ثلاثة رجال وثلاث دول

تقدمة

تدل حياة الرجال على حيوية الأمم.

كلما شعرت الأمة الحية بخطر يتهددها بعثت من أعماقها برجل يدافع عنها، ومثلها في ذلك مثل الجسم السليم الذي يُقاوم الأمراض الطارئة.

تكتب الأقدار على كل رجل أن يقوم بواجب النجدة والإنقاذ، ولا تعلم إلا الأقدار نفسها مكان هذا الرجل، فتُعدُّه وتحيطه بالعناية، وتتعهده بالتربية كالأم الرءوم؛ ليقوم بما وكلت إليه القيام به.

وهذا ما حدث في أرض الحبشة، فقد بعثت العناية وحيوية الأمة بالرأس ثيودورس ليكافح بريطانيا، وبالرأس يوحنا ليكافح مصر، ثم بالإمبراطور منليك ليكافح إيطاليا؛ ففشل الأول، ولكنه فاز بجمع كلمة البلاد، وسقى بدمه شجرة الاتحاد، وانتصر الثاني على مصر مرتين، فكسب لشعبه هيبة لا تُنسى، وخرج الثالث مُكلَّلًا بتاج النصر، وما زال حامله إلى أن مات.

كانت إنجلترا في علاقتها بالحبشة كريمة، فلم تصارحها العداء إلا بعد أن رأت منها المناوأة والمشاكسة، ولم تكن إنجلترا تفكر مطلقًا في الاستيلاء على الحبشة، بل كانت تريد أن تفتح لتجارتها أسواقًا على شاطئ القلزم وفي شرق أفريقيا، وكانت تريد أن تكتشف الحبشة لتأمن جانبها في مستقبل الأيام، لتشعب مصالحها في كل بقعة من البر والبحر على مقربة من إثيوبيا. وقد فطن الإنجليز إلى أن مركز الحبشة في أفريقيا بالنسبة لإمبراطوريتهم يشبه مركز الأفغان في آسيا.

ولعل مركز الحبشة أهم لأفريقيا من مركز الأفغان للهند، فإن من يملك الحبشة يملك البحر الأحمر، وشرق أفريقيا، ومنابع النيل، ويسيطر على السودان ومصر، وعلى وسط أفريقيا وجنوبها. فإنجلترا تريد أن ترقب كل ما يقع في الحبشة بعين لا تغمض، ولكنها لا تريد أن تملكها، ولإنجلترا سياسة تقليدية لا تحيد عنها قيد شعرة. وفوق هذا فإن الإنجليز يعلمون أن الاحتفاظ بالحبشة «شارية وعميلة» خير من التغلب عليها واستعمارها. وما أصدق فراسة الرأس علي عندما قال لبلودل وهو يوقِّع معاهدة الصداقة في سنة ١٨٤٣، وكان يخط اسمه بالخط الأمهري وهو باسم: «إن هذه المعاهدة لن تفيد أحدًا؛ لأنه ليس في الحبشة ما يغري أحدًا من الإنجليز!»

ولكن ما لا يغري الإنجليز يقنع صاحبه ويكفيه، وقد يغري غير الإنجليز فيجردوا الطائرات، والمدمرات، والبوارج، والجنود، والبغال، والجمال، والأنعام، وقد يخاطر هذا القادم على حرب أفريقية بما يزيد على ما يؤمله من كسب، أو يتوهمه من ربح.١ فإذا كانت الحرب عملية حسابية وجب عليه أن يرجع عنها ويعود أدراجه راضيًا من الغنيمة بالإياب، وصائنًا أرواح الأولاد والأقارب والأصحاب، وإن كانت الحرب للمجد، فبئْسَ المجد الذي يُعرِّض طالبه للخراب، ولديه في ميادين أخرى أكاليل أخرى أحق بالتطاحن، وأحرى بالكفاح.
وقد دُهش العالم المتمدن من أن يرى زعيمًا شهيرًا، وحاكمًا مدبرًا كالزعيم الإيطالي راضيًا بل متلهفًا على أن يضع أمة أبيةً عظيمة في موقف عسكري ومركز مالي لا يدعوان إلى الارتياح، ولا تُؤمن عاقبتهما، فقذف بربع مليون رجل إلى شاطئ مقحل، وأرض جرداء، وصحارى صخرية كالحة يابسة تبعد عن أرض الوطن بألوف الأميال، وكل ذلك وسط مخاطر ومهالك قد تستمر بضع سنين.٢

ولكن يظن البعض خطأً أن سحب الجنود الإيطالية من شرق أفريقيا بدون قتال قد يؤدي إلى العصيان والفتنة، وقد ينذر بسقوط الذين نادوا بهذه الحرب وأعدوا لها ما استطاعوا، ثم ترددوا أو خشوا العواقب، فعادوا من حيث أتوا.

وقد فات هؤلاء المتطيرين والمنذرين أن الرجوع إلى الحق فضيلة، وأن التقهقر المنتظم خير من الانتصار الطاحن، وقديمًا قالوا بأن الصلح المجحف بحقوق الرجل خير من ربح الدعوى؛ لأن الربح معناه استمرار النزاع، واستقواء أحد الخصمين على الآخر، بعكس الصلح الجائر؛ فإنه نهاية يحسن السكوت عليها، ويطيب الوقوف لديها، ويُلقى عندها السلاح من الناحيتين. ولعمري إن عودة الجند بغير قتلى ولا جرحى خير من عودتهم على حال لا يعلمها إلا الله؛ لأنه هو وحده الذي يعلم عواقب الأمور، ولا يمكن أن يخطئ العالم كله ويصيب موسوليني!

نعم إن مجد الوطن شيء عظيم، وفرح الأَيم والأرمل واليتيم بانتصار الأمة على خصمها يفوق حزنهم على مَن فقدوا من أبناء وأزواج وآباء، ولكن هذا يصح في حال واحدة، وهي حال دفاع الأمة عن كيانها، ورد الهجوم عن حياضها. وعندما يكون الوطن في خطر حينئذ يكون الدفاع مشروعًا؛ لأنه دفاع عن النفس والعرض والوطن، ولكن هذه المشكلة التي يعالجها العالم منذ بضعة شهور لم تظهر فيها الحبشة بمظهر الأمة المعتدية، ولا المتهجمة، ولا الطامعة، ولا الطامحة، بل ظهرت بمظهر الآمنة المطمئنة المستكينة المستغيثة؛ ولذا كسبت عطفَ العالم، وألانت قلوب الدول، وأشهدت الدنيا على قضيتها، فصارت دول الاستعمار نفسها تُنكر التعدي، وتحتج عليه، وتأبى على الزعيم الإيطالي أن يغمض عينه عن عراقة الحرية في تلك البلاد النائية التي عاشت ألوف السنين رافعة علم الاستقلال الوطني، والكرامة القومية في قلب القارة السوداء.

من ثيودورس إلى هيلاسيلاسي

كان ثيودورس الثاني يُدعى قاسه، وهي كلمة حبشية معناها «عوض»، كما كان هيلاسيلاسي يُدعى «تفري»، وكان ثيودورس رجلًا عظيمًا، وينتظر من الحياة أن يكون له دور جليل يمثله في مسرح بلاده، فلما لم يجد ما يعينه على ذلك في حقائق التاريخ الحبشي، التمسه في سجل الأساطير، وكان مثله الأعلى أن يسود وطنه لا ليجني ثمار الفخار الشخصي، ولا ليدخر الأموال ويختزنها، بل ليخدم الوطن، ويُعلي شأنه، وهو يعتزم أن يجود بنفسه في سبيل الوطن، فهو يطلب العُلا لنفسه ليبذله في خدمة وطنه. وهذا أقصى ما تبلغه الكرامة في شخص الملوك، يصلون إلى أقصى درجات السمو القومي ليكونوا أشرف خدام الوطن، لا على أنهم أجراء، بل على أنهم مواطنون عظماء.

فلما آن الأوان، وكشَّرت أوروبا عن أنيابها لثيودورس، لم يتقهقر، ولم يرضَ بإذلال نفسه، بل خاض غمار المعارك، ولما أن أيقن أنه مقهور لا محالة نال من نفسه بيده، قبل أن يقع أسيرًا في أيدي خصومه «بيدي لا بيد عمرو». وكان خصومه يُقدِّرون شجاعته وإقدامه، ويكنون له الاحترام، ولا يرضون إذلاله، ولكن سبق السيف العذل، وراح حلم ثيودورس أدراج الرياح، ولم يتمكن بحكم القضاء والقدر من خدمة وطنه، ولكنه أوجد المثل الأعلى لمن يأتي بعده، وترك صورة جميلة من حياة الملوك وما يجب عليهم نحو أوطانهم. لقد كان «رائدًا» لمستقبل بلاده، وقائدًا لطلائع الأجيال المقبلة، وراسمًا لخطة لا بُدَّ من تنفيذها لفخر الوطن.

كان يرمي إلى توحيد كلمة الوطن ولمِّ شمل الإمارات الصغيرة، والقبائل المختلفة، والمعتقدات المتباينة، واللغات المتعددة تحت راية واحدة، وكان يقصد إلى مقاومة العدو الأجنبي الذي يهجم على أرض الوطن مهما كانت قوة جيوشه، وعدد عساكره، وكان يرمي إلى ترقية روح الشعب وتهذيبه وتثقيفه؛ ليتمكن من مسايرة الأمم المتحضرة في أفريقيا وغيرها.

وكانت مصر في نظره هي النموذج الذي يُحتذى، والمثال الواجب أن يُتَّبع، فلما أن حاربت الأقدار صاحب هذا المنهاج الجليل السامي، مؤذنة بأن حياة الأفراد مهما عظموا قد تذهب أحيانًا في سبيل حياة الأمم، ولم يتمكن ثيودورس من تنفيذه، بقي المنهاج لمن يجيء بعده، ويحمل بيده تلك الشعلة التي أرغمت الأقدار ثيودورس على التخلي عنها، وهو يجود بأنفاسه، فحملها يوحنا، ثم أسلمها إلى منليك الثاني، وقد كان هو المليك الذي كُتبت على يديه نجاة الوطن بأسره من أسره!

كان يوحنا — وهو قاهر الجيش المصري — ماكرًا؛ لأنه كان رئيس عصابة قبل أن يكون راهبًا أو أميرًا وقائدًا؛ ولهذا لم يتمكن من التفاهم مع مصر لتدوم له نعمة حسن الجوار٣ لأن حكومة مصر لم تكن تنوي إذلال الحبشة في سنة ١٨٧٥، ولكنها كانت ترمي إلى إعلاء شأن راية مصر في وادي النيل، وصيانة منابع النهر العظيم، والظهور أمام العالم المتمدين بمظهر العظمة القومية، في وقت هجمت فيه أوروبا على أفريقيا لتقتسمها كما يقتسم الجياع مأدبة يكون الداعي إليها مجهولًا، فاقتطعت كل دولة ما شاءت، وجارت تلك الدول على نصيب مصر وأملاكها في قلب أفريقيا وشرقيِّها.

ولم تكن الدولة المصرية ترمي إلى احتلال الحبشة أو إذلالها، ولعل يدًا أجنبية هي التي دفعت بمصر في هذا المأزق، وهي التي تربطها بالحبشة روابط شتى، منها وحدة العقيدة، سواء في ذلك المسلمون المقيمون في هرر، أو النصارى المقيمون في بقية الحبشة، وأصل ديانتهم عن مبشر إسكندري في مستهل القرن الرابع، ومنها الجوار، ومنها وحدة الأصل السامي واتحاد أصل اللغات التي تتكلمها الأُمَّتان.

ومنها العنصر التاريخي، وتمجيد سليمان وبلقيس في القرآن، وهما المقول إنهما مؤسسا الأسرة المالكة في بلاد أسد يهوذا، وقصتهما من أجلِّ القصص في القرآن الكريم وأروعها، يسمعها المسلمون وغير المسلمين صباح مساء، فذكراهما لدينا في كل وقت حاضرة.٤ ومنها خروج النيل الأزرق وروافده من بحيرات الحبشة.

وإذن كان هذا التخاصم القصير المدى غلطة سياسية تكفَّل الدهر وحسن تدبير الشعبين بتصحيحها. وقد كتبت الأيام على يوحنا أن يكون ممثلًا لهذا الدور في التاريخ الحبشي الحديث، فنحن لا نلومه لأنه كان يدفع عن وطنه هجومًا أجنبيًّا، ولكننا نعيب عليه أنه لم ينجح في الوصول إلى صلح شريف يمحو الخطأ السياسي، ويربط أواصر الصداقة بينه وبين الدولة المصرية من جديد مع سبق اعترافه بها.

أما منليك الثاني إمبراطور الحبشة الذي انتصر في موقعة عدوة الشهيرة، فقد كتب له أن يكون الملك الكامل الذي تم على يده منهاج ثيودورس.

وقد وُلد الإمبراطور منليك في سنة ١٨٤٤، وتولى ملك شوا في سنة ١٨٦٦، وتُوِّج إمبراطورًا على الأحباش في سنة ١٨٨٩، وانتصر في موقعة عدوة سنة ١٨٩٦، وتُوفي في سنة ١٩١٣، ولم يُرزق ذكورًا، وتزوج من الإمبراطورة تانوفي فرُزق منها بنتين زوديتو (يهوديت)، التي تُوِّجت إمبراطورة سنة ١٩١٦، وماتت سنة ١٩٣٠، ولم تترك عقبًا. وكان رحمه الله يُعرف لآخر أيامه في أوروبا بأنه «بعبع» إيطاليا.

عبقرية منليك وقوة إرادته

كان منليك الثاني طويل القامة، مهيب الطلعة، جميل المنظر، ربعة بين الرجال، متواضعًا وقورًا، وعاش أربعة وسبعين عامًا، وكان في جميع أطوار حياته، ما عدا شيخوخته ومرضه الأخير، نشطًا ميالًا إلى العلم بكل شيء، وبسبب هذا الميل ألمَّ بأمور شتى، وتعلَّم صناعات جمَّة كالميكانيكا وفحص الأسلحة، حتى أصبحت فنون الميكانيكا والكشف عن عدد الحرب لديه من أسهل الأمور.

وكانت نفسه مفطورة على العدل، فكان يعامل جميع رعاياه بالمساواة، ويحكم بينهم بالعدل، ويُحب لهم الخير، فأجمع المسلمون والنصارى من رعاياه على حبه، وعرفانهم بجميله.

وكان له شغف شديد بفنون البناء، حتى عدَّه بعضهم أعظم مهندس معماري في الحبشة، وقد رسم بيده أغلب رسوم المباني، وكان يصف للقائمين بها كيفية السير بموجب هذه الرسوم؛ أي أنه ينفذ التصميمات التي يضعها، حتى استوجب نبوغه في ذلك عجب الأوروبيين ودهشتهم.

وقد تعلَّم من بعض الأطباء والصيادلة تركيب بعض الأدوية، وكان يوجد في قصره رجال من المهندسين والصُّناع والعمال يقومون بالأعمال الصناعية والهندسية التي يتطلبها منهم، وهو يحادث كلًّا من هؤلاء بما يخص صناعته وفنه، ويشاهد بنفسه ما يقومون به من الأعمال، ويسأل عن كل مجمل ومفصل من المسائل التي لا يدركها، ويطلب إليهم أن يصنعوا أمامه ما خفي عليه حتى يتقن علمه بالاختبار.

وقد استحسن أحذية الإفرنج الذين كانوا يفدون عليه عندما كان ملكًا على مقاطعة شوا، فطلب مرة من أحد المهندسين أن يصنع له حذاء أمامه ليرى كيفية صنع الأحذية، فاعتذر له المهندس بأنه لم يشتغل أبدًا بصنع الأحذية، فلم يرق هذا الكلام في نظر منليك، وأصرَّ على طلبه، فلم ير المهندس بُدًّا من تنفيذ أمر الملك، فقام بتجهيز ما يلزم لصنع الأحذية، وأوصى بصنع قالب خشب، وحل قطع حذاء قديم عن بعضها ليرى كيفية صنعها، ثم أحضر الجلود اللازمة، وأخذ يشتغل بصنع الحذاء أمام منليك حتى صنع له حذاء منها، وكذلك نفذت رغبة الإمبراطور التي وقف بواسطتها على كيفية صُنع الأحذية.

وأمر مرةً المهندسَ أن يصنع له بندقية تطلق بالخرطوش على الطراز الجديد، وهو يعلم أن صنع هذه الأشياء في أوروبا يكون أقل عناء ونفقة، ولكنه يطلب صنعها أمامه وفي بلاده ليقتنع بإمكان صنعها في وطنه، ويتأكد من معادنها وأخشابها وصلاحيتها للصناعات التي ترد من أوروبا.

أما مهارته السياسية والحربية فلم يكن فيها شك، وقد اعترف بها الأعداء قبل الأصدقاء، أما طريقة استيلائه على عرش شوا، فهي أنه لما قرب الإنجليز سنة ١٨٦٧ من مجدالا تمكَّن منليك من الفرار منها، وقطع الوديان والجبال الصعبة المرور وحيدًا ليس معه أحد، ولحق ببضعة آلاف رجل من رجال أبيه وأخصائه وقومه وقبيلته، وكانوا في انتظاره، فاستقبلوه ورحبوا به، وسُرُّوا به، فسار من هناك ومعه رجاله، وجميعهم مسلمون، وهاجم أنوبذابا، حاكم مقاطعة شوا المُولَّى من قِبل تيودورس، فهزَمه واستولى على بلاده (شوا)، وصعد على عرش أجداده وأبيه.

ومن هذا التاريخ انقطعت جرثومة الحروب الداخلية في تلك المقاطعة، وأصبحت من ذلك اليوم أضخم جزء من أجزاء المملكة الحبشية. ولما صعد يوحنا إلى العرش الحبشي بدأت الخصومة بينه وبين منليك، ولكن منليك حقن دماء الأمة، وخضع ليوحنا مع أن انتصاره عليه لم يكن صعبًا، وما زال يحافظ على كيانه، ويرد خصومه، وقد انتقم له بعد قتله. وقد اجتمعت كلمة الحبشة على ترشيحه للعرش وتتويجه، فتمَّ له ما أراد برغبة الأمة.

figure
صاحب الجلالة الإثيوبية المغفور له منليك الثاني إمبراطور الحبشة وقاهر الطليان في عدوة.

خلفاؤه

وترك الإمبراطورُ الأميرةَ شوارجه التي تزوَّجت من الرأس ميخائيل، الذي كان أصله مسلمًا، وانتحل المسيحية تقرُّبًا من منليك الثاني، فرُزق من شوارجه بليج ياسو، الذي عيَّنه منليك وليًّا لعهده، وتُوِّج إمبراطورًا سنة ١٩١٣، وخُلع في سنة ١٩١٦، ويقال إنه مات في الأيام الأخيرة،٥ فكأنه حيل بين ملكين شرعيين؛ وهما: ليجياسو وزوديتو؛ ليصل الإمبراطور هيلاسيلاسي إلى العرش، وهو ابن الرأس ماكونين الذي يُعادل منليك الثاني في شجرة النسب؛ فإن ساهالاسيلاسي رُزق هيلا ملاكوت ووازيرو نتانا، فوُلد لهيلا ملاكوت منليك الثاني، ووُلد لنتانا رأس ماكونين الذي ولد له هيلاسيلاسي، فمنليك الثاني ورأس ماكونين أولاد عم، وزوديتو تُعادل هيلاسيلاسي في درجة القرابة، وليجياسو بمثابة ابن الأخت لهيلاسيلاسي.

وليس هنا مجال البحث فيما إذا كان هيلاسيلاسي مغتصبًا للعرش من ليجياسو أولًا، ومن زوديتو ثانيًا.

فإن ليجياسو عُزل سنة ١٩١٦ بإرادة الحلفاء؛ لأن سياسته كانت تجعله إلى الألمان والأتراك أقرب، فسعى الفرنسيون في إبعاده بحجة أنه يُبطن الإسلام ويُظهر النصرانية، بسبب أن أباه كان مسلمًا وانتحل النصرانية طمعًا في نسب الإمبراطور، وزعموا في ذلك الوقت أنه سافر إلى حدود الحبشة، وقابل وفدًا من تركيا بايعهم على الإخلاص لهم، وأنه كان يلبس عمامة مكتوبًا في ثناياها لا إله إلا الله، محمد رسول الله، وأنه صلى صلاة المسلمين، ونشر راية عليها نص الشهادة الإسلامية.

فتقدم الحلفاء بالرأس «تفري» ليحل محله، وقامت بينهما حروب دامية، وانضم الرأس ميخائيل الذي كان لا يزال على قيد الحياة لولده، ولكن «تفري» انتصر في النهاية وسجن ليجياسو وقيَّده بسلاسل من ذهب، ولم يحكم عليه بالإعدام؛ لأن تقاليد الأسرة المالكة في الحبشة لا تُبيح قتل الأمراء صبرًا إلا عند الضرورة القصوى.٦

وإذن تكون الأقدار قد اختارت الأمير تفري ابن الرأس ماكونين ليتلقى الهجوم الأوروبي الأخير على بلاد الحبشة، فرفع بذلك عبء تلك المسئولية الخطيرة عن كاهلي امرأة ورجل هما زوديتو وليجياسو. وفي الحق إن بلادًا كالحبشة لا يحدث فيها أن يصل ولي العهد المعين من سلفه إلى العرش إلا نادرًا، بل يصل إلى العرش من يستطيع الوصول إليه بالقوة أو الحيلة؛ لأن الأمم المتحضرة هي وحدها التي تستطيع أن تحترم تسلسل الأبناء والأحفاد على العروش، وتحافظ على النظم الموضوعة لتتويج الملوك أو الملكات، وتوليهم شئون بلادهم.

فبينا ترى دولة كإنجلترا تحكمها فتاة، هي الملكة فكتوريا، ولما تبلغ نهاية العقد الثاني، ويمتد عهد مُلكها إلى أن تبلغ الشيخوخة الفانية، وقد بلغت دولة بريطانيا في عهدها من العظمة والاتساع والنفوذ والسلطان ما لم تبلغه دولة أخرى، بل ما لم تبلغه إنجلترا نفسها إلا في عهد الملكة إليزابث.

ولم يخطر ببال أحد أن يعرض على الملكة الشيخة أن تتنحى عن العرش وقد بلغ ولي عهدها (الذي صار فيما بعد الملك إدوارد السابع) من الكبر عتيًّا، وشاب فوداه ولحيته وهو لا يزال وليًّا للعهد! كل ذلك ليس إكرامًا لشخص الملكة، أو عطفًا على شيخوختها، أو تقديرًا لجهادها، أو تفاؤلًا بحسن طالعها؛ لأن إنجلترا نالت في عهدها ما لم تنله في عهد سواها، ولكن لأن الأمة وضعت نظامًا خاصًّا بالملك، وأرادت أن تحترمه. وهذا ما لا يحدث في معظم ممالك الشرق.

وفي نفس هذا الوقت كان سلاطين آل عثمان وأولياء عهدهم ووزراؤهم ورجال حاشيتهم يدبرون لبعضهم بعضًا صنوف المكايد والمقالب، فيخلعون مَن يخلعون بفتوى شرعية، يُبادر بتقديمها جماعة السوفته (علماء الدين)؛ بحجة أن السلطان خالف الشرع الشريف، أو فقد عقله فاستحق العزل، وإذا رُؤي الاستغناءُ عن الفتوى فإن كأس السم أو حد الخنجر حاضران للخلاص من أيِّهم، ولا يزال مصرع السلطان عبد العزيز والسلطان مراد وغيرهما سرًّا غامضًا.

ولم يكن الأمر مقصورًا على سلاطين آل عثمان، بل كان شاملًا لعروش الشرق جميعًا، فكانت حظوظ هذه العروش وأصحابها في أيدي المصادفات والمطامع، وإن هذا لداء دفين في الشرق، وفي كل مملكة تُشبه الشرق، وقد سرى الداء إلى بعض ممالك البلقان، فكان مصرع الملك إسكندر، والملكة دراجا في عاصمة الصرب من أروع المصارع وأفظعها.

وهذا لا يدل على أن أوروبا لم تقع في مثل هذه المِحن، فإن تاريخ إيطاليا لعهد الإمارات الاستبدادية حافل بها،٧ كذلك حديث الرجل ذي القناع الحديدي لعهد لويس الرابع عشر، وتاريخ إنجلترا نفسه يدل على أنه في سنة ١٢١٥، بعد أن سافر ريكاردوس قلب الأسد إلى الشرق في حملة الحروب الصليبية، وترك ولي عهده طفلًا بوصاية أخيه حنا، طمع حنا في المُلك فاغتصبه، وسجن ابن أخيه في برج لندن، وسمل عينيه بالحديد المحمي ثم قتله في سبيل العرش المغتصب.٨

وأمرت إليزابث بقتل الملكة ماري الأيقوسية.

ولكن كل هذا يدل على أن بعض أمم الشرق وأمراءَهم لا يزالون في هذا القرن والذي قبله في درجة من المدنية تعادل تلك التي وصفناها، فالشرق في القرنين التاسع عشر والعشرين يعادل أوروبا في القرنين الثاني عشر والثالث عشر.

١  قُدِّر ما أنفقته إيطاليا لآخر أكتوبر سنة ١٩٣٥ بثلاثين مليون جنيه.
٢  من خطبة لونيستون شرشل في ٢٦ سبتمبر سنة ١٩٣٥.
٣  جاء في رسائل السودان التي نُشرت في مصر في سنة ١٨٩٢، أن قائدًا إنجليزيًّا شهيرًا هو الذي أوقع بين يوحنا وإسماعيل بفتنة.
٤  في أسطورة حبشية أن منليك الأول هو أول سلالة سليمان وبلقيس، وأنه جاء إلى الحبشة يحمل ألواح موسى وهو طفل صغير، ونزل أكسوم عاصمة الحبشة المقدسة.
٥  ثبت أنه لم يمت، بل نُقل من سجنه إلى حصن بعيد عن مواطن الطليان لئلا يقع في يدهم، فيكون أداة قوية ضد الإمبراطور هيلاسيلاسي.
٦  تسربت هذه المعلومات إلينا في كتب نشرها الفرنسيون والألمان، ومقالات في جريدة الطان الشهيرة في سنتي ١٩٢٥ و١٩٢٦.
٧  راجع: «تاريخ الجمهوريات الإيطالية» تأليف سيسموندي.
٨  شغف شكسبير بهذا الموضوع فصاغه رواية مسرحية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤