تطور الغارات على الأمم

الأمور الثلاثة التي قيل إنها سبب الحرب

لقد شغلت الحرب الحبشية الإيطالية الحاضرة أذهان الكُتَّاب والقراء ورجال السياسة وعلماء الاجتماع في كل مكان، حتى غضوا الطرف عن مسألة تاريخية كبرى لها أكبر الأثر في تكوين النزاع السياسي الذي تنشأ عنه الحرب.

فقد نظروا جميعهم إلى تلك الحرب بوصفها عملًا دوليًّا عدائيًّا ترتب على ثلاثة أمور:
  • الأمر الأول: الأخذ بالثأر لهزيمة عدوة الشهيرة.
  • الأمر الثاني: رغبة إيطاليا في التوسع الاستعماري للحصول على ما يسد الرمق.
  • الأمر الثالث: رغبة زعيم إيطاليا في إحراز نصر خارجي يعيد لأرض إيطاليا وشعبها مجد الدولة الرومانية البائدة.
والأمران الأول والثالث غير جديرين بالاكتراث من الناحية الدولية العامة، ولا يهمان أحدًا سوى إيطاليا نفسها، وقد لا يهمان فريقًا كبيرًا من الشعب الإيطالي المعاصر؛ لأن موقعة عدوة وقعت في سنة ١٨٩٦؛ أي منذ أربعين عامًا تامة، والكثرة الساحقة ممن حضروها، أو تحمسوا لها، أو شربوا مرارتها قد انقرضت أو كادت، ولم يبق لها ذكر إلا في بطون الكتب، وليست عدوة «الزاسا» ثانية انتزعت من جسم الوطن، حتى تبقى نيران الثأر مشتعلة في قلوب بنيها، ولا تُطفأ إلا أن تسترد وتعود إلى أحضان الأم الرءوم.١

هذا عن الأمر الأول، وهو تعليل الحرب التي نشبت برغبة الأخذ بالثأر.

الأمر الثالث وهو رغبة زعيم إيطاليا في إحراز نصر خارجي يعيد المجد، وهذا الأمر يعد مغالطة تاريخية، وسفسطة سياسية؛ لأن العقل السليم والنظر الصادق لا يسمحان لصاحبهما أن يتخيل أن مجرد الانتساب إلى شعب عريق قد قامت قيامته، واندثرت معالمه، وانحلت عناصر حضارته، ومُحيت آية وجوده من صحيفة الوجود، أن مجرد الانتساب إلى هذا الشعب يكفي لإعادته سيرته الأولى؛ لأن أسباب الانحلال التي اعترت كيان الإمبراطورية الرومانية ذهبت بتلك الإمبراطورية،٢ كما أن عناصر التكوين وتاريخ النشأة لتلك الإمبراطورية ليست متوافرة كلها، أو معظمها في الأمة الإيطالية الحديثة التي دخلت في التاريخ الحديث بوصفها وحدة قومية يرجع الفضل فيها إلى ثلاثة من أعيان السياسة الوطنية؛ وهم: متزيني، وكريسبي، وكافور. فنهضة إيطاليا الحديثة نهضة اقتصادية وسياسية، وليست نهضة حربية كالتي قامت عليها إمبراطورية روما.٣
وإذا رجعنا إلى كتب متزيني٤ وخطب كافور نجد أنهما لم يرميا قط إلى عظمة إمبراطورية ولا توسع استعماري، بل كانا يرميان إلى تحرير وطنهما من ربق الاحتلال النمسوي والفرنسي، وإصلاح الشئون الداخلية. وهذا ليس بالتاريخ القديم، بل يرجع إلى القرن التاسع عشر، فإن روما لم تحرر من الجنود الأجنبية إلا في حرب السبعين؛ أي منذ ستين عامًا تقريبًا.

ولا يكفي للزعيم أن يكشف للعمال عن بضعة مبانٍ قديمة، أو بعض «أقواس نصر» خاوية كحمام كراكلا، أو إصطبل نيرون حتى يعيد مجدًا بناه جبابرة الحرب، ودهاة السياسة، أمثال: يوليوس قيصر، وأغسطس، وشيشرون، وأن الإمبراطورية الرومانية هزمها العرب في ساحات الشام (واقعة اليرموك)، كما هزم البقية الباقية منها غزاة الترك في الاستيلاء على القسطنطينية.

إذن يكون الكلام على إعادة مجد الإمبراطورية الرومانية التي فتحت العالم مجرد كلام جميل، وأحلام زاهية، وأماني معسولة لا يصح في الأفهام أن يُقام لها وزن. وقد تصلح بروقًا خلابة لأعين الشعب في بلاده، وهي على حد قول الإنجليز اللاذع: «بضاعة لا تصلح للتصدير»، وفي ظني أن ذكاء الزعيم يقنعه بصحة هذا الرأي.

بقي الأمر الثاني الذي يصح أن يكون هو السبب الصحيح للحرب التي نشبت، ولم يحصل إعلانها، وهو رغبة إيطاليا في التوسع الاستعماري.

التوسع الاستعماري الحديث

ومهما يكن رأي دعاة الاستعمار، فلا يمكن أن يفيض أحدهم في البحث ويفي الموضوع حقه بمثل ما صنع بول ديبوا في كتابه الممتع «الاستعمار الأوروبي في القرن التاسع عشر»٥ فإن هذا العالِم المُدقِّق قسَّم الاستعمار الأوروبي إلى ثلاثة أقسام:
  • الأول: الهجوم على القارات الآهلة بالمتوحشين (أستراليا وأمريكا).
  • الثاني: استعمار وطن الشعوب الآيلة إلى الانحلال (كالهند والصين).
  • الثالث: الهجوم على القارة السوداء (أفريقيا)، ولكن العالم ديبوا لم يفته وهو يدافع عن بعض نظريات المستعمرين الذين أتقنوا سياسة الاستعمار حتى كادوا يجعلونها فنًّا جميلًا، أن يُرجع الأمور إلى أصولها، فأشار من طرف خفي إلى وجوه الشبه بين الاستعمار الحديث وغارات القبائل البربرية في القرون الوسطى على الأمم المتحضرة التي دقت نواقيسها؛ فأضاعها الترف والتطرف في نعومة المدنية، واستنامت إلى ملذات الرفاهية.

هجوم البرابرة على الأمم المتحضرة

تاريخ الأمم هو تاريخ «النزوحات» التي حصلت بينها، وهي أشبه الأشياء بالتموجات الإنسانية الحية، ومظهرها أن قبائل رحالة قوية يضيق بها العيش والمرعى في أوطانها، فتنزح على غير هدى في طلب الرزق، ولا تلبث أن تنقض على بلاد آهلة بالسكان، وشعوب في درجات مختلفة من الحضارة، فتنزل عليها نزول الصاعقة، وتستولي عليها، فتبيد حضارتها تارة، وطورًا تخضعها لنفوذها، فإذا تمَّ الإخضاع، فإما تندمج فيها، وتفقد على مرِّ السنين وكرِّ الأعوام مؤهلات الغزو والطغيان، وإما تحتفظ بقوتها فتُفني الشعوب الأصيلة عن آخرها.

وضرب العلماء أمثالًا لذلك هجوم الهون والفندال والفيزيجوت على روما وأوروبا الوسطى وإسبانيا، فحكموها بعد أن أزالوا ملكها، وخربوها حتى صار اسم «الفندال» علمًا على التخريب.٦

وكان منهم إباطرة أمثال كراكلا، وكانت لهم نُظُم فطرية أضافوها إلى ما وجدوه في حوزة الممالك المقهورة. وهجم النورسمان والسكسون من شمال أوروبا على إنجلترا وأيرلندا، فغلبوا القلتيين أو السلتيين على أمرهم.

هذا في الغرب، أما في الشرق فقد أغار المغول والتتار على بغداد، في أواخر القرن السابع الهجري، وهي في قمة مجدها تحت حكم العباسيين، فصنعوا بها ما صنعوا من تخريب وتقتيل، وتحطيم لآثار الحضارة، حتى جعلوا أهرامًا من الرءوس البشرية، وأغرقوا كل ما وصلت إليه أيديهم من الكتب المخطوطة في نهر دجلة.

وكان لهؤلاء المدمرين زعماء نابهون؛ أمثال: جنكيزخان، وتيمورلنك الأعرج، وغيرهما.

وإن المؤرخين ليصعدون في سلم التاريخ إلى ما هو أبعد من ذلك، فيذكرون هجرات قبل التاريخ؛ مثل نزوح قبائل اليمن بعد خراب سد مأرب إلى الشمال، ومنهم قبائل احتلَّت الحجاز ومكة، وطردت القبائل السابقة كقبيلة جرهم، وصعدوا إلى الهكسوس الذين أغاروا على مصر وملكوها، وقهروا ملوكها، وأغارات القبائل الوحشية على بابل وآشور، ولم ينسوا أن يصفوا خروج بني إسرائيل من مصر بأنه نزوح قبيلة قوية لفتح فلسطين المستضعفة.

وغير خافٍ أن هذه القبائل كلها إنما أغارت على الأمم المتحضرة في سبيل الرزق والتحضر، ورغبة الاستقرار في بلاد مجهزة بكل أدوات المدنية.

ما أشبه اليوم بالبارحة!

فلما أن تحضرَّت أوروبا بعد الحروب الصليبية، وبعد سقوط القسطنطينية، وانتفاعها بعلوم العرب واليونان، ثم تفوقها عليهم بالأسلحة والعدد، وبلغت الحضارة الأوروبية قمتها في القرن التاسع عشر، وقام اقتصاديون؛ أمثال: آدم سميث ومالتوس في إنجلترا،٧ وجان باتست ساي في فرنسا، وكان الإفرنج قد جاسوا خلال القارات الخمس، ووقفوا على بواطن أمورها، وأولهم «ماركو بولو» الإيطالي، وكوك الإنجليزي، وفاسكو دي جاما وبيزارو البُّرتغاليان، وكريستوف كولومب البيزاني فالجنوازي، وكان أسبقهم ابن بطوطة العربي المسلم، ولكنه لم يُفد أمته شيئًا!

نقول: لما جاس هؤلاء الرَّحالون المشبعون بروح الاستطلاع والغزو خلال الممالك، وعادوا إلى أوطانهم بأنباء مدهشة تشبه أنباء سندباد البحري، لحقهم من الإنجليز ليفنجستون، وستانلي، وأمين باشا (وهو ألماني)، فكشفوا أفريقيا ومنابع النيل.

وصادف أن توهَّمت أوروبا أنها سوف تجوع وتعرَى، وتحتاج إلى القوت الضروري على توالي الأعوام، وأدرك الضيق المادي طبقة العمال ولا سيما في بلاد الإنجليز، فانتحر أحد عمال المناجم بعد أن قتل أولاده خشية الإملاق، فكتب كارليل فيلسوفهم في تلك الحقبة في كتابه «الماضي والحاضر»٨ يقول في الفصل الأول:

لقد حدث للمرة الأولى حادث فاجع لم يسبق له مثيل في هذه البلاد، ألا وهو أن رجلًا إنجليزيًّا مسيحيًّا قتل نفسه بعد أن قتل أولاده خشية الجوع والبرد. وإنها لعلامة جد خطيرة، وأمر له ما بعده حدث في يوم عبوس قمطرير.

فحينئذ — وحينئذ فقط — هبت تلك الأمم للاستيلاء على البلاد الضعيفة، أو ذوات الحضارة المنحلة؛ مثل: الهند، وشمال أفريقيا، والهند الصينية، ووادي النيل إلخ.

الأسباب التي انتحلتها دول أوروبا لتبرير الاستعمار

ولما كانت دول أوروبا قد ضربت في الحضارة بسهم نافذة، واتَّخذت لها رداء من المدنية، ووجهًا مستعارًا من مكارم الأخلاق، ولا سيما بعد ظهور مبادئ الثورة الفرنسية، وتوكيد حقوق الإنسان، وانتشار فكرة الحرية والمساواة بين الأمم، وصارت لهم حكومات منظمة ومسئولة أمام مجالس نيابية، وصحافة قوية تنشر كل ما يُقال ويُكتب في أنحاء العالم؛ فقد خجلوا أن يُجاهروا بالسبب الحقيقي لغاراتهم الجديدة على أمم العالم، وهو الخوف من الجوع، وخشية الإملاق المهدد لكيانهم، فاتَّخذوا أسبابًا باطلة، وألبسوها ثياب الحق فقالوا: «إنما نفتح البلاد ونُغير عليها لا لمنفعتنا ولكن لخيرهم، فنحن نريد تمدينهم وتحضيرهم، ونريد حمايتهم من أنفسهم، ومن طغيان حكامهم.»

وكما انتحل بعض ملوك أوروبا في القرون الوسطى حجة الحكم والسلطان بالحق الإلهي٩ كما فعل شارل الأول في إنجلترا، ولويس الرابع عشر في فرنسا، وشارلمان وغيرهم، فقد اتَّخذت بعض الدول الأوروبية فكرة «المسئولية أمام الإنسانية» فصارت تقول: نحن مسئولون أمام العالم عن حماية هذه الأمم وتهذيبها وتحضيرها، ولا يمكننا أن نتخلى عنها لئلا تهلك أو تتدهور أو تتردى في الهاوية، ولكن أعمال هذه الدول في تلك البلاد المستعمرة كانت تُكذِّب دعواهم، فقد حكموها لمصلحتهم الذاتية، ومحوا آيات استقلالها، وعملوا على تأخيرها لتمام الاستيلاء عليها.

وقد برعت أوروبا في تنفيذ خططها، وأتقنت سياسة الاستعمار، ومصَّرت الأمصار، ودوَّنت الدواوين، وأنشأت المكاتب والمدارس لتخريج الرجال، وتأهيلهم للخدمة في المستعمرات، وعلَّمتهم لغات البلاد المقصودة بالحكم؛ كالعربية، والهندية، والأندنوسية، حتى لغات الزنوج والشلوك أتقنوها، ووضعوا لها القواميس والمعاجم، ووضعوا القوانين والشرائع لحكم تلك البلاد، وأسسوا وزارات جديدة أطلقوا عليها اسم وزارات المستعمرات، قد يكون شأنها في بعض الدول أعظم من شأن وزارة الأمور الخارجية كما هي الحال في فرنسا الآن.

العراك بين الدول العظمى على المستعمرات

ولم تكن الملحمة العظمى بين القوي والضعيف لتَمُرَّ دون تيقظ الحزازات بين الهاجمين والمغيرين؛ لأن الأمر لا يخلو من دسامة إحدى اللهى وضآلة الأخرى، وسمن بعض الفرائس دون البعض، فكان من هذا القبيل أن حاربت إنجلترا جارتها فرنسا في سهول كندا لتُزاحمها على تلك السهول الواسعة ذات الخصوبة العظيمة،١٠ وحارب السكسون بعضهم بعضًا في أمريكا نفسها، ففاز المستعمرون على دولتهم الكبرى بريطانيا؛ فأسسوا جمهورية الولايات المتحدة.
وحاربت إنجلترا الدولة الروسية في القريم، وأوشكت إنجلترا أن تحارب فرنسا على فشودة (حملة الجنرال مارشان)،١١ ولما دخلت اليابان في دورة الاستعمار وتشبَّهت بأوروبا، التحمت في حرب عظمى مع روسيا للنزاع على منشوريا. وأوشكت ألمانيا أن تحارب فرنسا لأجل مراكش (١٩١٢) بسبب سياحة غليوم الثاني وسفره إلى «أغادير». وخُتمت تلك المعارك كلها التي ولَّدت الأحقاد على مدى العشرات من السنين بالحرب العظمى التي ما زال سببها غامضًا لدى العامة.

وحقيقتها أنها حرب سببها الاستعمار الذي تنبهت عناصره بعد غزوة إيطاليا في طرابلس، وطمع ألمانيا في نصيب من المستعمرات أوفر مما كان لديها، فتكشفت الحرب عن سلبها ما كان لديها، والحكم عليها بالإعدام السياسي، والموت المدني ولو إلى حين.

١  راجع كتاب La revanche، تأليف مدام جولييت آدم، التي لا تزال على قيد الحياة، وقد احتُفل يوم ٧ أكتوبر سنة ١٩٣٥ في باريس ببلوغها ٩٩ سنة.
٢  راجع كتاب جيبون: Decline and fall of the Roman Empire.
٣  هذا لا ينقص من مجد غاريبلدي، ولكنه كان بطلًا وقتيًّا لا غازيًا عالميًّا.
٤  واجبات الإنسان Il devori de l’hommo.
٥  Paul Dubois—La Colonisation Européenne au 19 ème siècle.
٦  فندالزم جريمة يُعاقب عليها القانون مثل تشويه الآثار.
٧  هو أول من قال بزيادة السكان على الأغذية التي تعطيها الأرض؛ ولذا نصح بتقييد النسل وتحديده.
٨  Past and present تأليف توماس كارليل.
٩  Divine Right.
١٠  لا تزال آثار النفوذ الفرنسي في الشعب الكندي في السياسة والأدب. وهذا أقوى موانع انضمام كندا إلى الولايات المتحدة.
١١  راجع كتاب Jules Cocherie La situation internationale de L’Egypte et du Sudan Paris 1904.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤