني مقارنة بين المعنى واللفظ. ونبدأ بالكلام على الصورة المركبة، فنقول: إن الحصول على صورة من هذا القبيل يقتضي أن تكون الصور الجزئية قليلة العدد شديدة التشابه، فإذا حُذفت إحداها أو أضيفت أخرى تَعدَّلت الصورة الناتجة عنها. فالصورة المركبة صورة متوسطة للصور الجزئية المستخدمة في إنتاجها، ولها فقط؛ وهي لا تعتبر مشتركة في الحقيقة إلا بالقياس إلى الصور الجزئية الحادثة هي عنها، وبالقياس إلى الذي يعرف هذه الصور الجزئية. أما إذا لم نعرفها، فالصورة المركبة تكون بالقياس إلينا صورة جزئية معينة بأعراض خاصة كواحدة من تلك الصور؛ إذ إنها إنما تمثل الملامح المحسوسة لطائفة من الموجودات معينة. وعلى ذلك يستحيل الحصول على صورة مركبة إذا ما تباعدت المشابهات المحسوسة بين أصناف النوع الواحد، ومن باب أولى بين أنواع الجنس الواحد: كيف نحصل على صورة متوسطة للإنسان باستخدام صور الأصناف البشرية من أبيض وأسود وأسمر وأصفر وأحمر؟ على أي شكل يظهر فيها الرأس والعينان والأنف والشفتان والقامة؟ إن كل أولئك يظهر على شكل مشوَّهٍ لمميزات كل صنف. وكيف نحصل على صورة متوسطة للحيوان باستخدام صور الأنواع الحيوانية، كالإنسان والقرد والأسد والثور والفرس والحوت والخفاش والقط … إلخ؟ وكيف نحصل على صورة متوسطة لمثلث أو اللون أو لغير ذلك من الأجناس؟

هذا فضلًا عن أن الصورة المركبة أيًّا كانت هي صورة محسوسة، فلا يمكن أن تتكرر بالذات في كثيرين، بينما المعنى ينطبق بالذات على عدد لا يُحصى من الأفراد. قال ابن سينا (في كتاب النجاة): «إن الحس لا ينال الإنسان المقول على كثيرين، وكذلك الخيال؛ فإنك أي صورة أحضرتها في التخيُّل أو في الحس الجسماني، لم يمكنك أن تُشرِك فيها سائر الصور الشخصية؛ لأن ما يرتسم في الحس أو الخيال يكون مع عوارضَ من الكم والكيف والأين والوضع غير ضرورية في الإنسانية ولا مساوية لها.» وقال أيضًا: «ليس يمكن في الخيال البتة أن يتخيل صورة هي بحال يمكن أن يشترك فيه جميع أشخاص ذلك النوع (أي الممثل بالصورة)؛ فإن الإنسان المتخيل يكون كواحد من الناس.» وهكذا نعتقد أننا قد فرغنا من أمر الصورة المركبة وأبطلنا استشهاد الحِسِّيين بها.

على أننا نسلم بوجود الصورة المشتركة في مخيلتنا ومخيلة الحيوان الأعجم، يأتي اشتراكها من غموضها واقتصارها على خطوط عامة قليلة التعيين، وإنما يمكن ذلك؛ لأن الخيال قوة حية لا جامدة، وأن الإدراك فعل معنوي لا مادي فيحتمل التعيين. وإذا عدنا إلى التفاوت في أنفسنا، وجدنا أن المعرفة تتدرج من العام إلى الخاص: ففي دائرة المعرفة الحسية نذكر أننا إذا رأينا شيئًا عن بُعد، فإننا ندرك كونه جسمًا قبل كونه حيوانًا، وكونه حيوانًا قبل كونه إنسانًا، وكونه إنسانًا قبل كونه هذا الشخص المعين. ويلاحظ أرسطو في مطلع كتاب السماع الطبيعي — تأييدًا لهذه القضية — أن الأطفال يميزون بين الإنسان واللاإنسان قبل أن يميزوا بين إنسان وآخر، ويدعون كل رجل أبًا وكل امرأة أمًّا قبل أن يفردوا الأب والأم الحقيقيين عن باقي الرجال والنساء. وكذلك الحال في دائرة المعرفة العقلية؛ فإن العقل يدرك الماهيات في أول الأمر إدراكًا إجماليًّا، ثم يخصص هذا الإدراك ويستكمله بتحليل الأشياء إلى عناصرها أو خواصها، أي بتجريدات متتالية.

فحين نقول إن التصور الساذج إدراك الماهية، لا نقصد أن العقل ينفذ فورًا إلى صميم الأشياء ويبلغ دفعة إلى خصائصها الجوهرية. إننا لا نزعم للعقل الإنساني مثل هذه المقدرة، بل لا نخشى أن نعلن أنه لا يصل أبدًا إلى ماهيات الماديات ولا يكشف عن فصولها النوعية، فلا يحدها الحد الذي يشترطه المنطق في العلم الكامل، اللهم فيما سوى الماهية الإنسانية التي نعرف أن النطق فصلها النوعي. ولعجز العقل عن حد الماديات فإنه يقنع برسمها أي بتعريفها تعريفًا تجريبيًّا وصفيًّا بأعراض خارجة عن الماهية دالة عليها مميزة لها مما عداها باجتماعها لها دون غيرها. كما نشاهد في علومنا الطبيعية حيث تعرف العناصر الكيميائية بوزنها وألفتها وآثارها، وتعرف النباتات والحيوانات بالهيئة الخارجية والتكوين الداخلي ونوع الغذاء وما إلى ذلك. فليست المعاني سواء في كمال التصور، ولكنها تتفاوت: فمنها الغامض والواضح، ومنها المختلط والمميز.

الفارق الجوهري بين المعنى والصورة المشتركة، أو بين الحد والرسم، هو أن الصورة تشتمل على أعراض الشيء وأجزائه كما تبدو للحواس وحسب، وأن المعنى يتضمن علة الخصائص التي يمثلها. فحين نحد الإنسان بأنه حيوان ناطق، نحن نعلم أن الحيوانية والنطق علة جميع أفعاله وجميع خصائصه، كالحرية والأخلاق والدين واللغة والعلم والفن والاجتماع، فإن أولئك جميعًا راجعة إلى النطق لازمة عنه. وحين نعدد عناصر الصورة المشتركة للإنسان، فنقول إنه جسم حي حاسٌّ غير ذي ريش ولا وَبَر يمشي على قدمين رأسه مرتفع إلى أعلى، نجد أننا نجمع عناصر محسوسة بعضها إلى بعض، ولا نعلم علة وجود هذه العناصر للإنسان. بل حين نُعَرِّفه بالخصائص المعقولة اللازمة عن النطق دون النطق نفسه، فلا يكون تعريفنا إلا رسمًا كالرسم الجامع للعناصر المحسوسة، ولا يصير حدًّا إلا بذِكْر النطق أولًا باعتباره الخاصية الأساسية المقوِّمة للماهية المعبِّرة عما «هو» الإنسان والمفسرة لجميع خصائصه؛ لأنها هي العلة في كون الإنسان إنسانًا وكون هذه خصائصه. والأمر كذلك في الصورة المشتركة للساعة أو القاطرة أو الطائرة أو غيرها من الآلات؛ فإن الحيوان الأعجم يتصورها، ويتصورها الإنسانُ الجاهل حقيقتها، ولكن علة وجود أجزائها وعلة اجتماعها لا تُدرك إلا في معنى الساعة وهو أنها آلة لقياس الزمان، أو في معنى القاطرة أو في معنى الطائرة، وهذه المعاني معقولة غير محسوسة.

فإذا كنا قد سلَّمنا أن الإنسان لا يتبين المعنى المعقول في الماديات، فقد كان مرادنا التبين الصريح، وما نزال ندعي أن الإنسان يتبين الماهيات المادية نوعًا من التبين، مستشهدين بالتجربة التي تُرِينا الحيوان الأعجم يستظل بالشجر، ويأكل العشب والثمر، وينتفع بغير ذلك من الأشياء، ثم لا يستعيض عما يفوته منها، ولا يحدث أي أثر إيجابي فيما حوله. بينما الإنسان يستنبت الشجر والعشب ويستخدم الأشياء وخصائصها على وجوه شتى كثير منها لم يعرض في الطبيعة. والعجماوات هي التي تقف عند الظاهر المحسوس الذي يقتصر عليه الحسيون، والإنسان ينفذ إلى ما وراء المحسوس من المعقول.

هذا فيما يختص بالماديات، أي بمعاني الدرجة الأولى من درجات التجريد. فإذا ارتقينا إلى ما فوقها قلنا بدون تحفُّظ ولا استدراك: إن العقل يدرك الماهيات. فمعاني الدرجة الثانية التي هي موضوعات الرياضيات معقولات صرفة من غير شك؛ فإنها بريئة عن المادة المحسوسة التي تحجب الماهية كما بينا، وهي لا تشتمل إلا على المادة المعقولة التي هي السطح والخط مجردينِ عن كل كيفية حسية، فيستوعب العقل خصائصها، ويبرهن على هذه الخصائص بخاصية رئيسة مأخوذة من المعاني أنفسها، أي من الماهيات الممثلة في المعاني. وما الأشكال المتخيلة ههنا بإزاء المعاني سوى صورة جزئية ليست هي المقصودة بالحد والبرهان.

ومعاني الدرجة الثالثة المجردة عن كل مادة محسوسة أو معقولة، كمعاني ما بعد الطبيعة والنفس والأخلاق والمنطق، شاهدٌ أبلغ على إدراك العقل للماهيات؛ فإنها تتأبى على كل تخيل كما هو واضح، ومنها ما يطلع على أشياء متباينة الماهية بحيث لا يبقى أي وجه لدعوى الحسيين أن معانينا عناصر محسوسة مشتركة ينضم بعضُها إلى بعض بالتشابه: ما هي العناصر المحسوسة المشتركة بين تمثال وقصيدة وقطعة موسيقية وزهرة، وغيرها كثير، حين نصفها بالجمال؟ فإن قيل إن هذا الوصف غير مستفاد منها بل من أثرها فينا، أجبنا أننا نشعر تمام الشعور أن الوصف متجه إليها، وندرك بجلاء أنه إذا لم يكن لها صفة الجمال لم يكن لها أي أثر. ثم ما هي العناصر المحسوسة المشتركة بين الحكمة والعفة والشجاعة والعدالة والسخاء، وغيرها من الفضائل حين نجمعها تحت معنى الفضيلة؟ فإن سُئلنا بأي حق نجمعها هكذا، أجبنا أن هناك تشابهًا، ولكنه تشابه معقول غير محسوس يبدو في التعريفات التي نؤلفها لهذه المعاني بأجناس وفصول معنوية، كما سنبينه كلما صادفنا معنى من تلك المعاني العامة الشاملة التي هي أصول المعرفة الإنسانية.

الخلاف إذن بيننا وبين الحسيين قائم في أنهم يأبون الاعتراف بالمعقول، ويجهدون أنفسهم في رده إلى المحسوس. ويظهر هذا الخلط في نقدهم للمعنى المجرد؛ إذ يقولون إنهم لا يستطيعون أن يتصوروه لأنه غير معين، وهم يقصدون أنهم لا يستطيعون أن يتخيلوه، ونحن نقرهم على أنه لا يتخيل من حيث إن المخيلة قوة حسية عاجزة بطبعها عن تمثيل ما ليس بمحسوس. أما إن أريد بالتصور التعقل فهو مستطاع؛ إذ إن المعنى المجرد غير المعين من جهة الأعراض المحسوسة، معين تمام التعيين بعناصره المعقولة التي تدخل في تعريفه. وإذا عد تصورًا ناقصًا لكونه لا يحتوي إلا على تلك العناصر، فإنه تصور تام ما دامت هي المقومة للماهية. فالتعريف الصحيح للتجريد ليس قولهم إنه انتزاع صورة جزئية من صورة جزئية أعقد، مثلما تفعل الحواس الظاهرة التي يُدرك كل منها كيفية معينة من كيفيات الشيء الواحد، فإن الصورة الجزئية لا تفسر المعنى على أي وجه أخذناها، والانتباه الذي يجعلون منه وسيلة التجريد لا يعطي الصورة الواقع عليها أيَّ قسط من التجرد، بل بالعكس يقوي جزئيتها: كانتباه البصر إلى لون شيء ما، فإنه يفسر انفصال اللون عن الشيء، ولكنه يدعه هذا اللون المعين في هذا الشيء المعين.

وإنما التعريف الصحيح للتجريد هو الذي يذكره ابن سينا نقلًا عن المدرسة الأرسطوطالية، حيث يقول: «إنه انتزاع الكليات المفردة عن الجزئيات على سبيل تجريدٍ لمعانيها عن المادة وعن علائق المادة ولواحقها.» أو بكلمة واحدة: التجريد إحالة المحسوس معقولًا. إننا نخطئ بلا مراء إذا تصورنا اللون أو الحركة أو الماهيات الجسمية مفارقة للأجسام لكونها مجردة عنها في تصورنا، أما إذا لاحظنا الحركة مثلًا فيما يخصها بالذات، وهو أنها الانتقال التدريجي من مكان إلى آخر، بصرف النظر عن الموضوع المتحرك، وعن أعراض الحركة من اتجاه وسرعة وبطء، فليس في هذا التجريد كذب؛ لأن الموضوع المتحرك ومشخصاته لا تدخل في حقيقة الحركة، وليس فيه امتناع، وإنما هو عام عادي كما يشهد الوجدان وتشهد العلوم التي إنما مدارها على أمثال هذه المجردات. ومن عجب أن يغفل الحسيون شهادة الوجدان وشهادة العلوم تشبثًا بمبدئهم.

(٤) المعنى واللفظ

بل إن مبدأهم قد ساقهم إلى أشهد من هذا خلفًا وأدعى للعجب؛ ذلك أنهم لم يؤمنوا بالمعاني وآمنوا بالألفاظ. فقد مر بنا تفسيرهم للكلية أنها استعراض صورة جزئية عند سماع الأسماء الموضوعة لها أو قراءتها. ولما جزموا بأن المعاني ألفاظ وحسب، انتهوا إلى أن مدار العلوم على ألفاظ. فإنكارهم للعقل قضى عليهم بإنكار قيمة العلم.

أجل إن اللفظ أو الاسم غير متعلق بصورة جزئية معينة؛ هذا قول صادق، وأصدق منه وأصرح أن نقول: إن الاسم كلي حين يتصور الذهن الكلية، وأنه يصير جزئيًّا بالإشارة إلى عين من الأعيان، كأن نقول: هذا الإنسان وهذه الشجرة. ويعود كليًّا حين نستعمله بصيغة الجمع فنقول: الناس والأشجار. أو بصيغة مهملة مثل: إنسان ما وشجرة ما. فما هو السبب في إمكان وضع الاسم مستقلًّا هكذا عن الصور الجزئية، وجميع إدراكاتنا واقعة على جزئيات فيما يقولون؟ أليس هذا دليلًا قاطعًا على أن المعنى والكلية سابقان على الاسم، وأنهما السبب في وضع الاسم، وأن لا قيمة للاسم إلا إذا قُرن به المعنى وأدركت الكلية؟ ليس التفكير لوك ألفاظ، ولكنه إدراك الأشياء المدلول عليها بالألفاظ. ونحسب أن كل هذا من البداهة بحيث لا يحتاج إلى إلحاح.

يلزم من ذلك أن العلوم تدور على أشياء لا على ألفاظ كما يدعون. وقد اعتقد باركلي أنه يؤيد المذهب الحسي في هذه الدعوى باستشهاده بالحساب والجبر كعلمين اسميين يدوران على علامات عرفية لا على أشياء، ولكنه كان واهمًا، فقد نسلم جدلًا باسمية هذين العِلمين، فتبقى لدينا موضوعات سائر العلوم وهي تمثل أشياء واقعية، فهي تتطلب تفسيرًا آخر غير الاسمية. ولكننا لا نسلم بما يقول؛ فإن لكل من الحروف المستخدمة في الجبر، ولكل من الأعداد المستخدمة في الحساب، دلالةً خاصة تجعل المدلول في حكم الشيء الواقعي، فيرجع العلمان إلى حكم سائر العلوم: ففي الجبر تدل الحروف دلالة مطردة على كميات معلومة أو مجهولة، وفي الحساب تدل الأعداد على كميات معينة، وتعتبر بمثابة الأنواع الواقعية، فيختلف بزيادة وحدة أو إنقاص وحدة، كما يختلف «الحي» بزيادة «الحاس» أو حذفه، وكما يختلف «الحيوان» بإضافة «الناطق» أو حذفه على ما هو ظاهر في شجرة فورفوريوس. ولما كان العد أو الحسبان في العلمين منهجًا مستقلًّا عن المعدودات منطبقًا على أيٍّ منها، فإن العقل يصرف النظر عن المعدودات، أي عن الموضوعات المدلول عليها بالعلامات، ريثما يجدها عند التطبيق. وعلى هذا الاعتبار يستخدم الرياضيون الأعداد والحروف ويؤلفونها بعضها مع بعض في كل علم. أما إذا كانت عاطلة عن كل دلالة فكيف نفسر العد والتأليف والتطبيق؟

الإدراك العقلي سابق إذن على اللفظ مستقلٌّ عنه، ويتضح هذا الاستقلال أيضًا بالمقارنة بين طوائف الألفاظ وبين الإدراك المقابل لها في العقل: فمنها الألفاظ المشككة، تلك التي تقال على كثيرين مختلفين بالماهية، فتنطبق باتفاق من جهة وافتراق من جهة أخرى، مثل قولنا: «منظر جميل، وتمثال جميل، وقصيدة جميلة، وغناء جميل»، أو قولنا: «إنسان طيب، وفاكهة طيبة، وقلم طيب»، فإن لفظَي «الجمال والطيبة» ينطبقان على الموصوفات بمعنى عام، هو وجه الاتفاق الذي يذكر في تعريفها حيث نقول: إن الجمال تناسق ورونق، وإن الطيبة موافقة الشيء لماهيته أو للغاية المنشودة منه. ولكن العقل يعلم أن الجمال أو الطيبة لا يتحققان في الموصوفات على نحو واحد من حيث إن لكل منها ماهية خاصة، فليس جمال التمثال كجمال القصيدة، وليست طيبة القلم كطيبة الإنسان أو كطيبة الفاكهة. وبهذا العلم يدخل العقل في إدراكه لكل موصوف معنى ليس في اللفظ ولا يمكن أن يكون في اللفظ لتعدد الموصوفات واختلافها.

وثمة شاهد آخر على هذا التمايز بين المعنى واللفظ، هو أن لفظًا موضوعًا لمعنى معين بالمطابقة يوحي أيضًا بمعنى متضمن فيه أو لازم عنه، مثل دلالة كل من لفظ البيت ولفظ السقف على الحائط. وليست هذه الدلالة راجعة إلى اللفظ، بل إلى العقل الذي يدرك أن ما يدل على الكل يدل على الجزء بطريق التضمن، أو أن ما يدل على جزء ما فهو يدل على جزء آخر متصل به، فيصرف العقل اللفظ الموضوع للأول بالمطابقة إلى الدلالة على الآخر بطريق الالتزام أو الاستتباع.

وشاهد ثالث يؤخذ من المترادفات؛ فإنها أسماء مختلفة متواردة على مسمى واحد، وذلك لأن الألفاظ عرفية وضعية لا دلالة لها بذاتها وأن العبرة بفهم العقل.

وشاهد رابع نجده في الألفاظ المشتركة التي يطلق الواحد منها على مسميات متباينة كل التباين: كما يطلق لفظ العين على منبع الماء والعضو المبصر والدينار، ويطلق لفظ الكلب على الحيوان المعروف وعلى الشعر، ويطلق لفظ المشتري على قابل عقد البيع وعلى الكوكب الذي في السماء … وغيرها كثير في جميع اللغات. فههنا ليس للفظ مدلول خاص، ولكن العقل يخصص المدلول في كل حالة تبعًا لإدراكه هو. وإذا قلنا إن هناك وجه شبه هو الأصل في الاشتراك، رجعت هذه الألفاظ إلى المشكلة وبقيت النتيجة التي نريد أن نبينها، وهي أن فعل العقل هو الأول وأن اللفظ أداة ليس غير.

بل إن استقلال التعقل عن اللفظ يظهر من وجود معانٍ دون ألفاظ، وهذا ما يسميه علماء النفس المعاصرون بالفكر الضمني Pensee implicit، ويضربون له شتى الأمثلة: منها الشعور بالذات وبالحرية وبالتبعة، والمواقف العقلية الناجمة عن أمثال هذه الأقوال: انتظرْ، اسمعْ، انظرْ؟ والشعور بالانتباه والعجب والشك وبالسهولة أو الصعوبة بإزاء مهمة ما، والانتقاد الصامت لما نقرأ أو نسمع أو نرى، والشعور بالوضوح، والشعور بالاتفاق أو الاختلاف بين أمور عدة معروضة علينا، والشعور بالتردد بين فكرتين أو بين عاطفتين أو بالانتقال من الواحدة إلى الأخرى، واختمار الأفكار والعواطف في اللاشعور قبل أن يتعين ويطلق عليها اسم، والفكرة الفجائية تخطر لشخص يجيد عدة لغات ويحب اللغة التي يعبر بها عن فكرته. فكيف يزعم الزاعمون أن المعاني ألفاظ وأن التفكير تنسيق ألفاظ؟ إن هذا البحث في التصور الساذج لَيدل الدلالة القاطعة على بطلان المذهب الحسي وكم سنصادف من أدلة قاطعة فيما يلي من بحوث!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤