الزعامة الحديثة وانقياد الأمم والفرق بين البطولة والزعامة

ينظر الملأ الآن إلى الحبشة ويعتبرها بعضهم قلب العالم الذي يخفق، كما ينظر إلى إيطاليا وما هي مقبلة عليه بعدما بذلت من صنوف الاستعداد، واتخذت من وسائل، فلا يتبين الناظر في الحالتين شعبين في الشرق والغرب يخوضان حربًا طاحنة، ولكنه يتبين زعيمين كبيرين أحدهما رفعه إقدامه وسعة حيلته من مصاف الأمراء إلى دسْتِ المُلك وعرش الإمبراطورية، وقيل إنه سبط يهوذا، وسلالة الملك سليمان الحكيم من بلقيس ملكة سبأ، وهو يمثل أمة من أعرق الأمم في حب الحرية، والذود عن حياضها.

والثاني رجل من الشعب نشأ نشأته، وعانى في بداية حياته ما يعاني أمثاله حتى بلغ ذروة السلطان في وطنه، وبلغ قمة المجد والنفوذ بين بني جلدته، وهو الآخر يمثل أمة كانت من أعرق الأمم في المجد الحربي والسياسي، وكانت لها السيادة على العالم في عصر من أمجد عصور الحضارة الوثنية، ولكنه تقلَّب في مواطن الأحزاب ومذاهب السياسة.

ولعل التناطح بين الشعوب ليس إلا تطاولًا بين الزعماء، ومظهرًا لقوة إرادتهم، ودليلًا على رغبتهم في الفوز والانتصار على مزاحميهم في ميادين المجد، وعلو الصيت، وضخامة الشهرة، وخصوصًا في البلاد التي لا تكون فيها الأمة مصدر السلطات.

ولدى كل أمة من الأمم مؤثرات وعوامل فكرية تُؤثِّر في نفوس بنيها، ولا تكون الزعامة الصحيحة إلا لمن يعرف كيفية استعمال هذه المؤثرات والعوامل التي تُؤثِّر في النفوس، فإذا ما اهتدى الزعيم أو المرشح للزعامة إلى تلك العوامل، وكيفية استعمالها، تمكَّن بسهولة من جمع الأفكار، وتوحيد الإرادات الفردية حول فكرته الخاصة وإرادته.

وهيهات أن ينجح الزعيم ما لم يكن مسحورًا بالفكرة التي صار داعيًا إليها حتى تستولي عليه استيلاءً لا يرى معه إلا الفكرة التي يُنادي بها. وبدون هذا «الإيحاء الذاتي» لا يمكنه أن ينجح في التأثير في أذهان الجماهير؛ لأنه لا شيء يُحرِّك همتهم مثل مظهر الإيمان الذي يبدو على شخص الزعيم، وإن يكن بعض الزعماء أو قادة الفكر ليسوا من النوابغ في صدق الآراء، وصحة النظر، إلا أنهم من أهل الهمة العالية، وذوي الإقدام والعمل.

والفرق بين الفيلسوف والزعيم هو أن الفيلسوف كثير التأمل، والتأمل يؤدي إلى الشك، والشك ينتهي بصاحبه إلى السكون دون الحركة؛ لأن الحركة لا تصدر إلا عن تصميم الإرادة، وهذا لا يكون إلا ثمرة لليقين. أما الزعيم فلا يتأمل ولا يشك، وحينئذ لا يركن إلى السكون، بل يدفعه عدم التأمل إلى التصميم فالحركة.

وإذن تكون قوة الإرادة للزعيم أنفع من سلامة الرأي، وصدق النظر، وحسن التبصر في العواقب، ولكن الذي يفقدونه من تلك الناحية تعوضه عليهم قوة اعتقادهم في سلطانهم على الجموع. وتلك الجموع لا تصغي إلا لذوي الإرادة القوية الذين يتسلطون عليها، ويملكون زمامها، فإذا ما أصبح صوت الزعيم مسموعًا من جماعة، اندمجت إرادتها في إرادة الزعيم وتناست شخصيتها، والتفت حول الزعيم ذي الإرادة المتحدة.

وأول ما يصنعه الزعيم هو أن يخلق المعتقد في النفوس، سواء أكان المعتقد سياسيًّا أم دينيًّا، ولكن هذا المعتقد الذي يخلقونه في نفوس الجموع يكون دائمًا قد نشأ وترعرع ونبت ونما في نفوسهم. وأصحاب العقائد الجليلة لم يستطيعوا جذب القلوب إليهم إلا بعد أن ترنحوا هم بتأثير الفكرة التي أرادوا انتشارها، فأوجدوا بقوة إرادتهم قوة التصديق التي هي الإيمان، ومن كان مؤمنًا زادت قوته أضعافًا، فالإيمان قوة عند الزعيم، وقوة عند الأتباع من المؤمنين بصدق الزعيم.

ولا تخلو أمة من الأمم في وقت من الأوقات من القواد، غير أنهم جميعًا ليسوا من أهل الإيمان الصادق الذي يرتقي به صاحبه فيصبح رسولًا في أمته، ومبعوثًا لبني جنسه، بل إن منهم رجالًا يحسنون القول، ويتقنون الدعاية لأنفسهم، ولا يلتمسون الزعامة إلا سعيًا وراء منافع أشخاصهم، فيوقظون في أخلاق الأمة مراكز الشهوات ومشاعر الأهواء؛ ليكسبوا رضاء الطبقات النازلة، وقد تتسع دائرة نفوذهم، وتنمو قوتهم، ولكن أعمار أمثال هؤلاء الزعماء قصيرة، وأعمالهم سريعة الزوال.

إن الزعامة في أول أمرها لا تحتاج إلى الاستبداد، والمُشاهَد أن الذين قاموا بكبريات حوادث التاريخ أفراد من المؤمنين الضعفاء الذين لم يكن لهم حول ولا طول سوى العقيدة، سوى الإيمان! ولكن متى وصل الزعيم إلى غايته احتاج إلى الاستبداد ليحتفظ بها.

لا ننكر على الفريق الأول مظاهر الحدة والشجاعة والإقدام؛ ولذا تراهم سُكارى بفكرتهم، قد أطاعوها فامتلكتهم قبل أن تمتلك أتباعهم، وتراهم يجذبون الجماهير كما يجذب المغناطيس الحديد، فتترامى الدهماء والعامة في أحضانهم، ويعتنقون مذاهبهم بدون تأمل أو تفكير … ولو كانوا محاربين، فإن الجيوش تنقاد لهم انقيادًا أعمى، وقد يكون بين رجالهم وقادتهم من هم أقدر منهم، وأكفأ في فنونهم، ولكنهم لا يكادون ينتهون مما ندبوا أنفسهم له حتى تتوارى تلك المواهب، ويدخلوا في الصفوف كبقية الخلق.

والفريق الآخر قد يكون أفراده أقل فخامة وأبهة في الشكل والمظهر، ولكنهم أدق تكوينًا، وأوسع دائرة، وأقوى نفوذًا؛ لأن لهم موهبة الدوام.

اعتماد الزعماء على الخطابة وتثبيت دعوتهم في الأذهان

ويعتمد الزعماء جميعهم في تبليغ دعوتهم على الكلام والخطابة والكتابة، وكل زعماء العالم اشتهروا بالفصاحة وقوة التأثير في الجماهير، ومنذ عهد سقراط إلى يومنا هذا مرت العصور بزعماء ملكوا زمام أتباعهم بقوة الكلام، حتى إن الأديان المنزلة بعثت لها العناية بأنبياء فصحاء حكماء، وزوَّدتهم بكتب مُنزَّلة. وحتى موسى — عليه السلام — طلب من الله أن يحل عقدة من لسانه ليفقهوا قوله.

وكانت عمدتهم على تكرار جوامع الكلم لترسخ في أذهان سامعيها، وإذا أنت رجعت إلى خطب زعماء الشعوب فلا تجد إلا المعاني نفسها قد أفرغت في قوالب شتى؛ وذلك لأنهم يعلمون بغريزتهم وإدراكهم الباطني أن التكرار يترك أثرًا عميقًا في أذهان الخاصة والعامة على السواء، وكما ينتقل الفكر من عقل الزعيم إلى عقل السامع؛ فهو يثبت ويرسخ؛ لأن ذاكرة السامع تتشبث به.

فالزعيم حاذق في حفر فكرته في أذهان أتباعه، فإذا فاز الزعيم في غرْس فكرته في أذهان البعض فقد ضمن الفوز على الجميع بحكم العدوى المعنوية والتقليد، وهما قوتان عظيمتان كائنتان في الجماهير تدعمان مواهب الزعيم، وتشدان أزره.

وقد تبدأ الأفكار في الطبقات النازلة ثم ترتقي إلى الطبقات الوسطى فالعليا مثل انتشار أفكار الثورة الفرنسية، وارتقائها من طبقات الشعب إلى الوزراء والعلماء، وكذلك الأديان فإنها تنتشر أولًا عند المظلومين والمعوزين والمحتاجين إلى استعادة كرامتهم وحقوقهم. وهذا سر انتشار النصرانية بين الضعفاء والفقراء، وقد سادت الاشتراكية أولًا طبقات العمال حتى وصلت إلى العظماء، فصار منهم اشتراكيون متطرفون، وكان عدد الذين دخلوا في زمرة الإسلام من الأغنياء والكبراء محدودًا، ثم أقبل عليه كل فقراء مكة والجزيرة؛ لأنه دين مساواة «وأكرمهم عند الله أتقاهم»، فاستظلوا بسلطانه عليهم.

فالعمال لا يخضعون، والزراع لا يطيعون أحدًا إلا إذا كان ذا نفوذ قوي عليهم، ولأن الأفراد إذا اجتمعوا شعروا بالحاجة إلى الطاعة، وهم يخضعون لمن ادَّعى السيادة عليهم.

وقد أدت تلك الحالة وضعف الحكومات في بعض ممالك أوروبا إلى حلول بعض الزعماء محل السلطات الحاكمة، ومحو تلك السلطات وتلاشيها في أشخاصهم.

وقد تجلَّت الزعامة الحربية في رجال أمثال نابليون بونابرت الذي جمع بين صفات الزعامة، كقوة الإرادة والقدرة على إقناع الجماهير، وبين الكفايات الحربية والسياسية التي أهلته إلى الانتفاع بمواهب الزعامة في إنتاج أعمال مثمرة لوطنه ولنفسه.

وقد دلَّت دراسة أخلاق الزعماء ونفسياتهم على أن نوعًا منهم حبته الطبيعة بالحزم والعزم والإرادة الثابتة، ولكنها منحت تلك المواهب إلى حين، وهؤلاء يشبهون النجوم ذوات الأذناب التي لا تلبث أن تظهر وتخترق الجو في سرعة مدهشة حتى تختفي.

أما النوع الآخر فقد حبته الطبيعة بالمواهب الكاملة وقوة الإرادة مع الثبات والدوام والاستقرار، فالنوع الأول أمثال روبسبيير، وغاريبالدي، وميرابو، ودانتون، والنوع الثاني أمثال الأنبياء، وكبار المصلحين.

وإن هذا الرأي لا يُنافي الحقيقة الواقعة، وهي أن أصل الأفكار الكبرى المحركة للعالم تبدأ عند العظماء، ثم تنتشر رويدًا في الدهماء، ثم ينتحلها الخاصة بحكم التقليد، أو الاقتناع الوقتي، أو الاضطرار حتى تصير حقائق راسخة.

وقد تمضي حقبة طويلة لتمام هذه الدورة العجيبة.

فإذا ما بث الزعيم من أي نوع، فكرته في أتباعه؛ أمست له عليهم سيطرة وسلطان ونفوذ. وهذه المظاهر تُولد الطاعة والاحترام حتى يصلا إلى أعلى درجات الإعجاب التي تشبه العبادة؛ ولذا ترى القرآن يذكر النبي والمؤمنين بأنه مُذكِّر، وليس عليهم «بمصيطر»، أي منفرد بالسلطان، ولكن السيطرة المعنوية كائنة لا ريب فيها.

وهذه السيطرة واسعة النطاق حتى إنها تدب في نفوس التابعين في حضرة الزعماء وغيبتهم، وحتى بعد موتهم تكون لهم طاعة تامة؛ فيمتد سلطانهم إلى ما بعد الموت بمئات السنين أو ألوفها.

وقد يقوى هذا النفوذ كلما تغلغلت آثار الزعيم العظيم في أحشاء الزمان كما هو المُشاهَد في تأثير الأنبياء وكبار القادة والحكماء، فيكفي أن تذكر رسالة محمد عليه الصلاة والسلام، أو عدل عمر، أو صداقة أبي بكر، أو حكمة سقراط، أو هيمنة بونابرت حتى تستعيد ذكراه وأعماله، فيكاد يكون لديك ماثلًا.

وإذا سارت فكرة السيطرة في النفوس قضت على فكرة الانتقاد أو المحاسبة، فيمسي كل ما يقوله الزعيم ويفعله، أو ما قاله وفعله فوق البحث، وبعيدًا عن دائرة التمحيص، ويمسي الأتباع أو المؤمنون كأنهم مسحورون؛ ولذا وصف القرشيون محمدًا بأنه «ساحر» لا لبلاغة القرآن فقط، بل لقوة الرسول في اجتذاب القلوب وتأليفها.

وهذه السيطرة قد تستمد من شخصية الزعيم كما كانت الحال لبونابرت، أو من مكانته في المجتمع وشهرته بعلمه أو منصبه أو ماله. وهذا هو السر في اختراع الأزياء الرسمية، والملابس المزينة، والأوسمة، والنياشين، والعلامات الدالة على الرتب، ولكن هذه الوسائل المصطنعة لتكوين السيطرة وخلقها في النفوس لا حاجة بها لمن حبتهم الطبيعة بالقوة الشخصية الجذابة التي لا تحتاج إلى كلام، أو وعيد، أو تهديد، أو ثياب مزركشة تجعل لابسها كالخيل المطهمة!

ومن هذا القبيل ما وقع بين محمد وعمر بن الخطاب؛ فإن نظرة من النبي كفت لتغيير قلب عمر، فقد كان أشد الناس بغضًا له، ثم انقلب من أخلص أصدقائه، وأطوع أتباعه، وهذه القوة الجذابة تُحير الناظر إليها، وتُوقع في قلبه الرعب، وما تزال الحيرة والرعب حتى يتمكن حب الزعيم من قلوبهم.

ثم يأتي النجاح، فيتوج عناصر المجد التي يحتاج إليها الزعيم، فيفرح أتباعه به، وتتوطد أركان محبته في قلوبهم، فيؤمنون به، ويضحون بأنفسهم في سبيله؛ لأنه يُصبح حقيقة خالدة ثابتة لا تهتز ولا تتزعزع. وقد يكون النجاح وحده سببًا للعظمة ولاحترام الجماهير؛ لأن النفس البشرية مفطورة على الإعجاب بالناجح «ولأُمِّ المخطئ الهَبَل» ليس عند العرب وحدهم، بل عند كل الأمم.

فإذا كان كل عماد الرجل في السيطرة على ما يواتيه من النجاح، فإن هذه الدعامة ضعيفة، بل منهارة؛ لأن النجاح أمر وقتي، وليس مضمونًا دائمًا، ومن يُصادفه النجاح اليوم قد يُخطئه غدًا.

ولكن الزعيم الصحيح هو الذي يعتمد على مواهبه الفطرية، ثم يأتيه النجاح فيزيده سلطة ونفوذًا، ولكن هذا النفوذ لا يجوز أن يكون عرضيًّا بحيث إذا تركه النجاح يومًا فلا يقلل ذلك الإخفاق من سلطانه على النفوس.

وقد رأينا في تاريخ الزعماء أن الفشل لا ينال منهم (موقعة أُحُد في تاريخ محمد عليه الصلاة والسلام)، بل قد تنقلب العادة، فيقوى مركزه بالفشل؛ لأنه يعد نفسه لنجاح أعظم وأبهر من الذي فَقَدَه.

وقد تخلق الشعوب أربابًا تعبدها!

وكثيرًا ما يحدث أن تتخذ الجماعات أو الأمم رجلًا عاديًّا ضئيلًا ثم ينسبون إليه من العظمة والجبروت ما هو مستعار من أحوال عصره، وظروف وقته، فيكون الوقت هو الذي أحدثه وشهره، فهو ابن الوقت، وكل ما جرى على يديه هو من فعل الوقت لا من فعله.

وأكثر ما تكون هذه الظاهرة عقيب الفواجع الكبرى في التاريخ كالحروب العظمى، وحلول الحيرة في أذهان الأمم محل الهدوء وحسن النظر، ولا سيما إذا كانت الأمم التي يظهر فيها أمثال هؤلاء الزعماء أو الأبطال خارجة مهزومة من حرب، ومكتومة الأنفاس بفعل أرباب رءوس الأموال، الذين يخشون تفوق المذاهب الاجتماعية الحديثة كالاشتراكية، فهم يموتون في جلودهم خشية توزيع الثروات، أو ضياع أماكنهم الدافئة المطمئنة، فيتشبثون بأهداب أضأل المخلوقات وأضعفها، إذا كان أحد هؤلاء الضعفاء مصبوغًا بصبغة المغامرة والمجازفة، أو مطمورًا في حفرة اليأس، ويريد هو الآخر أن ينجو بجلده من الفاقة.

وأكثر ما يوجد هذا الصنف من الرجال بين أدعياء السياسة، والمتهالكين على درجات سلم الوصول إلى المال والمنصب، ويكونون عادة من ذوي الأعصاب المنهوكة، والقوى المتداعية، فيدفعهم اليأس والضعف والمرض إلى الاستهتار بالحياة، فيلعبون بالورقة الأخيرة، ويطلقون الخرطوشة الأخيرة، وينزعون القميص الأخير، ويخرجون بالجملة من جلودهم كما تخرج الثعابين والأفاعي، فيقلبون لذويهم وأصدقائهم بالأمس ظهر المجن، ويتخلون عن المبادئ التي كانوا يقدسونها بالأمس، ليجدوا سندًا وعضدًا من خصوم اليوم الغابر.

وهؤلاء يجدون فيهم أدوات صالحة لتنفيذ غاياتهم، وما عليهم إلا أن يظهروا لأهل الأمس بالمعاداة والمقارفة والمعاكسة والمشاكسة، ويبادروا أول ما يبادرون إلى إلقاء أصدقاء أمس الدابر في المهالك تحبيسًا، وقتلًا، واغتيالًا، وتحقيرًا، ونفيًا؛ لأنهم هم الواقفون على أسرارهم، والملمون بأخبارهم، والعالمون بما ظهر وخفي من أمورهم، وفي الأغلب يكون ما خفي هو الأعظم!

ومهما يظهر من الخير على أيدي هؤلاء فإنه وقتيٌّ وزائل، كالزرع الذي يختلقه «الحاوي» ينمو لساعته وتحت أبصار النظارة، ويزكو في أرض غير خصبة بغير بذور ولا «تقاوٍ»، ولكنه لا يلبث أن يذوي، ويذبل، ويتلاشى، ويختفي، ويغيب عن أعين المعجبين به، ويتلوه القحط — والعياذ بالله — والخراب!

والحقيقة أنه ما كان عصر من العصور ليخرب ويتلف لو أن أتيح له رجل كبير يجمع بين العقل والتقوى، بين عقل يعرف به حاجة العصر، وعزم يمضي به في إبلاغ العصر حاجته، وفي هذين صلاح العصر وفلاحه، ولكن العصور الحديثة، ولا سيما بعد الحرب الكبرى من ١٩١٤ إلى ١٩٣٥ ظهر أنها عصور ضعيفة واهنة، مصابة بالبلاء والحيرة والشرور والخبائث؛ بسبب علة أذهانها الشاكة المرتابة العاجزة، وأحوالها المختلطة المضطربة، يحدوها سائق الشقاء إلى غاية التلف … نُشبِّه كل هذا بحطب يابس ميت ينتظر من السماء شهابًا يشعله، فإذا ما ظهر نيزك من النيازك الخلابة، التي تخترق الأفق وتنحدر منحرفة، ظنوه ذلك الشهاب الثاقب! وسرعان ما يترامون على وهمه وخياله وصورته، فتضيع عليهم الحياة بآمالها، ويهلكون في أثر هذا الشعاع الكاذب أو سراب النور الخادع.

تأثير الخطب الرنَّانة والكلام الطنَّان في مصائب الشعوب

ونحن بلا ريب في جيل قحط وبؤس وجفاف، وحطب يابس، وجحود وكفر وضلال، وهو جيل تسبقه، وتلحقه، وتحدوه، وتعقبه الفتن والثورات التي تكون مملوءة بدلائل الاضمحلال والبلى والخراب، وسقوط الدول في مهاوي الاستبداد، وتدهور الشعوب في مغاور اليأس، وكهوف القنوط؛ ولذا تراهم يتمسكون بأضعف المذاهب، وأوهاها، وأذلها، وأقلها، ويجرون وراء كل صاخب.

فداء الضعف في الجيل، وفي ضآلته، ومرضه، واعتلاله، واختلاله، واضمحلاله، وانحلاله. هذا هو ما نراه سر الوثنية الإنسانية التي أدت إلى عبادة بعض الأشخاص الذين ألهاهُم الجهل وقِصرُ النظر، فأفرطوا في العجب والاندهاش من الشيء أو الشخص حتى يصيرا تقديسًا وعبادة.

ويكون اعتماد جميع هؤلاء الزعماء والأبطال على الخطابة للتأثير في أذهان الجماهير، التي يستغويها زخرف القول، وتستهويها عذوبة الألفاظ، وتغرر بها الوعود الخلابة.

وليس معنى هذا أن الجماهير تعيش بلا عقل ولا تفكير، أو أنها لا تتعقل ما تسمع، أو لا تتأثر بالمعقول؛ لأن المُشاهَد عكس ذلك، والاختبار دلَّ عليه، ولكن الفرق بين الفرد والجماعة في طريقة التعقل والاقتناع هو أن طبقة الأدلة التي تقيمها الجماعات تأييدًا لأمر من الأمور، أو التي تؤثر عليها منحطة جدًّا من الجهة المنطقية، فلا يصدق عليها اسم الدليل إلا من باب التشبيه.

فتعقل الجماعة عبارة عن الجمع بين أشياء متخالفة لا رابطة بينها إلا في الظاهر، والانتقال الفجائي من الجزئي إلى الكلي، ومن التخصيص إلى التعميم بلا تروٍّ. والأدلة التي يُقدِّمها إليها أولئك الزعماء والأبطال الذين عرفوا كيف يقودونها كلها من هذا الطراز؛ لأنها هي الأدلة التي تؤثر فيها بخلاف سلسلة من الأدلة المنطقية فإنها لا تدركها.

وكثيرًا ما تعجب أيها القارئ عند مطالعة بعض الخطب (التي تسبق الحروب أو الحركات القومية في بعض الممالك المفتونة بعبادة هذا الزعيم أو ذاك) من التأثير العظيم الذي أحدثته في سامعيها على ما بها من الضعف والركاكة، وذلك العجب منك لأنك نسيت أن تلك الخطب قد وُضِعت خصيصًا لتؤثر في الجموع الزاخرة، والجماهير الحاشدة، لا ليقرأها العلماء أو أهل المنطق.

وهكذا تجد الزعيم الخبير بأحوال جماعته، الواقف على بواطن أمورها، المُلِم بنفسيتها، يعرف طريقة استحضار الصور التي تجتذبها، فإذا نجح فذلك غاية ما أراد، ولو أن أكبر العلماء وأقدر الساسة ألَّف مئات الخطب في عشرين مجلدًا بعد ذلك ما كان لها من التأثير ما أحدثته تلك الكلمات التي دخلت في الرءوس المراد إقناعها.

ولسنا في حاجة إلى القول بأن عدم قدرة الجماهير على التعقل الصحيح يذهب بملكة النقد، فتمسي غير قادرة على تمييز الخطأ من الصواب، فلا تحكم حكمًا صحيحًا في أمر ما.

عاقبة الظلم والتعدي على القريب والبعيد

يعد هذا القول منا بمثابة كشف القناع عن أسرار بعض المظاهر السياسية والاجتماعية التي نراها، ونحار حينًا في تفسيرها وتعليلها؛ فلو رأينا رجلًا واحدًا يظهر فجأة لينادي بمبادئ تُخالف ما كان يتبعه بالأمس، وخلفه رجال يشدون أزره باسم الدولة والمجد، ثم يقود قومه بمفرده إلى الهاوية، ويدفعهم إلى الهلاك فرِحًا مستبشرًا، وهم لا يترددون ولا يفكرون في مصيرهم، وعماد هذا الرجل في تلك المجزرة البشرية، والتردي في مهاوي الدمار خُطبه التي يلقيها من على ظهر جواد، أو على قمة جبل، أو مرتكنًا على دبابة أو مدفع، فاعلم أنه من هذا الطراز الذي سبق وصفه، وأن ما سبق له من إصلاح أو خير في عمار دار، أو ترميم جدار، إنما كان نوعًا من استدراج الشيطان له ولقومه حتى يلقوا حتفهم، ويقعوا في أحضان الفناء بمحض رغبتهم واختيارهم، وإن هذا الاستدراج الشيطاني قد أصَمَّ آذانهم، وأعمى أعينهم، وكف أبصارهم، وطمس على قلوبهم فلم يسمعوا نُصحًا، ولم يتبعوا هداية.

بل إن هذه القلوب نفسها لم تلن أمام أنَّات الإنسانية المعذبة، وتلك العقول التي كان دأبها الإدراك، أو من طبيعة تركيبها ينبغي لها الإدراك قد فقدت أدوات التفكير، وانقادت انقيادًا أعمى وهي تنادي من أعماق قلبها ليحيا الإمبراطور، أو الزعيم، أو الملك العظيم! وما نداؤها وهتافها وتحيتها إلا للشيطان الرجيم الذي ملأ النفوس بالغرور، وأذهب من ذوي العقول عقولهم ليعودوا سيرتهم الأولى من الانحدار والانحطاط والسقوط.

إذا قال زعيم صيني في خطبة: إنني أحارب لأعيد مجد منشو القديم، وأجدد عظمة شنج لي-كنج، وأبعث جلال فو-شو-لو من مرقدها، فإن أهل بكين وشنجاهاي وكانتون ونانكين يصغون إليه في خشوع وخضوع، ويحملون السيوف والبنادق وراءه ليحاربوا، ليفنوا، ليجددوا المجد!

كذلك إذا نادى روماني قديم بأنه يحارب لإعادة مجد روما الداثر، وإقامة حظها العاثر، فالبسطاء من قومه يصدقونه، ويسيرون وراءه عملًا بقول نابليون بونابرت في مجلس شورى الحكومة:
إنني أتممت حرب الفندائيين لما انتحلت الكثلكة، واستوليت على مصر إذ أسلمت، وتُوِّجت بالظفر في حرب إيطاليا لأني قلتُ بعصمة البابا، ولو كنتُ أحكم شعبًا يهوديًّا لأعدتُ بناء معبد سليمان.١

ونحن إن أنكرنا على بطل أو زعيم ذكاء العقل، أو بُعد النظر، أو حب الخير، أو العطف على قومه، أو التقلب في المبادئ، أو قلب ظهر المجن لأصدقائه وسادته بالأمس، فلا نُنكر عليه المهارة والحذق في معرفة كيفية التأثير في خيال الجماهير؛ فقد أتقنه بالفطرة، أو أنه كان قوة كامنة في حنايا ضلوعه، وفي أركان عقله الباطن، حتى أظهرته الحوادث.

وقد ظهر لنا وللعالم أجمع أن التأثير في خيال الجماعات كان همه الدائم، فلم ينسه في فجر حياته ولا في ضحاها، ولم يهمله في مغامراته الأولى والأخيرة، ولم يفرط فيه في انتصاره وخذلانه، لا في أقواله وأفعاله، ولا في عمل من أعماله، بل هو يفكر فيه ليل نهار، وسوف يفكر فيه على سرير موته بعد عمر قصير أو طويل.

وإن هذه الخطب لتوهمن سامعها أن هذا النظام أو ذاك الذي ابتكره زعيم من الزعماء هو الذي جعل أمة من الأمم القديمة أو الحديثة سعيدة أو غنية، وهذا خطأ من الأخطاء المعنوية التي تشبه خطأ البصر أو السمع الذي قد يؤدي إلى سوء الاستنتاج في المرئيات والمسموعات؛ لأنه ثبت بالاختبار التاريخي أن التأثير الحقيقي في حياة الشعوب لا يكون من طريق النظم أو تغييرها.

فلا يمكن أن يقال الجمهورية أفضل من الملكية، أو الديكتاتورية أنفع من الديمقراطية، فإذا نظرنا إلى جمهورية الولايات المتحدة رأيناها ترفل في حلل الرخاء، وتخطر في جلباب السعادة بفضل نظمها الديمقراطية، حتى إذا رجعنا إلى الجمهوريات الإسبانية الأمريكية (وهي التي تتمتع بنظام جمهوري كالولايات المتحدة) ألفيناها تتعثر في أذيال التقهقر والفوضى، وحكمنا بأنه لا دخل لتلك النظم في سعادة الأولى، ولا في شقاء الثانية، وبأن الذي يحكم الأمم إنما هو أخلاقها، وكل نظام لا يندمج مع هذه الأخلاق ويمتزج بها تمام الامتزاج يكون أشبه بالثوب المستعار. وهو ستار لا يدوم.

لقد قامت حروب دموية، وهبت ثورات عنيفة، وستقوم حروب وتهب ثورات، وكان الغرض منها وسوف يكون إلزام الأمم بنظم يعتقد الناس أنها مجلبة السعادة، وقد يقال: إن النظم تؤثر في نفوس الجماعات لأنها تفضي إلى مثل تلك الحروب والثورات، والصحيح أن لا تأثير لها البتة؛ لأنا قد عرفنا أنها لا قيمة لها في ذاتها، سواء أكانت الغلبة لها أم عليها، وإنما الذي يُؤثِّر في الجماعات أوهام وألفاظ، وعلى الأخص الألفاظ الخيالية.

وقد تؤدي تلك الألفاظ الخيالية القوية إلى المطامع القومية، والحروب الاستعمارية التي يصحبها إهراق الدماء، وخراب الممالك، والتعدي على الشعوب الآمنة المطمئنة، وتقويض أركان السلم في أنحاء العالم القريبة والبعيدة.

وقد كان لبعض رجال السياسة في أوروبا، ولا سيما في الأمم اللاتينية أسوأ الأثر في حياة شعوبهم، ومن هؤلاء الرجال جورج كلمنصو الذي كان يُسمى بالنمر، وسُمِّي «أبا النصر» Pére de la victoire، ثم أهملته الأمة الفرنسية أعظم إهمال ونبذته؛ لأنها قرنت اسمه بكل أهوال الحرب ومصائبها.

كانت إشارة من هذا الرجل تكفي لقلب الوزارة، وقد أوضح أحد الكُتَّاب مقدار تأثير ذلك الوزير في الكلمات الآتية: «إنا مدينون لموسيو فلان وحده بكوننا اشترينا التونكين بثلاثة أضعاف ما تساويه، وبكوننا لم نضع في مدغشقر إلا قدمًا متزعزعة، وبكوننا غلبنا في مملكة كاملة جنوب نهر النيجر، وبكوننا أضعنا ما كان لنا من النفوذ الخاص في الديار المصرية. ألا إن نظريات موسيو (فلان) قد كلَّفتنا من الخسائر أكثر من مصائب نابليون الأول!»

figure
سنيور بنيتو موسوليني زعيم إيطاليا ومحرك الحرب الحبشية الإيطالية.

وهكذا كانت عاقبة بوانكاريه في فرنسا، ولويد جورج في إنجلترا، وودرو ويلسون في أمريكا، وغليوم الثاني في ألمانيا، ونابليون الثالث في الإمبراطورية بعد حرب السبعين، وكل هؤلاء كانوا من أكابر الزعماء والوزراء، وبعضهم ملوك، فما بالنا بمن هم أقل منهم بدرجات ومراحل، أمثال سنيور بنيتو موسوليني وأضرابه؟!

١  أخطأ الأستاذ أحمد حافظ عوض في كتابه «فتح مصر الحديث» في قوله إن نابليون بونابرت لم يسلم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤