الفصل الرابع

العقل وما بعد الطبيعة

(١) تعريف ما بعد الطبيعة

خلص لنا من الفصل السابق أن عقلنا يدرك الموجودات الطبيعية أولًا بالذات؛ يبدأ بها، ويعلمها في أنفسها كما هي ممثلة في الحواس وفي الذاكرة والمخيلة. والآن نريد أن نبين أن الموجودات الطبيعية ما هي إلا موضوعه الخاص به بما هو إنساني، أي باعتباره عقل نفس متحدة ببدن، وأن له موضوعًا عامًّا باعتباره عقلًا بإطلاق، يجاوز الطبيعة المحسوسة إلى أصولها وشروطها غير المحسوسة، فيمتد إلى مطلق الوجود، أي إلى كل موجود أيًّا كان، وإلى معنى الوجود الكامن في كل ما يتعقل وفي كل فعل من أفعال العقل، وإن لم يكن تعقله في هذا المضمار أولًا بل لاحقًا على تعقل الماديات. ولم يكن بالذات بل كان بالاستدلال، فيصل إلى علم ما بعد الطبيعة الذي لا بد من تعيينه أدق تعيين وتمحيص الآراء فيه، كي نحيط بمجال العقل بأكمله، ونطمئن إلى صحة أفعاله وصدق معقولاته.

فمن جهة امتداد العقل إلى كل موجود، لما كانت المعرفة تشبه العارف بالمعروف تشبهًا معنويًّا كما قلنا؛ فإنه إذا حصل شبه المعروف في النفس محسوسًا كان أم مفعولًا، صارت النفس هي المعروف، لأن لا ماديتها تسمح لها بقبول كل صورة، فتصير مرآة الوجود بانعكاس مختلف الموجودات على صفحتها غير أننا ندرك الروحيات بعد الماديات، ونلقى صعوبة في هذا الإدراك فلا نستطيع أن نُكوِّن عن الروحيات معاني ذاتية أو مطابقة لها، بل ندركها بطريق غير مباشر هو طريق الاستدلال، فنستدل بالمعلول على العلة، وبالعرض على الجوهر، ونتعقل الجوهر الروحي بمعان مستفادة من الماديات، ونعبر عن تعقلنا إياه بألفاظ تدل أول ما تدل على الماديات. هكذا نعرف وجود الله من حيث هو علة وجود العالَم، ونعرف صفاته ضربًا من المعرفة بمجاوزة صفات المخلوقات إلى كمالها الأقصى، وتنزيهه تعالى عن حدودها ونقائصها. ولو صح المذهب التصوري وكان في النفس معانٍ غريزية أو فائضة من عقل أعلى، لَلَزِم عن ذلك أن لدينا معاني ذاتية أو مطابقة عن الموجودات الروحية، وعما يفوتنا إدراكه بالحس من الماديات، وقد لاحظنا أن كلتا النتيجتين باطلتان. وهذا موقف وسط بين الحسية والمحجمة عن مقاربة المعقولات، وبين التصورية الزاعمة أن عقلنا كفء لإدراك المعقولات والروحيات كما هي في أنفسها.

ومن جهة إدراك العقل للوجود بما هو وجود، فإن هذا المعنى أول ما يحصل في تصور العقل؛ ذلك بأن الوجود هو العنصر المشترك بين الموجودات على اختلافها، وبين معلومات العقل، كما أن اللون مثلًا هو العنصر المشترك بين مدركات البصر. إن معنى الوجود أبسط المعاني وأعمها، وهو الوجه الذي يدرك به العقل كل موجود: ففي التصور الساذج يعبر العقل (تعبيرًا يتفاوت وضوحًا) عما هو الشيء أو ماهيته، وفي الحكم يقول العقل قولًا صريحًا ما هو الشيء في ذاته أو بالنسبة إلى غيره، أي يثبت العقل وجود الشيء وفقًا لماهيته فيقول: «الأرض هي كروية» أو ينفي حكمًا يأبى قبوله، والحكم صادق إذا وافق ما هو موجود، أو ممكن الوجود، فإن الممكن ما ليس يحول دون وجوده بالفعل حائل ما ماهيته، بل تلزم له صفاته بقوة ماهيته، وفي الاستدلال إذ يقارن العقل بين المقدمتين يرى فيهما علة وجود النتيجة، وأن الأمر لا يمكن أن يكون بخلاف. وكلما أثبتنا شيئًا لشيء، سواء بحكم واحد أو باستدلال، فنحن نعني أن الأمر هو كذلك في الحقيقة ويستحيل أن يكون غير ذلك. فإثبات وجوب وجود شيء لشيء، وإثبات امتناع عدم وجود شيء لشيء؛ كل أولئك إثبات مبني على ضرورة الوجود، فليتأمل في هذا من قد يجد غموضًا في قولنا إلى الموضوع العام للعقل هو الوجود من حيث هو كلي أو مطلق الوجود. وليتأمل في اللاوجود المطلق والتناقض والامتناع، يجدها أمورًا غير معقولة لا يقابلها معنى ذاتي في الذهن، بل يقابل اللاوجود معنى الوجود المسلوب، ويقابل التناقض معنى الاتساق المقتضي للوجود، ويقابل الامتناع معنى الضرورة أو معنى الإمكان، أعني وجوب الوجود، أو وجوب عدم وجوده، أو إمكانه.

فعلم ما بعد الطبيعة هو علم مطلق الوجود ولواحقه الذاتية، أو علم الأمور العامة كما قال المتكلمون، يعنون أعم الأمور في الوجود وفي العقل. وقد دعي بما بعد الطبيعة لأنه في الواقع يعلم لنا بعد الطبيعيات، ولأن من شأن عقلنا أن يتأدى من المحسوس إلى المعقول. لكنه الأول من حيث المرتبة، فإن أوضح العلوم وأوثقها لبساطة موضوعاته وبداهتها، ولتعلق سائر العلوم به كما يتعلق المُرَكَّب بالبسيط والجزئي بالكلي. لهذا دعاه أرسطو بالفلسفة الأولى وتتبين ضرورة هذا العلم من وجهين: الوجه الأول أن ما عداه من العلوم علوم جزئية، ينظر كل منها في وجه من وجهات الوجود: فالرياضيات تنظر في الوجود الطبيعي من حيث هو كم، والطبيعيات تنظر في جوهر هذا الوجود وفي تغيراته، فلا بد من علم كلي يتناول الوجود بالإطلاق مجردًا من كل تعيين، أي يتناول الوجود المشترك بين الموجودات ومبادئه وعلله. والوجه الثاني لضرورة هذا العلم أن العلوم الجزئية تسلم مقدماتها تسليمًا ولا تبرهن عليها لما هو معلوم من أن البرهان يستند على مقدمات أعم من النتائج، فإذا تناول صاحب علم ما مقدمات هي أعم من مقدمات علمه فقد خرج عن موضوع علمه وعن منهاجه واشتغل بعلم أعلى. ولما كان لا بد من البرهان فإن العقل يرتقي من مقدمات إلى أخرى أعم، حتى يصل إلى قضايا هي أعم المقدمات وأبسطها لاقتصارها على معنى الوجود وعلى ما يلائم الوجود بالذات. فلا بد من علم كلي يستخلص هذه المبادئ ويجلوها ويدافع عنها أو تبقى المعرفة ناقصة غير قائمة على أساس.

وإذا ما ثبت لدينا مبادئ الوجود التي هي مبادئ العقل، ورددنا على اعتراضات المفكرين وحللنا إشكالاتهم؛ انفسح أمامنا الوجود بأجمعه فأثبتنا النفس وأثبتنا الله. حتى إذا ما أتينا إلى الأخلاق ووجدناها تفتقر إلى معرفة ماهية الإنسان وأصله ومصيره، وإلى معاني الحرية والخير والفضيلة والجزاء والواجب والحق والعدل؛ فلن ننكرها كما يفعل الحسيون بدعوى أن ليست هناك ماهيات، وأن ليس لنا من موضوع معرفة سوى المحسوس، وأن العلم إنما يقرر ما هو كائن لا ما يجب أن يكون. ولن نضعها وضعًا دون تعقلها كما يفعل كنط واتباعه من التصوريين، بل نتناول مبادئها من الفلسفة الأولى ونبرهن عليها بهذه المبادئ، فيبدو لنا الوجود معقولًا في جميع نواحيه، وترد إلى العقل الجليل المقدس (كما يصفه أفلاطون) مكانته السامية، ويبين بكل جلاء أن ما بعد الطبيعية لا يعني ما وراء الوجود وما في عالم الخيال، وإنما هو علم صميم الوجود، وأساس العلوم وتاجها.

(٢) مذاهب شتى

خصوم هذا العلم إذن هم التصوريون والحسيون: فأما التصوريون فبمقتضى مبدئهم القائل: إن المعرفة مقصورة على التصورات ولا تتعداها إلى الموجودات، وأما الحسيون فبمقتضى مبدئهم القائل: إن المعرفة مقصورة على المحسوس، فضلًا عن مشاركتهم في المبدأ التصوري. غير أن ديكارت ومالبرانش وسبينوزا ولبنتز وباركلي لم يفطنوا إلى مقتضى المبدأ التصوري، فظلوا على فطرة العقل، واعتقدوا بموضوعية المعاني والأحكام والاستدلالات، وخرجوا من الفكر إلى الوجود بلا تحرُّج، متحدثين عن النفس وعن الله وعن مسائل ما بعد الطبيعة عامة. فلما أنكر لوك وجود المعاني الغريزية، ومقدرتنا على إدراك الماهيات والجواهر، ومنها نفسنا ذاتها، ونوع علاقتها بالبدن، ومنها الله وصفاته، ولما نقد هيوم المبادئ العقلية، وبخاصة مبدأا العِلِّيَّة والغائية؛ تنبه التصوريون حينذاك إلى المعنى العميق لمذهبهم وضرورة الاختيار بينه وبين ما بعد الطبيعة. ووجد فلاسفة أرادوا الجمع بين الطرفين لما لهذا العلم من أهمية بالغة لحياتنا الأخلاقية والروحية، وبترك كل منهم طريقة تحقق معناه. إن محاولاتهم لحقيقة بالنظر قبل الخوض في ما بعد الطبيعة كما نراه ورَدِّ الحملات عليه في مسائله المختلفة، وإن ردودنا على هذه المحاولات لكفيلة بزيادة إيضاح ماهية هذا العلم بعد تعريفنا الموجز له. فنبدأ بمذهب كنط، ونمضي مع التاريخ إلى أوجست كونت، فإلى هربرت سبنسر، فإلى وليم جيمس، وأخيرًا إلى هنري برجسون.

رأينا أن كنط يحلل الحكم إلى مادة مستفادة من التجربة، وصورة يطبقها العقل عليها، وأن الحكم لا يعد مقبولًا إلا إذا اشتمل على مادة أو حدث حسي. وما بعد الطبيعة يدعي إدراك النفس والحرية والله، ويخوض بصددها في مسائل كثيرة. ولكن هذه الموضوعات خارجة عن نطاق التجربة، وليس لنا بها حدس عقلي، فتطبيق المقولات عليها تطبيق صور على صور لا على أشياء موجودة ومعلومة. هذا حكم العقل النظري على قيمة ما بعد الطبيعة، بيد أن هذه المعاني الثلاثة «حاجات» جوهرية لنا، وليست ترمي الفلسفة النقدية إلى إبطالها، بل فقط إلى بيان أن ليس باستطاعة عقلنا البرهنة عليها. فالباب مفتوح للإيمان بها إن وجدت واسطة لذلك. والواسطة موجودة، وهي الأخلاق. وتقوم الأخلاق على معنى الواجب، وليس الواجب ممكنًا إلا بالحرية؛ فإنه إذا كان على الإنسان واجب كانت له القدرة على أدائه، وأداء الواجب هو السبيل إلى تحقيق سعادتنا. وليس في طاقة الإنسان أن يصير قديسًا، ولكنه يستطيع أن يترقى إلى غير نهاية نحو القداسة، ولكي يمكن هذا الترقي اللامتناهي يلزم أن تدوم شخصيتنا: وذلك هو خلود النفس. ويلزم أن يؤثر في الطبيعة فاعل تتحد فيه القداسة والسعادة اتحادًا تامًّا، أي أن يوجد الله. فالحرية والخلود والله موضوعات يؤدي إليها العقل العملي مع عجز العقل النظري عن البرهنة عليها.

هكذا اعتقد كنط أنه أنقذ ما بعد الطبيعة من إنكار المنكرين، وهو لم يفعل إلا أن اصطنع حجج العقليين في إثبات المعاني الثلاثة من الوجهة الأخلاقية. ولكنه بإنكاره الحدس العقلي قد أشبه الحسيين وأسقط حقه في الانتقال من معنى الواجب إلى معاني ما بعد الطبيعة؛ إذ من الواضح أن هذه المعاني ليست موضوع حدس حسي، فإذا لم يكن لنا حدس عقلي امتنع علينا البلوغ إليها. إن الحدس على العموم إدراك موضوع ما بحضور هذا الموضوع لدى القوة المدركة،١ فالحدس الحسي إدراك الموضوع بسبب حضور للحس الظاهر؛ كالأشياء الخارجية، أو للوجدان؛ كأفعالنا الباطنة ووجودنا الذاتي. والحدس العقلي إدراك حقيقة المعاني والمبادئ البديهية: فإدراك المعنى المجرد حدس عقلي، ولو أن العقل غير متصل بالمحسوس مباشرة، ولكنه متصل بالصورة الخيالية الممثلة للمحسوس والتي يجرد منها المعنى. فالحدس ههنا إدراك شيء حقيقي بحضور صورة هذا الشيء لدى العقل، وكذلك إدراك الرابطة في الحكم وإدراك لزوم التالي من المقدم في الاستدلال هما نوعان من الحدس العقلي. فموضوعات ما بعد الطبيعة ندرك وجودها بحدس حسي لمعلولاتها، ثم ندركها هي، لا في أنفسها، بل بتعيين ماهيتها وخصائصها تبعًا لمفاعيلها المدركة بالحس.

فليس بصحيح أن العقل النظري عجز عن بلوغ إلى ما بعد الطبيعة والخوض في مسائله، وكنط نفسه يقدم لنا الشاهد على ذلك بتدليله الذي لخصناه: فما هذا التدليل إلا نظر فيما يترتب على معنى الواجب المعلوم بالوجدان من نتائج نظرية. والأدلة التي يوردها كنط قد وردت من قبله بزمن طويل، إنه يمضي من الواجب إلى الحرية، ومن النفس إلى الخلود، ومن الخلود إلى الله، بقوة ارتباط هذه الحدود فيما بينها. فهو إذن يستدل استدلالًا نظريًّا، ويقر بمبدأ العِلِّيَّة وبلزوم التالي من المقدم، وكل هذا حدس عقلي، إن جاز هنا فهو جائز في سائر المسائل على نفس النهج، وصار في مقدور العقل النظري أن يقيم ما بعد الطبيعة دون دوران من العقل النظري إلى العقل العملي. فكنط يؤيد مذهب الحدس العقلي من حيث لا يدري، ويقدم الشاهد على قوة فطرة العقل وغلبة الطبع للتطبع.

ويكاد يكون مذهب أوجست كونت مرسومًا على غرار مذهب كنط؛ فإنه يبدأ بنقد العقل وبيان نسبية المعرفة، لكن لا بامتحان أفعال العقل ومعانيه ومبادئه؛ فقد يكون هذا لونًا مما بعد الطبيعة، بل باستعراض تاريخ العقل كما يتخيله هو، فيقول إن العقل قد مر بأدوار ثلاثة: دور لاهوتي أو ديني، ودور ميتافيزيقي أو فلسفي، ودور واقعي أو علمي. ففي الدور اللاهوتي كان الإنسان يتوهم الظواهر حادثة بفعل كائنات عليا أو آلهة، وفي الدور الميتافيزيقي استبدل بالعلل العليا عللًا خفية في باطن الأشياء، وما هي إلا معان مجردة جسمها له الخيال، فقال: العلة والجوهر والماهية والقوة والله والنفس والحرية … إلى غير ذلك من المجردات الجوفاء. وأخيرًا وصل إلى الدور الواقعي، فأدرك استحالة الحصول على معارف مطلقة من هذا القبيل، وقصر همه على تعريف الظواهر واستكشاف قوانينها. هذه الطريقة هي التي أفلحت في تكوين العلم، وهي التي يجب أن تحل محل الفلسفة، فكلما أمكن معالجة مسألة بالملاحظة والاختبار انتقلت هذه المسألة من الفلسفة إلى العلم، وكان حلها العلمي هو الحل النهائي. فالمذهب الواقعي يتوخى الواقع المحسوس، ويتجاهل النظريات الفلسفية جميعًا، لا ينفدها ولا يقرها؛ لأنها ميتافيزيقية خالية من كل معنى، ويستعيض عن الميتافيزيقا بفلسفة العلوم، أي بترتيب النتائج العلمية والبلوغ إلى أقل عدد مستطاع من القوانين الكبرى. وبذا يفترق عن المادية والإلحاد؛ فإنه لا ينكر النفس والله، ومثل هذا الإنكار ميتافيزيقا أيضًا. وموضوع الميتافيزيقا غير مدرك، يُشبه (على حد قول «ليتري» أنبه تلاميذ كونت) بحرًا تضرب أمواجه شواطئنا، ولا نملك لخوضه سفينة ولا شراعًا.

فدعامة المذهب نظرية الأدوار الثلاثة، لكن أحدًا لا يستطيع أن يقيم الدليل على أنها تاريخية. فإن قيل إن الدور اللاهوتي يوافق ما قبل التاريخ وأوائل العهد التاريخي، أجبنا: إن الإنسان قد عاش في تلك العصور الطويلة وهو يحارب قوى الطبيعة ويستغل ذخائرها ويخترع الصناعات للاستقواء في تلك الحرب وذلك الاستغلال، وإن كل هذا لم يكن ليتسنى بغير الملاحظة الدقيقة والوقوف على طبائع الأشياء. وإن قيل: إن الدور الميتافيزيقي يوافق العصر القديم، سألنا عن الأرصاد الفلكية، والصناعات المختلفة في المدنيات الشرقية، وطب بقراط، وهندسة إقليدس، ومخترعات أرشميدس، وطبيعيات أرسطو ومنطقياته وأسلوبه التجريبي في علوم الحياة، وفلسفة ديموقريطس وأبيقور، وكيمياء العصر الوسيط: أليست هي أدخل فيما يدعوه كونت بالروح الواقعي منها في التفسير بقوى خفية وحجج لفظية؟ وإنَّ كونت ليعترف بأن الرياضيات واقعية منذ آلاف السنين، أي منذ الدور اللاهوتي، بل بأنها لا يمكن أن تكون إلا واقعية، فكيف يقال إن العقل لم يعرف الروح الواقعي إلا في العصر الحديث؟ وإن قيل إن الدور الواقعي يوافق العصر الحديث، أحلناهم إلى ما هو باد في الفلسفة الحديثة من الاهتمام البالغ بالأخلاق والدين، ولاحظنا أن كونت نفسه وضع «ديانة الإنسانية» في أواخر حياته لا في شبابه كما تقتضي نظريته.

الأحق أن يقال إن اللاهوت والفلسفة والتجربة مظاهر الحقيقة الشاملة، وإنها قد تقارنت في الأفراد والأمم والعصور وتكاملت مع تفاوت تبعًا لمؤثرات مختلفة. وعلى فرض أن الفكر يتطور في الفرد وفي الإنسانية على هذا الترتيب الثلاثي، فليس ينال هذا من قيمة العقل في شيء، فما كان التطور التاريخي مرادفًا للارتقاء ضرورة، وما كان الخطأ نافيًا وجود الحقيقة وإمكان الكشف عنها. لقد قضى الناس آلاف السنين وهم يعتقدون أن الأرض ساكنة ثابتة وأن الشمس تشرق وتغرب، كما اعتقدوا أخطاء علمية لا عدد لها، فهل يعتبر هذا اعتراضًا على العلم الحق وسببًا للتنكر له؟ فلِمَ تعتبر أخطاء العقل مطاعن في مقدرته وهو قَمِين بتصحيحها؟ ولم يتخذ من الأخطاء في الفلسفة والدين أسلحة ضدهما، وفي مقدور العقل أن يصل فيهما إلى كثير من الحقائق؟ هذا فيما يختص بالأدوار الثلاثة.

أما فيما يختص بالفلسفة؛ فإن مصدر الحملة عليها أن كونت قد أساء فهم معناها، وأنه توهم أن العلم الواقعي يكفي نفسه ولا يفتقر إلى أساس فلسفي. والواقع أن العلم الواقعي لا يذهب إلى المسائل القصوى الدائرة على المعرفة إطلاقًا، فلا يبرر أفعال العقل من تصور وتصديق، ولا المبادئ الكلية الضرورية، ولا القوانين العلمية التي هي عند كونت وأضرابه أقصى ما تصل إليه المعرفة كأنها قد وضعت أنفسها وكأنه يمكن أن يكون لها أصل ومحل غير ماهيات الأشياء. وليس يغني العلم الواقعي شيئًا عن الفلسفة، فليست «فلسفة العلوم» التي يريد الواقعيون أن يقيموها مقام الفلسفة بمغايرة للعلوم الطبيعية حتى تعد علمًا جديدًا وتعلق عليها آمال جديدة؛ فإن النتائج الكبرى للعلوم هي من جنس العلوم. أما المسائل الفلسفية فمتمايزة منها موضوعًا ومنهج بحث، وإذا كان منها ما يحتمل أن يبحث تجريبيًّا، كمسائل المادة والحياة من نامية وشعورية، فإن هذه المسائل أنفسها تقتضينا النظر فيها من وجهة فلسفية. وإن من مسائل الفلسفة ما لا يحتمل المعالجة بالتجربة مطلقًا، كمسائل النفس والله والواجب والحق والعدل؛ لأن موضوعها غير محسوس ظاهرًا وباطنًا فلا يتناوله المنهج التجريبي؛ ولأن العلم الواقعي يقرر ما كان كائنًا لا ما يجب أن يكون، وهذه المسائل من الأهمية بالنسبة لحياتنا العقلية والخلقية بحيث يستحيل إغفالها، فإنها إنسانية تنشأ في كل عقل وتهم كل إنسان. إن المذهب الذي يأبى وضعها ومحاولة حلها لَهو مذهب أبتر خاطئ، فالعلم الواقعي محصور في دائرة محدودة، والفلسفة تمتد فيها وراء هذه الدوائر وتماسها في جميع نقاطها.

ونجد نفس المقاصد عند هربرت سبنسر؛ فإنه يحصر موضوع المعرفة في جملة العلوم الواقعية، ثم يقول إن هذه العلوم مفتقرة إلى بضعة معان كلية هي في ذاتها فوق متناول العلم، كمعاني المادة والحركة والمكان والزمان والجوهر والقوة والوجدان والشخصية، فالنظر في العالم المدرك يؤدي بنا إلى اللامدرك. فبين المعرفة الكاملة التي تحيط بجميع خصائص الشيء وبين الجهل المطبق الذي يرجع الشيء معه إلى لفظ أجوف، يوجد وسطٌ هو معرفة وجود الشيء دون ماهيته. وعلى ذلك فلا محل لما بعد الطبيعة، والبحث فيه ينتهي إلى متناقضات كثيرة. فالقوة القائمة خارج الفكر والتي تدل عليها بتلك المعاني لا تشبه ما نعرفه في داخل الفكر. وليس يقابل ما بعد الطبيعة في عقلنا سوى استعداد طبيعي لتوحيد المعرفة، وهذا الاستعداد يجد رضاه في الفلسفة الواقعية التي هي عبارة عن توحيد العلوم توحيدًا تامًّا بواسطة أعم قانون علمي وهو قانون التطور من المتجانس إلى المتنوع. بيد أن هذه اللاأدرية ليست مرادفة للإلحاد؛ فإنها تعترف بالمطلق، وتعتبره أسمى من الإنسان، وهي إذن تدع الباب مفتوحًا أمام الدين. وفي الإنسان أصل عميق للعاطفة الدينية، فهي إذن مشروعة، وما إن تعين حدود المعرفة على ما ينبغي حتى يتفق العلم والدين على أن ماهية الوجود مجهولة، وينحصر كل في دائرته.

كل ما قلنا ردًّا على كونت يقال في الرد على سبنسر؛ فالزعيمان الحسيان يرفضان ما بعد الطبيعة كعلم معلوم، ويقبلانه كموجود مجهول، وحجتهما في الرفض أن العقل يرتطم بالمتناقضات حالما يعالج مسائله. وقد جمعا هذه المتناقضات من كتب سبينوزا وبيل وكنط وهملتون بعضُ اللاهوتيين، وما هي بمتناقضات في الظاهر (ف ح: ١٠٢، ١٠٣، ١٠٤، ١٦٦، ب–ﻫ). ونحن نرى التناقض عندهما؛ إذ يقولان: إن العلم يؤدي إلى المنطق، وإن العلم مظهر المطلق، ثم يقولان: إن المطلق غير معقول، كأنما مجرد الإقرار به لا يعد إدراكًا ما، وكأنما مظهر الشيء يمكن أن يكون مغايرًا للشيء حتى لا ينم عنه بتاتًا. وماذا يعنينا من المطلق إذا لم يكن شخصًا، ولم يكن باستطاعتنا أن نرتب علاقة بيننا وبينه؟ وما الدين الذي لا يشتمل ولا يمكن أن يشتمل على عقيدة ما؟ وحجتهما في قبول ما بعد الطبيعة أن مسائله مكملة للعلم الواقعي، أو مستندة على أساس من الشعور عميق، فهي إذن مسائل صحيحة، ويجب أن يكون لها حلول صحيحة، وإلا خامرنا شك متصل أن العلم المجهول لنا في هذه الحياة قد يكون غير معقول في ذاته، فلا يتحقق الغرض المنشود منه وهو أن يكون منبع الدين. فما بهذه الطريقة يبرر ما بعد الطبيعة.

وأقل منها تبريرًا له طريقة وليم جيمس زعيم البرجماتية: فقد وجد هو أيضًا أن العقل النظري لم يوفق ولن يوفق إلى حسم الخلافات في المسائل الميتافيزيقية والأخلاقية. وحسمها ضروري لنا كحل الضرورة لتوقف سلوكنا على ما نختار من حلول، فصح عنده أن المبدأ المطلق هو العلم لا النظر، وأن المنهج الصائب هو الذي يلحظ النتائج العملية المنطوية في كل رأي والمتحققة عنه فعلًا، فإننا حينئذ نرى المسائل تحل بغاية اليسر. وترجع المسائل إلى اثنتين رئيسيتين هما الروحانية والمادية، والروحانية تتضمن الاعتقاد بالله والخلود والحرية، ومن ثمة بإمكان تحقيق كمالنا في هذه الحياة وفي الحياة الأخرى، فهي منشطة حافزة إلى العمل، بينما المادية المتضمنة الإلحاد والفناء والجبرية مثبطة للهمة صارفة عن العمل. فليست آراؤها قضايا نظرية، قابلة للجدل والبرهان، وإنما هي مخترعات نرمي بها إلى الإفادة من الوجود، مثلها مثل الآلات التي نصنعها لاستخدام القوى الطبيعية، فما بان منها نافعًا كان صالحًا. وإن العمل الإنساني ليذهب إلى حد تكييف العالم، فقد كانت المادية في الأصل مرنة، ثم تعينت شيئًا فشيئًا، وخاصة بفعل الإنسان إذ أحدث فيها «أشياء وحالات» تبعًا لرغباته ومنافعه. فالإرادة الإنسانية من أهم العوامل، إن لم تكن أهمها، في تكوين العالم. فإذا اخترنا الحلول الروحية وعملنا بها حققنا عالمًا روحيًّا وقضينا على المادة.

كلا، ليس يذهب العمل الإنساني إلى هذا الحد. إذا كانت مادة العالم متجانسة في الأصل فكيف بدأ التطور؟ وكيف ظهر الإنسان وغاياته؟ إن المرونة الأولى يلزم عنها حتمًا جمود العالم على حال واحدة، كما يلزم عن نظرية التطور؛ إن أمكن أن يبدأ، أن الإنسان أحدث الكائنات عهدًا، فلم يوجد إلا بعد أن تعين العالم، فمن التناقض أن يجعل منه أهم عامل في التطور. لا سلطان لنا على طبائع الأشياء وخصائصها، وإنما نحن نعرفها كما هي أولًا، ثم نكيف الاختراع والعمل على حسابها، فنستخدم مواد معينة على أنحاء معينة لتحقيق غايات معينة. فلا يمكن الادعاء بأن الحق في النظر وليد النجاح في العمل، ويجب القول بأن النجاح مرهون بالحق أي بمطابقة أفكارنا للأشياء، وإلا كان الإخفاق محتومًا. وكيف يكون نجاح قضية حسابية كهذه ٢ + ٢ = ٤؟ إن حقية هذه القضية وأمثالها ذاتية لها، ولا معنى للقول بأن حقيتها في نجاحها.

وتقدمُ النظر على العمل لازم كل اللزوم في الحياة الخلقية والدينية، وذلك من وجهين: الأول تفسير نشأة مثل هذه الحياة، والثاني: تبرير فاعلية فكرتها. فمن الوجه الأول نسأل: بأي حق يميز البرجماتيون بين ميول عليا وميول سفلى، والميول جميعًا سواء في كونها ظواهر شعورية، وهم ينكرون أن يكون للأشياء في أنفسها حقائق وقيم متفاوتة؟ فلم اخترعت الفضيلة وهي تضحية وحرمان؟ وإذا اقترنت الصحة بالعفة أحيانًا كثيرة، واقترن المرض بالشره، فكل ما يوحي به هذا الاقتران هو أن الاعتدال وسيلة سلامة البدن، وأن حساب النفع والضر كفيل بتوفير السعادة، فنبقى في مستوى الحياة النامية أو الفسيولوجيا. أما الفضيلة فلا تنبت فكرتها إلا إذا كان للإنسان نفس روحية معدة لحياة روحية، وهذا ما يتعين البرهنة عليه، والبراجماتيون ينفرون من البرهان النظري.

ونقول من الوجه الثاني: إن التحقق من نفع الآلات الصناعية أمر ممكن يسير، وذلك بالمضاهاة بين فعلها وما نتوخاه منها. أما المعتقدات الروحية فلا سبيل إلى التحقق من نفعها إلا في الحياة الأخرى، والحياة الأخرى مقبلة لا حاضرة، فلا سبيل على تطبيق المنهج البراجماتي ههنا، وإلا وقعنا في دور منطقي ظاهر. بل قد لا توجد حياة أخرى، فتكون فكرتها أسوأ اختراع يضيع علينا متاع الدنيا ولا يعوضنا منه شيئًا. إن ما بعد الطبيعة موضوع استدلال عقلي، ولا تمكن معالجته إلا بتقديم النظر على العمل.

وبرجسون أيضًا ينكر كل قيمة للاستدلال العقلي، ويحاول إثبات ما بعد الطبيعة بالتجربة الصرف. كان في أول أمره على المذهب المادي، ثم تبين له أن هذا المذهب مخطئ كل الخطأ في تفسيره للحياة، سواء النامية منها والوجدانية؛ فإن الحياة تيار متصل من الظواهر المتنوعة، على حين أن المادة حاضرة كلها في كل آن، تتكرر ظواهرها هي هي. ويدل تطور الأحياء خلال العصور على أن الوجود كلمة حياة صاعدة منتشرة من أدنى الأنواع إلى أرقاها، في هذا التطور يصون الأحياء وجودهم ويعملون على ترقيهم باستغلال الطبيعة، كل على قدر استطاعته. هذه الاستطاعة ضئيلة في النبات، ثم تقوى وتتسع في الحيوان بفضل الإدراك الحسي والنقلة في المكان، وأخيرًا تبلغ حدًّا بعيدًا من التنوع والسداد بفضل الإدراك العقلي؛ ذلك بأن استغلال الطبيعة يقتضي تجزئتها للتمكن منها في تطورها الجارف، والحواس والعقل آلات لهذه التجزئة: الحواس تجزئ الأشياء إلى وجهات عدة هي الموضوعات التي تتمثلها، والعقل يجزئ إلى معان ومبادئ ثابتة. فهي جميعًا آلات لتيسير الحياة لا لتصوير الوجود، ومن العبث التعويل على العقل فيما عدا العلوم الطبيعية. ولنا إلى ما بعد الطبيعة سبيل أخرى غير الاستدلال العقلي، هي التجربة نفسها كما نشاهد في الصالحين من بني الإنسان، مما يدل على أن القوة المستولية على العالم تستولي بنوع خاص على بعض الأشخاص وتدفعهم إلى خلق أعلى يستمسكون به لذاته، ويستطيبون في سبيله الحرمان والاضطهاد والموت، وتستولي بنوع أخص على المتصوفة الذين يشعرون بالألوهية شعورًا، ويذوبون في محبتها لكونها هي محبة، وينشرون المحبة في الإنسانية جمعاء.

هذا التصور للوجود، وهذا النقد للعقل جعل من برجسون فيلسوفًا اسميًّا جاري الحسية إلى الحد الأخير، فتورط في متناقضات شتى. التناقض الأول: اعتقاده أن الوجود تغير محض دون ما شيء معين ثابت من وجه متغير، من وجه: إن التغير تغير شيء بالضرورة. تناقض ثانٍ: هو اتهامه العقل بتجزئة الوجود تجزئة مفتعلة، ودعواه أن الغاية من هذه التجزئة استغلال الوجود: كيف نشأ من التغير المحض عقل مجزئ مجمد الأجزاء؟ وكيف أفلح العقل بجموده على معانيه ومبادئه وسط الحركة الشاملة، فتحكم في الوجود؟ ولِمَ تلك النظريات المعقدة في العلوم، وتلك الآلات المركبة في المصانع؟ أليس كل هذا التعقيد والتركيب مجاراة للأشياء أنفسها؟ وإذن فليس العقل مشوهًا للوجود، ولو كان متروكًا لنفسه فالظن الغالب أنه كان كيفه تكييفًا أكثر بساطة وأيسر تناولًا. ثم إن النظرية العلمية كلية ضرورية، تتضمن توقع المستقبل، مما يدل على وجود أشياء وطبائع للأشياء وقوانين ثابتة. تناقض ثالث: لو سلمنا أن العقل عملي بالذات، لبقي أن نفهم كيف تحول التعقل النفعي إلى معرفة نزيهة يزيد اغتباطنا بها بقدر بُعدها عن العمل والمنفعة، وكيف شق العقل لنفسه طيفًا مغايرًا لطريق التجربة، فأنشأ علومًا مستقلة عن التجربة بمبادئها ومنهاجها، منتهية مع ذلك إلى التجربة. كما نشاهد في الرياضيات وفي الطبيعيات المعالجة بالرياضة، فنبرهن مثلًا على مساواة زوايا المثلث لقائمتين بذلك البرهان النظري المعروف، على حين أن عقلًا علميًّا بالذات لا يوحي بأكثر من قياس الزوايا وجمع الدرجات. وعلى ذلك فلننظر قيمته الخاصة. وقد يستخدم للعمل، ولكنه متمايز منه، بل إنه كلما طلب النظر لذاته كان العمل أكثر تنوعًا وسدادًا. ولا مناص من طلب النظر لذاته؛ فإن للعقل حاجة لا ينزل عنها: هي الإدراك والتعليل.

وأما إقامة ما بعد الطبيعة على التجربة البحتة، فنقول فيها إجمالًا: إن التجربة البحتة ما هي إلا تسجيل الإحساس ظاهرًا وباطنًا، وإن التفكير، حتى في أدنى صورة ترجمة عن التجربة بمعان مجردة. وإذا لاحظنا أن العقول مختلفة في فهم المعاني المستفادة من التجربة، فنضطر للتحليل والتعريف والدفاع والهجوم، وكل أولئك إنما يتم بمعان مجردة، اقتنعنا بأن التجربة البحتة لا تُلفى إلا عند العجماوات. وما كتب برجسون إلا ميتافيزيقا، فقد تحدث فيها، ليس فقط عن ديمومة شخصية ملحوظة بالوجدان، بل أيضًا عن ديمومة كلية وصفها بأنها جوهر خالق دائم التغير، وعَرَض آراء في أصل المادة، وأصل العقل، والعلاقة بين العارف والمعروف في الإحساس والتعقل والحدس، وحَلَّل معاني اللاوجود، والإمكان، والتغير، والزمان، والمكان، والأخلاق، والدين، وبالجملة عرض لجميع مسائل الميتافيزيقا السلفية بأسلوب الميتافيزيقيين، فكان شاهدًا آخر بعد شواهد لا تحصى، على صدق قول أرسطو: إن إنكار الفلسفة هو نفسه فلسفة. وهل نعد من التجربة البحتة، أو من الاستدلال العقلي، الانتقال من تطور الأحياء إلى قوة عليا مستولية على العالم ودائمة التغير هي أيضًا؟ وهل يمكن أن تكون العلة الأولى متغيرة، والمتغير متغير بغيره بالضرورة وفاقد الأولية؟ وبأي حق نعتمد على تجربة المتصوفة للاعتقاد بوجود الله، ولكل متصوف تجربته الخاصة لا يشاركه فيها غيره ولا يستطيع هو تبليغها تمام التبليغ إلى غيره، فهي تلزمه وحده. بل إن برجسون نفسه اندفع إلى القول بأن الصوفي لا يدري إن كان شعوره شعوًا بالله، ولا يعنيه أن يدري، ويكفيه شعوره!٢ من هذه الأمثلة ندرك أن مسائل الفلسفة هي مسائل حقًّا، وأنها لا تعالَج إلا بالعقل، وأن دعاة التجربة البحتة، أو العمل المنتج، لا ينكرون ذلك إلا باللفظ فقط، ويستخدمون عقولهم في عرض ومحاولة حلها. فلنستخدم نحن عقلنا لبيان أصول ما بعد الطبيعة بعد أن أثبتنا ضرورته القصوى ومكانته العليا.
١  هذا المعنى عارض للفظ العربي باصطلاح الفلاسفة. فإن لفظ الحدس يعني لغة الظن والتخمين، ويقال: «هو يحدس»، أي: يقول شيئًا برأي، فنقله الفلاسفة إلى ما أرادوا من معان، وعرَّفه ابن سينا تعريفات عدة، فقال في النجاة تارة: «الحدس حركة إلى إصابة الحد الأوسط إذا وضع المطلوب، أو إصابة الحد الأكبر إذا أصيب الأوسط؛ وبالجملة سرعة الانتقال من معلوم إلى مجهول، كمن يرى تشكل استنارة القمر عند أحوال قربه وبعده من الشمس فيحدس أنه يستنير من الشمس.»
وواضح أن الحد الأوسط والحد الأكبر ليسا من أصل العربية، وأن المعنى العربي لا يتضمن بالضرورة سرعة الانتقال. وقال أيضًا: «يمكن أن يكون شخص من الناس مؤيد النفس بشدة الصفاء وشدة الاتصال بالمبادئ العقلية (التي هي العقول المفارقة) إلى أن يشعل حدسًا، أعني قبولًا لإلهام العقل الفعال، فترتسم فيه الصور التي في العقل الفعال، إما دفعة، وإما قريبًا من دفعة.» وهنا أيضًا معنى القبول الدفعي لأمر يقيني. وقال: «مبادئ التعليم الحدوس، فإن الأشياء تنتهي لا محالة إلى حدوس.» وفي هذه النصوص لا أثر للظن والتخمين وإنما الظاهر فيها أن الحدس إدراك لأمور بديهية. فلفظ الحدس يبدو أقرب الألفاظ لأداء معنى intuition، وقد ذاع فعلًا بهذا المعنى في عهدنا الحاضر.
٢  انظر ف ح، ص٤٢٤ وما بعدها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤