الفصل الثالث

القياس

(١) تعريف الاستدلال

التركيب والتفصيل في الأحكام يتمان دفعة في البديهية منها، فما من أحد يتردد في الحكم بأن الكل أعظم من الجزء. ولكن مسائل كثيرة تعرض لنا ولا ندري أول الأمر أي حكم نتخذ فيها، ونعني بالمسألة عبارة مؤلفة من موضوع ومحمول تقتضينا الإجابة بإضافة المحمول إلى الموضوع أو بنفيه عنه، فنعمل على الاهتداء إلى واسطة نضاهي بينها وبين الحدين، فإن وافقاها حكمنا بأنهما متوافقان، كما نحكم بأن الشيئين المساويين لثالث هما متساويان، وإن وافقها أحدهما وباينها الآخر حكمنا بأنهما متباينان. ولا وجه لافتراض أن الحدين جميعًا قد يباينان الواسطة؛ إذ في مثل هذه الحالة تمتنع المضاهاة، فيمتنع الاستدلال، كما تنبه على ذلك القاعدة القائلة: إن القضيتين السالبتين لا تنتجان. فالاستدلال انتقال من معلوم هو المضاهاة إلى مجهول هو نتيجتها.

وماهية هذا الانتقال هو ذلك اللزوم الذي نعبر عنه في النتيجة بقولنا: «إذن»؛ فإنه يزيد على النسبة بين الحدين في كل حكم نسبة الأحكام فيما بينها. وهذه النسبة الثانية تجعل من الاستدلال حركة متصلة من طرف إلى طرف، واتصالها يعطيها وحدتها، فإذا قلنا مثلًا: «كل إنسان حجر، وكل حجر نبات، فإذن الإنسان نبات»، كنا مخطئين من حيث مادة الاستدلال. ولكنا نرى أن وضع المقدمتين يسوقنا سوقًا إلى النتيجة، فالاستدلال فعل واحد مع تركيبه من عدة أفعال أو أحكام، لما بينها من ترابط وتبعية.

هذا التعريف للاستدلال بأنه تأليف معارف لأجل الاستنتاج، مرادف للتعريف الذي وضعه أرسطو وتنوقل بعده باطراد، وهو أن الاستدلال: «قول مؤلف من أقوال إذا ضعف لزم عنها بذاتها، ولا بالعرض، قول آخر غيرها اضطرارًا.» وقد دعاه «سولوجسموس» أي الجامعة، لجمع النتيجة بين المعنيين اللذين لم نكن نعلم إن كانا يتوافقان أم يتخالفان، والتخالف كالتوافق جمع في مبنى القضية بين الموضوع والمحمول لكي نقول إنهما لا يتوافقان. ومن ثم دعا أرسطو جميع أنواع الاستدلال «سولوجسمي» مع عنايته بتبيان ماهية كل منها، وترجم اللفظ اليوناني إلى العربية بلفظ «قياس»، وأطلق كذلك على مختلف الاستدلالات؛ لأن الاستدلال كما عرفناه يقيس معنيين إلى ثالث، فحدث في العربية مثل ما حدث في اليونانية من اشتراك لفظ القياس بين الاستدلال عمومًا وبين نوع من أنواعه هو الذي نقصده ههنا، والذي يذكر في المنطق قبل الاستقراء والتمثيل وما إليهما.

غير أن كثيرين من المناطقة المحدثين يفهمون الاستدلال بمعنى أوسع من المعنى الذي حددناه، فيقولون إنه مطلق استخراج قضية من أخرى سواءً كان ذلك بواسطة أو بدون واسطة. ويذكرون تقابل القضايا وعكسها وتعادلها تحت عنوان «الاستدلال المباشر»، أي الذي لا يلجأ فيه إلى حد ثالث. ونحن نرى أن هذه الحالات لا يوجد فيها استدلال؛ فإن القضية الثانية محتواة في الأولى احتواءً صريحًا، فليس هناك حقيقتان مختلفتان، وليس هناك من ثمة استنتاج مجهول من معلوم، بل كل ما في الأمر ترجمة عن نفس القضية بصيغة أخرى، كما لو قلنا: «بعض الإنسان كاذب» و«بعض الكاذب إنسان»، أو قلنا: «كل إنسان فهو طيب الطبع» و«بعض الطيب بالطبع إنسان»، أو قلنا: «كل إنسان فهو أناني» و«غير صحيح أن بعض الإنسان ليس أنانيًّا»، فكل قضيتين من هذه القضايا المتقابلة أو المنعكسة تقولان نفس المعنى لا أكثر ولا أقل. ولو كنا نكتب في المنطق لاستقصينا الحالات جميعًا استيفاء للتمثيل، ولكنا هنا في غير حاجة إلى التكرار. فليس يوجد استدلال مباشر.

(٢) تعريف القياس

في القياس بمعناه المحدد الذي هو موضوع بحثنا الآن، يجيء الترابط بين الحدود الثلاثة على هيئات مختلفة، فلكي ندرك ماهية القياس ننظر في هذه الهيئات للوقوف على ما تشترك فيه وعلى ما هو خاص لكل منها، وبذا نمهد للرد على الحسيين. يقال عادة: إن للقياس أربعة أشكال ناتجة من طريقة تأليف الحدينِ مع الثالث في المقدمتين، فإن الحد الثالث أو الواسطة قد يكون إما موضوع المقدمة الكبرى ومحمول الصغرى، أو محمولًا في المقدمتين، أو موضوعًا فيهما، أو محمول الكبرى وموضوع الصغرى. هذا صحيح من الوجهة الصورية، غير صحيح في واقع الأمر. وليس الاختلاف في مكان الحد الثالث من الاثنين الآخرين اختلافًا عرضيًّا كما قد يبدو، ولكنه ينطوي على دلالة ذاتية في كل شكل.

وهذه أمثلة على الأشكال الأربعة إيجابًا وسلبًا تعيننا في تفهُّم طبيعتها وطبيعة القياس على العموم:

الشكل الأول

«كل صالح فهو كريم.»
«وكل عالم فهو صالح.»
«إذن كل عالم فهو كريم.»

•••

«لا واحد من الصالح بحسود.»
«وكل عالم فهو صالح.»
«إذن لا واحد من العالم بحسود.»

الشكل الثاني

«لا واحد من الصالح بحسود.»
«وكل طماع فهو حسود.»
«إذن لا واحد من الطماع بصالح.»

•••

«كل صالح فهو كريم.»
«ولا واحد من الطماع بكريم.»
«إذن لا واحد من الطماع بصالح.»

الشكل الثالث

«كل حكيم فهو حر.»
«وكل حكيم إنسان.»
«إذن بعض الإنسان حر.»

•••

«لا واحد من الحكيم بمستذل.»
«وكل حكيم إنسان.»
«إذن بعض الإنسان ليس بمستذل.»

الشكل الرابع

«كل إنسان فهو حيوان.»
«وكل حيوان فهو حساس.»
«إذن بعض الحساس إنسان.»

•••

«كل إنسان فهو حيوان.»
«ولا واحد من الحيوان بنبات.»
«إذن لا واحد من النبات إنسان.»

فمرمى الشكل الأول أو الغاية المتوخاة منه هو، في حال الإيجاب: البرهنة على ثبوت محمول لموضوع لاشتمال الموضوع على حد مشتمل على المحمول. وفي حال السلب: البرهنة على انتفاء المحمول عن الموضوع. ومعنى البرهنة: بيان علة النتيجة، بحيث لو سئلنا: لم قلنا «كل عالم فهو كريم»؟ أجبنا: «لأن كل عالم فهو صالح، وكل صالح فهو كريم.» وهكذا نجد فيه الحدود منطوية بعضها في بعض، مترابطة ترابطًا محكمًا، ونجد النتيجة مسبوقة بعلتها لازمة عنها. وبناءً على هذا يمكن أن نعين له مبدأ من وجهة المفهوم، ومبدأ من وجهة الماصدق: فمن وجهة المفهوم مبدؤه أن «كل ما يقال على محمول يقال أيضًا على الموضوع»، كما لو حكمنا على العالم بالصالح، فكل حكم يثبت للصالح ثابت للعالم بالضرورة. ومن وجهة الماصدق مبدؤه أن «ما يقال على كلي فهو يقال على جزئياته، وما ينفى عن كلي فهو منتف عن كل واحد من جزئياته».

ومرمى الشكل الثاني إدحاض دعوى والرد على خصم، لذا هو يتضمن دائمًا مقدمة سالبة فتجيء النتيجة دائمًا سالبة، وذلك بالاهتداء إلى حد مناف لموضوع النتيجة فنستنتج أنه مناف للحد الآخر. أعني أن هذا الشكل ينفي محمولًا عن موضوع النتيجة بسبب أن أحدهما يشتمل على حد مناف للآخر أو أنه يثبت محمولًا لأحد موضوعين وينفيه عن الآخر، فيلزم التباين بين الموضوعين. فمبدؤه مبدأ الشكل الأول، والمقدمة الكبرى فيه كلية مثل كبرى الشكل الأول، فإنها هي التي تقرر أن محمولًا ما يتضمن محمولًا آخر أو ينافيه، مع هذا الفارق وهو أن المبدأ المشترك لا يطبق هنا بالمشابهة، بل بالمباينة، فإن الشكل الأول يستنتج ثبوت التالي من ثبوت المقدمة، بينما الشكل الثاني يستنتج نفي المقدمة من نفي التالين فيسمى مبدؤه «المقول على المباين».

ومرمى الشكل الثالث معارض قضية كلية بمثال مخالف لها، أي إبطال صدقها صدقًا مطلقًا لوجود ما يخالفها، وحصر صدقها في جزء فقط من موضوعها. والدلالة بهذه الجزئية على أن وقوع المحمول للموضوع ليس ضروريًّا، وإنما هو اتفاقي عرضي، فتجيء النتيجة دائمًا جزئية (موجبة أو سالبة)، كما لو قال قائل: «كل إنسان فهو حر» وأنكرنا ذلك، فإنا نبحث عن حد أوسط تتحقق فيه الحرية، فنقع على الحكيم. ولما كان الحكيم جزءًا فقط من الإنسان فإنا نقول: «إذن بعض الإنسان حر» لا كله. لذا يسمى مبدأ هذا الشكل «المقول جزئيًّا»، وهذا المبدأ تخصيص آخر لمبدأ «المقول على الكل» الذي هو مبدأ الشكل الأول ومبدأ القياس على العموم، وصيغته هكذا: «الحدان المشتملان على جزء مشترك (وهو الحد الأوسط) يتوافقان توافقًا جزئيًّا، وإذا اشتمل أحدهما على جزء لا يشتمل عليه الآخر، فهما يتخلفان تخلفًا جزئيًّا»، ويسمى أيضًا: «المقول على مثال»؛ لاعتماده على المثال أو الجزء الخارج للقضية الكلية.

أما الشكل الرابع فما هو إلا الشكل الأول في هيئة مقلوبة من جراء نقل المقدمتين إحداهما إلى مكان الأخرى، وهذا لا يزيد نسبة جديدة بين الحدود. إن كل شكل إنما يتعين بنسبة الأوسط إلى الطرفين، فسواء جاء الأوسط موضوعًا فمحمولًا كما هو الشأن في الشكل الأول، أم جاء محمولًا فموضوعًا كما هو الشأن في هذا الشكل الرابع، فالحال واحد ما دام يجيء موضوعًا تارة ومحمولًا تارة أخرى. ثم إن قلب المقدمتين يخرج نتيجة مقلوبة كذلك، غير مألوفة، بعيدة عن طبع العقل، من حيث إنها تضيف الحد الأصغر للأكبر، على حين أن الترتيب الطبيعي إضافة الأكبر للأصغر، فيقال: «سقراط إنسان، سقراط مائت، الإنسان حساس، لا واحد من الإنسان بنبات»، ولا يقال: «بعض الإنسان سقراط، بعض المائت سقراط، بعض الحساس إنسان، لا واحد من النبات بإنسان»؛ إذ إن الأصل في الإضافة أن يضاف الجنس إلى النوع، ويضاف النوع والجنس إلى الشخص. فهذا الشكل الرابع لا يعد شكلًا إلا من الوجهة الصورية البحتة، أو من الوجهة النحوية، لا من وجهة المنطق وحقيقة التفكير، فإن موضوع النتيجة فيه (أو المبتدأ النحوي) هو عند العقل محمولٌ، ومحمولها (أو الخبر النحوي) هو عند العقل موضوع.

من هذا البيان الوجيز نرى أن القياس إطلاق مضاهاة حدين بثالث، وأن الشكل الأول أظهر صورة لهذه المضاهاة من حيث إنه يعتمد على انطواء الحدود بعضها في بعض، وأنه أقوى صورة لها من حيث إنه يبين ما للإنتاج أو اللزوم من سبب وجودي أي في واقع الأمر، وسبب منطقي أي في علمنا من حيث إن العلم ههنا هو العلم بالعلة، فهو الشكل البرهاني بمعنى الكلمة. والشكل الثاني أدنى منه، لا ينطبق فيه مبدأ المقول على الكلي إلا بشيء من التعيين والتضييق، فليس أرسطو وسطًا حقًّا، فما هو موضوع حد ومحمول الآخر، ولكنه محمول مرتين، فهو أوسع ماصدقًا من الحدين، فإن سمي وسطًا فبمعنى أنه واسطة المضاهاة، ولذا كانت نتيجته أقل ظهورًا. والشكل الثالث أدنى من الثاني، فإن أسماء الحدود لا تتحقق فيه هو أيضًا؛ إذ إن أوسطه هو الحد الأضيق ماصدقًا لمجيئه موضوعًا مرتين في المقدمتين، ونتيجته جزئية ولا ينتج كلية أصلًا. ومع هذا فالشكلان الثاني والثالث قياسيان صحيحان سَلِيمان، تتضح صحتهما وسلامتهما للعيان بردهما إلى الأول على ما هو مبسوط في كتب المنطق، دون أن يكون هذا الرد ممنوعًا ما دام لكل شكل مبدؤه وغايته، حتى لا يمكن في الحقيقة أن يحل واحد منها محل الآخر بالنسبة إلى الغاية المطلوبة. والشكل الرابع تقضي طبيعته برده إلى الأول بنقل مقدمتيه، فتجيء نتائجه مستقيمة؛ أو بإلحاقه بالأول كهيئة له غير مستقيمة أي مقلوبة. والواقع أن أرسطو لم يذكره، بل اعتبر قسمة القياس إلى ثلاثة أشكال قسمة حاصرة؛ كذلك أبى مناطقة العصر الوسيط أن يعدوه شكلًا قياسيًّا، ويقال إن الطبيب الفيلسوف جالينوس (المتوفى في نهاية القرن الثاني للميلاد) هو الذي جعل منه شكلًا خاصًّا. وعلى كل حال فقد بدا كذلك في عصر النهضة لدى المناطقة الاسميين، والاسميون قوم يقفون عند الظاهر ولا يحاولون النفوذ إلى حقائق الأشياء، فاقتصروا على اعتبار مكان الحد الأوسط من الحدين الآخرين، ولم يفطنوا إلى أن هذا المكان علامة ظاهرة فقط، وأن الأشكال القياسية أشكال للتفكير أولًا.

وكلية الحد الأوسط شرط ضروري يستحيل بدونه تركيب القياس. وهذا ما تقوله القاعدة التي تحذر من إيراد الأوسط جزئيًّا في المقدمتين، وتحتم أن يجيء كليًّا في إحداهما على الأقل. وذلك لأن الحد الجزئي يمثل جزءًا غير معين من جنس ما، فقد يوافق أحد الطرفين في جزء من أجزائه، ويوافق الطرف الآخر في جزء آخر، فيكون الطرفان مضاهيين بحدين مختلفين لا بحد واحد بعينه، ويكون القياس مؤلفًا من أربعة حدود، فلا يكن استنتاج شيء مثلما إذا قلنا: «السنديان شجرة (ما)، والجميز شجرة (ما)»، أو قلنا: «النبات حي (نامٍ)، والحيوان حي (حساس)» فلا نستنتج أن الجميز سنديان ولا أن الحيوان نبات. ولا يمكن الاستنتاج سلبًا؛ إذ قد يتفق الجزءان في بعض الحالات، لكن يمكن الاستنتاج إذا كان الأوسط كليًّا في إحدى المقدمتين، فما دمنا نثبت شيئًا للأوسط كله فلنا أن نثبته بعد ذلك لجزء من أجزائه. ومعنى هذه القاعدة أنه لا يمكن الاستدلال بالأقل على الأكثر، أو استنتاج الأكثر من الأقل. وهذا أيضًا مبدأ القاعدة القائلة إن النتيجة تتبع أضعف المقدمتين، فالحسيون إذ ينكرون المعنى المجرد الكلي يعطلون التفكير بتاتًا.

وكما قد أثار بعض المناطقة المحدثين إشكالًا بصدد الحكم الإضافي، فقد أثار بعضهم إشكالًا بصدد القياس الإضافي. قالوا: إن الاستدلال في الأقيسة المركبة من قضايا إضافية يختلف بالمرة عنه في الأقيسة الحملية المعبرة عن حصول محمول لموضوع، فلا يخضع لقواعد القياس، ومنها قاعدة الحدود الثلاثة، ولكن له صوره وقواعده الخاصة. مثال ذلك: «فرساي أصغر من باريس، وفونتنبلو أصغر من فرساي. إذن فونتنبلو أصغر من باريس.» فإذا قلنا: إن الحد الأكبر هو محمول الكبرى «أصغر من باريس»، وأن الحد الأصغر هو موضوع الصغرى «فونتنبلو»، فماذا يكون الحد الأوسط؟ لا يكون «فرساي» الذي هو موضوع الكبرى ولكنه في الصغرى جزء فقط من المحمول، ولا يكون «أصغر من فرساي» الذي هو محمول الصغرى والذي جزء منه فقط موضوع الكبرى. وإذن فلا يكون هناك حد أوسط مع كون الاستدلال صحيحًا مشروعًا.

والجواب أنه كما أن لكل شكل من أشكال القياس الحملي مبدأ يهيمن على الاستدلال فيه ولا يدخل في صلب القياس، فكذلك الأقيسة الإضافية مبدأ يهيمن على الاستدلال فيها ولا يظهر في منطوقها، مثل قولنا: «ما يتضمن شيئًا فهو يتضمن ما يتضمن هذا الشيء» أو «الأعلى من شيء هو أعلى من الأدنى من ذلك الشيء»، فإذا راعينا المعنى أدركنا أن «أصغر من» ليس صفة للطرفين كالمحمول في القضايا الحملية، ولكنه «نسبة» بين الطرفين، فينتج لنا أن القياس الإضافي مركب هو أيضًا من ثلاثة حدود مترابطة فيما بينها برابطة خاصة هي «نسبة». إن الحد الأوسط «فرساي» يفيد في إثبات نسبة مقدارية بين فونتنبلو وباريس. فالأقيسة الإضافية منتظمة على منطق القياس الحملي وخاضعة لقواعد المنطق الأرسطاطالي، ولا ضرورة لتأليف منطق جديد لأجلها. وهذا ما أشار إليه ابن سينا١ بقوله: «قياس المساواة: إنه ربما عرف من أحكام المقدمات أشياء تسقط، ويبنى القياس على صورة مخالفة للقياس، مثل قولهم: («ج» مساو ﻟ «ب»، و«ب» مساو ﻟ «ل»، ﻓ «ج» مساو ﻟ «ل»)، فقد أسقط منه أن (مساوي المساوي مساو)، وعدل بالقياس عن وجهه من وجوب الشركة في جميع الأوسط إلى وقوع الشركة في بعضه»، فما أعظم ما يفيد المتأخرون من دراسة المتقدمين!

(٣) المذهب الحسي والقياس

هذا العرض للقياس كاف وحده لتسويغه، ولكن المذهب الحسي يقضي على رجاله بإنكاره لابتنائه على المعنى المجرد الكلي وشهادته بوجود العقل. وبالفعل منذ العصر القديم أخذ السفسطائيون والشكاك يتندرون عليه وينظمون المغالطات للهزء منه، وقد تناقلوا حجة ظنوا أنها تهدمه من أساسه، قالوا: ليكن هذا القياس: «كل الناس مائتون، وسقراط إنسان، إذن سقراط مائت.» فالمقدمة الكبرى الكلية لا تصدق إلا إذا كانت النتيجة معلومة من قبل، أي لا يقولها القائل إلا لعلمه أن سقراط مائت، فلا تعود هناك حاجة لتركيب قياس؛ أما إذا لم يعلم فلا يسوغ له قولها، ولا يعود هناك إمكان لتركيب قياس. وإذا مضى فقال: «إذن سقراط مائت»، ارتكب مصادرة على المطلوب؛ فإن المطلوب معرفة ما إذا كان سقراط مائتًا، ومعرفة أن «مائت» متضمنة في المقدمة الكبرى. وقد اصطنع هذه الحجة الحسيون المحدثون واشتهر بها جون ستوارت مل، وصارت تُذْكر عنه كأنها من ابتكاره. وهم يفسرون الاستدلال عمومًا بأنه انتقال من محسوس إلى محسوس، وأنه من ثمة يرجع إلى تداعي الصور بالتشابه. ونحن نكشف عن تهافت حجتهم، ثم نبين بطلان تفسيرهم للقياس بتداعي الصور.

قوام حجتهم خلط جسيم بين القضية الكلية (مثل: «كل الناس مائتون»)، والقضية المجموعية المكتسبة بجمع الجزئيات (مثل: «كل ركاب الباخرة نجوا من الغرق»). وقد قال مل معبرًا عن رأيهم: إن القضية الكلية سجل أو مذكرة مختصرة للتجربة، والتجربة جزئية محدودة كما هو معلوم، فيتصورون القياس كأن مقدمته الكبرى مجموعية، تدرج تحتها مقدمة صغرى (مثل: «وزيد من ركاب الباخرة»)، فينتج أن زيدًا نجا من الغرق. هذا قياس مزعوم وتأليف ظاهري فقط، فليست المقدمة الكبرى فيه كلية بمعنى الكلمة؛ فإنما أسند محمولها إلى موضوعها بعد التحقق من المحمول في كل واحد واحد من أفراد الموضوع، فهي تحتوي على النتيجة بالفعل، وتتأخر عنها في علمنا، وليس الحد الأوسط فيها (ركاب الباخرة) تعليلًا للنتيجة كالحد الأوسط في القياس الصحيح. أما القضية الكلية حقًّا، فهي التي موضوعها معنى مجرد، ومن ثم كلي يحتوي بالقوة (لا بالفعل) على جميع الأفراد الممكنة، وبين حديثها نسبة ذاتية، فلا يشترط أن تتأخر في علمنا عن إحصاء الأفراد، وقد تكون مستفادة من التجربة بحديها وبالنسبة بينهما، ثم تكون في ذاتها مبدأ مجردًا مستقلًّا عن الأفراد بفضل الإدراك العقلي الذي يرينا أن المحمول من ماهية الموضوع. فالقضية القائلة: «كل الناس مائتون» تعني أن ماهية الإنسان هي بحيث إنه مائت، ويدلل عليها بأن الإنسان مركب من عناصر متباينة، وأن كل مركب هكذا فهو منحل. فإذا قلنا بعد ذلك: «وسقراط إنسان»، أي: حاصل على الماهية الإنسانية؛ خرجت لنا النتيجة من الجمع بين القضيتين، أعني من الكبرى بوساطة الصغرى، دون أن تكون هذه النتيجة مفترضة في الكبرى، بل بالعكس هي الكبرى التي تحدث النتيجة. والذي يكسب موقف الحسيين شيئًا من الوجاهة هو التعبير عن الكبرى من وجهة الماصدق «كل الناس مائتون»، فإنه يشعر كأنها نتيجة تعداد، فما إن نعبر عنها من وجهة المفهوم ونقول: «كل إنسان فهو مائت» أو «الإنسان مائت»، حتى يتبدد الوهم. وخير هذين التعبيرين وأصدقهما دلالة على الإدراك العقلي هو الثاني الذي يستبعد لفظ «كل»، فيمحو كل أثر للماصدق ويبرز الماهية مجردة.

أما تداعي الصور فإنه يحاكي الاستدلال؛ إذ يجعلنا نتوقع المستقبل ونعمل كما لو كنا قد استدللنا. فالحيوان الذي ضُرب بالسوط يتوقع أن يضرب متى رآه أو سمع صوته، والعامي من بني الإنسان يتوقع المطر حين يدرك ظواهر جوية معينة. ولكن الاستدلال شيء آخر بالمرة؛ إذ إنه يعطينا السبب في تعاقب الظواهر ويجعل التوقع صادرًا عن فهم لحقائق الأشياء، بينما التوقع في التداعي فعل آلي ناشئ من العادة. إن الأصل في الاستدلال هو المطلوب الذي يصير نتيجة، وهو لا يصير نتيجة إلا إذا وجدنا نسبة بين حديه، ولا نجد النسبة إلا بالحد الأوسط. فبالتداعي نستعيد صورة جزئية بمناسبة صورة جزئية بناءً على تعاقب واقعي، وبالقياس نستكشف علاقة ضرورية بواسطة قانون أي قضية كلية. فإذا قلنا إن التداعي يفسر سيرة الحيوان وطفل الإنسان، فيجب أن نعتبر بأن الطفل لا يلبث أن يجاوز هذه المرحلة فيدرك العلاقة الجوهرية حينما يستطيع إدراكها، ويسأل ويلحف في السؤال حينما تخفى عليه. وليس يقتصر الطفل على التأدي من العلة المنظورة إلى المعلول المرتقب، ولكنه يعود من المعلول المنظور إلى علته، منظورة كانت أو غير منظورة، فيدل بكل ذلك على انتقاله من طور التداعي إلى طور التفكير. فانظر إلى دقة هذه الأمور، ثم اعجب لقلة تدقيق الفلاسفة الحسيين. إن الإنسانية تفكر تفكيرًا قياسيًّا، وهم في جملتها وإن كانوا لا يدرون، فليسوا ينالون منه في واقع الأمر، إنما هو ينال منهم كما تنال الصخرة من ناطحها!

١  في منطق الإشارات، النهج الثامن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤