كرم يونس

الخريف نذير، فهل نَحتمِل برودة الشتاء؟ عمرٌ يَنقضي في بيع الفول السوداني واللب والفشار. وهذه المرأة التي قُضيَ عليَّ بها مثل السجن؛ لمَ نُسجَن في بلد تستحق غالبيته السجن؟ قانون مجنون لا يدري كيف يَحترم نفسه. ماذا سيفعل كل هؤلاء الصِّبية؟ انتظر حتى تشهد هذه البيوت القديمة وهي تَنفجِر! التاريخ يَحزن لتحوُّله إلى قمامة، المرأة لا تكفُّ عن الأحلام؛ ولكن ما هذا؟ من هذا؟ شبح من الماضي. إليَّ بخنجر مسموم! ماذا تريد يا مستنقع الحشرات؟ قلت لحليمة بامتعاض: انظري …

دُهشَت، تساءلنا: أيجيء للتهنئة أم للشماتة؟

– ها هو يقف مُلقيًا بابتسامته الكريهة، بعينَيه الضيقتَين، وأنفه الغليظ، وفكه القوي العريض! كُن جافًّا معه مثل الزمن.

– طارق رمضان! … ماذا جاء بك؟

وقالت حليمة منفعلةً: أول زيارة من أهل الوفاء مذ رجعنا إلى سطح الأرض.

فقال طارق: ما أنا إلا غريق من الغرقى.

فقلت بحنق: جئت من الماضي كذكرى من أسوأ ذكرياته.

وشُغلَت عنه بزبون، ثم رمَقتْه بازدراء، فقال: معي أخبار سيئة!

فقالت حليمة: لا تهمنا الأخبار السيئة.

– حتى لو تكون عن الأستاذ عباس يونس؟

فقلت: إنه ابنٌ بارٌّ … عرض عليَّ أن أعود إلى المسرح، فلما رفضتُ أنشأ لنا هذه المقلى.

وقالت المرأة: وقد قبلت مسرحيته.

لكنَّه ما جاء إلا من أجل المسرحية؛ هل أعمته الغيرة؟ يُطيق الموت، ولا يطيق أن ينجح عباس؛ فليَمُت بغيظه! إنك أصل البلاء، لا يفهمك مثلي؛ فنحن من خرابة واحدة. قال: المسرحية تدور في هذا البيت، عنكم، وتهدي إلينا جرائم جديدةً لم تخطر ببال أحد. أيُمكن ذلك؟ عباس لم يَقُل لنا كلمةً عن موضوعِه، لكنَّه شابٌّ مثالي. تساءلت: ماذا تعني؟

– كل شيء … كل شيء … ألا تُريد أن تفهم؟

ماذا يعني؟ لماذا يَفضح عباس نفسه؟ سألته: حتى السجن؟

– وأنه هو الذي وَشى بكما إلى الشرطة، وهو الذي قتَل تحية.

– إنه لسخف.

– وتساءلت المرأة: ماذا تعني يا عدوَّ عباس؟

وتساءلت رغم انقباض قلبي: أليست مسرحيةً؟

وقالت حليمة: لدَيه التفسير الصحيح.

– شاهدا المسرحية بنفسكما.

– أعماك الحقد.

– بل الجريمة.

– ما مُجرم إلا أنت!

وقلت له وانقباض قلبي لا يُزايل قلبي: حاقد مجنون … ابني عبيط، ولكنه ليس خائنًا ولا قاتلًا.

فصاح: يجب القبض على قاتل تحية.

اشتبك مع المرأة في خصام جارح وأنا شاردٌ في أفكاري، حتى سألته بخشونة: ماذا تريد؟

وطردتُه شرَّ طردة!

•••

غصتُ في بئر، لا يُمكن أن يجيء من آخر الدنيا ليُلقيَ بأكاذيب يسيرٌ كشفها؛ إنه وغد ولكنه ليس أحمق. لا قُدرة لي على الانفراد بوساوسي. نظرت نحو المرأة، فالتقيت بعينَيها تنظران نحوي؛ إننا غريبان يجمعهما بيت قديم، لولا إشفاقي من إغضاب عباس لطلقتُها. عباس وحده الذي يجعل للحياة طعمًا مقبولًا؛ إنه الأمل الوحيد الباقي. تمتمَتِ المرأة: إنه يكذب.

فسألتها وأنا أشد منها الْتِماسًا لنُقطة رحمة: ولمَ يكذب؟

– ما زال يحقد على عباس.

– ولكن هناك مسرحية أيضًا.

– لا نعرف عنها شيئًا، اذهب إلى عباس.

– سأُقابلُه حتمًا.

– ولكنَّك لا تتحرك!

إني خائف، إنها غبية وعنيدة. قلت: لا داعي للعجلة.

– يجب أن يعرف ما يدبَّر من وراء ظهره.

– وإذا اعترف؟

– ماذا تعني؟

– إذا اعترف بأن مسرحيته تحوي ما قال الوغد؟

– ستجد التفسير المريح.

– لا أدري.

– لمَ يَفضح نفسه إذا كان قاتلًا حقًّا؟

– لا أدري …

– تحرَّك … هذا هو المهم.

– سأذهب طبعًا.

– أو أذهب أنا.

– ليس عندك ملابس صالحة … صادَرُوا نقودنا … ضربني المُخبر الكلب.

– ذاك تاريخ مضى … فكِّرِ الآن فيما نحن فيه.

– الوغد كاذب.

– يجب أن تَسمع بأذنك.

– لم يكن يوافق على حياتنا … كان مثاليًّا كأنه ابن حرام … ولكنَّه لا يغدر بنا، ثم لماذا يقتل تحية؟

– إنك تستجوبني أنا؟

– إني أفكر.

– لقد صدقتَ ما قال الوغد.

– وأنتِ أيضًا تُصدقينه.

– يجب أن نسمعه.

– الحق أنني لا أصدق!

– إنك تهذي …

– اللعنة!

– اللعنة حلَّتْ يوم ارتبطت بك!

– ويوم ارتبطت بك.

– كنتُ جميلةً.

– هل رغبَ فيكِ أحد غيري؟

– كنت دائمًا مرغوبةً … إنه سوء الحظ.

– كان أبوك ساعي بريد، أما أبي فكان موظفًا في دائرة الشمشرجي.

– ذلك يعني أنه كان خادمًا.

_ أنا من أسرة.

– وأمك؟

– مثلك تمامًا.

– مُخرِّف … ولكنَّك لا تُريد أن تذهب.

– سأذهَب عندما يروق لي.

تشتت فكري، ليكن ما يكون، لن يُصيبنا أسوأ ممَّا أصابنا. ألم نبدأ — أنا وهذه المرأة — من مُلتقًى مُفعَم بالحرارة والرغبة والأحلام الجميلة؟ … أين نحن من ذلك الآن؟ ولكن يجب أن أذهب على أيِّ حال؛ لعلَّ العصر هو أنسَب الأوقات.

•••

لم أعرف مسكن ابني من قبل. منذ زواجه انفصلنا، لم يكن بيننا خير؛ كان يَرفض حياتنا ويحتقرها، فنبذته واحتقرته، وبانتقاله إلى بيت تحية تحررتُ من نظراته المُمتعِضة. أسعى إليه الآن بعد أن لم يبقَ أمل غيره؛ تلقَّانا بعد السجن ببرٍّ ورحمة، فكيف يكون هو الذي زجَّ بنا فيه؟ سألت البواب عنه، فقال: ذهب منذ ساعتَين حاملًا حقيبةً.

– سافر؟

– قال إنه سيَغيب بعض الوقت.

– ألم يترك عنوانه الجديد؟

– كلا.

ذُهلت، حدث ما لم أتوقعه. لمَ لمْ يخبرنا؟ هل بلغتْه اتهامات طارق له؟ وبازدياد قلقي، قررت أن أقابل سرحان الهلالي. ذهبت إلى مسرح الغد بعماد الدين، وطلبت المقابلة، فسرعان ما أذن لي. وقف مُرحِّبًا بي وهو يقول: أهلًا، حمدًا لله على السلامة … لولا ظروفي لزُرتك مهنئًا.

– سرحان بك، عذر غير مقبول.

فضحك ولم يكن شيء يُحرجه أو يربكه، وقال: لك حق.

– إنها عِشرة طويلة؛ لقد قضيت عُمرًا مُلقِّنًا لفرقتك، وفتحتُ لك بيتي حتى قُبض عليَّ …

– إنني مُخطئ في حقك … تشرب قهوةً؟

– لا قهوة ولا شاي، إني قادم بخصوص عباس ابني.

– تقصد المؤلِّف المُثير؟ … ستنجح مسرحيته يا كرم نجاحًا غير عادي، وأنت أدرى الناس بإحساسي.

– عظيم … ولكني لم أجده في مسكنه، وقال البواب إنه حمل حقيبته وذهب.

– وماذا يُقلقُك من ذلك؟ … إنه شارعٌ في تأليف مسرحية جديدة … ولعله وجد مكانًا هادئًا.

– بلغتْني أشياء عن موضوع المسرحية، فخفتُ أن يكون لذلك علاقة بذهابه.

– تفكير خاطئ يا كرم.

– طارق حاقد، وهو …

فقاطعني: لا تُحدثني عنه، فإني أعلم به، ولكن لا داعي للقلق على ابنك على الإطلاق.

– أخشى أن يكون قد …

وسكت، فقال ضاحكًا: المسرحية خيال، ولو كانت …

– خبِّرني عن رأيك بصراحة!

– لم أشغل عقلي دقيقةً إلا بالمسرحية نفسها … ما ارتكبه البطل في المسرحية في صالح المسرحية، هذا ما يُهمني.

– ولكنه وشى بوالدَيه وقتل زوجته؟

– خير ما فعل.

– ماذا تعني؟

– ذلك ما خلق المأساة.

– ألم تشعر بأن ذلك قد حدث فعلًا في الحياة؟

– لا يهمني ذلك ألبتة!

– أريد أن أعرف الحقيقة.

– الحقيقة؛ المسرحية عظيمة، وأنا كما تعلم مدير مسرح لا وكيل نيابة.

– وأنا معذب!

فضحك الهلالي، وقال: لا أدري شيئًا عما تتحدث عنه، ثم إنك لم تكن تحبُّه قط!

– الحاضر غير الماضي، وأنت سيد من يفهم.

– المسرحية مسرحية لا أكثر من ذلك، وإلا جاز للقانون أن يُدخل ٩٠٪ من المؤلفين قفص الاتهام.

– إنك لا تُريد أن تريحني!

– ليتني أملك ذلك يا كرم، لا تشغل نفسك بأوهام سخيفة، ولن يشاركك فيها إلا قلة من الأصدقاء المعروفين، أما الجمهور فلن يَخرج عن حدود المسرحية. لماذا رفضت أن ترجع إلى وظيفتك القديمة كمُلقِّن للفرقة؟

– شكرًا، اقترح عباس ذلك مُؤيِّدًا اقتراحه بموافقتك، ولكني لا أحب الرجوع إلى الماضي.

فضحك الهلالي، وقال: إني أفهم ذلك، أنت الآن سيد نفسك، ولعل المقلى أربح؛ ليكن يا عزيزي، ولكن لا تقلق على عباس، إنه يَبني نفسه، وسيظهر في الوقت المناسب.

انتهت المقابلة، غادرته وأنا أنوء باحتقاري للجنس البشري. لا أحد يُحبني ولا أحب أحدًا، حتى عباس لا أُحبه وإن تعلَّق به أملي، الغادر القاتل! ولكن فيم ألومه وأنا مثله؟ لقد تقشَّر الطلاء عنه فتجلَّى على حقيقته الموروثة عن أبيه، الحقيقة المعبودة في هذا الزمان، التي تُوشك أن تعلن ذاتها بلا نفاق. ما الفضيلة إلا شعار كاذب يتردَّد في المسرح والجامع! كيف زَجَّ بي في السجن في زمن الشقق المفروشة وملاهي الهرم؟ مَن هذا؟ صادفتُ طارق رمضان أمام باب البوفيه، مدَّ إليَّ يد ثعبان فرفضته، قلت له أن ابعد عن وجهي.

•••

لم أخطئ؛ أليس هذا هو زمن المخدرات؟ وأنا رجل بلا قيود، لا أخلص إلا للغريزة؛ مثلي تمامًا أولئك الرجال، ولكنه الحظ وحده. تقول حليمة: أتظن أن أجري وحده يكفي للإنفاق على بيتك وابنك؟

– إني على أتم الاستعداد للشجار!

– الأفيون يهدم كل شيء.

– فليهدم كيف شاء.

– وابنك؟ … إنه ولد رائع جدير بالرعاية!

لم أخطئ، لقَّنَتني أمي مبادئ الصواب الأبدي. حليمة ترغب في تمثيل دور السيدة المحترمة، وتتناسى ماضيها الداعر. لن أسمح للنفاق بالمعيشة في بيتي.

وقلت للهلالي: إنكم تتعبون أحيانًا للعثور على بيت مناسب؛ إليكم بيتي.

حدجني باهتمام، فقلت: في أعماق باب الشعرية، الجن نفسه لن يَرتاب فيه!

لم أخطئ، البيت القديم يتجدد على مبادئ جديدة، ينفض عنه الغبار، تتأهب أوسع حجرة فيه لاستقبال القادمين من الجحيم. أحترم هؤلاء العظام الذين يمارسون الحرية بلا نفاق؛ الهلالي والعجرودي وشلبي وإسماعيل وطارق وتحية. أعد أيضًا مخزنًا من الأطعمة الجافة والشراب والمخدِّرات. حليمة تتوثب للنفاق، إني لا أرحم المنافقين! تثوب إلى حقيقتها الكامنة، تمسي ربة البيت الجديد بكل كفاءة. جميلة وذكية وحرة مثلي وأكثر، جديرة بقيادة ماخور. أمطرت السماء ذهبًا، ولكن لمَ ينظر الولد إلينا بامتعاض؟ ابن مَن أنت؟ من أبوك؟ من أمك؟ من جدتك؟ ابن حرام أنت، ابن الكتاب والمسرح، وتُصدِّق النفاق يا غبي. وتقول حليمة: الولد يقتله الحزن.

– ليقتله الحزن، كما يَجدر بأي غبي.

– إنه يرفض.

– لا أحب هذه الكلمة.

– إنه يستحق الرحمة.

– إنه يستحق القتل.

أصبح يُمقتني، ويقتلع الحب القديم من قلبي.

– انتبه لحياتك … عش الواقع … قلة نادرة تظفر بمثل طعامك … انظر إلى الجيران … ألا تسمع عما يجري في البلد؟ ألا تفهم؟ من أنت؟

عيناه تعكسان نظرةً غريبةً، إنه يعيش خارج أسوار الزمن؛ ماذا يريد؟ اسمع موعظةً، هذا البيت بناه جدُّك، لا أدري عنه شيئًا، جدَّتُك جعلت منه مَهدًا لغَرامها. أرملة وشابة ولا تختلف عن أمك. أبوك نشأ في أحضان الحقيقة، أودُّ أن أحكيَ لك كل شيء؛ هل أخشاك؟! لولا أن عاجلتِ الوفاةُ جدتك، لتزوج منها الباشجاويش، ولضاع البيت. أراد أن يستوليَ عليَّ بعد وفاتها، ولكني ضربته؛ لذلك سعى حتى جُنِّدت في الجيش القديم، ولكن البيت بقيَ. أم هاني قريبة أمي، وقوَّادة الهلالي؛ كانت الوساطة لأتعيَّن مُلقِّنًا بالفرقة. أودُّ أن ألقيَ عليك هذه السيرة ذات يوم؛ لتَعرف أصلك، وتَنتمي بلا مقاومة كاذبة إلى مبادئك الحقيقية. كن مثل أبيك ليجمعنا الحب كما كان وأنت صغير، ولا تنخدع بنفاق أمك. ستَعرف كل شيء ذات يوم. هل أخشاك يا ولد؟!

•••

رجعت إلى المقلى، فسألتني حليمة بلهفة: ماذا قال لك؟

– لم أُقابله؛ غادر الشقة إلى مكان مجهول حاملًا حقيبته.

ضربت فخذيها بقبضتيها، وقالت: مكان مجهول! … لمَ لمْ يُخبرنا؟

– من أدراك أنه يفكر فينا؟

– إنه هو الذي فتح لنا هذه المقلى.

– وانتهى منا؛ إننا بالنسبة له اليوم ماضٍ يُحسن نسيانه.

– إنك لا تَفهم ابني؛ ليتك ذهبت إلى الهلالي!

صمتُّ مُتأثرًا بدفقة غيظ مجهولة البواعث فراحت تقول: إنك لا تُحسن التصرف!

فقلت بازدراء: أودُّ أن أفلق رأسكِ!

– هل رجعت إلى الأفيون؟

فقلت ساخرًا: لا يطمع إليه اليوم إلا الوزراء!

ثم استطردت: الهلالي لا يدري شيئًا عن مكانه.

فتساءلت بقلق: زرته؟

– لا يدري شيئًا عن مكانه.

– أين ذهب ابني؟ هل أخلى شقَّته؟

– لا.

– سيَرجع … لعلَّ في الأمر امرأةً.

– تفكير يَنسجِم مع امرأة مثلك!

فهتفت: لا يُهمك أمره، لا يهمك إلا نفسك.

– قُضيَ عليَّ بأن أخرج من سجنٍ إلى سجن.

فقالت بحنق: أما أنا فإني أعيش في زنزانة!

ومن شدة القهر نشجت باكيةً، فتضاعَفَ حنَقي عليها، وتساءلت في غرابة: كيف أحببتُها ذات يوم؟

•••

البوفيه الأحمر، جُدرانه وسقفه مطلية بحمرة قاتمة، كذلك أغطية مناضده وبساطه السميك. اتخذتُ مجلسي أمام طاولة الساقي عم أحمد برجل، على كرسي جلدي طويل إلى جانب أنثى لم أتبيَّنها. قدم لي كالعادة سندوتش فول وفنجان شاي. وبالْتِفاتة لا بد منها، بهرني شباب ذو جمال رائق. أدركت أنها مثلي موظَّفة في المسرح؛ ففي الساعة الثامنة لا يتواجد أحد من الخارج. سمعت عم أحمد يسألها: هل من جديد عن الشقة يا آنسة حليمة؟

فأجابت بصوت دسم: البحث عن الذهب أسهل.

واندفعت متأثرًا بانبهاري: هل تَبحثين عن شقة؟

فأحنت رأسها بالإيجاب، وهي تزدرد رشفة شاي، فقال عم أحمد يُعارف بيننا: السيد كرم يونس مُلقِّن الفرقة. آنسة حليمة الكبش قاطعة التذاكر الجديدة.

فسألت بجرأة لا تَنقصني: من أجل زواج؟

فأجاب عم أحمد عنها: إنها تُقيم مع خالتها في شقة صغيرة مكتظة، وتحلم بشقة صغيرة خاصة، ولكن هناك عقبة الإيجار، وعقبة خلو الرجل.

وقلت بلا تريُّث: عندي بيت.

فالتفتَت نحوي باهتمام لأول مرة مُتسائلةً: حقًّا؟

– بيت كبير؛ إنه قديم، ولكنه مكوَّن من طابقين.

– الطابق شقة؟

– كلا … إنه ليس مقسَّمًا إلى شقق.

فسألني عم أحمد: مُمكن تستقل بطابق؟

– ممكن جدًّا.

فسألت هي: ألا يضايق ذلك الأسرة؟

– إني أُقيم فيه وحدي.

فرفعت حاجبَيها مُعرِضةً عني، فقلت مدافعًا عن حسن نيتي: ستجدين الطابق آمنًا أنتِ وأسرتك.

فلم تنبس معتبرةً الموضوع منتهيًا، أما عم أحمد فسألني: وكم الإيجار؟

– لم يستأجره أحد من قبل، ولستُ طمَّاعًا بحال.

فسألني جادًّا: هل آتيك بساكن؟

فقلت بنبرة إعلامية: لا أودُّ ذلك؛ إنه بيت الأسرة وله ذكرياته، وإنما أردت أن أقدم خدمةً للآنسة، بصفتها زميلةً لي في المسرح.

فضحك عم أحمد برجل، وقال: أَعطِنا فرصةً للتفكير، وربنا يسهل.

وذهبت الآنسة مُخلِّفةً في نفسي انتعاشًا وحيويةً ورغبةً حريفةً.

•••

ها هي مقوَّسة فوق كرسيها مُتشابكة الذراعين، تعكس عيناها نظرة قرف مُمتعضةً، وتنعقد فوق جبينها تكشيرة كاللعنة؛ أليست الوحدة خيرًا من عشير النكد؟ أين الانبهار القديم؟ أين سكرتُه المُشعشعة؟ في أي مستقر من الكون تحنطت؟

•••

كلما رأيتها في البوفيه الأحمر، قلت لنفسي: «هذه الفتاة تستحوذ عليَّ كالجوع.» إني أتخيَّلها تمرح في البيت القديم، تُجدد شبابه، تُدفِّئ دماءه؛ أتخيلها وهي تشفيني من عِلَلي المُزمنة.

ودأب عم أحمد برجل على تشجيعي كلَّما انفردَ بي. قال لي مرةً: حليمة قريبة لي من ناحية أمي … مُتعلِّمة وذكية … أنا مَن سعَيت عند الهلالي بك لإلحاقها بعملها.

فشجعته بدوري قائلًا: بنت مُمتازة حقًّا!

– خالتها طيبة، والبنت ذات خلق.

– لا شك في ذلك.

ورمقني بابتسامة سكرت بها رغبتي المتحفزة. استسلمت لأنامل ناعمة، لنعاس مهدهد بأحلام اليقظة، وانفسحت أمامي عذوبة الحواس الطاغية. قلت له ذات يوم: يا عم أحمد، إني أرغب بصدق.

أدرك البقية المُضمرة من كلامي، وتمتم بانشراح: جميل وحكيم.

– لا دخل لي سوى أجري، ولكني أملك المسكن، وهو امتيازٌ لا يُستهان به في هذه الأيام.

– الرغبة في الستر أهمُّ من الظواهر.

وفي نفس الأسبوع استقبلني قائلًا: مبارك يا كرم.

دخلت منطقة الظل الحنون، منطقة الخطوبة الصافية، منطقةً شفافةً يَمتزج في نسيجها الحريري وشيُ الحلمِ وعذوبة الواقع. أهدتني كيسًا جلديًّا تصطفُّ في ثغراته وعلاقاته أدوات حلاقة الذقن، فسعدتُ به في طفولة، وإذا بسرحان الهلالي يرفع أجري جنيهَين، مهنئًا إياي بحياتي الجديدة، واحتفل بنا رجال المسرح في البوفيه، وشيَّعونا بالأزهار والحلوى.

•••

فيم تفكر المرأة؟ … يدها المعروقة تعبث بالفشار، ولا ينطوي رأسها على فكرة مريحة واحدة. قُضيَ علينا أن نتبادَل الضجر في هذه الزنزانة. القاذورات منتثرة فوق أديم الشارع العتيق، مُحدِّدةً له معالم جديدةً تحت دفقات الضوء. هبات الهواء تُطير ما خفَّ منها، فيزحم أقدام صبية لا حصر لهم. فيم تفكر المرأة؟

•••

ليلة الدخلة؟ أجل، عند صياح الدِّيَكة، وقد جذبتنا الحقيقة نحو بؤرة خانقة، وغابت الأعين فلم يبقَ إلا التاريخ. انقبض قلبي حيال الحيرة المُقتحَمة، كدت أتصوَّر أن الوجود قد مات لولا تصاعد النحيب المكتوم، وقال النحيب كل شيء، وتمتمت: لن أسامح نفسي.

حقًّا؟ … وتمتمت أيضًا: كان يجب أن.

ماذا؟ … لا داعي لمزيد. وأيضًا تمتمت: لكنني أحببتك.

عرفت سرها، ولكنها لم تعرف سرِّي بعد. من أين لها أن تعلم أن رجلها ينحدر إليها من عهد سابق على التاريخ؟ من أين لها أن تتصوَّر مدى حريته؟ لم أكترث للعبة، كانت مجَّرد دهشة فقط، وحتى الدهشة استسخفتها، وقلت بسخرية عميقة: لا يُهمُّني الماضي.

فأحنَت رأسها ربما لتُخفي ارتياحها، وقالت: إني أحتقر الماضي، وأُولد من جديد.

فقلت بنَبرة عادية: هذا حسن.

نبذت أي رغبة في مزيد من المعرفة (لست غاضبًا ولا مبتهجًا، ولكني أحبها)، وانغمست في حياتي الجديدة بحرارة صادقة.

•••

تمر الساعات، فلا نتبادل كلمةً واحدةً، مثل حبات الفول السوداني. ما من زبون يجيء إلا ويشكو الغلاء، والمجاري الطافحة، والطابور المُهلك أمام الجمعية الاستهلاكية؛ أبادله العزاء. ربما نظر إلى المرأة متسائلًا: ما لكِ ساكتة يا أم عباس؟

أي أمل أرتقبُه أنا؟ هي على الأقل تنتظر عودة عباس!

•••

انغمست في الزوجية بحرارة صادقة، انزعجتُ عندما وافتْني ببشائر الأمومة، ولكنه كان انزعاجًا عابرًا.

وقد عشقت عباس في طفولته، وبدأ كل شيء يتغيَّر منذ قال لي طارق رمضان: حوار هملت صعب … ذوِّب هذه في فنجان شاي.

بدأت رحلةً جديدةً جنونيةً؛ صادف الإغراء رجلًا لا يهمه شيء، وكانت ينابيع الحياة تجف، ومسراتها تختنق في قبضة أزمة قاسية. وتقول حليمة: أتُريد أن تُنفِق أجرك على السم، وتتركني أواجه الحياة وحدي؟

أي صوت قبيح كأنما يصدر عن المجاري الطافحة. صرنا مثل شجرتين متعريتَين؛ الجوع يطرق باب البيت القديم.

وذات يوم قلت لها بارتياح: نهاية حميدة.

– عم تتحدث؟

– فلنُعدَّ الحجرة الشرقية للعب.

– هه …؟!

– سيجيئون كل ليلة ولن نَشكو الفقر.

رمقتني بنظرة غير متوقِّعة لخير، فقلت: الهلالي، العجرودي، شلبي، إسماعيل. أنتِ فاهمة، ولكن علينا أن نُعدَّ لهم ما يلزمهم.

– إنه قرار خطير.

– لكنه حكيم … أرباحُه خيالية.

– لم يكفنا أن يقيم عندنا طارق وتحية … نحن نتدهور.

– نحن نرتفع … ليَسكُت صراخك وصراخ ابنك.

– ابني ملاك … إنه الرعب له!

– عليه اللعنة إن تحدَّى أباه … إنك تُفسدينه بأفكارك السخيفة.

إنها تَستسلِم بامتِعاض. أنسيت ليلة الدخلة؟ عجيب أن يَطمح أناس للتحرُّر من الحكومة على حين يرسفون بكل ارتياح في القيود الكامنة في أنفسهم.

•••

ها هي راجعة من مشوارها، لولا خدمتها في البيت لتمنَّيت ألَّا تَرجع، ينمُّ وجهها عن الخيبة. لم أسألها عن شيء، أهملتها حتى قالت مُتنهِّدةً: ما زالت شقته مغلقةً.

رحَّبتُ بزبون لأتجنبها، فلما ذهب قالت بحدة كريهة: افعل شيئًا.

غبت عنها راجعًا إلى فكرة طالَما أثارتني، وهي كيف تزجُّ الحكومة بنا في السجن من أجل أفعال ترتكبها هي جهارًا؟ ألا تدير هي بيوتًا للقمار؟ ألا تُشجِّع المواخير المُعَدَّة للضيوف؟ إني معجب بسلوكها، ولكني ثائر على نفاقها الظالم. وارتفع صوت المرأة وهي تقول: اذهب مرةً أخرى إلى المدير.

فقلت ساخرًا: اذهبي إليه بنفسِك؛ فهو أقرب إليك مني!

فهتفت بحنق: الله يرحم أمك!

– على أيِّ حال؛ لم تكن منافقةً مثلك!

فتأوَّهَت قائلةً: إنك لا تُحب ابنك، ولم تحبَّه قط.

– لا أحب المنافقين، ولكنِّي لا أنكر مُساعدته لنا.

فولتني ظهرها متمتمةً: ترى أين أنت يا عباس؟!

•••

أين سرحان الهلالي؟ غادر مجلسه، ولكنه لم يرجع. لا يُمكن أن ينام في دورة المياه. اللعب مُستمر، وأنا أجمع نصيبي عقب كل دورة. أين حليمة؟ أما آن لها أن تقدم شيئًا من الشراب؟ أتساءل: أين المدير؟

لم يجب أحد، كلٌّ مشغول بورقاته. ترى هل حدجني طارق بنظرة ساخرة؟! يجب أن تقدم حليمة شيئًا من الشراب.

– يا حليمة!

لا جواب؛ لن أتخلَّى عن موقعي، وإلا سرقت.

– يا حليمة!

دوى صوتي عنيفًا، جاءت بعد قليل.

– أين كنتِ؟

– غلبني النوم.

– أعدِّي شرابًا … وحلِّي محلي حتى أرجع.

غادرت حجرة اللعب، صادفت عباس في صالة الدور الأول؛ سألته: ماذا أيقظك في هذه الساعة؟

– أرقٌ طارئ.

– أرأيت سرحان الهلالي؟

– غادَر البيت.

– متى؟

– منذ قليل … لا أدري بالضبط.

– هل رأته أمك؟

– لا أدري!

لم ذهب؟ … لماذا ينظر إليَّ الولد واجمًا؟ … إني أشم رائحةً غريبةً. إني أي شيء، ولكني لست مغفَّلًا. وعندما لم يبقَ في البيت إلا أعقاب السجائر والكئوس الفارغة، رمقت المرأة بنظرة طويلة، ثم سألتها: ماذا حدث من وراء ظهورنا؟

فرمقتْني بازدراء، وتجاهلتْني تمامًا، فعدتُ أسأل: عباس رأى؟

فلم تُجِب، وازددتُ غضبًا … فقلت: إنه هو الذي ألحقك بالعمل!

فضربت الأرض بقدمها، فقلت بسخرية: لا شيء بلا ثمن، هذا ما يُهمني، أما أنت فلا تستحقين الغيرة!

اندفعت نحو حجرتها، وهي تقول: إنك أحقر مِن حشرة!

فقلت مُقهقِهًا: إلا حشرة واحدة.

•••

ها هي راجعة من مشوار جديد. فلتَزدادي عذابًا وجُنونًا. لبثت واقفةً في المقلى، وراحت تقول: فؤاد شلبي مُطمئن تمامًا.

– قابلته؟

– في مقهى الفن.

– من أين له أن يعلم؟

– قال إنها نزوة مؤلِّف، وأنه سيظهر في الوقت المناسب وبيده مسرحية جديدة.

– لا بد من كلمة لتهدئة امرأة مجنونة مخرِّفة.

جرت كرسيها إلى أقصى المقلى، وجلست، ومضت تحدث نفسها: لو أراد الله لوهبني حظًّا أسعد، ولكنه رمى بي إلى رجل سافل مُدمِن.

فقلت بسخرية: هذا جزاء من يتزوج من عاهرة.

– الله يرحم أمك. عندما يرجع عباس سأذهب معه.

– إذن فليرجع عباس رحمةً بي.

– من يتصور أنك أبوه؟

– ما دام قد قتَل زوجته، وزج بوالديه في السجن، فهو ابني، وإني لفخور به.

– إنه ملاك، وهو مِن صُنعِ يدي أنا.

تمنيت أن تكلم نفسها حتى تجن. وتذكرت صفعة المُخبر على قفاي، واللكمة التي أسالت الدم من أنفي؛ الكبسة مثل زلزال مدمر. حتى سرحان الهلالي شد جفناه من الذعر. ومصادرة المال المخزون الذي بعنا أنفسنا حبًّا فيه؛ يا لها من قشعريرة!

•••

أي شيطان يرقص في الصالة؟!

غادرت الحجرة، فرأيت طارق وعباس وهما يَتضاربان. حليمة تصرخ. اجتاحني الغيظ؛ صرخت: ما هذا العبث؟

صاح طارق: مَسرحية هزلية، المحروس سيتزوَّج من تحية.

بدا لي الأمر سخيفًا، ومهددًا بإطفاء نشوة المخدِّر المتصاعدة. صاحت حليمة: أي جنون! … إنها أكبر منك بعشرة أعوام!

وتدفَّقت الإنذارات من فم طارق مع نثار لعابه، فقالت له حليمة بشدة: لا تَزِد الأمور سوءًا!

فصرَخ طارق: سأهدم البيت على من فيه.

سكت غيظي، وتسللت إلى السخرية واللا مبالاة، وقبل أن أتفوَّه بكلمة، قالت حليمة لطارق: خذ ملابسك، ومع السلامة.

فهتف: من وراء ظهري، في هذا البيت القذر.

فقلت له بهدوء تبدَّى غريبًا في ذلك الجو العاصف: إنه قذرٌ بسبب وجودكم فيه.

فلم يُعنَ بالالتِفات إليَّ، أما حليمة فسألت عباس: أحقيقي ما يقول؟

فأجاب المحروس: اتفقنا على ذلك.

فسألتُه دون مبالاة: لمَ لمْ تتفضَّل باستشارتنا؟

فلم يردَّ، فرجعتُ أسأله: هل يَكفي أجرُها للإنفاق على بيت زوجية؟

فقال عباس: سأحلُّ محلَّك مُلقنًا للفرقة.

– مِن مؤلِّف إلى مُلقِّن؟

– لا تُناقُض بين الاثنين.

فصاحت حليمة بصوت متشنِّج: ابني مجنون!

وقالت لطارق: لا تكن أنت أيضًا مجنونًا.

فعاد يُهدِّد، فصاحت به: غادر بيتنا!

فمضى وهو يقول: باقٍ على أنفاسكم ليوم القيامة.

خلا المكان للأسرة الكريمة، جعلت أردِّد عيني بينهما في شماتة وسخرية. قالت له بضراعة: ما عرفتُها إلا خليلةً لهذا أو ذاك.

فقلت مقهقهًا: أمك خبيرة … اسمع وافهم …

واصلت ضراعتها: أبوك كما ترى وتعلَم أصبح لا شيء؛ أنت أملنا.

فقال عباس: سنبدأ حياةً جديدةً.

فسألته ضاحكًا: لماذا خدعتنا طويلًا بمثاليتك؟!

غادر عباس البيت، فأجهشت هي في البكاء. رحَّبتُ في أعماقي بذهابه النهائي الوشيك. هللتُ لتحطُّم التحالف الكريه القائم بينه وبين أمِّه ضدي؛ إنه صوت معارضة دائم، ضقتُ به، وكرهته، وها هو يختفي فيكتسب البيت هدوءًا وانسجامًا؛ كنت أخافه أحيانًا، تتجسد فيه أقوال أزدريها، وأفعال أحتقرها. وجعلت حليمة تندب حظها مُوَلوِلةً: وحدي … وحدي!

فقلت لها بهدوء: وحدك؟ … لا تدَّعي ما ليس فيك؛ فيمَ نَختلف؟ … نبع واحد، وحياة واحدة، وهدف واحد …!

فحدجتني بنظرة تَنزُّ مقتًا واحتقارًا، ومضت إلى حجرتها مُشيَّعةً بقهقهتي العالية.

•••

نظرت إلى ظهرها عابرًا تلال الفول السوداني واللب والفشار والحمص المعبَّأة في جيوب الطاولة الممتدة؛ أي حياة تمضي بلا سرور، وفي جو مشحون بالكراهية والدخان! عودة الولد ونجاحه خليقان بأن يُضيفا إليها جدةً وإثارةً!

•••

أنا مرح، حليمة تداري وجومها، سرحان الهلالي يتساءل: أين طارق وتحية؟

ويقول سالم العجرودي: انكماشٌ خطيرٌ في اللعب.

وقلت ضاحكًا: أخبار مثيرة يا سرحان بك؛ ابني المجنون تزوَّج من تحية!

ضجت المائدة بالضحك، وقال إسماعيل: الظاهر أن ابنك فنان حقيقي.

وقال الهلالي: الولد الصغير؟!

فقال شلبي: زواج الموسم!

وقال إسماعيل: تجدون طارق الآن في الصحراء، مثل مجنون ليلى!

وضجَّت المائدة بالضحك مرةً أخرى، ولكن سرحان قال بنبرة ذات معنًى: ولكن حليمة لا تُشارك في الأفراح.

فقالت حليمة وهي تُواصِل إعداد الشراب: حليمة في مأتم!

– من يدري؟ … ربما تُصادفه السعادة التي لا ندري أين تُقيم.

فقال سالم العجرودي: تحية امرأة طيبة رغم كل شيء.

فقلت وأنا أضحك عاليًا: رغم كل شيء!

فقالت حليمة بحنق: السعادة في هذه الأيام من نصيب البغال.

وتساءل سرحان: وهل يواصل محاولاته في تأليف المسرحيات؟

فقالت حليمة: طبعًا.

فقال باسمًا: عظيم … ستهبُه تحية تجاربَ مفيدةً!

ثم انهمكت في جمع النقود، وأنا أتذوق أول ليلة تمر بلا رقيب.

•••

المرأة تبحث عن ابنها، وأنا في المقلى وحدي؛ ترى أي نهاية رسمها لها في المسرحية؟ فاتني أن أسأل عن ذلك! هل يسدل الستار ونحن في السجن؟ في المقلى؟ ويجيء زبون في أعقاب زبون؛ هؤلاء الناس لا يَدرون كم أحتقرهم وأمقتهم، منافقون، يفعلون مثلنا، ويؤدون الصلاة في أوقاتها؛ أنا خير منهم، أنا حرٌّ أنتمي إلى عصر سابق للدين وقواعد السلوك، لكني محاصر في هذه المقلى بجيوش المنافقين. كل رجل وكل امرأة مثل الدولة؛ لذلك تترككم للمجاري والطوابير، وتجود عليكم بالخطب الرنانة، ويُحطِّم ابني رأسه بمواعظه الصامتة، ثم يرتكب الخيانة والقتل، ولو تيسَّر الأفيون وحده لهان كل شيء. لماذا تُغرِّر بنا أيام الخطوبة؟ لماذا تهمس لنا بعذوبة غير موجودة؟

– إني مدين لعم أحمد برجل بسعادة فوق احتمال البشر.

– لا تبالغ.

– حليمة … ما أسعد مَن لا يضيع خفقان قلبه في العدم!

وتألَّقت ابتسامة مثل فلة يانعة؛ أين تختفي هذه العذوبة؟ آه لو أن الرجوع في الزمان مُمكن مثل الرجوع في المكان. في كائني البدائي ركن ساذج، يَطيب له أحيانًا أن يبكي الأطلال. كرم الذي لم يعد موجودًا يبكي حليمة التي لم تعد موجودةً.

ها هي المرأة راجعة، دخلت وجلست دون تحية، تجاهلتها تمامًا، ولم تنبس. في عينيها طمأنينة، فماذا عرفت؟ لا شك أن ثمة خبرًا طيبًا تضن به عليَّ الخنزيرة! لو كان شرًّا لصبَّته على رأسي قبل أن تدخل. هل رجع عباس؟ أبيت أن أسأل، ومضى وقت، حتى قالت: نحن مدعوَّان لمشاهدة المسرحية.

وقدمت إليَّ إعلانًا مطبوعًا؛ استقرَّ بصري على اسم المؤلف عباس يونس، جرفني زهو، تساءلت: هل نذهب؟

– أي سؤال؟

– قد لا يسرُّنا أن نرى أنفسنا.

– المهم أن نرى مسرحية عباس.

صمت، فقالت: قلبي يحدثني بأن المؤلف سيظهر حتمًا.

– من يدري؟

– قلبي يدري.

•••

ذهبنا في أحسن صورة ممكنة؛ ارتديت بدلةً لا بأس بها، واستأجرَتْ حليمة ثوبًا ومعطفًا من أمِّ هاني. استقبلونا استقبالًا حسنًا، وقالت حليمة: ولكني لم أرَ المؤلف.

فقال سرحان الهلالي: لم يَحضر، ولكني أخبرتك بما فيه الكفاية.

إذن قد قابلته، وتلقت أخبارًا لا بأس بها. ولما كان الوقت مبكرًا، فقد ذهبنا لزيارة عم أحمد برجل. قدم لنا — هديةً منه — سندوتشين وقدحَين من الشاي، وهو يقول ضاحكًا: مثل الأيام الماضية!

لم نعلق، لا بكلمة، ولا بابتسامة. وفي الوقت المناسب، انتقلنا إلى مقاعدنا في الصف الأول. كان المسرح كامل العدد، فقالت حليمة: هو النجاح.

فتمتمت: لا حكم إلا بعد مرور أسبوع.

رغم استهتاري توترت أعصابي. فيم تُهمُّني مسرحية وأنا لا تُهمُّني الحياة؟! آه، ها هو الستار يُرفع عن بيتنا، بيتنا دون غيره؛ هل أراده العجرودي كذلك أو أنه عباس؟ الأب والأم والابن، إنه ببساطة ماخور ونادي قمار. يوجد أكثر من الجريمة والخيانة، الأم تبدو عاهرةً بلا ضابط، علاقاتها تَتَتابع مع المدير والمُخرج والناقد وطارق رمضان! هلَّت لحظتها أنفاسها تتردَّد في ثقل وخشونة؛ إنه الجحيم. استمتعي برأي ابنك فيك؛ رؤيته تتجلَّى بوحشية عن أبيه وأمه؛ من يتصوَّر أن رأسه المتزمِّت يحوي هذه الخرائب كلها؟ إني سعيد برأيه في أمه، سعيد باطلاعها على رأيه فيها. المسرحية تُنكِّل بي، وتنتقم لي. في لحظة الفضيحة هذه أنعم بالانتصار على الأم والابن معًا، على عدويَّ اللدودَين. ثم إنه لم يَفهمني، إنه يقدمني كرجل مُنحَلٍّ، كرجل واجَهَ تحديات الواقع بالانحراف؛ لستُ كذلك يا غبي، لم أستو مركبًا لكي أنحل. نشأت بسيطًا بدائيًّا حرًّا، نشأتُ شاهدًا ومدينًا للنفاق؛ ذاك ما لا يمكن أن تفهمه، وسر نجاحك أنك تتملق النفاق والاستعلاء الكاذب. تلقَّ منِّي بصقةً في مهجرك الأبدي.

بعد تلاشي عاصفة التصفيق الهستيري، دُعينا؛ اتِّباعًا لتقليد قديم، للاحتفال بالنجاح في البوفيه.

سألتُها همسًا: نشترك أم نذهب؟

فقالت بتحدٍّ: كيف لا نَشترك؟

تتظاهرين عبثًا بالاستهانة، ليس لك جناحان مثلي. تمتمت: ما كان ينبغي أن ينتحر.

فقلت أغيظها: أي نهاية تتوقَّعين لقاتل؟

– لقد فاز بالعطف.

دارت الأنخاب. قال سرحان الهلالي: لي فراسة لا تَخيب.

فقال سالم العجرودي: وحشية بلا شك، ولكنها مؤثِّرة.

فقال فؤاد شلبي: إنها تُذكِّر الجمهور بمعاناته اليومية … ولكنها مُتشائمة.

فتساءل الهلالي ساخرًا: مُتشائمة؟!

ما كان يَنبغي أن يَنتحِر بعدما تعلق به أمل الجمهور.

فقال الهلالي: ليس انتحارًا، ولكنه مصير الجيل الجديد في نضال الإنقاذ!

– سلم الأوغاد!

فقهقه الهلالي قائلًا: ليحفظ الله الأوغاد!

والتفتَ المدير نحو طارق رمضان، ورفع رأسه قائلًا: نخب اكتشاف مُمثِّل عظيم في الخمسين من عمره!

فقال فؤاد شلبي بحماس: أهم من اكتشاف بئر بترول.

ونظر الهلالي نحونا، ولكني سبقته رافعًا كأسي: نخب المؤلف الغائب!

سرعان ما ارتفعت موجة استحسان، فاضت النشوات على حساب المسرح، اختلط الجد بالهزل، تلذَّذت بتذكر فضائح كل رجل وكل امرأة؛ لماذا كان السجن من نصيبنا وحدنا؟ أيها الزملاء الأحرار، اشربوا نخبي أنا؛ فإني رمزُكم الصادق.

وصلنا إلى بيتنا القديم عند الفجر، لم نجد أي رغبة في النوم، أشعلت فحم المدفأة، وجلسنا في الصالة؛ البلاط المعصراني مغطًّى بكليم أسيوطي قديم. رغم النفور المتبادل شعرنا بالرغبة في التواجد معًا، ولو لحين قصير. من ذا يبدأ بفتح الحديث؟ ما أشد ما نتبادل من مشاعر الحذر والتوجس!

سألتها: أعجبتك المسرحية؟

– جدًّا … جدًّا!

– والموضوع؟

– يا له من سؤال سخيف لمن قضى عمرًا في المسرح!

– لم نتظاهر بغير ما في نفوسنا؟ … لا مجال للشك.

– أرفض هذا التفكير السخيف.

– كل شيء حقيقي أكثر من الحقيقة.

– كلام فارغ؛ لقد رأيت نفسي في صورة لا علاقة لها بالواقع.

فضحكت تاركًا للضحكة وحدها الإفصاح عن رأيي، فقالت باستياء: إنه الوهم.

– ألم نر الجميع على المسرح كما عرفناهم في الحياة؟

– المؤلف حر، يُحافظ على من يشاء، ويغير من يشاء، وهناك أشياء جديدة تمامًا.

– لم صوَّرَكِ في تلك الصورة؟

– ذاك شأنه.

– اعتقدت طويلًا أنه يُحبك ويحترمك.

فقالت بحدة: ذاك ما لا شك فيه.

– الحقيقة تتجلى في نظرتك الكلبية!

– إني واثقة من نفسي.

قلت باستهانة: حتى طارق! … ما تصوَّرتُ أنكِ حرة لذلك الحد.

– أرحني من أفكارك القذرة.

– لولا الكذب لربحْنا أضعاف ما ربحنا!

– الحق أنه صورك في صورة أجمل من حقيقتك، وهذا يقطع بأنه استلهم الخيال قبل كل شيء.

ضحكت عاليًا، فهتفتُ: سيَسمعُكِ العائدون من صلاة الفجر.

– لم لا؟ … ذلك الولد الغريب الذي زجَّ بنا في السجن.

– كيف تطالب أحدًا بالتزام فضيلة؛ أنت الذي لا تؤمن إلا بنزواتك؟!

– ولكنه ادعى المثالية حتى أوجع رأسي.

فقالت بحماس ظاهر على الأقل: إنه ولدٌ رائع … مؤلِّف مرموق … ابني …

فقلت ساخرًا: إني معجب بوحشيته.

– عندما يعود سأذهب معه هاجرةً هذا البيت اللعين!

فقلت ساخرًا: كل حجرة فيه تَشهد لنا بالمجد.

غادرتني عند ذاك، فلبثت وحدي باسط الذراعين فوق المدفأة. كان يُسعدني بلا شك أن أعرف المزيد عن أبي؛ أكان من هؤلاء المنافقين؟ لقد عاجله الموت فسقطت أمي، ونشأت أنا تلك النشأة المتوَّجة بقرون الشيطان، أما أنت يا عباس فلغزٌ غامض! ما أشد الملل؛ إني مثل شيطان حبيسِ قمقم لا يجد مجالًا للعبث.

•••

تابعتُ نجاح المسرحية باهتمام وشغف، توقَّعتُ أن يعود المؤلف ولو مع المسرحية الجديدة، توقعت أيضًا أن يغير نجاحه مجرى حياتي المملة، وكنت أتردَّد على المسرح بين الحين والحين لأتنسَّم الأخبار عنه، وفيما أنا أقطع المدخل ذات ضحًى إذ هرع نحوي عم أحمد برجل، فمضى بي إلى داخل البوفيه الخالي. أقلقني وجهه المكفهر المتقبِّض، فاستشفقت وراءه خبرًا كئيبًا. قال: كرم … كنتُ على وشك الذهاب إليك.

فسألته: ماذا؟ … ماذا عندك؟

– عباس!

– ماذا عنه؟ … هات ما عندك يا عم أحمد.

– اختفى من بنسيون كان يُقيم فيه في حلوان، تاركًا رسالةً غريبةً.

– أي رسالة؟ … ألا تُريد أن تتكلَّم؟

– كتب يقول إنه سينتحر!

غاص قلبي، وخفق مثل بقية قلوب البشر. تبادَلنا النظر صامتَين؛ سألته: هل عُثر على …؟

فأجاب بحزن: كلا … البحثُ جارٍ.

تمتمت وأنا شارد الوعي: آه … ربما … من يدري، ولكنه ما كان يكتب الرسالة لولا.

فقال عم أحمد بنبرة من يعتبر المسألة مُنتهيةً: ربنا يلطف بكم.

– يجب أن أذهب إلى حلوان.

– لقد سبقك سرحان بك الهلالي.

رحلة عقيمة وأليمة! لا توجد إلا الرسالة، أما عباس فقد اختفى؛ مضى من الاختفاء الأول إلى الاختفاء الجديد. لن يُعترف بانتحاره إلا إذا عُثر على الجثة، ولكن لمَ يَكتُب ما كتب إن لم يكن قد عقد العزم حقًّا على الانتحار؟

وتساءل الهلالي: إذا كان يريد الانتحار حقًّا، فلمَ لمْ يَنتحِر في حجرته؟

– أيُداخلُك شكٌّ في صدقه؟

فأجاب ببساطة: أجل!

رجعت إلى البيت القديم مساءً، فلم أجد حليمة؛ أدركت أنها ذهبت إلى المسرح مُستطلعةً أسباب تأخري. أغلقت المقلى الخالية، وجلست في الصالة أنتظِر، وبعد مُضيِّ ساعة ثقيلة رجعَتَ بعينَين مترعتَين بالجنون. تبادلنا النظر ثوانيَ، ثم هتفت: كلا … لو أراد أن ينتحر لانتحر بالفعل … لا يُمكن أن ينتحر.

وانحطَّت على الكنبة، وأجهشت في البكاء، وهي تلطم خدَّيها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤