الفصل الأول

الوجود

(١) التعريف بالوجود

رأينا إذن أن للإنسان قوة دراكة متمايزة من الحواس بمدركات غير محسوسة، وهي المعاني المجردة، وإن تكن المعرفة الحسية هي الأولى زمنًا، وهي ضرورية، بحيث نسلم للحسيين بأن ما من شيء يوجد في العقل إلا وقد سبق له وجود الحس، لكن لا بمعنى أنه مدرك من الحس، بل بمعنى أنه متضمن في موضوع الحس، كتضمن معنى الإنسان في صور أفراده، أو بمعنى أنه مستنبط من موضوع الحس، كاستنباط العلة غير المحسوسة من معلول محسوس.

ورأينا أن المعاني تترتب فيما بينها تبعًا لدرجة التجريد، فتنتظم منها العلوم الطبيعية فالعلوم الرياضية، وأننا إذ نمضي في التجريد نبلغ إلى أعم المعاني إطلاقًا، وهو معنى الوجود مُبَرَّأً من أي تخصيص وتعيين. وهذا المعنى إذ نتأمله نجد له لواحق ذاتية تشترك فيها الموجودات بمجرد كونها موجودات، ونجد له مبادئ تعم مبادئ الموجودات والعلوم الباحثة فيها، فيخرج لنا أن ههنا موضوعًا كليًّا هو الوجود بما هو وجود، وأن ههنا علمًا كليًّا له الرياسة على سائر العلوم؛ ومنها أقسام الفلسفة، وأنه لذلك يسمى بالفلسفة الأولى، من حيث إن الأعم متقدم في الوجود على الأخص. وإن كل برهان فإنما يستمد أصله من هذا العلم، ففي هذا الباب ننظر في تلك المعاني الأولى، أعني الوجود ولواحقه ومبادئه، فنشرحها وندافع عنها لكي نقيم المعرفة الإنسانية على أساس متين.

قلنا في عنوان هذه الفقرة: «التعريف بالوجود»، ولم نقل: «تعريف الوجود»؛ إذ ليس للوجود حد، وليس له رسم. أما الحد فيلتئم من جنس ومن فصل نوعي، والوجود أبسط المعاني، ومن ثم أعمها، فلا جنس فوقه يعرف به، ولا فصل نوعي يعرض له من حيث إن كل ما يعرض للوجود فهو وجود. وأما الرسم فيكون بما هو أبين من المرسوم، وما من معنى أوضح وأبين من معنى الوجود حتى يرسم به، وما من شيء يدرك إلا ويدرك موجودًا إما في الحقيقة أو في الذهن. فالوجود أول المعاني لبساطته القصوى، وأول ما يقع في الإدراك لعمومه الشامل. وكل ما يمكن صنعه هو شرح اللفظ فقط.١
لفظ الوجود يقال بمعنيين، أحدهما كمصدر، كما هو ظاهر، والآخر كاسم أي «الموجود». فالمصدر أو الوجود يعني على وجه الاستقامة، أي أولًا وبالذات: فعل الوجود أو الوجود بالفعل، ويعني على وجه الانحراف، أي ثانيًا: ما يعنيه الاسم نفسه أي الموجود. ومعنى الاسم — أي الموجود — هو أولًا: الماهية الحاصلة على الوجود، أو التي يلائمها الوجود فيمكن أن توجد، وهو ثانيًا: الوجود حاصلًا أو ممكنًا، سواء كان الموجود ذاتًا أم فعلًا؛ فإن الفعل وجود، أي إيجاد من جهة الفاعل، ووجود من جهة المفعول. والشأن ههنا كشأن كل لفظ مجرد بالنسبة إلى اللفظ المشخص، وكل لفظ شخص بالنسبة إلى اللفظ المجرد. فإننا إذا قلنا «الإنسانية» عنينا أولًا صورة الإنسانية، وثانيًا الموضوع الحاصل عليها؛ وإذا قلنا «الإنسان» عنينا أولًا الموضوع الموجود إنسانًا، وثانيًا صورة الإنسانية التي هو بها إنسان. ومعنيَا الوجود والموجود مرتبطان أوثق ارتباط، فإن الوجود وجود ماهية ما، والوجود والماهية شيئان متمايزان من حيث إن الماهية قد لا توجد. يضاف على ما تقدم أنه «قد يدل بلفظ الموجود على النسبة التي تربط المحمول بالموضوع في الذهن، وعلى الألفاظ الدالة على هذه النسبة، سواء كان ذلك الارتباط لارتباط إيجاب أو سلب صادقًا وكاذبًا، بالذات أو بالعرض».٢ فإذا قلنا: «زيد عالم» أو زيد «هو» عالم عنينا أن زيدًا «موجود» عالمًا.
وفي الفلسفة الإسلامية ألفاظ أجريت بمعنى الوجود أو الموجود مع دلالتها على معنى آخر أيضًا أو أكثر من معنى: فلفظ «الشيء» يقال على كل ما يقال عليه لفظ الموجود. وقد يقال أيضًا على ما هو أعم مما يقال عليه الموجود، وهو كل معنى متصور في النفس، سواء كان خارج النفس كذلك أو لم يكن، كعنزإيل وعنقاء مغرب. وبذلك يصح قولنا: هذا الشيء إما موجود وإما معدوم. وبهذا ينطلق اسم الشيء على القضية الكاذبة، ولا ينطلق عليها اسم «الموجود».٣ وعلى ذلك يقال «شيء» لكل طبيعة أو ماهية، وهذه الماهية قد تكون مستقلة بوجودها أي جوهرًا، فتكون أحق باسم الموجود، كإنسان، وقد تكون موجودة في موجود أي عرضًا، فيكون الأولى تسميتها «شيئًا» كالفكر والإرادة في الإنسان. وقد تكون ممتنعة الوجود، كالعنقاء، أو قضية كاذبة، أو النسبة بين محمول وموضوع، أو غير ذلك من التصورات الذهنية البحت، فتسمى «شيئًا» لعدم وجودها بل امتناعه واقتصار الأمر على التصور فقط.
ولفظ «الذات يقال بإطلاق على المشار إليه الذي ليس في موضوع (وهو الجوهر)، ويقال أيضًا على المشار إليه الذي في موضوع وهو العرض (أي إنه في الحالين يقال على الوجود أو الموجود). وأما ذات الشيء إذا استعملت هكذا مضافة فإنما يعنى بها ماهيته أو جزء ماهيته (فنعود إلى معاني لفظ الشيء)، وقد يقال ما بالذات في مقابل ما بالعرض».٤
ولفظ «الإنية في الحقيقة في الموجودات هي معنى ذهني، وهو كون الشيء خارج النفس على ما هو عليه في النفس».٥ والإنية أيضًا «شيء زائد على الماهية خارج النفس، وكأنه عرض»؛٦ أو هي «عبارة عن الوجود، وهي غير الماهية».٧
ولفظ «الهوية يقال بالترادف على المعنى الذي ينطق عليه اسم الموجود، وهي مشتقة من الهو، كما تشتق الإنسانية من الإنسان، وإنما فعل ذلك بعض المترجمين لأنهم رأوا أنها أقل تغليظًا من اسم الموجود؛ إذ كان شكله شكل اسم مشتق».٨ والهوية أيضًا «الأمر المتعقل من حيث امتيازه عن الأغيار».٩
نعود إلى معنى الوجود نستكمل التعريف به، فنقول إنه أول المعاني إطلاقًا، خلافًا لما ذهب إليه بعض الفلاسفة المحدثين١٠ من أن أبسط المعاني وأولها هو معنى الإضافة أو النسبة. وتتلخص حجتهم في قولهم: إن معنى الوجود يدعو معنى اللاوجود، وكلاهما بحاجة إلى الآخر، فليس هذا ولا ذاك ببسيط. أما النسبة القائمة بين المعنيين، أي النسبة الخالصة الخالية من كل تعيين وجودي، فهي أبسط منهما، وما من معنى إلا وهو يعرب عن نسبة إلى معنى آخر. وفي معنى النسبة يتحد الاثنان، ومن هنا المراحل الثلاث التي أبان عنها هجل، وهي القضية ونقيضها والمركب منهما. فالنسبة هي التي يجب أن تكون موضوع ما بعد الطبيعة.

هذه الأقوال الرامية إلى تأييد نسبية المعرفة الإنسانية ليس أيسر من الرد عليها، فمن جهة واحدة نقول: إن معنى النسبة لاحق على المعنيين المتقابلين فيه، كمعنى الوجود واللاوجود، أو أي معنيين آخرين، من حيث إن النسبة لا تنشأ إلا بعد تعقلهما، فهي تعتمد عليهما وتتضمنهما، وإذن ليست هي المعنى الأبسط، وإنما هي أعقد منهما. ومن جهة أخرى نسلم أن معنى اللاوجود يدعو معنى الوجود، أي إنه يعقل كوجوب مسلوب. ولكن العكس غير صحيح، فإن معنى الوجود مستقل عن معنى اللاوجود، وهذا المعنى الثاني هو الذي يستند على الأول، وهو لا يحد إلا بنفي الوجود، فنقول: «لا وجود»، بينما الوجود هو ما هو، ولا يحد إلا بنفسه، فهو الذي يجب أن يكون موضوع ما بعد الطبيعة.

(٢) دلالة اسم الوجود

بيد أن هذا الموضوع يبدو كأنه لا يشبه سائر الموضوعات التي تنطبق على جزئياتها بنفس المعنى، فيوفر كل منها للعلم الدائر عليه الوحدة اللازمة لتقرير قضايا كلية تستوعب الجزئيات في ماصدقها. هكذا ارتأى بعض الفلاسفة وبعض المتصوفة، قالوا: لما كان الله وحده هو الوجود بالذات ومن ثمة هو الموجود بمعنى الكلمة، فما عداه لا وجود له، وإنما هو مظاهر لله وتجليات. فالتغاير بين الله والمخلوقات، وبين المخلوقات بعضها والبعض، يمنع من إطلاق اسم الوجود إلا باشتراك محض، كما يطلق اسم العين على العين الباصرة وعين الماء والدينار والجاسوس والنابه في قومه، بحيث تكون الوحدة في الاسم فقط، ويكون بين المسميات تغاير تام. وهذا التغاير يُقصر علم ما بعد الطبيعة على الله وحسب، أو يقضي على هذا المسمى علمًا بالتشتت والعبث لعدم انطباقه على موضوع واحد، فإن «القضية التي موضوعها اسم مشترك ليس يلغى لها محمول ذاتي».١١

وجوابنا على هذا الرأي أن الوجود بالذات يستتبع فقط أن الوجود يقال على الله أولًا، ولا يستتبع لا وجود ما عدا الله، ولا يمنع أن ما عدا الله موجود بالله وجودًا حقًّا. إن الوجود يقال كمحمول ذاتي على كل موجود، سواء أكان بذاته كالله، أو بالله، ولكن في ذاته كالجوهر الحادث، أو في غيره كالعرض في الجور، أو ذهنيًّا له وجود في الذهن مع عدم تحققه في الخارج أو استحالة تحققه.

وليس يعني قولنا هذا أننا نذهب إلى الطرف المقابل لاشتراك اسم الوجود، فنزعم أنه يطلق بالتواطؤ، أي بالتوافق والانطباق بمعنى واحد، كما ينطبق اسم الجنس على كل نوع من أنواعه، واسم النوع على كل فرد من أفراده. العامة يظنون أن تجريد المعاني واحد في كل حال، بل هكذا ظن بارمنيدس وسبينوزا وسائر الفلاسفة الاسميين. وقد فاتهم أنه لما كان الوجود في كل موجود واقعًا على الماهية والأغراض جميعًا، وكانت الموجودات متغايرة؛ بعضها بالماهية والأعراض، وبعضها بالأعراض فقط، فليس يمكن تجريد معنى الوجود تجريدًا تامًّا، بل يجب أن يكون المعنى المجرد ههنا مختلطًا غير معين؛ لضرورة اشتماله ضمنًا على ماهيات وأعراض متغايرة. بينما التجريد التام للجنس ممكن دون ملاحظة الأنواع؛ لتحققه هو هو في جميعها، وطروء الفصول النوعية خارج حده كطروء النطق على الحيوانية في الإنسان، وبينما التجريد التام للنوع ممكن دون ملاحظة الأفراد؛ لتحققه هو هو في جميعها، وطروء الأعراض الشخصية خارج حده كذلك. وكما أن القول باشتراك اسم الوجود يركز الوجود في الله فيفضي إلى وحدة الوجود، كذلك يفضي إليها القول بتواطؤ اسم الوجود أي تجريد الوجود معنى واحدًا من كل وجه، وذلك لاستلزام هذا القول اعتبار الفوارق وبين الموجودات مظاهر موجود واحد مقابل للمعنى المتواطئ.

«فلم يبق أن يدل اسم الموجود على الموجودات إلا بضرب من ضروب التشكيك»١٢ الذي هو اتفاق من وجه واختلاف من وجه. والضرب الذي يعنينا في هذا المقام هو الدال على مشاركة حقيقية من كثيرين مختلفين بالماهية في صفة ما، ولكن لاختلافهم بالماهية تجيء المشاركة في الصفة مختلفة في كل نوع منهم، من حيث إن الصفة يجب أن تكون في الموجود على قدره وتبعًا لماهيته، كما لو أطلقنا لفظ العارف على الله وعلى الإنسان والحيوان، فلا شك أن المعرفة هي في كلٍّ على حسب ماهيته لا على نحو واحد،١٣ ويسمى هذا «تناسبًا»؛ إذ إنه يعني أن المعرفة في الله هي بالنسبة إلى الذات الإلهية كالمعرفة في الإنسان بالنسبة إلى الماهية الإنسانية.١٤ والكثيرون المشاركون في صفة مترتبون بحسب درجتهم في الماهية، فتقال الصفة بالذات على أولهم، وبالمشاركة على الآخرين كل تبعًا لدرجته. وبناءً على هذا يطلق الوجود بمعنى حق على كل موجود، لكن بالتناسب، أي مع ملاحظة أن الوجود هو في كل موجود على حسب هذا الموجود؛ وبالترتيب، أي مع ملاحظة أن الوجود يطلق أولًا بالذات على الله واجب الوجود أو الموجود بذاته، ويطلق ثانيًا وبالمشاركة على المخلوقات. وهكذا الحال في أسماء كثيرة، كالوحدة والحقية والخيرية والجمال والعقل والإرادة والحرية وما إليها١٥ فنتفادى وحدة الوجود.١٦

وهناك ضرب من التشكيك نشير إليه ولو أنه لا يتعلق بالمسألة الراهنة؛ ذلك هو الواقع في «أشياء تنسب إلى شيء واحد نسبة تقديم وتأخير، كقولنا في الأشياء المنسوبة إلى الطب طبية، وإلى الحرب حربية» (ابن رشد: تلخيص ما بعد الطبيعة). فيقال اللفظ المشكك بطريق «النسبة» لا بطريق التناسب؛ إذ إنه يدل على صفة في كثيرين، أحدهم أصيل حاصل عليها بالمطابقة، والآخرون منسوبون إليها لعلاقة ما، كقولنا: هواء صحي، وغذاء صحي، ومنزل صحي، ومنطقة صحية … وما إلى ذلك مما هو علة أو وسيلة أو أثر للصحة التي هي للحيوان بالمطابقة وداخلة في تعريف سائر الحدود الثانوية. وظاهرٌ أن اسم الوجود لا يقال بالنسبة على هذا الوجه، وإلا عدنا إلى القول باشتراكه، وقد أبطلنا هذا القول.

(٣) جهات الوجود

بعد هذا البحث في معنى الوجود ننظر في بعض معان متصلة به اتصالًا وثيقًا ومفيدة في تفهمه. أولها معنى اللاوجود، وهو إما سلبي أو عدمي. واللاوجود السلبي نفي شيء ليس من شأنه أن يوجد، كسلب العقل عن النبات والحيوان؛ فليس من شأنهما، أي ليس من ماهية هذا أو ذاك أن يكون حاصلًا على العقل. واللاوجود العدمي نفي شيء من شأنه أن يوجد، كسلب الإبصار أو السمع عن إنسان ما حين نقول إنه أعمى أو أصم. ومع أن لفظ العدم يجيء مرادفًا للفظ اللاوجود السلبي في الفلسفة الإسلامية، إلا أنه مخصص للاوجود العدمي. قال الفارابي: «العدم هو لا وجود ما من شأنه أن يوجد.»١٧ وقال ابن سينا: «العدم هو أن لا يكون في ذات شيء من شأنه أن يقبله ويكون فيه.»١٨ واللاوجود بالمعنيين غير معقول في ذاته كما يعقل الوجود في ذاته؛ إذ ليس له ماهية ولا خصائص ولا علاقات يعقل بها، فلا يتصور إلا كنفي وجود أو عدم وجود. فمعنى الوجود متقدم على معنى اللاوجود تقدمًا ذاتيًّا وتقدمًا إدراكيًّا.
وقد بدا لبعض الفلاسفة أن اللاوجود المطلق؛ كتصور لاوجود العالم قبل وجوده أو بعد زواله، هو معنى زائف متناقض، أو هو مجرد لفظ. قال برجسون: «لا يمكن تصور اللاوجود الكلي دون أن ندرك، ولو إدراكًا مختلطًا، أننا نتصوره، أي إننا نعمل وأننا نفكر، وأن شيئًا ما من ثمة لا يزال باقيًا. وإذن فليس يكون الذهن أبدًا صورة بمعنى الكلمة للاوجود الكلي»، «وأن ما يوجد وما نتصوره هو حضور شيء أو آخر، لا غيبة شيء ما … محال أن ننفعل بالسلب».١٩ وظاهر بعد الذي قلناه أن برجسون يخلط بين تصور اللاوجود وبين صورة اللاوجود. أجل يمتنع تصور اللاوجود الكلي بحيث يشمل هذا التصور اللاوجود الحقيقي للذهن المتصور، ولكن نفي كل وجود هو نفي معنى محصل، وهذا المعنى المحصل هو الذي ننفعل به أولًا، ثم نتصور عدم وجوده. وقد نبهنا على أن من الفلاسفة؛ وعلى رأسهم أفلاطون، من اعتقدوا أن لمعانينا جميعًا مقابلات في الخارج مشابهة لها، ولكن معنى اللاوجود معنى معدول يكونه الذهن بنفي الوجود، على حد قول ابن رشد: «العدم وبالجملة السلب إنما يفهم بالإضافة إلى الوجود.» وقوله: «لا يوجد عدم مطلق كما يوجد وجود مطلق، بل عدم مضاف؛ إذ كان العدم عدمًا لشيء.»٢٠

والمعاني الأخرى التي نقصدها هنا لجلاء معنى الوجود هي تلك التي تذكر في المنطق باسم «الجهات» عند الكلام على القضايا الموجهة، وهي الوجوب والامتناع والإمكان والحدوث؛ ذلك بأننا في كل قضية نعقل النسبة بين المحمول والموضوع، ونعقل جهة وجود المحمول للموضوع. فالوجوب ضرورة ذاتية أو اقتضاء ذاتي. وقد يكون المقتضى عين الوجود، مثل اقتضاء الذات الإلهية للوجود بمحض حقيقتها، من حيث إن الله موجود بذاته أو واجب الوجود، ومثل اقتضاء العلة إيجاد معلولها بعد أن تم استعدادها لإيجاده وانتفى كل عائق خارجي. وقد يكون المقتضى تمام تكوين الماهية؛ مثل وجوب اجتماع الحيوانية والنطقية للإنسان، أو لزوم خاصة جوهرية من الماهية؛ مثل الضحك والموت للإنسان، ومساواة زوايا المثلث الثلاث لقائمتين. وقد يكون المقتضى لزوم تالٍ معين عن مقدم معين متى كان المقدم بديهيًّا أو مبرهنًا؛ مثل: لكل مُتحرِّك مُحرِّك، والعالَم مُتحرِّك فللعالم مُحرِّك. في هذه الحالات يرى العقل وجوبًا في موضوع تعقله، ويجد لزامًا عليه أن يقر بهذا الوجوب، أعني أنه يرى نفسه تابعًا للوجود معينًا به، خلافًا لما يزعم الحسيون والتصوريون الذين لا يعتقدون بثبات الماهيات وثبات العلاقات فيما بينها. وعلى الوجوب وحالاته المختلفة يقاس الامتناع؛ فإن الممتنع بالذات هو ما يقتضي لذاته عدم وجوده، فلا يوجد ولا يمكن أن يوجد لمنافاة جوهرية، مثل المنافاة بين الحيوان الأعجم والكلام، فيمتنع أن يتكلم الحيوان الأعجم. ومثل المنافاة بين أن يكون العالم ناقصًا متغيرًا ويكون موجودًا بذاته، فيمتنع أن يكون العالم موجودًا بذاته.

ويفترق الإمكان عن الوجوب والامتناع معًا؛ فإن الممكن ما لا يقتضي لذاته وجودًا ولا عدمًا، فمتى «فرض غير موجود أو موجودًا لم يعرض منه محال» (ابن سينا، النجاة)، أعني أنه كالممتنع غير موجود، لكن لا بسبب منافاة جوهرية، ومتى وجد وجد كالواجب، لكن لا باقتضاء ذاتي، فيجب أن يعتبر من وجهين: وجه ذاتي ووجه خارجي، الإمكان الذاتي يؤخذ من اتساق الممكن — هذا الموضوع إذا ما أوجد سمي حادثًا. فمعنى الحدوث أن الموضوع الموجود بالفعل وُجد بعد لا وجود، فكان من الممكن ألا يوجد، وأنه وجد بلا وجوب، فمن الممكن ألا يوجد بعد وقت.

هذه الجهات الأربعة ترجع إلى اثنتين: يرجع الممتنع إلى الواجب ويعمهما معنى الضرورة؛ «هذا ضروري الوجود، وذاك ضروري العدم»، ويرجع الحادث إلى الممكن ويعمهما معنى الإمكان أو اللاضرورة.٢١ وهكذا نرى أن للوجود أحكامه، وأن معنى الوجود أول ما يقع في العقل ويظل النبراس الذي يسترشد به العقل. ومن هذا نرى أن ابن سينا، مع تعريفه معنى الوجوب والامتناع بمعنى الضرورة، كان قليل الدقة حيث يقول: «الواجب يدل على دوام الوجود، والممتنع يدل على دوام العدم، والممكن يدل على لا دوام وجود ولا عدم.» هذا القول أقرب إلى المذهب الحسي منه إلى المذهب العقلي الذي كان مذهبه؛ فإن الواجب إنما يدل على دوام الوجود لكون الوجود ذاتيًّا له، في حين أن دوام وجود الممكن لا يحيله واجبًا، وهذا خطأ وقع فيه أرسطو لما أراد أن يستدل بقدم العالم (في عرفه) على ضرورته. وقد كان ابن سينا يعتقد بقدم العالم ويثبت مع ذلك أن العالم ممكن غير ضروري، فيدل على أنه كان يعلم الفرق بين وجوب الوجود ومجرد دوام الوجود. كذلك نقول في تعريفه للممتنع بدوام العدم، فإن مجرد دوام العدم لا يدل على الامتناع، وكم من الممكنات قد لا تكون أوجدت وقد لا توجد أبدًا وهي مع ذلك ممكنات؛ إن دوام العدم للممتنع هو لكونه غير قابل للوجود. وأخيرًا إن الممكن إنما يدل على لا دوام وجود ولا عدم؛ لأن الوجود لا هو من ماهيته ولا هو مناف لها. فالفرق واضح بين معاني الجهات وبين علاماتها الظاهرة.
١  «الموجود لا يمكن أن يشرح بغير الاسم؛ لأنه مبدأ أول لكل شرح فلا شرح له، بل صورته تقوم في النفس بلا توسط شيء» ابن سينا، النجاة.
٢  ابن رشد: تلخيص ما بعد الطبيعة، ص٦.
٣  المصدر السابق، ص٩.
٤  المصدر السابق، ص٩.
٥  ابن رشد: تهافت التهافت، ص٣٠٢.
٦  المصدر السابق.
٧  الغزالي: مقاصد الفلاسفة، ص٣٠.
٨  ابن رشد: تلخيص ما بعد الطبيعة، ص٦.
٩  تعريفات الجرجاني، مادة ماهية.
١٠  Hamelin, Elements Principaux de la representation، وانظر أيضًا ما كتبناه عن هجل في ف ح.
١١  ابن رشد: تلخيص ما بعد الطبيعة.
١٢  ابن رشد: تلخيص ما بعد الطبيعة.
١٣  يستعمل ابن سينا لفظ المشكك، ويستعمل لفظ المشابه ويعرفه بأنه «الواقع على عدة متشابهة الصور مختلفة في الحقيقة لا يكاد يوقف على تخالفها، كالناطق الواقع على الإنسان والفلك (أي نفوس الكواكب كما كانوا يعتقدون) والملك، وكالحي الواقع على الإله والإنسان والنبات وكل ما له نمو وحركة في جوهره» (كتاب النجاة).
١٤  «تقال متناسبة التي تتفق بالصورة لا بإطلاق، لكنها متفقة في الصورة بالأقل والأكثر» (ابن رشد: تفسير ما بعد الطبيعة، ص١٢٩٣).
١٥  انظر كتابنا ف ي وفي الأسماء الإلهية عند القديس توما الإكويني.
١٦  انظر تلخيصنا لرأي أرسطو في مناقشته لمذهب بارمنيدس ف ي.
١٧  آراء أهل المدينة الفاضلة، الفصل الأول.
١٨  رسالة الحدود والنجاة.
١٩  التطور الخالق Evolution creatrice: ص ٣٠٢، ٣٠٦، ٣٠٦.
٢٠  تفسير ما بعد الطبيعة، ص٣٩١، ٨٠١.
٢١  النجاة. ويلاحظ ابن سينا أن «العامة يعنون بقولهم ممكن ما ليس بممتنع من غير أن يشترطوا فيه أنه واجب أو لا واجب، فيكون الممكن مقولًا على الوجوب كالجنس له؛ لأن الواجب غير ممتنع في المعنى. وأما الخاصة فإنهم وجدوا معنى ليس بواجب ولا ممتنع (وهو الممكن)، فيكون الواجب خارجًا من هذا الممكن، فيجتمع من هذا أن الواجب يقع في الممكن العامي ولا يقع في الخاصي».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤