طارق رمضان

سبتمبر، مَطلَع الخريف، شهر التأهُّب والتدريب. صوت سالم العجرودي المُخرِج يتدفَّق؛ يَتدفَّق في حجرة المدير المُغلقة النَّوافذ المُسدَلة السَّتائر. لا صوت يتطفَّلُ عليه إلا أزيزٌ خَفِيفٌ يَندُّ عَنْ جهاز التكييف. صوته يَمرُق في إطار صمتنا اليقظ قاذفًا بالصور والكلمات، نبراته ترقُّ وتَخشَوشِن، تتلوَّن بشتى الأصباغ، محاكيةً أصوات الرجال والنساء. قبل ترديد أيِّ حوار، يَرمق صاحب الدور أو صاحبته بنظرة تنبيه، ثم يَسترسل. وتنبثق الصور من واقع ثقيل صلب يجتاحنا بصراحة مرعبة، يجتاحنا بتحدٍّ مُخيف. سرحان الهلالي، المدير، يجلس على رأس المائدة المُستطيلة المُكلَّلة بالقطيفة الخضراء، يجلس كحارس صارم، يتابع التلاوة بوجه جامد هادئ، قابضًا على سيجار الدينو بشفتَين مُمتلئتين، يُحدِّق بوجهه الصقري في وجوهنا المشرئبة نحو المخرج، يصادر بجديته البالغة أي مقاطعة أو تعليق، يتجاهل انفعالاتنا المتوقَّعة ويدعونا بصمته البارد إلى تجاهلها أيضًا؛ ألم يُدرِك الرجل معنى ما يُلقى علينا؟ الصور تتماوج أمام مخيلتي مخضَّبةً بالدماء والوحشية، أريد أن أتنفَّس بكلمة أتبادلها مع أحد! سحابة الدخان المُنعقِدة في الحُجرة تَزيد من غربتي. أغوص في الرعب، وأحيانًا ألتصق بنظرة بلهاء بالمكتب الفخم وراءنا، أو بصورة من الصور المعلَّقة؛ صورة درية وهي تَنتحِر بالأفعي، صورة إسماعيل وهو يخطب فوق جثة قيصر. ها هي المشنقة تتخايل لعيني، ها هي الشياطين تتبادَل الأنخاب.

وعندما نطق سالم العجرودي بجملة «يُسدل الستار»، اتجهت الرءوس نحو سرحان الهلالي مُترَعةً بالذهول.

يقول المدير: يسرُّني أن أستمع إلى الآراء.

وتقول درية، نجمة المسرح، باسمةً: فهمتُ الآن لمَ لمْ يَحضُر المؤلِّف جلسة القراءة!

وأقول أنا، وأنا أحلم بتدمير العالم: المؤلِّف؟ … ما هو إلا مُجرِم علينا تسليمه إلى النيابة.

يردُّ عليَّ الهلالي بنبرة آمرة: الزَمْ حدَّك يا طارق؛ انسَ كل شيء إلا أنك مُمثِّل …

– ولكن …

يُقاطعُني بغضبه الجاهز دائمًا: ولا كلمة!

ووجَّه عينَيه نحو المُخرج، فقال المُخرج: المسرحية مرعبة!

– ماذا تعني؟

– ترى كيف يكون وقعها في الجمهور؟

– لقد وافقتُ عليها وأنا مُطمئنٌّ.

– لكن جرعة الرعب جاوزت الحد.

وقال إسماعيل نجم الفرقة: دَوري بشع!

فقال الهلالي: لا يُوجد مَن هو أقسى من المثاليِّين، هم المسئولون عن المذابح العالَمية! دورك تراجيدي من الطبقة الأولى!

فقال سالم العجرودي: قتل الطفل سيُفقده أي عطف …

– دعنا الآن من التفاصيل، ممكن حذف دور الطفل. لقد نجح عباس يونس في إقناعي أخيرًا بقبول مسرحية له، وشعوري يُلهمني بأنها ستكون من أقوى المسرحيات التي قدمناها في عُمرِ مسرحنا الطويل.

فقال فؤاد شلبي الناقد: إني أشاركك شعورك، ولكن يجب حذف دور الطفل.

فقال الهلالي: يسرُّني أن أسمع منك ذلك يا فؤاد؛ إنها مسرحية متقنة وصادقة ومثيرة …

فقلت بحدَّة: ما هي بمسرحية؛ إنها اعتراف، هي الحقيقة، نحن أشخاصها الحقيقيون …

فقال الهلالي بازدراء: ليكن؛ أتحسب أن ذلك فاتني؟ … لقد رأيتُك كما رأيت نفسي، ولكن من أين للجمهور أن يعرف ذلك؟

– ستتسرَّب الأخبار، بطريقة أو بأخرى …

– ليكن؛ الضرر الأكبر سيَحيق بالمُؤلِّف نفسه. بالنسبة لنا، سنَضمن مزيدًا من النجاح؛ أليس كذلك يا فؤاد؟

– أعتقد ذلك.

فابتسم الهلالي لأول مرة، وقال له: يجب أن يتمَّ كل شيء في لباقة وكياسة.

– طبعًا … طبعًا!

فرجع سالم العجرودي يُتمتم: الجمهور! … ترى كيف يستقبلها؟

فقال الهلالي: هذه مسئوليتي أنا.

– عظيم … سنبدأ العمل فورًا.

الجلسة تنفضُّ؛ ألبث أنا وحدي مع المدير. لي دالَّة عليه (بحكم الزمالة والصداقة والجيرة القديمة). قلت له وأنا في غاية الانفعال: علينا أن نَعرض الموضوع على النيابة.

فقال مُتجاهِلًا انفعالي: ها هي فرصة، لتُمثِّل في المسرحية ما سبق أن عشته في الحياة.

– إنه مُجرِم لا مؤلف!

– وهي فرصة ستخلق منك ممثلًا مُهمًّا، بعد عمر طويل مضى وأنت ممثل ثانوي.

– إنَّها اعترافات؛ كيف نترك المُجرم يُفلِت من يد العدالة؟

– إنها مسرحية مُثيرة واعدة بالنجاح، وذاك أقصى ما يهمني يا طارق!

فاض قلبي بالغضب والمرارة، انتشرت أحزان الماضي كالدخان بكافة هزائمه وآلامه.

إنها فُرصتي للتنكيل بعدوِّي القديم.

•••

– مَن أدراك بهذه الأسرار؟!

– عفوًا … سنتزوَّج!

•••

ويتساءل سرحان الهلالي: ماذا أنت فاعل؟

– يُهمُّني في الاعتبار الأول أن يَنال المُجرِم جزاءه.

فقال بضيق: اجعلِ الاعتبار الأول لإتقان الدور.

فقلت بتسليم: لن يفوتني ذلك.

•••

يَقتحمُني انفعال قهار عند رؤية النعش، فأُجهِش في البكاء مغلوبًا على أمري، كأنه أول نعش أراه. الدموع في عيني مثلي مُثيرة للدهشة؛ ألمح السخريات من خلال الدمع مثل ثعابين الماء. ليس هو الحزن أو العِظَة، ولكنَّه جنون عابر. أتجنَّب النظر إلى المشيِّعين؛ خشية أن يَنقلِب البكاء إلى هِستيريا من الضحك!

•••

أي كآبة تَغشاني وأنا أخترق باب الشعرية؟ منذ سنوات لم تَقترِب منه قدماي. حي التقوى والخلاعة! أغوص في زحام وضوضاء وغبار النساء والرجال والصبية. تحت سقف الخريف الأبيض، كل شيء يلوح لعيني في ثوب الازدراء والكآبة. حتى الذكريات منفِّرة جارحة، بما فيها مجيئي بتحيَّة لأول مرة وهي تتأبط ذراعي في مرح. مثل الهوان في الظل ومعاشرة الصعاليك والقبوع الحقير تحت جناح أم هاني. اللعنة على الماضي والحاضر، اللعنة على المسرح والأدوار الثانوية، اللعنة على أول نجاح تأمُلُه من لعب في مسرحيةِ عدوٍّ مُجرم وأنت تعلو الخمسين من العمر. ها هو سوق الزلط النحيل الطويل مثل ثعبان، ها هي بواباته المُتجهِّمة العتيقة، وها هما عمارتاه الجديدتان الوحيدتان، والبيت القديم رابض مكانه بما يطويه في صدره من تاريخ أسود وأحمر. لقد استجدَّ جديد لم يكن، فتحوَّلت المنظرة الخارجية إلى مقلى يجلس فيها للبيع كرم يونس، وإلى جانبه حليمة زوجته. شد ما غيَّرَهما السجن؛ وجهان هما صورتان مُجسِّدتان للامتعاض، ينغمسان في الكدر على حين يأخذ نجم ابنهما في اللمَعان. لمَحني الرجل، نظرت المرأة نحوي أيضًا، لا حب ولا ترحيب هذا ما أُسلِّم به، رفعتُ يدي بالتحية، فتجاهلها الرجل، وقال بجفاء: طارق رمضان! … ماذا جاء بك؟

لم أتوقَّع استقبالًا أفضل؛ اعتدتُ ألا أُبالي! وقفت المرأة مُنفعلةً، ثم سرعان ما جلست على كرسيِّها المجدول من القش، وهي تقول بمرارة ساخرةً: أول زيارة مذ رجعنا إلى سطح الأرض.

ما زالت قسمات وجهها تتشبَّث بذكريات جمالها. الرجل يَقِظ مفيق رغم أنفه. من هذين وُلد المُؤلِّف المُجرِم.

قلت كالمُعتذر: الدنيا شبكة من الهموم، وما أنا إلا غريق مِن الغَرقى.

فقال كرم يونس: جئت من الماضي كذكرى من أسوأ ذكرياته.

– لستُ أسوأ من غيري!

لم يَدعُني أحد للجلوس في المقلى، فلبثتُ واقفًا في موقف الزبائن، وشجَّعني ذلك على التمادي فيما جئت من أجله، وتساءل كرم في جفاء: هه؟

فقلت بتحدٍّ: معي أخبار سيئة!

فقالت حليمة: لم نَعُد نحزن للأخبار السيئة.

– حتى لو تكون عن الأستاذ عباس يونس؟

فقلقَت نظرتها في حدة، وهتفت: لن تَزال عدوَّه حتى الموت!

وقال كرم: إنه ابنٌ بارٌّ؛ هو الذي أنشأ لنا هذه المقلى، بعد أن رفضتُ العودة إلى عملي القديم بالمسرح.

وقالت حليمة بفخار: وقد قُبلَت مسرحيته.

– قُرئت علينا أمس.

– رائعة ولا شك!

– مرعبة … ماذا تعرفان عنها؟

– لا شيء.

– ما كان بوسعه أن يُخبركما …

– لماذا؟

– إنها باختصار تدور في بيتكم هذا، مُكرِّرةً ما وقع فيه بالحرف الواحد، كاشفةً في الوقت نفسه عن جرائم خفية تُفسِّر الوقائع تفسيرًا جديدًا.

تساءل كرم بجدية لأول مرة: ماذا تعني؟

– سترى نفسَك كما سنرى أنفسنا؛ كل شيء … كل شيء، ألا تُريد أن تفهم؟

– حتى السجن؟

– حتى السجن، وموت تحية، ولكنَّها تدلُّنا على مَن وشى بنا إلى الشرطة، كما تُثبت لنا أن تحية قُتلت ولم تَمُت!

– ما هذا السخف؟

– إنه عباس أو مَن حلَّ محلَّه في المسرحية من يفعل ذلك.

تساءلت حليمة بحدة: ماذا تعني يا عدو عباس؟

– إني أحد ضَحاياه، أنتما ضحيَّتان أيضًا.

فتساءل كرم: أليست مسرحيةً؟

– إنها لا تدع مجالًا للشكِّ فيمَن وشى بكما، ولا فيمَن قتل …

– كلام فارغ …

وقالت حليمة: عنده تفسير ولا شك!

– اسألاه … شاهِدا المسرحية عند عرضها.

– مجنون … لقد أعماك الحقد!

– بل الجريمة!

– ما أنت إلا مُجرم، وما هي إلا مسرحية …

– إنها الحقيقة …

– حاقد مجنون … ابني عبيط، ولكنه ليس خائنًا ولا قاتلًا …

– هو خائن وقاتل، وليس عبيطًا …

– هذا ما تتمناه.

– يجب تسليم قاتل تحية إلى العدالة.

– إنه الحقد القديم … هل أكرمت تحية حينما كانت بيدك؟

– كنت أحبها، وكفى!

– حب البرمجية …

صحت بغضب: إني خيرٌ مِن زوجِك، وخير من ابنك.

فسألني كرم بجفاء ومقت: ماذا تريد؟

فقلت ساخرًا: أريد لبًّا بقرش.

فهتف بي: رُح في داهية!

•••

رجعتُ أخوض في أمواج الأطفال والنساء. تَوكَّدَ لديَّ أن عباس لم يُشِر إلى موضوع مسرحيتِه لوالدَيه، مما يَشهد على تجريمه، لكن، لمَ يُفشِي سرًّا خطيرًا لم يشكَّ فيه أحد؟ أهي اللَّهفة على النَّجاح بأيِّ ثمن؟ أيَلقى جزاءه شهرةً بدلًا من المشنقة؟

•••

– طارق … ماذا أقول؟ … القسمة والنصيب!

•••

عند ناصية شارع الجيش، التفتُّ صوب العمارة، ثمَّ ملتُ نحو العتبة. بمرور الأعوام، الشارع يَضيق ويُجنُّ ويُصاب بالجدري. نلتِ جزاءك يا تحية؛ من الإنصاف أن يقتلك مَن هجرتِني من أجله. سيستفحل الزحام، حتى يأكل الناس بعضُهم بعضًا. لولا أم هاني، لتشرَّدت في الطرقات. المشنقة هي قمة المجد يا عباس، لا ميزة لك إلا الفحولة، هزيمتها لا تُنسى. ما معنى أن تعيش ممثِّلًا من الدرجة الثالثة؟ في الأيام الحلوة، نما الحب وراء الكواليس، فقهت الغريزة الحية لغة الفحولة الخفية. نلت أول قبلة والموت يزحف على راسبوتين.

– تحية … إنكِ تستحقِّين أن تكوني نجمةً لا ممثلةً ثانويةً كحَالي.

– حقًّا؟! … إنك تُبالغ يا أستاذ طارق.

– بل شهادة خبير …

– أم عين الرضا؟

– حتى الحب لا يُؤثر في حكمي!

– الحب؟!

كنا نسير في شارع جلال، في النصف الثاني من الليل؛ سهونا عن قشعريرة البرد، وثملنا بدفء الحُلم.

قلت: طبعًا … أتُريدين هذا التاكسي؟

– آنَ لي أن أرجع إلى بيتي.

– وحدك؟

– لا أحد معي في شقتي الصغيرة.

– أين تقيمين؟

– شارع الجيش.

– نحن جيران تقريبًا؛ إني أقيم في حُجرة ببَيت كرم يونس في باب الشعرية.

– مُلقِّن الفرقة؟

– نعم … هل تدعينَني إلى شقتك، أو أدعوك إلى حجرتي؟

– وكرم وحليمة؟

ضحكت، فابتسمت. تساءلت: لا أحدَ في البيت سواكم؟

– ابنها الوحيد، تلميذ.

جميلة، وصاحبة شقة ومرتب مثل مرتبي!

•••

لمَ يستدعيني سرحان الهلالي ونحن منهمكون في التدريب؟

يقف مستندًا إلى مائدة الاجتماعات في تيار الشمس الدافئ، يبتدرني: اعتذرت مرتين عن التدريب يا طارق …؟

– لم أجد ما أقوله، فواصل بضيق: لا تخلط بين الصداقة والعمل … ألم يَكفِكَ أنك حملت عباس على الاختفاء؟

– لعله هرب بعد افتضاح أمره!

– ما زلتَ مُصرًّا على أفكارك الغريبة؟

– إنه مجرم؛ ما من شكٍّ في ذلك!

– إنها مسرحية، وإنك ممثل لا وكيل نيابة.

– ولكنه مُجرم، وأنت تؤمن بذلك.

– الحقد يُعمي بصيرتك!

– لستُ حقودًا.

– لم تُشف من خيبة الحب بعدُ.

– إننا نتدرب لنُهيِّئ النجاح للمجرم.

– إنه نجاحنا نحن، وهي فرصتك للضوء بعد عمر طويل في الظل.

– أستاذ سرحان … الحياة …

– لا تحدثني عن الحياة … لا تتفلسف … إني أسمع ذلك كل ليلة في المسرح حتى مللتُه … إنكَ تُهمل صحتك … الجنس والمخدرات وسوء التغذية … ولا تتورع عن تمثيل دور الإمام في مسرحية الشهيدة وأنت سكران!

– أنت الوحيد الذي عرف ذلك.

– أكثر مِن ممثِّل شمَّ رائحة فمك … هل تضطرني إلى …

قاطعته بجزع: لا تُعرِّض صداقة العمر للهوان …

– ولحنتَ في آية، وهو شيء لا يغتفر.

– مرَّ كلُّ شيء بسلام.

– أرجوك … أرجوك … انس هوس التحقيق الخرافي، واحفظ دورك جيدًا … إنه فرصة العمر!

وأنا أغادر الحجرة، قال لي: عامِلْ أم هاني معاملةً أفضل … ستُعاني كثيرًا إذا هجرَتْك.

اللعنة … تماثلني في السن، ولا تعرف الشكر. شهدَت موتَ تحية، دون أن تدري أنها قُتلت. سأُمثِّل كل ليلة دور العاشق المهجور … سأبكي مرارًا وتكرارًا أمام النعش … ماتت دون أن تندم … لم تتذكَّرني … لم تَعرف أنها قُتلت … قتلها المثالي … إنه ينتحر في المسرحية، ولكن يجب أن يُشنَق في الحياة … ها هي جريمة تَخلُق مؤلِّفًا ومُمثلًا في آن.

•••

– ألم تَحضر تحية؟

– كلا.

– لم أقابلها في المسرح.

– لم تذهب إلى المسرح.

– ماذا تعني يا عباس؟

– أستاذ طارق … أرجوك … لن تحضر تحية إلى هنا، ولن تذهب إلى المسرح.

– من أدراك بهذه الأسرار كلها؟

– عفوًا … سنتزوج …

– هه؟!

– اتفقنا على الزواج.

– يا ابن … أنت مجنون؟ … ماذا تقول؟

– حلمك … نريد أن نكون شرفاء معك … دعني …

لطمته، تنمَّر بغتةً بوجه يموج بالعدوان، ولكمني. شابٌّ قوي رغم السحابة على عينه اليُسرى. دار رأسي، جاء كرم يونس، وجاءت حليمة. تساءَلا: ماذا حدث؟

صرخت: شيء مضحك … رواية هزلية … المحروس سيتزوَّج من تحية!

تساءل كرم ببرودِ مُدمِن ذاهل دائمًا: حقًّا؟!

وهتفت حليمة مُخاطِبةً ابنها: تحية؟! … أي جنون؟ … إنها أكبر منك بعشرة أعوام!

لم ينبس، صحتُ أنا: لعب أطفال … سأمنع هذا بالقوة.

فصاحت حليمة: لا تَزِدِ الأمور سوءًا.

فصرخت بجنون: سأهدم البيت على من فيه!

فقالت لي ببرود: خذ ملابسك، ومع السلامة …

فغادرتُ المكان، وأنا أقول بتحدٍّ: باقٍ على أنفاسكم حتى النهاية.

•••

ذبيح الكرامة، مَهين الفحولة، مضغوط القلب، مهجور الأمل، يشتعل قلبه من جديد، بعد أن ظنَّ أن الروتين قد أخمده. كنتُ أتوهَّم أن تحية ملكي مثل الحذاء المطيع، كنتُ أنهرها وأهينها وأضربها، كنتُ أتصوَّر ألا حياة لها بدوني، وأنها تُفرِّط في حياتها قبل أن تفرط فيَّ، فلما تلاشت بحركة مُباغتة ماكرة قاسية، تلاشى معها الأمن والثقة والسيادة، وحلَّ الجنون. وبزغ الحب من ركن مُظلِم غائص في الأعماق، يَنفض عن ذاته سبات البيات الشتوي؛ ليَبحث عن غذائه المُفتقَد. لاحت خلف شرَّاعة الباب تلبية لنداء الجرس، عكست عيناها نظرة ارتباك مثل نطقٍ مُلعثَم، ولكنها لم تتراجع، متحديةً أزمة مصيرها. تفرست في الصورة الجديدة المتحررة من الإذعان الأبدي، المتطلِّعة إلى الجديد، وهي تنزلق فوق الحد الفاصل الذي يستثير كوامن الجريمة.

– افتحي الباب يا تحية.

– أنت تعرف الآن كل شيء.

– هل تتركينني في الخارج كالغريب؟

– طارق، ماذا أقول؟ لعله خير لكلينا، وهو النصيب والقسمة.

– إنه عبث وجنون.

– كان عليَّ أن أخبرك بنفسي.

– ولكني لا أُصدِّق … افتحي.

– كلا … إني أُعاملكَ بشرف.

– ما أنت إلا عاهرة!

– حسنٌ … دعني في سلام.

– لن يحدث ذلك أبدًا.

– سوف نتزوَّج في الحال.

– تلميذ … مجنون … نصف أعمى …

– سأُجرِّب حظي.

– افتحي الباب يا مجنونة.

– كلا … لقد انتهى كل شيء.

– مستحيل …

– ذاك ما حدث.

– لن تعرفي الحب إلا بين يديَّ!

– لا يُمكن أن تمضيَ الحياة على ذاك النحو.

– لم تبلغي بعد سن اليأس؛ فلم تَرتكبين الحماقات؟

– لنَفترِق بسلام … أرجوك …

– إنها نوبة يأس خادعة …

– كلا …

– إني خبير بالأطوار الشاذة، التي يتعرَّض لها أمثالك!

– سامحك الله!

– يا مجنونة … متى تغيرت؟

– لم أرتكب في حقِّك أيَّ خطأ …

– عشت الكذب فترةً ما …

– لا تتمادَ فيما لا فائدة منه.

– إنك أول عاهرة.

ولكنها أغلقت الشرَّاعة.

•••

بقيتُ في بيت كرم يونس، عباس يونس ذهَب؛ حلَّ محل أبيه في وظيفة الملقِّن، بعد أن استغنى الأب عنها، اكتفاءً بما يُدرُّه عليه بيته من أرباح وفيرة. توتَّر الجو في بادئ الأمر، فتدخَّل سرحان الهلالي، وهمس في أذني: لا تُفسِد علينا سهرتنا … اعقل … بإشارة تستردُّ أم هاني … دخلها ضعف دخل تحية.

الهلالي مجنون نساء، ولكنه لا يعرف الحب؛ عاشر تحية مرةً أو مرتين. لا يَعترف بما يَسمع عن الحب وآلامه، وهو يأمُر وينهى في الحب، كأنه أحد الشئون الإدارية، ويُطالِب بالتنفيذ في الحال. لا أشكُّ في نواياه الطيبة نحوي، وكم هيَّأ لي من فرص فوق خشبة المسرح، ضاعت كلها بسبب قُصورِ موهبتي، ولكنه يؤمن بنجاحي في مسرحية عباس. وقد بشَّر أم هاني خياطة الفرقة برجوعي إليها، فرجعت إليها، فرارًا من الوحدة، وتدعيمًا لحالي المالية المتوعِّكة، وقبل أن أبرأ من التجربة المريرة. لم أتوقَّع لزواج تحية أيَّ استمرار أو نجاح؛ كانت دائمًا كثيرة العلاقات، تستكمل أجرها الصغير. لم تحبَّ أحدًا سوايَ رغم فقري، وقد كذبتْ توقُّعاتي، فحافظت على الزوجية حتى وفاتها، غير أنَّ المسرحية هتكت ما خفيَ من سرها. في المسرحية؛ تَعترِف وهيَ على فراش المرض بأنها باعت نفسها لضيف أجنبي، وعند ذاك يُقرِّر زوجها في المسرحية قتْلَها؛ وذلك بأن استبدل بالدواء حبوب أسبرين لا جدوى منها. إذن قد صدقَت توقُّعاتي، وأنا لا أدري، وقتلها الذي أزعجها بمثاليته، الذي أرجو ألا يُفلِت من العقاب.

•••

أي مغامرة!

أجد نفسي وجهًا لوجه مع عباس، في شقته التي كانت ذات يوم شقةً لِتحية، اندفع إليها في ذات اليوم الذي قابلتُ فيه والدَيه بالمقلى. إنه الآن مؤلِّف، ووحيد في الشقة. أخيرًا أصبح مؤلفًا، بعد رفض العشرات من المسرحيات. مؤلِّف زائف يسرق الحقيقة بلا حياء! دهش لحضوري؛ لا تُدهش، ما مضى قد انقضى، ولكن آثاره تطرح نفسها من جديد. وقد صالح بينَنا الهلالي ذات يوم فتصافَحنا، وما في القلب في القلب. جلسنا في مكتبه؛ الشقة مكوَّنة من حجرتين ومدخل، نتبادل النظر في وجوم، حتى قلت: أنتَ ولا شك تتساءل عما جاء بي!

– لعله خير.

– جئت لأهنِّئك على المسرحية.

فقال بفتور: شكرًا.

– سيبدأ التدريب غدًا.

– المدير مُتحمِّس لها.

– بخلاف المُخرج.

– ماذا قال؟

– إن البطل قذر جدًّا، وبغيض جدًّا، ولن يَتعاطف الجمهور معه.

فهز منكبيه استهانةً وإن تجهَّم وجهه. سألته: تشهد جلسة القراءة؟

فقال ببرود: هذا شأني.

– ألم تُقدِّر أن حوادث المسرحية ستصبُّ عليك مطرًا من الظنون؟

– لا يُهمني ذلك.

– سيتصوَّرون ولهم الحق أنك قاتلٌ وخائن لوالدَيك.

– سخف لا يُهمني.

فانفرط زمامي، وقلت بانفعال: يا لكَ من قاتل محترف!

فرمقني بازدراء وتمتم: ستظلُّ حقيرًا، دائمًا وأبدًا.

– أتستطيع أن تُدافع عن نفسك؟

– لستُ مُتَّهمًا كي أُطالَب بذلك.

– سيوجَّه لك الاتهام أقرب مما تظن.

– إنك أحمق.

قمتُ وأنا أقول: إنها على أي حال تستحق القتل.

وذهبت متمتمًا: ولكنك تستحق الشنق أيضًا!

•••

وجدتني في رحاب غضبة هلالية؛ عندما يغضب سرحان الهلالي يَنقلب زوبعةً. لمعَت أنيابُه، لمحتُ الوهج في عينَيه اللوزيتَين الجاحظتين. صاح: أنت أنت، كما كنتَ وأنت ابن عشرة، أحمق، لولا حماقتك لاستويت ممثلًا مرموقًا؛ تأبى إلا أن تتقمص وكيل نيابة! لم زرتَ عباس يونس أمس؟

هل شكاني إليه الوغد؟ آثرت الصمت حتى تخف العاصفة. صاح: لن تتقن دورك حتى تتفرغ له.

تمتمتُ بهدوء: بدأنا اليوم.

ثم بهدوء أعمق: مهمٌّ أيضًا أن ينال المذنب جزاءه.

فصاح متهكمًا: ما مِن أحد منَّا إلا وفي عنقه دَين من الذنوب، يستحق عليها السجن!

– لكنَّنا لم نَقتُل بعد.

– من يدري؟ … تحية إن صحَّ أنها قُتلت، فقد اشترك في قتلها أكثر من رجل، على رأسهم أنت.

– إنه لا يستحق دفاعك عنه.

– إني لا أعتبره متهمًا؛ هل لديك دليل واضح ضده؟

– المسرحية.

فضحك ساخرًا، وقال: ما من مسرحية تخلو من اتهام، ولكن النيابة تطالب بأدلة من نوع آخر.

– لقد انتحر في المسرحية.

– هذا يعني أنه لن يَنتحر في الحياة، وإنه لمن حسن الحظ أن يبقى ويكتب.

– إنه لم يؤلف سطرًا، ولن يؤلف سطرًا، وأنت أدرى بما قدم لك من مسرحيات سابقة.

– يا طارق رمضان، لا تكن مملًا، انتبه لعملك، وانتهز فرصتك، فإنها لن تتكرَّر.

•••

أتدرَّب على دوري في مسرحية القاتل، أستعيد حياتي مع تحية، بدءًا من وراء الكواليس.

أنضم إلى البيت القديم بسوق الزلط. الحب في الحجرة، اكتشاف الخيانة، البكاء في الجنازة.

ويقول لي سالم العجرودي: إنك تُمثِّل كما لم تمثل من قبل، ولكن احفظ النص جيدًا.

– إني أُكرِّر ما قيل بالفعل.

فضحكَ قائلًا: انس الحياة، وعش في المسرحية.

عند ذلك قلت له: من حسن الحظ أنَّ من حقِّك التغيير.

– لقد غيَّرت ما اقتضت الضرورة تغييره، فحذفت مشهد الطفل.

– عندي فكرة.

فرمَقني بضجر، ولكنِّي قلت: البطلة وهي تُحتضر، تطلب رؤية عشيقها القديم.

– أي عشيق؟ … ما من مُمثِّل في المسرح إلا عشقَها حينًا.

– أعني العشيق الذي أمثِّل دوره … ويذهب إليها، فتعتذر إليه عن خيانتها، وتموت بين يديه.

– إنه يقتضي إدخال تعبيرات جوهرية على الشخصية، وعلى العلاقة بين الزوجين.

– ليكن.

– إنك تَقترح مسرحيةً جديدةً … البطلة نسيت تمامًا عشيقها القديم.

– غير ممكن، وغير طبيعي.

– قلت لك: عش في المسرحية، وانس الحياة، أو تفضَّل بتأليف مسرحية جديدة، فنحن في زمن مؤلفي النزوة والصدفة.

– ولكنك حذفت الطفل ودوره!

– ذاك شيء آخر؛ إنه غير ملتحم بالأحداث، وقتل وليد بريء خليق بأن يُفقِد البطل أي عطف.

– وقتل زوجة تعيسة؟

– اسمع، مئات من المتفرِّجين يودُّون في أعماقهم قتل زوجاتهم.

•••

أليس هذا هو كرم يونس؟ بلى! إنه يغادر حجرة المدير. لم يكن بقي على عرض المسرحية إلا أسبوعان، وكنت واقفًا أمام مدخل البوفيه، أحاور درية نجمةَ الفرقة، وبيد كلٍّ منَّا فنجان قهوة. قلت له وهو يقترب منَّا في بدلة قديمة، ورقبة البلوفر الأسود تُطوِّق عنقه حتى أسفل الصدغَين: شرفت المسرح.

فرمقَني شزرًا، وقال بجفاء: ابعد عن وجهي.

وحيَّا درية تحيةً عابرةً ومضى. قطعت درية حديثها عن الغلاء، وقالت: جاء ولا شك يسأل عن سر اختفاء عباس.

فقلتُ بحنق: ما هو إلا اختفاءُ مُجرِم.

فقالت درية باسمةً: لم يقتل، ولم ينتحر.

– لن ينتحر، ولكنه سيُشنَق.

رجعت تقول: كان يجب أن يقودنا النصر إلى حياة أيسر.

فقلت بسخرية: لا يحيا حياةً يسيرةً إلا المنحرفون؛ لقد بات البلد ماخورًا كبيرًا. لم كبست الشرطة بيت كرم يونس وهو يُمارس الحياة كما تمارسها الدولة؟!

فقالت درية ضاحكةً: نحن في زمن القومية الجنسية.

– إني رجل منبوذ من أسرتي العريقة لانحرافي، فلمَ تُحدِّق بي الخيبة؟

– أيها الخائب الأبدي الذي لم يجد إلا أم هاني حقلًا لاستغلاله!

•••

ليلة الافتتاح ١٠ أكتوبر؛ الليل في الخارج يزفر نسمةً لطيفةً، أما في الداخل فثمَّة نذير بجوٍّ حارٍّ. بين المشاهدين كرم وحليمة، الهلالي، فؤاد شلبي؛ أنا الوحيد الذي يكرر دوره الذي لعبه في الحياة فوق الخشبة. إسماعيل يلعب دور عباس؛ حياة البيت القديم تُعرَض من جديد بكل قصتها، وتلحق بها جرائم جديدة أكثر وحشية. المدير يقامر، ويتسلل إلى حجرة نوم حليمة. الفضائح تتعانق وتتوج بالخيانة والقتل. لأول مرة في حياتي تُختم مَواقفي بالتصفيق. النجاح خمر. هل تشاهدنا تحية من وراء القبر؟ النجاح خمر. الجمهور غارق في الصمت، أو مُنفجِر في التصفيق. المؤلِّف المجرم الجبان غائب. أي رد فعل انداح في جوارح كرم وحليمة؟ ستُغطيها التجاعيد قبل الهبوط الأخير للستار.

يَجمعُنا البوفيه للاحتفال التقليدي، لأول مرة في حياتي تحسُّ الأبصار بوجودي؛ إني شخص جديد تمامًا. تحية تخلُق من العدم أكثر من رجل. ارتسمت على فم أم هاني ابتسامة واسعة تتَّسع لتسلُّل بولدج. وراء كل عظيم امرأة. قال لي سرحان الهلالي: ألم أقل لك؟

وقال فؤاد شلبي: مَولِد ممثِّل كبير.

إسماعيل نفسه تجلت في ابتسامته المتكلفة الغيرة، مثَّلت العشق والبرمجة والجنون … ملأتُ بطني بالشويرمة والكونياك. تَحالف الكونياك مع خمر النجاح، حتى نخب المؤلف شربته. رأيت حليمة في التايير الذي استأجرته من أم هاني.

غادرت المسرح حوالي الثالثة صباحًا. أم هاني تتأبَّط ذراعي وأنا أتأبَّط ذراع فؤاد شلبي. قال: هلمَّ نتمشَّ في القاهرة في الوقت الوحيد الذي يُتاح لها فيه الوقار.

قالت أم هاني: بيتُنا بعيد.

– معي سيارتي … تلزمني بعض المعلومات.

سألته: ستكتب عني؟

– طبعًا.

ضحكت عاليًا، رحت استجابةً له أتحدَّث عن الماضي.

– ولدتُ بمنشية البكري … فِلَّتان متجاورتان … آل رمضان، وآل الهلالي … رمضان أبي كان لواءً بالسواري، من باشوات الجيش القديم … الهلالي من مُلَّاك الأرض … أنا البكري وسرحان الوحيد … لي أخٌ قنصل، وأخ مستشار، وأخ مهندس … باختصار؛ طُردنا أنا وسرحان من المدرسة الثانوية بلا ثمرة، ولكن بخبرة واسعة ببيوت الدعارة والحانات والمخدِّرات … لم يترك أبي شيئًا … ورث سرحان سبعين فدانًا … أنشأ فرقةً حبًّا في الإدارة والنساء … عملتُ معه مُمثلًا … انقطع ما بيني وبين إخوتي … أجرٌ بسيط … ديون نثرية كثيرة … لولا النسوان …

ندَّتْ عن أم هاني آهة. تساءل فؤاد: طبعًا كان لك نشاط سياسي؟

ضحكت مرةً أخرى.

– لا أنتمي إلا للحياة … أنا وكرم يونس توءمان رُوحيَّان … يقال: إنه مدين في نشأته إلى أمٍّ عاهرة … حسن، لقد نشأتُ أنا في أسرة، فكيف تفسر تماثُلنا؟ … هذا يعني أن المَوهبة لا تتأثَّر بالبيئة! كلانا يحتقر الحياة المُحترَمة … الحق أن ما يفرق بيننا وبين الآخرين هو أننا صادقون، أما الآخرون فمنافقون.

تساءلت أم هاني: هل ستكتب هذا الهذيان؟

فقلتُ متحديًا: فؤاد نفسُه من حزبنا!

فتمتم في مرح: يا لك من وغد … ولكن ألا تؤمن بوجود أخيار بكل معنى الكلمة؟

– طبعًا، مثل الأستاذ عباس مؤلِّف «أفراح القبة» … إنه مثالي كما تعلم؛ لذلك زج بوالديه في السجن، وقتل زوجه وابنه!

سألته أم هاني: ماذا ستُكتُب؟

فقال وهو يتجه بنا نحو سيارته الفيات: لست مجنونًا مثله.

غادرنا السيارة أمام الحارة بالقلعة، منعه من الدخول طفح المجاري، سرنا على طوار متآكل، ونشوتنا تخمد تحت وطأة الرائحة الكريهة! هل يتواصَل النجاح ويتغير الحال؟ هل أتحرَّر من هذه الحارة الكئيبة، وهذه المرأة الخمسينية التي تزن مائة كيلو؟!

أنا وتحية نُغادر البيت القديم بسوق الزلط، في طريقنا إلى المسرح. حبكت معطفها الأسود حول جسمها الناضج، واخترقنا موجةً من البرد في عتمة المساء. يخطر لي أن جسمها مُعدٌّ للفِراش لا للمسرح، وأننا في خيبة الموهبة سواء. قلتُ لها: ونحن نحتسي الشاي، ضبطتُ الولد يختلس إليك نظرةً جائعةً.

– عباس؟ … إنه مُراهق!

– سيعمل ذات يوم قوَّادًا ماهرًا.

– إنه مؤدب، متبرئ من بيته!

– ابن كرم وحليمة، وفي هذا العصر العجيب؛ ماذا تنتظرين؟

الآن أدرك أنني لم أَفطِن إلى ما كان يدور في نفسها.

•••

يقول لي سرحان الهلالي ضاحكًا: ما تصوَّرتُك قطُّ في صورة عاشق حزين.

– وهل تصورت ذات يوم أننا نعبر القنال وننتصر؟

– إنها مثلك في الفقر.

– حدثها … أرجوك.

– يا مجنون … لقد قررت هجر المسرح … إنه سحر الزواج.

– يا للشيطان … إني أكادُ أجنُّ!

– إنه الغضب ليس إلا …

– صدقني.

– البرمجي لا يحتمل الهزيمة.

– ليس الأمر كذلك.

– بل هذا هو كل شيء … ارجع من فورك إلى أم هاني؛ لأنك لن تجد من يقرضك.

بعد تردُّد قلت: أحيانًا يُخيَّل إليَّ أن الله موجود!

فقهقه قائلًا: طارق يا ابن رمضان … حتى للجنون حدود!

•••

نجاح «أفراح القبة» مستمر؛ نجاحي يتوكَّد ليلةً بعد أخرى. أخيرًا صادف الهلالي المسرحية التي تُثري مسرحَه، قرَّر لي مكافأةً يوميةً أنعشت رُوحي وجسدي. وسألني فؤاد شلبي: أعجبَكَ ما كتبت عنك؟

فشددتُ على يده بامتنان، وقلت: بعد أكثر من ربع قرن، تظهر لي صورة في المجلَّة.

– لن تتراجع بعد اليوم … أما علمت! لقد ظهر المؤلف المختفي.

– حقًّا؟!

– زار أمس الهلالي في مسكنِه؛ أتَعرف لماذا؟

– هه؟

– طالب بحصة من الأرباح.

قهقهت عاليًا حتى أزعجتُ عم أحمد برجل وراء البوفيه، وقلت: ابن حليمة! … وماذا كان رد الهلالي؟

– أعطاه مائة جنيه.

– خسارة في عينه.

– لقد أَصبح بلا عمل، وهو منكبٌّ على كتابة مسرحية جديدة.

– ابتزاز … وهيهات أن يكتب جديدًا ذا قيمة.

– فال الله ولا فالك!

– وأين كان مُختفيًا؟

– لم يَبُح بسرِّه لأحد.

– أستاذ فؤاد، ألم تقتنع بتجريمه؟

– لم يَقتل تحية؟

– لاعترافها بخيانته.

فهز منكبيه، ولم ينبس.

•••

عندما رأيت النعش يتهادَى من مدخل العمارة، اجتاح جوفي فراغٌ مُخيف، تمادى حتى لفظَني في العدم. هجم عليَّ البكاء هجمةً غادِرةً فأجهشت، الصوت الوحيد الذي أثار المشيعين، حتى عباس كان جافَّ العينين. رجعتُ في سيارة سرحان الهلالي، قال لي: عندما سمعت بكاءك … عندما رأيت منظرك … كدتُ أنفجر ضاحكًا لولا ستر الله.

قلت باقتضاب: كان مُفاجأةً لي أيضًا.

– لا أذكر أنني رأيتُك باكيًا من قبل.

فقلت باسمًا: لكل جوادٍ كَبوة.

أرجع الموت ذكريات الحب والهزيمة.

•••

سمعتُ بالخبر في مقهى الفن، قبل الذهاب إلى المسرح، هُرعت إلى حجرة سرحان الهلالي، سألته: الخبر صحيح؟

فأجابني بوجوم: نعم، كان عباس يُقيم في بنسيون في حلوان … غاب طويلًا … عُثر على خطاب في حجرته يعترف فيه بعزمه على الانتحار.

– هل عُثر على جثته؟

– كلا … لم يُعثر له على أثر.

– هل ذكر أسبابًا لانتحاره؟

– لا …

– هل اقتنعت بانتحارِه؟

– لم يختفي والنجاح يدعوه للظهور والعمل؟

وفصل بيننا صمت كئيب، حتى سمعته يتساءل: لمَ يَنتحر؟

فقلت: لنفس الأسباب التي انتحرَ من أجلها بطل مسرحيته.

– إنك مُصرٌّ على اتهامه.

– أتحدَّى أن تجدَ سببًا آخر.

انفجر الخبر في الوسط الفني، وبين جمهور المسرح. لم يُسفر البحث عنه عن شيء. اتخذت الإجراءات المألوفة في هذه الأحوال. داخلَني شعورٌ عميق بالارتياح؛ قلت لنفسي: لن يعرف نجاح المسرحية حدودًا يقفُ عندها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤