هل لإيطاليا أمل في الفوز؟

من أغرب أنواع التهويل، وأوسع أبواب الإرهاب التي لجأت إليها إيطاليا وولجتها «مزعجة» الطائرات، و«معجزة» الغارات والغازات، فتوعدت الأحباش بأسراب من عفاريت الجو تصب على رءوسهم وأبدانهم صنوفًا من المتفجرات والمشتعلات والخانقات … بيد أن ثقات الحروب الحديثة في إيطاليا نفسها لا ينتظرون أن تجني جيوشهم فائدة كبيرة من تلك الأسراب المحلقة أو المعلقة؛ لقلة الأهداف التي تتجه إليها.

ولا جرم أن للطائرات أثرًا نافعًا في استطلاع حركات العدو، ولكن مدى طيرانها فوق جبال الحبشة محدود بما يمهد لها من المطارات، وهو من أشق الأمور على القيادة الإيطالية؛ لوعورة المسالك، وندرة الفسحة في الأرض الحائزة للشروط المطلوبة.

وأكبر المناصرين لإيطاليا لا يجزمون بما يعود عليها من الأجنحة الملتهبة أو المسمومة؛ لأن الحكم على هذا النوع من آلات الحرب لا يزال مرهونًا باختبار سلاح الطيران الإيطالي في الحبشة، ففرح إيطاليا به والتنويه بنتائجه قبل التثبت من مقدماته سابقٌ لأوانه.

إن إيطاليا وإن تكن من دول أوروبا الحديثة، إلا أنها لم تَحُز قصب السبق في الحروب، فما عهدها بالهزيمة في الحرب العظمى ببعيد، كما أنها كانت ضعيفة النكاية بأعدائها في طرابلس الغرب (ليبيا)، فإن إخضاع تلك البلاد الأفريقية (وهي أقرب إلى إيطاليا من الحبشة بعشرات المرات، وليس فيها أكثر من ٢٠٠ ألف عربي قاموا بحرب العصابات) اقتضى من إيطاليا عشرين سنة، مع أنها لجأت في محاربتهم إلى وسائل تأباها الإنسانية، وتُحرِّمها القوانين الدولية،١ فما بالها بالحبشة على بُعدها وقوتها، واستعدادها وعدد سكانها، ووفرة جيوشها، وقيام العالم لنصرتها؟! لا شك أن في هذه الحالة ستضطر الحكومة الإيطالية لأن تنفق بدرات من الأموال، ومهج ألوف وألوف من الشبان والرجال، وأن تقضي عمرًا في الحرب والنضال، وهيهات ثم هيهات أن تحقق ما تؤمل؛ لأن دونه أهوالًا وشدائد تشيب منها الأطفال دونها هزيمة عدوة بمراحل.

وليست الحبشة قومًا واحدًا ولا قبيلًا منفردًا، بل خليط من شعوب وقبائل شديدة الشكيمة، يجري حب الاستقلال في دمائهم، ويضيفون إلى منعة معاقلهم الجبلية الوعرة كراهية للغرباء المعتدين لا حد لها، ويشجعهم على الاستمرار فيها والاستزادة منها فتيانهم الذين رضعوا لبان العلم في أوروبا وأمريكا ومصر.

ومن هذه الشعوب الأمحريون أو الأمهريون الذين تُكتب المعاهدات بلغتهم؛ لأنها أرقى اللغات الحبشية، والشوعيون وغيرهم.

ومهما يكن عدد جيوش الطليان، فإن أفران الحبشة وخنادقها ومفاوزها ستنادي هل من مزيد؟ لأن الجيش الأجنبي الزاحف، ولا سيما من الشمال، عليه أن يحصن القواعد التي يعتمد عليها في مواصلاته، مع عاصمة إريتريا ومينائها، وهما: أسمرا ومصوع، وعليه أن يُبقي فيها حاميات كبيرة، فوق أنه محتاج إلى إنشاء الطرق ثم تأمينها بعد إنشائها.

ولا نظن أن موسوليني يخفى عليه أن كل تقدم من ناحية إريتريا محفوف بالخطر؛ لأن فتح البلاد يقتضي احتلال المراكز العسكرية، وتنظيم إدارتها، وإبقاء حاميات كبيرة فيها، فضلًا عن أن الجيوش الإيطالية الجرارة تحتاج إلى مئونة وذخيرة تكادان تُعجزان أعظم الأمم وأغناها؛ فهي مضطرة لاستيراد كل ما تحتاج إليه من الوطن الأقصى، وهو عمل شاق كبير النفقات، ولا يمكنها التعويل على أرزاق الحبشة؛ لأن حاصلاتها الزراعية لا تكاد تكفي الأحباش أنفسهم، مع قلة ما يحتاجون إليه بالمعارضة إلى ما تحتاج إليه الجيوش الأوروبية المفطورة على الترف في بلاد أفريقية بعيدة، وفي حالة حرب … مع أمة موتورة ومهاجمة في عرينها.

دع عنك مقاييس الحياة العادية بين الفريقين، فإن الأحباش في وطنهم، وهذا امتياز لا يُستهان به، وهم يفوقون خصومهم في ملاءمة حال البلاد لهم؛ ففي وسع الحبشي أن يجتاز مسافات شاسعة مشيًا على أقدامه الحافية،٢ وهذا ما يعجز عنه أهل أوروبا عامة، وأهل الجنس الأبيض خاصة. وروى لنا بعض كبار ضباط المصريين الذين عاشوا في الحبشة أن الحبشي يستطيع أن يطوي مسافة تتراوح بين ٢٥ و٤٠ ميلًا في اليوم، ويقضي في ذلك بضعة أيام متوالية دون أن يكل، فإذا ما ركبوا، اعتلوا صهوات بغال أهلية خفيفة الحركة، كثيرة الصبر، قنوعة باليسير من الغذاء، ويمكنهم أن ينقلوا على ظهورها المدافع إلى قمم الجبال المنيعة، فيعرقلون تقدم العدو باستعمالها من أعاليها. وغير خافٍ أن الرامي بالحجارة من أعلى جبل أقوى من المحارب في السهل مهما كان سلاحه.
ولما كان الأحباش يحاربون وهم عصابات متفرقة، خفيفة الحركة، عارفة بالبلاد؛ فإن الطليان مضطرون لجماعات كبيرة من جنودهم، ليتغلبوا على تلك العصابات، ولكن تلك العصابات لا تحارب لتُهزم أمام القوات الغازية، ولكنهم يستدرجونهم إلى الأودية والخنادق الطبيعية ليُمزقوا شملهم.٣

قال سنيور موسوليني إنه حسب لكل شيء حسابه، فهل حسب حساب شق الطرق، وبناء الجسور، ونقل المواد اللازمة لها من إيطاليا إلى جنوب البحر الأحمر، ومنه إلى أسمرا ثم إلى المناطق التي يحتلها الجيش الزاحف؟ وهل حسب حساب السيول التي تجرف أثناء تدفقها الجسور والطرقات والمستودعات ومواد البناء؟

تكلمنا عن الإريتريا، وما تكلفته إيطاليا في سبيلها من القناطير المقنطرة من الذهب، والجيوش المجهزة، وأثبتنا أنها لم تعد على إيطاليا بطائل، وليس لهذه المستعمرة قيمة سوى أنها تسيطر على منافذ التجارة الحبشية من الشمال، وهي تجارة يسيرة، وأكبر الصعاب فيها تعرض أهاليها لقلة الماء الناشئة عن ندرة الأمطار، وقصر فصلها في كل عام.

ولكنها تصلح قاعدة عسكرية، ولعل هذه الصلاحية هي التي أغرت الطليان بها، فبذلوا ما بذلوا ظنًّا منهم أنها تُسهِّل عليهم الاستيلاء على الحبشة، ولكن ما عُرف عن الأحباش من حبهم للحرية، وتمسُّكهم باستقلالهم يجعل كل طمع في التوسع متعذرًا إن لم يكن مستحيلًا.

فقد سلَّحت الطبيعة هذا الشعب النبيل بطبيعة البلاد الجغرافية والطوبوغرافية، فكانت تلك الطبيعة من أقوى الوسائل التي يعتمد عليها الأحباش في الدفاع عن الوطن وحريته.

وإن الصعوبات التي تنتاب الطليان من الجنوب لا تقل عن مهالك الشمال؛ فإن الجيش الإيطالي الذي يحاول التقدم من موغاديشيو في جنوب الصومال الإيطالي الواقعة على مصب نهر وبي شبيلي لا بد أن يخترق منطقة جافة طولها ٢٠٠ ميل، قبل أن يصل إلى آبار وال وال وغرغوبي الواقعة في مقاطعة أوغادن — وهي أصل النزاع بين الدولتين — ولا يشبه هذه المنطقة في الجفاف إلا صحراء الدناكل الواقعة بين الهضبة والبحر في الجنوب الشرقي من عدوة وأكسوم وأديجرات … وهذه المنطقة الصحراوية جافة جافية، وبيئة واطئة، ولم يفلح في اختراقها من رواد أوروبا إلا لودفيج نسبيت، الذي لقي في سبيلها من المصاعب والمتاعب ما جعله يُسميها «عقر الخليفة الجهنمي».٤

أما الجبال الحبشية فكثيرة، ومنها ما يبلغ ارتفاعه ١٠٠٠٠ قدم، أو ١٥٠٠٠ قدم.

وإذن تكون الجيوش الإيطالية معرضة لمخاطر الجبال، وطول المسافات، وقلة الماء، وعقبات الخنادق الطبيعية التي خددها نهر التاكاز وروافده، وكل هذه العقبات الكبرى تعرقل أي تقدم عسكري في الحبشة وراء عدوة.

ويظهر للخبراء الحربيين الذين يرقبون الحالة في الميادين الحبشية أن الطليان يوجهون جيوشهم إلى طريق ماكال ومجدالا، وقد تقهقروا أمام ماكال، ووقفوا هجومهم،٥ وهذه نفس الطريق التي سلكها لورد ناييبير أوف مجدالا سنة ١٨٦٨ ضد الإمبراطور ثيودورس. انظر فصل «طموح مصرإلى فتوح أفريقيا» من هذا الكتاب.

ولكن الأحباش لم تغب عن ذاكرتهم هذه الموقعة، فاستعدوا لاتقاء ما ينسج على منوالها، أو يقاس على غرارها، ولا يُلدغ الحبشي من جحر مرتين!

وإذن لا منفذ للطليان في تلك الجبال والوهاد؛ لأن قنن الجبال الشامخة قد تصعد في الجو كناطحات السحاب، بل إنها لتخترق السحب، وتعلو في الجو فوق مناكب الغيوم، وتنخفض انخفاضًا مفاجئًا إلى أودية سحيقة ذاهبة في جوف الأرض، وليس بين هذا العلو الشامخ وذاك الهبوط السحيق سوى بضعة سهول مختنقة، فكأن هضبة الحبشة أضراس آلة جهنمية تسحق كل من يقع بين فكيها!

وكأن الطبيعة مُشفقةٌ على الحبشة من هجوم أخلاف الرومان المتحضرين ومعيدي مجد الإمبراطورية! فلم تكتفِ بتضريسهم بتلك الأنياب الصخرية، فكسَتْ بعض وديانها بنوع من الأتربة الحمراء التي تبدو صلبة جافة، حتى إذا ضُغط عليها أقل ضغط (وناهيك بأحذية الجنود، وعجلات السيارات والدبابات والطائرات، وحوافر الخيل) تحوَّلت فورًا دقيقًا متناهيًا في النعومة، فإذا جادها الغيث، ولو كان رذاذًا، تحوَّلت معجونًا زلقًا كالصابون، فيَعسُر السير فيها حتى ولو كان مشيًا على الأقدام، فتضطر الجيوش إلى الوقوف في أماكنها حتى تجمد أعين السماء، وتشرق الشمس فتجف التربة بحرارتها.

وإذا ما غيَّرت الجيوش الإيطالية خطتها، وحاولت احتلال جبال تانا الشرقية والشمالية، فإنها تعرض مؤخرتها لهجوم العصابات؛ لأن تلك المنطقة الوعرة لا تزال في أيدي عصابات لا تعرف للراحة طعمًا، ولا تسكت على تغلغل المحاربين الغرباء في مواطنها.

١  لم ينس العالم مأساة عمر المختار ورفقائه!
٢  لا يحتاج الجندي الحبشي إلى حذاء، وعلى الرغم من استمراره على المشي، فإن قدميه ناعمتان مسيحتان (البكباشي أحمد لطفي بك الذي كان حاكم القلابات بعد استرداد السودان).
٣  Foreign Affairs Quarterly Review, October 1935.
٤  Extremita infernale di mondo.
٥  بدءوه في ٢٨ أكتوبر، ووقفوه مرتين، الأخيرة منهما في ٥ / ١١ / ١٩٣٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤