إعراض إيطاليا عن نصح الناصحين وخسارتها الفادحة في المال والرجال في إريتريا

منذ استعمارها في سنة ١٨٨٨ إلى الآن

لا يعلم إلا القليلون من الطليان وغيرهم قيمة ما تتكبده إيطاليا من الخسائر الفادحة من الرجال والمال منذ خمسين عامًا في أفريقيا الشرقية، وقد قدره أحد الإحصائيين بأكثر من خمسين مليون جنيه من المال، ومليونين من الرجال بين قتلى وجرحى وصرعى قضوا نحبهم بالأمراض والأوبئة.

وإلى القارئ العربي بيان وجيز، مع العلم بأن هذه الحرب الناشبة كلفتهم إلى الآن أكثر من ثلاثين مليون جنيه.

في أواخر القرن التاسع عشر، وبعد استيلاء فرنسا على تونس ببضع سنين نزلت حملة عسكرية قوامها عشرون ألف جندي بقيادة الجنرال سانما رزانو بمصوع.١

وكانت إيطاليا تعلم أن محاربة الحبشة ليست أمرًا سهلًا، ولا مأمون العواقب، فرجت إنجلترا في الوساطة بينهما، فنفذت بريطانيا رجاء إيطاليا، ولكن الرأس يوحنا لم يقبل الصلح، ولكنه أحجم عن مهاجمة الطليان، وأعرض عن تحريض رأس الولا، وتربص مدة في معسكره بلا حركة إلى الأمام أو إلى الوراء، ثم انسحب إلى الداخل تاركًا الجيش الإيطالي وشأنه، فخاف الجنرال سانما رزانو وقواده الأربعة: جانه، ولانزا، وجاني، وبالديسارا عاقبة اقتفاء أثر الأحباش، ورجعوا بقسم من الجيش الإيطالي إلى إيطاليا، وبقي القسم الآخر في جوار مصوع.

ولما تولى منليك الثاني ملك الحبشة، بعد مصرع يوحنا في القلابات (١٨٨٨-١٨٨٩)، ثار عليه أهل مقاطعة تيغري؛ بحجة أحقية رأس منغاشا بن يوحنا في العرش الإمبراطوري، وكان هذا الرأس أميرًا على المقاطعة المذكورة. فلما رأى منليك ذلك طلب إلى القائد الإيطالي بالديسارا أن يحتل أسمرا بجنوده الطليان؛ ليتمكن منليك من إرغام التيغريين على الرجوع إلى طاعته.

ولما كان بالديسارا طموحًا، فقد فتح مدينة كرين في مقاطعة بوغوس، وبلغ أسمرا في ٣ أغسطس سنة ١٨٨٩. وفي ديسمبر من تلك السنة سافر بالديسارا إلى إيطاليا، وحل محله الجنرال أورارو فتوغل في البلاد.

وكان منليك استعاد قوته ونفوذه و«شم نفسه»، فاحتجَّ على أعمال القائد الإيطالي، ولكن احتجاجه لم يثمر، وعيَّنت إيطاليا الجنرال جاند ولفي واليًا على إريتريا، واعتبرتها مستعمرة إيطالية، وما زالت تحارب الأمراء والرءوس، وتخضع الأهالي تارة، وتمالئهم طورًا.

وقد اتخذ الطليان في مستعمرة إريتريا خطتين سياسيتين؛ الأولى: سياسة شوا ومنليك، والثانية سياسة تغري ورأس منغاشيا، فكانوا يبحثون عن الطرق والوسائل التي تعود عليهم بالمنفعة من التفريق بين هاتين المقاطعتين، عاملين بمبدأ «فرِّقْ تَسُد»، فكانوا إذا لاينهم منليك انقضوا على منغاشيا، وإذا مال إليهم منغاشيا انفضوا من حول منليك.

وكانت نتيجة تلك السياسة الإيطالية معاهدات وحروب، منها معاهدة مارب، ومعاهدة أوكسياللي، وموقعة حالايا مع باثا آغوس، وفتنة أسماسق آباررا، الذي أثبت أن التعلم في مدارس الطليان، والاصطباغ بصبغتهم لا يُضعف القومية، ولا يُوهن من حب الوطن، بل قد يُشعل نار الإخلاص للوطن في نفس الشجاع، وواقعة قواتيت، ومعركة سه نافا، واحتلال تيغري، وهزيمة أمبا الأجي، وحصار مكلا، وثورة عقامة، وموقعة لينا، وحرب إله فا.

ولم ينتفع الطليان بعد هذه الجهود بشيء سوى إريتريا، وقد خسروا بسببها «الجلد والسقط»، قال ماركيز دي روديني، الذي رأس حكومة إيطاليا مرات عدة لدى جورفيل، مؤلف كتاب «مصر الحديثة»: «إننا نحن المجانين (يقصد أُمَّته، وهو تأنيب المحب المشفق) قد أنفقنا عشرين مليون جنيه في غزو مستعمرتنا الصغيرة السيئة الحظ المسماة بإريتريا، وهي تكلفنا منذ غزوناها في كل عام ٢٨٠ ألف جنيه، والله يعلم إن كانت ستدر علينا شيئًا من الخيرات، أم تبقى عاقرًا مجدبة لا خير منها!»٢

لقد احتلت إيطاليا إريتريا في سنة ١٨٨٨؛ فتكون نفقاتها على تلك المستعمرة الأفريقية كما يأتي:

جنيه
٣٣٠٠٠٠٠٠ ثلاثة وثلاثون مليون جنيه
٢٠٠٠٠٠٠٠ نفقات الغزو
١٣٠٠٠٠٠٠ نفقات من ١٨٨٨–١٩٣٥
في حين أنه لا يوجد بإريتريا من الطليان سوى ٣٥٠٠ مستعمر.٣ وهذا أحدث إحصاء لسكان تلك المستعمرة من الطليان.
١  ٨ نوفمبر سنة ١٨٨٧.
٢  ص٢٦٧، كتاب مصر الحديثة New Egypt—A. B. DE Guerville 1906.
٣  راجع مجلة LU الفرنسية في ١٤ سبتمبر سنة ١٩٣٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤