الفصل الثالث

العقل وإدراك الطبيعة

(١) النظريات التصورية

إلى هنا قصرنا حديثنا عن المذهب التصوري على مبدئه العام. والآن نعرض للنظريات الخاصة التي اصطنعها أركانه لتعليل علمنا بالطبيعة وتقدير قيمة هذا العلم، فإنهم، مع إيمانهم بباطنية المعرفة، مؤمنون بالعلم الطبيعي الدائر على الأجسام وتغيراتها، وأول اسم يذكر في هذه المسألة اسم أفلاطون. تحقق وجود معان في النفس بريئة عن المادة والتغير، إلى جانب صور المحسوسات المغمورة في المادة والمتغيرة باستمرار، وبحث عن أصل المعاني، فبدا له أنها غير مكتسبة من المحسوسات، وذلك بدليلين: أحدهما أن المعرفة شبه المعروف، فيلزم أن تكون موضوعات المعاني على نحو معرفتنا لها، والدليل الآخر أن النفس روحية مفارقة للمادة كالمعاني التي تعلقها. وليس يتأثر الروحي من المادي، حتى الحس، لكونه قوة نفسية؛ فهو لا يتأثر من المحسوسات، وإنما يقع تأثير المحسوسات على أعضاء الحواس فتكون النفس في ذاتها صورة المحسوس. وإذن ففوق المحسوسات أصول لها أو مُثل شبيهة بمعانينا، عرفتها النفس في حياة سابقة في السماوات أو العالم المعقول. وكل إنسان يولد في هذه الدنيا تهبط نفسه إليه حاصلة على المعاني. فإلى المثل يتجه تعقلنا، إليها ترجع التعريفات، وعليها تدور العلوم.

ولما فكر القديس أوغسطين في هذه الأقوال تَلَقَّاها بالقبول، ما عدا قولًا واحدًا هو قيام المُثل بأنفسها، فقد كان أفلاطون جعل منها أصول الجزئيات بضرب من مشاركة أجزاء المادة في مثال مثال، بحيث تتصور أو بحيث تصورها الأفلاطونيون كأنها خالقة، والمسيحية تقصر قوة الخلق على الله. فجمع أوغسطين المثل في العلم الإلهي، وأرجع علمنا إلى علم الله، قائلًا: «إن عقلنا يرى كل حق في الحقائق الأزلية» أو الإلهية، دون أن يقول كلامًا واضحًا في كيفية هذه الرؤية. ولكنه تابع الأفلاطونيين في الاعتقاد بقصور المادة عن التأثير في الروح، وفي تكوين النفس لصور المحسوسات، وفي إدراك المعاني بغير اشتقاقها من الصور المحسوسة المقابلة لها، وفي هذا ما فيه من التصورية.

وظهر لدى الفلاسفة الإسلاميين مذهب في المعرفة يقارب المذهب السابق، ويبدو واضحًا في قول الفارابي: «العقل الإنساني هيئة ما في مادة مُعدة لأن تقبل رسوم المعقولات، فهي بالقوة عقل، وسائر الأشياء التي في مادة معقولات بالقوة. والفاعل الذي ينقلها من القوة إلى الفعل هو ذات ما، جوهره عقل ما بالفعل ومفارق للمادة. وإذا حصل في القوة الناطقة عن العقل الفعال ذلك الشيء الذي منزلته منها منزلة الضوء من البصر، حصلت المحسوسات المحفوظة في القوة المتخيلة معقولات في القوة الناطقة.»١ وهذا الجوهر «مرتبته في الأشياء المفارقة (أي عقول الأفلاك في عرف القدماء) التي ذكرت من دون السبب الأول (أي الله) المرتبة العاشرة»، يعني أنه عقل فلك القمر. لم يخرج ابن سينا عن هذا التعليم، بل يكاد يكون كلامه ترديدًا لألفاظ الفارابي، فهو يقول مثلًا في كتاب النجاة: «القوة النظرية تخرج من القوة إلى الفعل بإنارة جوهر هذا شأنه عليها. فإذن هنا شيء يفيد النفس ويطبع فيها من جوهره صورة المعقولات، ويسمى بالقياس إلى المعقول التي بالقوة، وتخرج منه إلى الفعل عقلًا فعالًا.» ويعين فعله بقوله: «هذا العقل الفعال يفيض منه قوة تسيح إلى الأشياء المتخيلة التي هي بالقوة معقولة لتجعلها معقولة بالفعل.» وكذلك ارتأى ابن رشد، فإنه يقول مثلًا (في كتاب تلخيص ما بعد الطبيعة): «ماهية العقل الفاعل لهذا العقل منا تصوره هذه الأشياء التي ههنا.» ففي هذا المذهب ليست المعقولات مرئية في الله كما قال أوغسطين أو كما عُزي إليه أنه قال، ولكنها نازلة من عقل مجرد في ذاته يسمونه العقل الفعال أو عقل فلك القمر، يُصدر إلى العقل الإنساني ضوءًا يجرد به الماهيات الحالة في المادة، أو يصدر صور هذه الماهيات، وصور الماهيات المجردة في أنفسها، فنعقلها.

ثم كان ديكارت أول من أظهر التصورية مذهبًا واضح المعالم بين المبادئ والنتائج كما ذكرنا، لم يقل كأفلاطون يسبق وجود النفس، ولكنه اعتقد مثله أنها مشتملة منذ وجودها على معانٍ غريزية أو فطرة بسيطة أولية، ومن ثمة جليلة متميزة، تؤلف منها أشياء كثيرة، ومن الأشياء عوالم كثيرة، فلا تحتاج إلى التجربة إلا لتعلم أي عالم هو موجود فعلًا، فهي مستكفية بذاتها، مستغنية عن الطبيعة في إقامة العلم الطبيعي، ما دامت واثقة أن الله ضامن صدق المعاني واتساق ترتيبها. وإلى الله اتجه أيضًا ليبنتز ومالبرانش وباركلي، على النحو الذي قلنا؛ لأنهم لم يجدوا وسيلة أخرى لتفسير معارفنا وتأييد ثقتنا بها. ولم يفطنوا إلى أن المبدأ التصوري الذي اعتنقوه، إن لم يمنع من تصور الله، فإنه يمنع من الاعتقاد بوجود الله، لأنه يمنع من الاعتقاد بأي وجود.

وفطن كنط إلى وهن هذا الأساس، وأخذ على عاقته أن يشيد نظرية العلم حسب مقتضيات المذهب التصوري؛ لكن لا التصورية المطلقة الجاحدة للوجود الخارجي، وإلا فاتتنا مادة العلم، بل التصورية المعتدلة تعترف بحقيقة الوجود، بدليل أن الإحساس انفعال، وأن المنفعل خاضع لتأثير شيء فعال، وإن كنا لا ندرك من الأشياء سوى انفعالنا بها. فمضى كنط من القول المأثور: إن العلم مؤلف من قضايا كلية ضرورية، والتجربة جزئية متغيرة. وساءل نفسه عن السبب في إمكان القضية العلمية، فوجد أن الكلية والضرورة إن لم تأتيا من التجربة، وهذا مُسَلَّم من العقليين والحسيين على السواء، فلا يبقى إلا أنهما آتيتان من العقل الذي يجحده الحسيون فيقضون على العلم؛ فمتى آمنا بالعلم آمنا بالعقل حتمًا لأنه هو الذي يحيل التجربة الجزئية الحادثة إلى قضية كلية ضرورية، وذلك بأن يضيف إلى التجربة رابطة من عنده؛ التجربة مثل قولنا: «الشمس تسطع، وهذا الحجر يسخن»، والقضية العلمية مثل قولنا: «ضوء الشمس يسخن الحجر». التجربة جمع بين إحساسين وإخبار بحال شعورية للحاس، والقضية العلمية تعبير عن علاقة ضرورية بينهما مستقلة عن الشخص الذي يحسهما، والعلاقة هنا علاقة العِلِّيَّة زائدة على التجربة الصرف ومعطية إياها الكلية والضرورة، بمعنى أن ضوء الشمس «علة» سخونة الحجر. وفي العقل اثنتا عشرة علاقة أو «معقولة» يؤلف بها شتى القضايا، دون أن تكون هي موضوعًا للفكر كالمعاني الغريزية عند أفلاطون وديكارت وليبنتز؛ فإن وظيفة العقل هذا الربط فقط، لا الحكم على حقائق الأشياء. ويطبق العقل هذه العلاقات على الإحساسات بواسطة رسوم في المخيلة، لكن علاقة رسم هو العلامة الدالة على أنها هي التي يجب تطبيقها: فرسم الجوهر تصور البقاء في الزمان، ورسم العِلِّيَّة تصور التعاقب المطرد في الزمان. هكذا يتلاقى العقل والحس، ويتكون العلم الطبيعي، فيجيء موضوعيًّا من هذه التجربة، وكليًّا ضروريًّا من جهة العلاقة العقلية. وهكذا اعتقد كنط أنه أصاب الحق الذي يظل محجوبًا عن الإنسانية إلى عهده، واهتدى إلى المذهب الوسط بين الحسية العاجزة عن تسويغ الكلية والضرورية اللازمتين للعلم، وبين التصورية المطلقة العاجزة عن توفير مادة العلم.

(٢) الرد على التصوريين عامة

بعد هذا العرض لأشهر النظريات التصورية في أصل المعاني وفي الصلة بين العقل والحس، نعرض النظرية التي نرى فيها الحق، فنعلن على الفور أنها نظرية التجريد الأرسطوطالية التي طالما أشرنا إليها. وهي تعارض تصور النفس الإنسانية كأنها مَلَك كريم هبط من السماء حاملًا المعاني، أو على استعداد لقبولها من روح علوي. وتقرر أن الحس متصل بالأشياء اتصالًا مباشرًا، وأن العقل لا يكتسب معرفة ما إلا إذا تلقى مادتها من الحس، بحيث تكون الحياة العقلية مرتبطة بالحياة الحسية بل البدنية، مع تمايزها منهما بالطبيعة والفعل. وآية ذلك أن سوء تركيب الدماغ أو توقف نموها أو ضعف هذا النمو، يجعل من صاحبه إنسانًا غبيًّا أو أبله أو مجنونًا، وأن ما ينتاب البدن، وبخاصة الدماغ، من تعب أو مرض أو جرح أو بتر؛ يعطل الذاكرة بل الحياة الفكرية على العموم قليلًا أو كثيرًا، وأن إدمان التدخين أو السكر أو التخدير يؤدي إلى عواقب من هذا القبيل. ولم يكن شيء من هذا ليحدث لو كانت النفس قائمة في البدن بذاتها ولذاتها من كل وجه، فاعلة وحدها جميع أفعالها دون مشاركة ما من جانب البدن.

ولهذا الأصل العالم أثر حاسم في اكتساب المعرفة، حسية وعقلية؛ فإن هذا الاكتساب رهين بفعل أعضاء الحواس، فمن المعلوم أن من عُدم حاسة ما من أول أمره عُدم معارفها، كالأكمة لا يتمثل الألوان مهما توصف له. وليس يغني القول مع أفلاطون وابن سينا وديكارت أن الحواس ضرورية لتنبيه العقل إلى المعاني؛ فإن النفس عند الغريزيين جوهر قائم بذاته، فيكون في وسع العقل استثارة مدركات الحواس المعطلة، وذلك إما بالتأمل في مدركات حاسة سليمة، أو بالاتجاه إلى العقل الفعال، أو بخطاب مخاطب، ولكنه لا ينتبه بوسيلة من هذه الوسائل. بل إن تربية الصم البكم الكمه لَتدل على أن تَفَتُّح فِكرِهم وتَرقِّيه تابعانِ لاكتسابهم الإشارات الحسية، وهي عندهم لمسيَّة تقوم مقام الإشارات الممتنعة عليهم. لذا لا يجدي الاحتجاج على قول الحِسيين «إنَّ المعاني ألفاظ» بأنَّ الصم البكم الكمه يحصلون على معانٍ بغير وساطة الألفاظ؛ فإنهم يحصلون على معان بإشارات حسية على كل حال.

وثمة أثر آخر للارتباط بين الحياة العقلية والحياة الحسية، هو أن تَعَقُّلنا مصحوب دائمًا بصورة خيالية، فلا يتعقل عقلنا موضوعًا ما إلا وفي ذات الوقت تتمثل المخيلة صورة ما، حتى ولو كان المعقول روحيًّا. فمتى كان المعقول ماهية شيء مادي تمثلت المخيلة صورة جزئي من جزئيات تلك الماهية، حقيقي أو مركب. ومتى كان المعقول مجردًا أو روحيًّا تمثلت المخيلة صورة رمزية، أو لم تتمثل شيئًا، واقتصر الأمر على صورة لفظية، أي على اسم ذلك المعقول. فإن الألفاظ تسمع وتقرأ وتلفظ فتخلِّف في المخيلة صورًا سمعية وبصرية وعضلية تصاحب تعقُّل الموضوع الدالة على مصاحبة الظل للشيء. وإليك نتائج التجارب العديدة التي أجراها علماء النفس بهذا الصدد: فقد سأل بعضهم لفيفًا من الأشخاص عما يخطر لخيالهم عند سماعهم لفظ «كلب» مثلًا، فقال أحدهم: «كلب جيراني يركض»، وقال غيره صورًا خيالية أخرى. وكان من بين الأجوبة بصدد لفظ «قانون»: كتاب قانوني، قضاة يرتدون الأحمر، سيدة رافعة ميزانًا، خطوط متوازية، تعريف القانون لمونتسكيو. ومن بين الأجوبة بصدد لفظ «لانهاية»: حفرة مظلمة، كتب رياضية، العلامة الرياضية، دوائر ساطعة، شيء شبيه بالقبة، أُفُق يبتعد باستمرار. ومن بين الأجوبة بصدد المجردات العالية «لا شيء» يعني: لا صورة خيالية أو رمزية، بل مجرد اللفظ، كلفظ الله أو النفس حين نفكر في النفس أو في الله.٢ ولا تفسر مقارنة التخيل للتعقل على هذه الأنحاء إلا بأن عَقْلنا متجه أولًا إلى الماديات، يستخلص ماهياتها مما يغشيها من أعراض مشخصة، وأنه يتوصل إلى الروحيات ابتداءً من الماديات، بعكس ما يتصور التصوريون.
هذا الاستخلاص أو التجريد يبدو واضحًا في كون الأعم مُتقدِّمًا على الأخص في معرفتنا، سواء منها العقلية والحسية: فالعلم بالجسم يحصل في عقلنا قبل العلم بالحيوان، والعلم بالحيوان قبل العلم بالإنسان، والعلم بالإنسان قبل العلم بشخص معين. ونحن نرى الأطفال في أول أمرهم يميزون الإنسان من اللاإنسان قبل أن يميزوا هذا الإنسان أو ذاك؛ فيسمون كل رجل أبًا وكل امرأة أُمًّا، ثم يأخذون بتمييز الأشخاص بعضهم من بعض.٣ والوجه الذي يتم عليه التجريد لا يدرك بالوجدان، بل يستدل عليه بالعقل، وأول ما يثبته العقل أن ماهيات المحسوسات ليست موجودة مفارقة للمادة على نحو ما نتعقلها؛ كما ظن أفلاطون، ولكنها موجودة في مادة المحسوسات مغطاة بأعراضها، وهي بهذا الاعتبار غير معقولة، فيظل العقل محتاجًا إلى موضوع يتعقله، وهو يتعقل بالفعل موضوعات كثيرة، فيلزم أن في النفس قوة تجرد الماهيات عن المادة البادية في الصور الخيالية وتجعلها معقولة بالفعل، فتنفعل بها قوة أخرى وتتعقلها، كما ينفعل الحس بموضوعه فيحسه.

ففي النفس عقلان: أحدهما المتعقل، وهو الذي نسميه العقل اختصارًا، وقد سمي بالعقل المنفعل للدلالة على أنه خُلُوٌّ من المعقولات في الأصل ومضطر لقبولها بعد التجربة. والعقل الآخر هو المجرد، وقد سمي بالعقل الفعال بالقياس إلى المنفعل؛ لأنه هو الذي يجرد ماهيات المحسوسات ويعرضها على العقل المنفعل فيخرجه من القوة إلى الفعل. ولا سبيل إلى الاستغناء عن هذا العقل الفعال بإضافة التجريد إلى العقل المنفعل نفسه؛ لأنه ما دام منفعلًا ومنتظرًا القبول كي يفعل، فليس في وسعه ولا في وسع أي موجود، أن يخرج بذاته من القوة على الفعل. إنما نستغني عنه لو اعتقدنا مع أفلاطون أن المثل قائمة بأنفسها ومؤثرة في النفس كما تؤثر المحسوسات في الحواس؛ وهذا اعتقاد باطل. على أن التسليم به تسليم بوجوده فقط وبمفعوله الذي هو الماهية المجردة، ولا ينطوي على العلم بطريقة فعله، فإن هذه الطريقة خافية علينا كل الخفاء. وقد شبهه أرسطو بضوء الشمس الذي هو واحد بعينه ويبرز ألوانًا وأشكالًا مختلفة باختلاف الأشياء الواقع عليها. فنستطيع أن نقول إن العقل الفعال عبارة عن ضوء روحي، وإن فعله هو «إضاءة» الصورة الخيالية وإبراز الماهية الكامنة فيها. العقل الفعال علة رئيسية، والصورة الرئيسية علة مرءوسة، مثلها مثل قلم الكاتب أو ريشة المصور أو أي آلة أخرى تقبل من الفاعل قوة، فتحدث معلولًا أرقى منها ما دامت في يده. والماهية المجردة روحية معقولة، فهي أرقى من الصورة الخيالية المحسوسة، وليست تكفي هذه لإحداث المعقول.

هذه النظرية فريدة بين النظريات العارضة لتفسير أصل المعاني؛ فإنها تدع للمعاني طبيعتها العقلية، وتبين كيفية الانتقال من المحسوس إلى المعقول بتجريد عقلي، فتضمن موضوعية المعقول. بينما النظريات الحسية لا ترى في المعاني سوى أنها مختصرات للمحسوسات مكتسبة بتجريد حسي، أي بتفصيل المحسوس إلى أجزائه كما هي في الواقع. وبينما النظريات التصورية تضع المعاني في النفس وضعًا، أو في عقل مفارق يفيضها على النفس، دون أن توفر للعقل أية صلة بالحس، اللهم إلا تلك الصلة التي نجدها عند أفلاطون بين المعنى الغريزي وبين الإحساس، والتي تقضي في الحقيقة على الغريزية، من حيث إنها تتضمن أننا نتعرف على المعنى في الإحساس نفسه، فنتذكر الإنسان مثلًا عند رؤية زيد من الناس، فلا يبقى وجه حاجة لقيام المثل بأنفسها ومشاهدتنا لها في حياة سابقة.

كما لا يبقى وجه لدعوى التصوريين المحدثين أن المعنى محض صورة معقولة دون مقابل في الخارج؛ فإن المسألة لا تعدو أحد أمرين: فإما أننا نتعقل المعنى بمناسبة الإحساس دون أن نراه متحققًا فيه، وحينئذ فلا يسوغ لنا أن نطلق المعنى على جزئياته وتكون جميع أحكامنا باطلة؛ وإما أننا نرى المعنى متحققًا في الإحساس، وحينئذ فلا تعود بنا حاجة لاعتباره سابقًا على التجربة أو آتيًا من مصدر آخر. إن هؤلاء التصوريين اسميون في الواقع مع اعترافهم بوجود المعاني في الذهن؛ فإنهم يصلون إلى نفس النتيجة، وهي قطع الصلة بين العقل والأشياء. قلنا ضد الحِسيين: إن الألفاظ دلالات على المعاني، ونقول الآن ضدهم وضد التصوريين: إن المعاني دلالات على الأشياء نطبقها عليها بقولنا مثلًا: «زيد إنسان» و«عمرو إنسان». وهذا التطبيق دليل على المطابقة بين الطرفين، وتقرير للعلم؛ إذ كان العلم إدراكًا لحقائق الأشياء في معانيها الكلية، وكان الحكم العلمي كليًّا ضروريًّا، لا بتطبيق العقل على الحدين مقولة جوفاء غريزية فيه دون إدراك ضرورة الارتباط بينهما، بل لكون ذلك الحكم يضيف إلى الموضوع محمولًا يخص ماهية الموضوع الممثلة في الذهن بالمعنى المجرد، وهكذا تفسر نظرية التجريد أيضًا الأحكام المستفادة من التجربة والمرفوعة إلى مقام القوانين الثابتة التي هي أركان العلم.

(٣) الرد على كنط

أما كنط الذي حرص على التوسط بين الحسيين والعقليين، فلم يوفَّق إلا إلى توسط ظاهري فقط، هو نتيجة جمع صناعي بين عناصر متناقضة، وما إن ينكشف تناقضها حتى ينقسم المذهب على نفسه ويتبدد شذر مذر. ونحن ندل على سبعة تناقضات: التناقض الأول قائم بين اعتقاده بالضرورة في الحكم العلمي وبين بقائه على التصورية؛ فإن الحكم إذا دققنا فيه النظر، يفضي إلى الوجود، وذلك بأنه متجه إلى موضوع حاكم عليه في ذاته، موجودًا كان أو ممكن الوجود، فيقول إن الموضوع «هو» المحمول، فإن الرابطة «هو» تؤكد الموضوع وتؤكد حصول المحمول له في واقع الأمر.

التناقض الثاني بين الكلية والضرورة الباديتين في الحكم العلمي، وبين تأليف هذا الحكم من حدين مستفادين من التجربة الجزئية الحادثة: فما يجيء من التجربة ليس بين حديه نسبة ضرورية، فكيف يسوغ إيقاع مثل هذه النسبة بين حدين بريئين منها؟ إن الحكم العلمي شيء غير مفهوم في فلسفة كنط، ولا يُفهم إلا بنظرية أرسطو في التجريد التي ترفع الشخص والحدوث عن الموضوع والمحمول، وإلا بقي الحكم العلمي بغير تفسير لا من جهة التجريد ولا من جهة العقل.

التناقض الثالث بين تصورية المقولات وموضوعيتها: فهي قوالب جوفاء لا يجوز أن تؤخذ موضوعات معرفة، وهي في نفس الوقت كثيرة متباينة الآحاد يحمل كل منها اسمًا: أفليس يلزم عن هذا أن لها تعريفات وأنها من ثمة معلومة ولو إلى حد ما؟ إن كنط يجادل في مقولة العِلِّيَّة وفي غيرها من المقولات، وهو يقول: إننا نتصور المكان والزمان ولو لم يشتملا على شيء. فكيف تكون المقولات، وكيف يكون المكان والزمان صورة ومادة في آن واحد؟ لقد احتاج كنط إلى الصور العقلية لكي يوفر للعلم أساسًا من الكلية والضرورة، ذلك الأساس الممتنع على المذهب الحسي لإنكاره العقل، فلم يزد بها على مدركات التجربة سوى مجموعة من الألفاظ لا يمكن أن تحيل الحكم التجريبي حكمًا علميًّا.

التناقض الرابع بين اعتباره العِلِّيَّة مجرد مقولة لا يجوز تطبيقها إلا للربط بين ظاهرتين محسوستين؛ كما هو شأن سائر المقولات، وبين استخدامه إياها كما لو كان لها قيمة وجودية، وذلك في مواضع كثيرة جدًّا، أهمها اثنان: أحدهما وجوب المكان والزمان والمقولات لتعليل الكلية والضرورة في المعرفة الإنسانية كما تقدم، والآخر وجوب الأشياء لتعليل انفعالية الإحساسات، وفي الحالين لا وجوب إلا لعلة موضوعية.

التناقض الخامس بين إثبات وجود الأشياء وبين امتناع معرفتها، فإنه يقول: إننا لا نعرف سوى الظواهر، أي انفعالاتنا بالأشياء، فأية فائدة تعود إذن من الأشياء إذا كان تأثيرها لا يدل عليها؟ وما الظاهرة إن لم تكن «ظهور» الشيء؟ وبينما يقول إن الأشياء غير مدركة أصلًا، نراه يحلل طبيعة العقل، ويزعم أنه يعرفه تمام المعرفة، وأن هذه المعرفة هي التي تنتج له أننا لا نستطيع معرفة الأشياء. فإن قال إنه يصل إلى معرفة طبيعة العقل بتحليل أفعال العقل، قلنا: وإذن فنحن نستطيع أن نعرف أي شيء بتحليل ما ننفعل به عنه من صفات وأفعال.

التناقض السادس بين مفهومات المقولات ومفهومات الرسوم الخيالية المقول إنها دالة عليها: ذلك بأن كنط يعين البقاء في الزمان علامة على الجوهر، في حين أن البقاء في الزمان قد يتفق للعرض أيضًا، وقد لا يتفق للجوهر إذا لم يدم الجوهر سوى لحظة. وترتفع الحاجة على علامة بتعريف الجوهر بأنه الماهية المتقومة بذاتها، وتعريف العرض بأنه الماهية المتقومة بالجوهر. ويعين كنط التعاقب المطرد علامة على العِلِّيَّة، في حين أن التعاقب المدرك لا يدل دائمًا على العِلِّيَّة، بل قد يكون محض تعاقب. ويعين تقارن أعراض جوهرية علامة على التفاعل، في حين أن تقارن الأعراض لا يلزم حتمًا عن التفاعل، بل قد تكون أعراض كل جوهر لازمة عن هذا الجوهر نفسه. ويعرف الإمكان بأنه الوجود في زمان ما، والضرورة بأنها الوجود في كل زمان، على حين أن الممكن قد يكون أزليًّا أبديًّا، كالعالم في افتراض قدمه وعدم فنائه، مع افتقاره إلى موجود باعتباره ممكنًا في ذاته، ومن ثمة في كل آن. فما دام الإمكان هو الوجود في زمان ما، فمن الممكن أن يتكرر هذا الوجود إلى غير نهاية ولا يقصر على قسم من الزمان. أما إذا عرفنا الممكن بأنه ما وجوده مفتقر إلى غيره، وعرفنا الضروري بأنه الموجود بذاته؛ ارتفع كل لبس، وبان السبب في دوام الضروري في كل زمان. وعلى ذلك فليس يوجد عند كنط تفسير لتطبيق المقولات على ظواهر التجربة.

التناقض السابع بين الإقرار بالعلم وإنكار الماهيات الطبيعية. وهذه مسألة الاستقراء في فلسفة كنط: فإن الأشياء مطردة الأفعال، حتى إننا نتوقع منها أفعالًا معينة استنادًا على قانون طبيعي، فتقع هذه الأفعال. فما السبب في عودة الظواهر طبقًا للقانون، وكيف نستطيع الجزم بأن الظواهر تطرد بالنظام المعهود، وأن المستقبل يجيء على غرار الماضي والحاضر، وفلسفة كنط ترفض الماهيات وثباتها؟ إن اعتقدنا بضرورة القوانين سلَّمنا بالمطابقة بين العقل والوجود، وإن لم نعتقد بتلك الضرورة لم يبق لدينا ضمان للعلم. فجملة القول في النظريات التصورية أنها تخفق في إقامة الصلة بين الحس والعقل من جهة والطبيعة من جهة أخرى.

١  آراء أهل المدينة الفاضلة، ص٦٢–٦٤ من طبعة القاهرة.
٢  انظر: estsuiv ١٢٩. Th. Ribot, L’evolution des idees generales, pp.
٣  أرسطو: كتاب السماع الطبيعي، ف١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤