علاقة مصر بالحبشة وإيطاليا ومركز مصر من دائرة النزاع في عصبة الأمم وخارجها

ما فتئ المصريون من بداية هذا النزاع يظهرون عطفهم نحو الحبشة؛ لأن المصريين تناسوا أو نسوا معارك القرن الماضي، واعتبروا الأحباش ناسًا منهم؛ لأن علاقة مصر بالحبشة قديمة جدًّا، ولأن مسلمي الحبشة يعدون مصر مركزًا روحيًّا لهم، وهم ينتظرون من مصر الإرشاد والعطف، كما أن بطريرك الأقباط في مصر هو الرئيس الديني للأحباش النصارى، ومنهم الأسرة المالكة وأغلب رءوس الدولة، وفوق هذا فقد كان رئيس أساقفة الحبشة من أول عهد المسيحية حتى اليوم يُنتخب من رجال الدين الأقباط، وهو الآن الأنبا مرقص مطران الحبشة، وأصله من بهجورة بجوار نجع حمادي.

وهناك سبب آخر لاهتمام المصريين بشئون الحبشة الحاضرة؛ وهو أن سبعين في المائة من مياه النيل مصدرها الحبشة، عن طريق النيل الأزرق ونهر سوباط. ومن الأمور الثابتة أن الأحباش لم يعبثوا منذ فجر التاريخ حتى اليوم بمصالح مصر فيما يخص المياه التي تحتاج إليها. وهذا جميل لا يمكن لمصر أن تنساه.١

ولا شك في أن مصر ذات نفوذ معنوي عظيم، ولكنها للأسف ليست عضوًا في جمعية الأمم، ولو كانت هناك وسُمع صوتها بجانب أصوات الأعضاء الآخرين لكانت بعض الدول التي تعتبر حروب الفتح مبررة بالأغراض القومية، ترددت قبل أن تجاهر بالعداء مجموعة من الشعوب فيها مصر المحترمة في الشرق وفي أوروبا، ولذكرت تلك الأمم، ولا سيما إيطاليا، ما بينها وبين مصر من المودة والروابط التاريخية من قديم الزمان.

figure
صاحب الغبطة الأنبا يؤنس بطريرك الأقباط وحوله بعض المطارنة والأعيان.

ولو كانت لمصر شخصية محترمة في جنيف؛ لكان للقاهرة أرفع مقام في النزاع الحالي، وكانت تصبح مصر عاصمة دولية تتجه إليها الأنظار، وتشد إليها الرحال، وتجتمع لديها كلمة الرجال، وتمسي مفتاح الشرق الأدنى بلا جدل.

ولا ريب عندنا في أنه لو كان لمصر هذا الحق لوقفت بجانب مبادئ العصبة، دون أن تنظر إلى كونها متفقة وسياسة إنجلترا أو إيطاليا أو غيرهما أم لا؛ لأن مبادئ العصبة تضمن الحياة والحرية للأمم الصغيرة والأمم المغلوبة، والأمم التي تطلب الحرية، والأمم التي تقاوم الحرب، وقد انضمت إلى مبادئ هذه السياسة جهارًا حكومات عظمى، مثل: الولايات المتحدة، وفرنسا، وروسيا.

ولا نشك لحظة في أن وجود مصر بالعصبة كان كفيلًا بمنع الحرب التي قد تمتد فتصير أوروبية فعالمية، ويكون تقصير الذين قصروا في حق مصر وفي حق العصبة سببًا في كارثة عالمية لا يعلم مداها إلا الله.٢

هل مصر أقل من الأحباش، أو المكسيك، أو كولومبيا، أو العراق، أو الفرس؟ نعم إذا تساوينا، وفاقت مصر في بعض الشئون، إلا أن هذه الأمم تتمايز باستقلالها القومي أو حكمها الذاتي، أليست مصر دولة حرة ذات سيادة؟ ولو فرضنا أن هذا الاستقلال نظري، ألا يعادل استقلال الهند أو كندا، وكلتاهما عضو في العصبة؟!

وقد صدق من قال إن «مصر بلد في هذا الجانب من الشرق بمكان القلب للطائر يرفرف بجناحيه في أفريقيا وآسيا، وبذيله على قلب القارة السوداء.»٣
١  من خطبة لعثمان محرم باشا، وزير الأشغال سابقًا، ألقاها في لندن، سبتمبر سنة ١٩٣٥.
٢  جاء في خطبة العرش سنة ١٩٢٦: «ستسعى الحكومة المصرية سعيها للاندماج في عصبة الأمم؛ لتظفر بقسطها من الاشتراك في الحياة الدولية.»
٣  الأستاذ عبد الرحمن عزام أحد أبطال حرب طرابلس وعضو مجلس النواب المصري سابقًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤