الفصل الرابع

الاستقراء

(١) تعريف الاستقراء

هذا النوع الآخر من الاستدلال كثير الاستعمال كثرة وافرة في الحياة العادية والعلوم الطبيعية، نؤلفه أول الأمر بوحي التجربة، وبخاصة متى تكررت، ثم نحاول أن نستكشف النسبة بين حديه زمنًا يطول أو يقصر تبعًا لدرجة وضوح هذه النسبة وتقدم العلم واجتهاد العلماء، وتعريف الاستقراء أنه: «استدلال يضيف محمولًا إلى موضوع كلي بسبب مشاهدة هذا المحمول في جزئيات ذلك الموضوع كلها أو بعضها».١
وقد تكون الجزئيات أفراد نوع، أو أنواع جنس، أو أجناسًا سالفة تحت جنس عال. وقد تكون استقرئت كلها؛ وهذا هو الاستقراء التام، أو لم يستقرأ سوى بعضها؛ وهذا هو الاستقراء الناقص. وقد يكون الاستقراء الناقص كافيًا أو غير كاف. وستتضح هذه المعاني فيما يلي، ولنمثل أولًا للاستقراءينِ التام والناقص:

استقراء تام

«النباتات والعجماوات والأناسي كائنات نامية.»
«والنباتات والعجماوات والأناسي هي كل الأجسام الحية.»
«إذن كل جسم حي فهو نامٍ.»

استقراء ناقص

«الذهب والفضة والحديد والنحاس موصلة للكهرباء.»
«والذهب والفضة والحديد والناس معادن.»
«إذن المعدن موصل للكهرباء.»

هذا هو الاستقراء الذي نقصده، فيجب التفرقة بينه وبين ما يسمى بالمنهج الاستقرائي المفصل بقواعد فرنسيس بيكون وستوارت مل المذكورة في كتب المنطق، فإن هذا المنهج أولى به أن يسمى «البحث عن العلة» من حيث إنه يحاول حصر علة ظاهرة ما في ظاهرة أخرى معينة. فإذا أفلحت المحاولة عرفت العلة من هذا الطريق معرفة محققة. أما ما نقصده فهو الاستدلال المتأدي من جزئيات عدة إلى الكلي الذي ننسبها إليه.

يلوح لأول وهلة أن الاستقراء التام (متى تسنى تحقيقه وحصر آحاده) لا يثير إشكالًا من حيث إنه يحكم على الكلي بما يشاهد في الكل، وإنه إذن مستكف بنفسه لا يفتقر إلى تبيان وتأييد. بيد أن هذا وهمٌ ناشئ من الخلط بين الكلي المنطقي والكلي المجموعي، أي بين الكلي والكل، وذلك الخلط المألوف عند الحسيين والذي نبهنا عليه غير مرة. إننا إذا أخذنا الاستقراء التام على هذا الوجه لم نجد له سوى صورة الاستدلال لا حقيقته؛ إذ إن كل ما يعنيه هو أن أفراد كلٍّ ما مشتركون فعلًا في محمول ما، فلا يفيد الانتقال من الصغرى إلى النتيجة معرفة جديدة، بل ننتقل من الآحاد إلى مجموعها، أي من الشيء إلى الشيء نفسه. أما إذا أردنا استدلالًا صحيحًا فيجب أن نفهم صغرى الاستقراء على أنها تذكر الجزئيات لكي تنتقل إلى الكلي الذي يمثلها، والذي هو علة حصولها على المحمول، فنصل بالنتيجة إلى معرفة جديدة هي نسبة كلية ضرورية بين الماهية المشتركة والمحمول المشاهد في الجزئيات، بغض النظر عن الجزئيات وعددها.٢ فالمسألة التي تبرز ههنا هي أن لا بد من وسيلة لإتمام الاستقراء التام نفسه، وملء الفراغ بين الجزئيات كجملة وبين الكلي الذي ترجع إليه والذي بسبب احتوائها عليه هي حاصلة على المحمول، وهذا هو المطلب الحق للعلم.
إذا كان هذا واجبًا في الاستقراء التام فإنه في الاستقراء الناقص أوجب لما هو بين من أن الانتقال من البعض إلى الكلي (في الاستقراء الناقص) أقل أمانًا من الانتقال من الكل إلى الكلي (في الاستقراء التام). وليس يجدي شيئًا قول ابن سينا (وقد ردده الغزالي وغيره): إن الاستقراء الناقص يعتمد على أكثر الجزئيات أو على كثير منها، ما دام تمام الاستقراء نفسه لا يكفي، وما دام أكثر وكثير لا يقالان إلا مع اعتبار الكل، والكل هنا لم يستقرأ. أحر بنا أن نقول: إن الاستقراء الناقص يعتمد على «عدد كاف» من الجزئيات، تاركين للفطنة الشخصية مؤيدة بالخبرة العلمية تقدير كافية العدد تبعًا لما يتبدى من اتفاق المحمول للجزئيات في أمكنة عدة وأزمنة مختلفة وظروف متباينة. وهذا التفاوت بين عدد الجزئيات وبين الكلي مدعاة أخطاء غير قليلة، يقع فيها الناس بحيث يكون «الاستقراء الناقص غير موجب للعلم الصحيح، فإنه ربما كان ما لم يُستقرأ خلاف ما استقرئ، مثل التمساح».٣ في المثال المذكور، فإنه يحرك فكه الأعلى عند المضغ لا فكه الأسفل كسائر الحيوان. ومثل طير الماء أو البجع المدعو أيضًا بالقنس تعريبًا للفظ اليوناني،٤ فقديمًا كان المعتقد أن البياض عرض لازم له بناءً على ما كانوا يشاهدون، ولما اكتشفت أستراليا وجد فيها بجع أسود بكل خصائص النوع. أما إذا تبدت لنا نسبة الجزئيات المستقرأة إلى الكلي، أي علة وجود المحمول في تلك الجزئيات، أضحى العدد الكافي مجرد دليل إلى تلك النسبة، غير ذي قيمة في ذات؛ إذ قد يصح الحكم على الكلي بجزئي واحد إذا تأكدنا أن المحمول صادر فعلًا عن ماهية هذا الجزئي.

فأساس الاستقراء أو السبب الذي يخولنا الحق في الانتقال من الجزئيات إلى الكلي الشامل لها هو، في الاستقراء التام: أن المحمول الحاصل لكل الجزئيات هو محمول حاصل للموضوع المعادل لها، وهذا أمر بديهي. وفي استقراء الناقص هو: أن المحمول الحاصل لعدد كاف من جزئيات موضوع كلي في أحوال عدة وظروف مختلفة هو محمول حاصل لذلك الموضوع الكلي؛ وهذا أمر بديهي أيضًا. فإن تكرار المحمول في الجزئيات دليل على أن المحمول خاصية لازمة عن الماهية المشتركة بين الجزئيات، والثابتة فيها وسط تغير الأعراض، والضامنة لضرورة أفعالها وضرورة القوانين الطبيعية، وإلا كان التكرار بغير علة، وهذا غير معقول. وهكذا نطوي المسافة بين الجزئيات والكلي، ويرجع الاستقراء الناقص إلى الاستقراء التام، وتبطل دعوى الحسيين أن الاستقراء الناقص استدلال سفسطائي يذهب اعتسافًا من البعض المستقرأ إلى الكل، فيضع نتيجة كلية حيث لا يجيز انحصار الجزئيات سوى نتيجة جزئية، فحقيقة الاستقراء تلتئم من جزئيات مدركة بالحس ومن مبدأ يطبقه العقل. وما أدق وأبلغ ما قرره ابن سينا بهذا الصدد حيث قال (في منطق النحاة): «المجربات أمور أوقع التصديق بها الحس بشركة من القياس، وذلك أنه إذا تكرر في إحساسنا وجود شيء لشيء تكرر ذلك منا في الذكر (وهذا هو الوجه الحسي)، واقترن به قياس هو أنه لو كان هذا الأمر اتفاقيًّا عرضيًّا لا عن مقتضى طبيعته لكان لا يكون في أكثر الأمر من غير اختلاف (وهذا هو الوجه العقلي)، حتى إنه إذا لم يوجد ذلك استندرت النفس الواقعة فطلبت سببًا لما عرض من أنه لم يوجد.»

مما تقدم يتبين جليًّا تمايز الاستقراء والقياس تمايزًا جوهريًّا، لا كذلك الخطأ الشائع بأن القياس نزول من الكلي إلى الجزئي، وأن الاستقراء صعود من الجزئي إلى الكلي، فهما كالسلم الواحد يقطع في اتجاهين مختلفين، أجل كثيرًا ما ينتهي إلى نتيجة جزئية. ولكن هناك أقيسة صحيحة صادقة نتيجتها مضارعة ما صدقا للمقدمة الكبرى، كقولنا: «كل ناطق فهو ضحاك، والإنسان ناطق، فالإنسان ضحاك.» فظاهرٌ أن «ناطق وإنسان وضحاك» حدود متعادلة؛ إذ ليس يوجد ناطق وضحاك سوى الإنسان. حقيقة القياس أنه انتقال من مبدأ إلى نتيجة بين لزوم النتيجة عن المبدأ بقياس حدين إلى ثالث، وماهيته هي في هذا الارتباط بين الحدود الثلاثة، بغض النظر عن علاقات الكلية والجزئية، فما هذه العلاقات إلا اعتبار ثانوي منطقي.

أما الاستقراء، فإنه انتقال من جزئي إلى كلي يبين ظهور النتيجة أو الكلي من التجربة الحسية، وهو إذن لا يقيس، فلا يحتوي على حد أوسط بمعنى الكلمة، أي حد كلي. ولما كان استدلالًا فهو يحتوي على «واسطة» للربط بين المحمول والموضوع في النتيجة، وهذه الواسطة هي الجزئيات المستقرأة يسردها في المقدمة الكبرى لكي يثبت لها المحمول المشاهد في التجربة، ويسردها في المقدمة الصغرى لكي يعادل بينها وبين الكلي الشامل لها؛ فالواسطة وموضوع النتيجة فيه واحد.٥ وعلى ذلك فاتجاه العقل ونوع الاستدلال الذي يقوم به يختلفان في الاستقراء عنهما في القياس، ولا يمكن رد الاستقراء إلى القياس ولا رد القياس إلى الاستقراء، كأن كل ما هناك طريق واحد ينعكس قطعه.

(٢) المذهب الحسي والاستقراء

بعد هذا البيان لطبيعة الاستقراء والإيضاح لمبدئه، لم تعد هناك حاجة في واقع الأمر لذكر المذهب الحسي، ولا سيما أن رجاله لا يجيئون بشيء جديد في هذه المسألة. إن موقفهم فيها بسيط كل البساطة، لما كانوا ينكرون وجود المعنى المجرد في العقل، والماهية الثابتة في الأشياء، فإنهم لا يقبلون سوى الاستقراء التام، ولا يعتبرونه إلا كمجموع، ولا يؤمنون بالمجموع إلا إلى وقت لاعتقادهم أن التجربة غير مضبوطة بمبادئ أو قوانين، وأنها «مفتوحة دائمًا» قد تلد كل عجيبة. وإذن فليكن الاستقراء مجرد توقع آلي أو مجرد عادة يولدها التكرار، فنعتقد أن المستقبل سيكون شبيهًا بالماضي، ونتدرج في اعتقادنا بقيمة الاستقراءات من أضعف احتمال إلى الأشد فالأشد كلما تكاثرت التجارب المؤيدة لها ولم تعارضها تجربة واحدة. وهكذا نعود إلى تداعي الصور الذي ذكرناه عنهم في الفصول السابقة، فإنه ابتكارهم الأوحد وتكأتهم الفذة.

أما أن تداعي الصور يولد في الحس الباطن توقعًا آليًّا؛ فهذا أمر معلوم، وقد أشار إليه ابن سينا في النص الذي اقتبسناه منه، بعد أن أشار إليه أرسطو في نهاية «التحليلات الثانية». ولكنَّ هناك توقعًا عقليًّا أشار إليه أيضًا، وهو يستند على مبدأ كلي يغني عن تكرار التجارب أو لا يدع لهذا التكرار من قيمة سوى قيمة الدليل الظاهري. وإنا لنسأل الفلاسفة الحسيين: أليس يتعين تفسير التكرار أو الاطراد؟ وماذا عسى أن يكون تفسيره سوى أن الطبيعة خاضعة لقوانين؟ وعلام يدل تحقق توقعنا إن لم يدل على أن بين العقل والطبيعة توافقًا وانسجامًا؟ وكيف يستسيغوا أن يمجدوا الصلة الجوهرية بين المحمول والموضوع في القضية الاستقرائية وأن يردوا العِلِّيَّة إلى مجرد علاقة تعاقب، على حين أن أساطينهم واضعي مناهج البحث العلمي — كما يدعون — يعترفون بأن الغرض من هذه المناهج عزل «المقدم الضروري الكافي» من بين سائر المقدمات، واعتباره علة لتالٍ معين بسبب ما ظهر من اتفاقهما في الحضور والغياب ودرجة التغير. ماذا عسى أن يكون المقدم الضروري الكافي إلا أن يكون هو العلة؟ وماذا عسى أن يكون مثل هذا الاتفاق بين المقدم والتالي إلا أن يكون صلة جوهرية؟ إن الفلاسفة الحسيين لَيذعنون لهذه البديهيات في قرارة أنفسهم، وإنهم ليعلمون أن الواحد منا ومنهم متى وقف على العلة التي يبحث عنها أيقن بها لفوره دون انتظار تأييد مستقبل ودون تدرج في الاحتمال. ولكن اقتناعهم بمبدئهم يصرفهم عن الإذعان الصريح المطرد ويدفع بهم إلى العناد واللجاج.

إلى هنا نقف الحديث مع الحسيين ريثما نستأنف في مواضع أخرى، فقد قصرنا غرضنا في هذا الباب على تحليل أفعال العقل وبيان أصالتها، ومن ثمة على إثبات وجود العقل، وبقي علينا الفحص عن مسائل كثيرة. وللحسيين في كل مسألة رأي، وإن تكن آراؤهم فطرية هزيلة من الطراز الذي عرفناه للآن، وقد نجمل تهافت مذهبهم بقولنا: إنه من الجهة الواحدة يزعم مشايعة التجربة ومتابعة الواقع المحسوس، ومن الجهة الأخرى ينكر كلية القوانين الطبيعية وضرورتها، فيدع العلم بلا سند.

١  «هو حكم على كلي لوجود ذلك الحكم في جزئيات ذلك الكلي، إما كلها وهو الاستقراء التام، وإما أكثرها وهو الاستقراء المشهور» (ابن سينا: النجاة). «هو الحكم على كلي بما وجد في جزئياته الكثيرة، مثل حكمنا بأن كل حيوان يحرك فكه الأسفل عند المضغ استقراء للناس والدواب البرية والطير» (ابن سينا: منطق الإشارات، النهج السابع).
٢  انظر ما كتبناه عن الاستقراء عند أرسطو في ف ي ص١٢٦–١٢٨.
٣  ابن سينا: «منطق الإشارات»، في الموضع السابق.
٤  وقد ورد هكذا عند ابن رشد مثلًا في «تلخيص ما بعد الطبيعة».
٥  وهذا معنى قول ابن سينا (في فصل الاستقراء من منطق النجاة): «إن الاستقراء كأنه يحكم بالأكبر على الواسطة لوجود الأكبر في الأصغر.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤