النتيجة

لقد ثبت لدى العالم أن إيطاليا الأوروبية المسيحية المتحضرة معتدية، وأن الحبشة الأفريقية المسيحية الإسلامية، التي تكاد تكون فطرية، مُعتدًى عليها، وأعلنت خمسون دولة من دول العالم مناصرتها للحبشة بالحق؛ لرفع الظلم عنها، ولكنها لم تتمكن من منع الحرب بالقوة، فهذه قرارات تلك الدول الخمسين ممثلة في عصبة الأمم تصدر، والمدافع تدوي، والطائرات تصبُّ جامات نيرانها على الأمة المسكينة المظلومة، والدبابات تسحق أبدان أهلها، وتهلك حرثها وزرعها ونسلها!

ولكن الحبشة على الرغم من ضعفها واستكانتها قد جردت من هذا الضعف وتلك الاستكانة قوة لم تستطع إيطاليا أن تستهين بها، بل أقرت في مواطن شتى بشأنها وبطشها، والعالم ينظر وينتظر، والإنسانية تتوجع وتتفجع، والحضارة والسلم تندبان حظهما؛ لأن الإنسانية مقبلة على مأساة لعلها لم تشهد مثلها حتى ولا في الحرب الكبرى.

وإن مصر الجارة والصديقة، بل القريبة بحكم الجوار والاشتراك في القارة والماء لتبذل أقصى جهودها لنصرة الأمة المظلومة، ولم تقصر في تطبيق العقوبات الاقتصادية التي فرضتها عصبة الأمم، دون أن تتمتع بالمزايا التي يتمتع بها أعضاء تلك العصبة، فكانت أكثر من الدول الخمسين حبًّا للسلم ومدافعة عنه؛ لأنهن اشتركن في تقرير العقوبات، أما هي فلم تشترك في التقرير، وانفردت بالتطبيق وهي خارج العصبة، وسوف تتحمل في هذه السبيل خسائر جمة وهي عالمة بها وراضية.

ولعمري إن موقف مصر في الوقت الحاضر ليعيد إلى الذهن موقف بلجيكا في سنة ١٩١٤، فلم تكن بلجيكا من أعداء ألمانيا، ولكنها وقفت في طريقها لتحمي فرنسا أو مبادئها، فاكتسحتها ألمانيا اكتساحًا، وكادت تمحوها من الوجود.

وها هي مصر قد تضافرت الظروف على وضعها في هذا الموضع، وها هي تتعاون مع بريطانيا العظمى في الدفاع عن مصالح الإمبراطورية البريطانية، وسلامة أملاكها في آسيا وأفريقيا، ويجيء الدفاع عن مصالح مصر عرضًا، وقد امتدت يد إنجلترا إلى الإسكندرية لتجعلها قاعدة بحرية؛ لأنها أسلم عاقبة، وأنسب وأحصن من مالطة.

وإنجلترا لا تريد أن تفاتحها مصر الآن في طلب تكون عليه صبغة التهديد، ولكن السياسة الحكيمة والنظر البعيد يحتمان على الدولة الصديقة أن تمد يدها لتتمم تصريح ٢٨ فبراير، في رفق وصداقة دون إرهاق أو إرهاب؛ لتشعر مصر ذات الاستقلال والسيادة برجولتها وصداقتها ونخوتها، وثمرة انضمامها إلى الأمم المتحضرة في محاربة الظلم، والوقوف في وجه المعتدين، وجعل عصبة الأمم أداة صالحة لتسوية النزاع بين الأمم كما يسوَّى كل نزاع بين الأفراد في المحاكم.

فهل لإنجلترا أن تطرد من مخيلتها فكرة خاطئة، وهي أن مصر تتهددها، أو تريد أن تنتهز فرصة غير ملائمة، وهي انشغال إنجلترا في البر والبحر والجو لتطلب منها مطالب لم تكن لتتقدم بها لو كان السلام سائدًا؟

إن مصر تريد السلم والصداقة، ولا تريد الحرب والفتنة والعداء، ولئن كانت بريطانيا العظمى بادئة بمد هذه اليد فهو أعظم، فإن لبَّت نداءَ مصر وأصغت إلى صوتها بدون غضب، ولا سخط، ولا شماتة لخصوم الطرفين، الذين لا يلبثون أن يظهروا في الميدان كما تظهر الخفافيش في الظلام، فخير لنا.

إن سياسة بريطانيا كما دلَّت عليها جهود سير صمويل هور ومستر أنتوني إيدن في جنيف سياسة حكمة وتدبر وإنصاف، وقد بح صوتهما على منابر العصبة في الدفاع عن حقوق الضعفاء، ونصرة المظلومين، فهل لبريطانيا وشعب بريطانيا أن يصغوا أيضًا إلى صوت مصر وقد بادرت إلى تنفيذ العقوبات، وشكرتها عصبة الأمم شكرًا رسميًّا،١ وقد ضحَّت مصر بما تستطيع بذله من مال ومعونة في الأرض والبحر والهواء؟ وسوف تُضحِّي بأكثر من ذلك.

إن مصر لا تريد أن تنتهز فرصة سانحة إذا كان في انتهاز هذه الفرصة ما يُغضب أصدقاءَها، ولكن العدل والحق والعرف وحسن الذوق (وقد اشتهرت إنجلترا بكل هذه) تقضي جميعها أن يقدر هؤلاء الأصدقاء هذا «الموقف المصري المشرف». وفي الحق أن عملًا كهذا الذي نؤمله من جانب إنجلترا يُعلي شأنها في العالم كله، ويكون بمثابة ضمان للسلم والطمأنينة، وله قيمته في السياسة الدولية، وفي التاريخ الإنساني.

إن مصر لا تريد أن تبرق أو ترعد، ولكنها تريد إقرار الحق، ووضع الأمور في مواضعها في هدوء وسكينة، ولا لوم عليها ما دامت أمم العالم وفي مقدمتها بريطانيا العظمى تريد أن تضع الندى في موضع السيف، وأن ترفع صوت الحق فوق صوت المدافع، وتُعلي «همسة العدالة» على أزيز الطائرات.

وفي نظرنا أن مصر التي تريد أن تتحد لتقابل الحوادث بصدر رحب، ووجه سمح، وفم باسم، سوف تكون في صداقتها أنفع وأجدى وأغلى وأعلى، وأرفع منها غاضبة أو مكشرة عن أنيابها، وقد عرفت قيمة الصبر على الشدائد، وحاشا أن تتقدم مصر في «موقفها المشرف» بغضب أو فتنة، أو تحاول الظهور بغير مظهر الود والمحبة.

وإن مصر قد عرفت بالتجربة والاختبار أن ميدان السلم أوسع من ميدان الحرب وأفسح، وإنجلترا علَّمت العالم أن الأكاليل التي تُنال بعد النصر الأدبي أسمى وأشرف وأثمن مما يُنال بالنصر الحربي، وإنجلترا تعلم أن هذه الرغبة تتردد في نفوس المصريين جميعًا لا يشذ منهم حاكم ولا محكوم.

ومصر تنتظر بفارغ الصبر أن تسمع كلمة بريطانيا، لا في إذلالها وإخضاعها، ولكن لمناصرتها والأخذ بيدها. ومصر لا تطلب هذا خوفًا ولا جبنًا، ولكنها تطلبه نتيجة للتعقل والتبصر. لقد قيل — إن صدقًا وإن كذبًا — إن إنجلترا تعتبر انتهاز هذه الفرصة فاجعة عظمى، ولكن هذا يصح إن كانت مصر تُبطن غير ما تُظهر.

والحقيقة أن مصر مخلصة في حسن نيتها، طاهرة اليد والذيل من الغدر وتبييت الشر، بعيدة البعد كله عن إرادة السوء، وما على بريطانيا إلا أن تبر بعهدها، وتفي بوعدها الشريف، وتتمم تصريح ٢٨ نوفمبر راغبة مختارة، لا مرهقة ولا مرغمة، وحينئذ تعتز إنجلترا بعملها، وبحليفتها القديمة الحديثة، وصديقتها المخلصة مصر!

ليس لمصر مطالب بالمعنى الذي يسبق إلى الذهن السياسي، ولكنها تريد متممات لحياتها الدولية. تلك المتممات التي تُوثِّق علاقتها بالدول، وتُقوِّي ما بينها وبين بريطانيا من الروابط دون أن تمس مصالح الإمبراطورية بسوء. ومصر تعلم حق العلم أنها لا تستطيع ذلك، وهي لا ترغب فيه.

وقد رأت بريطانيا ورأت مصر أن هذه المملكة الوسط بين القارات الثلاث لا بد أن تكون ميدانًا ذا شأن في كل حرب تقع بين دول أوروبا، وقد قال عنها بونابرت: «مصر أهم مملكة في العالم.» لهذا السبب. ولما كان سلطان القانون الدولي آخذًا في النمو والتجلي، فمصر تود أن تتقي أخطار المستقبل بانضمامها إلى عصبة الأمم.

هذه رغبة الأمة المصرية قد أفرغناها في أصدق قالب، وشرحناها بأوجز أسلوب، وقديمًا قالوا: خير القول ما قلَّ ودلَّ، وخير البر عاجله، وحديثًا قالوا: إن سوء التفاهم وَخِيم العواقب؛ لأنه مجلبة لسوء الظن.

لقد كان المعروف وصنع الجميل منجاة لصاحبهما بين الأفراد، وها هي إنجلترا تود أن تجعل المعروف وصنع الجميل قانونًا عمليًّا بين الأمم. تريد بريطانيا أن تغمد سيفها لتعمل بالحسنى، فهل تقصر الحسنى على مَن تشاء، وتسل السيف في وجه مَن يخطب ودَّها، ويرعى عهودها، ويناصرها في أحرج الأوقات؟

الكلمة الآن لبريطانيا العظمى!

١  تلغراف رئيس عصبة الأمم إلى وزير خارجية مصر في ٤ نوفمبر سنة ١٩٣٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤