القسم الثالث

الاعتراف

بعد هذه الحادثة ببضعة أيام كان بوفور وداغير عند النوتير؛ فإن بوفور كان يدير بيع معمله الجديد وتصفيته لما لقيه من الخسارة فيه.

وكان قد قال لشريكه داغير من قبل: إنك مخطئ بعدم أخذك رأسمالك؛ فإن ما تستطيعه اليوم لا تستطيعه غدًا.

وقد حان الوقت لتصفية هذه الشركة الخاسرة، فكان داغير ينظر إلى شريكه نظرات تتوهج من الحقد، ثم يقول في نفسه: ترى ما عسى أن يحل بي، وكيف أعيش بعد هذا؟

وقد طال حديثهم عند النوتير، ولكن الحديث كان منحصرًا بين بوفور والنوتير خلافًا لداغير، فقد كان ساهي الطرف مشتت البال لا يشترك في الحديث كأنما لا يعنيه، بل كان إذا سألاه عن أمر لا يجيب.

وفيما هم على ذلك دخل خادم وقال للنوتير: إن في الباب يا سيدي الموسيو فولون. قال: قل له ينتظرني قليلًا فسأتفرغ له.

فاعترضه بوفور قائلًا: ليدخل الآن إذا شئت فإنه صديق لنا لا نكتمه شيئًا من أمورنا.

فأمر الخادم أن يدخله، فلما دخل قال له النوتير: لك عندي يا سيدي أربعمائة وخمسون ألف فرنك قيمة معملك الذي بعته باسمك في سانت دنيس، فماذا تريد أن تصنع بهذه القيمة؟

قال: ما جئتك إلا لهذا؛ فإني في حاجة إلى قسم من هذا المال، وأود لو نلته اليوم.

قال: هذا سهل ميسور، ولكني أخاف أن تودع مثل هذا المبلغ الجسيم في قصرك وهو في عزلة تامة كما تعلم.

قال: لقد خطر لي ذلك، وإني مخبرك عن السبب الذي يدعوني إلى قبض نصف هذا المبلغ على الأقل، وهو أن ولدي روبير يريد أن يسافر متجولًا في أكثر أنحاء الأرض، وقد يغيب بضعة أعوام.

فقال له بوفور: أيفارقك، ولماذا؟

قال: لأنه أصبح قانطًا، وأخاف أن يؤذيه هواء فرنسا إذا أقام فيها طويلًا، فقلت له: سافر إلى أفريقيا وآسيا وتجول في الهند؛ اذهب إلى أي مكان شئته، وأنفق قدر ما تشاء بشرط أن تعود إليَّ معافًى، بل إني مستعد أن أنفق عليه كل ثروتي.

فقال النوتير: إني سأنقدك المبلغ كله على الفور، ولكني أرجوك أن تتعشى معي دون كلفة ما زلت في كرسل.

قال: إني أقبل دعوتك بملء الشكر.

قال: وأنت يا موسيو بوفور ويا موسيو داغير أرجوكما قبول دعوتي أيضًا.

فقبل بوفور الدعوة، خلافًا لداغير؛ فقد اعتذر عن قبولها، فألحَّ عليه النوتير فأبى وتركهم وانصرف دون وداع، فجعل يسير في الشوارع يشبه السكران، وهو تارة يقف وتارة يمشي وقد ظهرت على وجهه علائم التفكر في أمر خطير، فكان يقول همسًا من حين إلى حين: «إنه خاطر خطير … إنه فكر هائل.» وقد استمر على هذه الحالة ساعة أو تزيد، إلى أن مرَّ بعطفة وكاد يصطدم برجل لو لم يسرع إلى تنبيهه.

أما هذا الرجل فكان فولون، فقال له: ما بالك يا موسيو داغير فقد كدت تصدمني؟

قال: أهذا أنت؟

قال: نعم أنا هو، فلماذا تنظر إليَّ هذه النظرات الغريبة؟

– لا شيء … لا شيء.

– إنك رأيتني منذ ساعة، فهل حسبت أني مت فبعثت؟ فارتعد وتركه وهو مطرق الرأس.

وكان فولون يعلم أنه خسر كل ثروته، وأن شركته تحت التصفية فحسب أن اضطرابه لهذا السبب، وجعل ينظر إليه مشفقًا، ولكن داغير عاد إليه فقال له: ألا تخاف أن يتعرض لك شقي حين تعود في الليل ومعك هذا المبلغ الجسيم؟

قال: لا خوف عليَّ فإني مدجج بالسلاح.

فلم يجِبه وانصرف مسرعًا، فتجوَّل نحو ساعات لا يفكر إلا بأمر واحد، ثم عاد إلى المنزل الذي كان يقيم فيه مع بوفور فلم يدخل إلى غرفته، بل وقف في نافذة تشرف على الطريق وقد امتقع وجهه بصفرة الموت، فقال بصوت مرتفع: أربعمائة وتسعون ألف فرنك، إنها ثروة.

ثم سار فجأة إلى غرفة بوفور وحاول أن يدخل إليها، ولكنه سمع صوتين من داخلها، فعلم أن أحدهما صوت بوفور وأن الثاني صوت امرأة لم يعرفه حق العرفان، ولكنه ذكره؛ صوتًا كان يعرفه من عهد بعيد فوقف عند الباب مصغيًا، وقد كاد يحبس أنفاسه كي لا تفوته كلمة من الحديث.

•••

كان اضطراب مرسلين لا تستطيع وصفه الأقلام؛ فقد رأت ابنتها تنتحر.

ولم تكن تفارق بنتها لحظة؛ فإنها كانت طريحة الفراش إلى أن تعافت في اليوم الثالث، فنظرت إلى أمها نظرة كأنها تقول لها: ألعلك نسيت أني أحب روبير، فلماذا لم أرَه هنا بعد ما سبق إليَّ وعدك؟

وقد فهمت مرسلين معنى هذه النظرة وعلمت أنه لم يبقَ بد من الإباحة بسرها لبوفور ولفولون؛ أما الأول فلأنه زوجها، وأما الثاني فلأنها لا تستطيع تزويج بنتها إلا بعد أن تظهر حقيقة اسمها واسمَي أمها وأبيها، ولما كان أبوها لا يزال في قيد الحياة فقد تحتمت مصادقته على الزواج.

وهنا بدأ عذابها، وما عساها تقول لبوفور وقد جعلته أشقى رجل في الوجود مدة ربع قرن؟ وما عساه يجيب حين يقف على زلتها ويعرف حقيقة مولد جيرار؟

وكانت تعلم أن بوفور ضعيف البنية شديد الانفعال؛ فكانت تخاف عليه بوادر هذا النبأ، وأن ينتهي بفاجعة، ولكنها لم تجد بدًّا من الإباحة أو تعرض بنتها لموت محتم، فكتبت إلى بوفور ما يأتي:

إن الذي أرسل إليك منذ بضعة أيام ضمة البنفسج الذابلة يستطيع أن يخبرك بأنباء مرسلين، فإذا كان قلبك قد نسيها ولم تعد تكترث لأمرها فلا تجب على هذا الكتاب، وإذا كان الأمر على العكس فادعُ صاحبة هذا الكتاب بكلمة تحضر إليك اليوم.

ولما فرغت من كتابته عنونته باسم بوفور، وأرسلته إليه مع كلوكلو وقالت له ينتظر الجواب.

وبعد ساعة عاد إليها بجواب لا يتضمن غير كلمة واحدة وهي: «احضري.» فتنهدت وقالت: رباه هبني من لدنك قوة تعينني على لقائه.

وبعد هنيهة كانت في منزل بوفور فأدخلها الخادم إلى غرفته واختلى الزوجان.

وقد نظر إليها بوفور محدقًا وقال لها: أذكر أني رأيتك يا سيدتي قبل الآن، ولكني لا أذكر أين.

– عند الموسيو فولون.

– لقد ذكرتك، فأنت مدام لنجون التي أنقذت بنتها من الغرق.

– نعم يا سيدي، وشهد الله أني أذكرك كل يوم في صلاتي.

تفضلي يا سيدتي بالجلوس، ولنبحث فيما أتيت لأجله، أمَا أنت التي أرسلت إليَّ الكتاب اليوم؟

– نعم.

– إذن عرفتِ امرأتي مرسلين؟

– لقد عرفتها كثيرًا حتى إنها ائتمنتني على سر حياتها ودموعها.

فوضع يده على عينيه كأنما مرسلين قد تمثلت له بالذلوى وخاف أن يراها، بل خاف أن يقف على سر شقائها، فقال لها: بالله يا سيدتي اذهبي ودعيني وأحزاني؛ فقد كنت على وشك الموت، وكانت راحتي الكبرى فيه، ولكن قولي لي أين رأيتِها؟

– في باريس.

– أكان ذلك من عهد بعيد؟

– منذ عشرين عامًا.

– ماذا كانت تعمل وكيف كانت تعيش؟

– كانت تشتغل لتعيش.

– أهي حية الآن؟

– نعم.

– لماذا أرسلتك، ألعلها في حاجة إليَّ؟

– كلا؛ فقد خف شقاؤها الآن.

– ماذا عملت في ذلك العهد الطويل؟

– كانت عاملة، ثم جعلت تلقي دروسًا في الموسيقى.

– أين تقيم الآن؟

– لم تأذن لي أن أخبرك بعنوانها.

– لماذا؟ ألعلها تخاف أن أراها؟ وبعد فلماذا أرسلتك إليَّ وماذا تريد؟

– إنها تريد عفوك.

– كيف يخطر لها أن أعفو بعد أن قتلتني كل يوم مرة مدة ربع قرن؟

– إنها تاعسة منكودة منسحقة القلب.

– وأنا، أتحسبين أني كنت من السعداء، إني كنت شقيًّا بهجرانها، فهل استحقيت هذا الهجران؟ قولي يا سيدتي ماذا تريد مني؟ ولماذا أرسلتك إليَّ؟

– إنها تريد أن تعرف كل شيء منذ مقابلتكما الأولى في سويسرا إلى اليوم.

– كلمة أيضًا، هل أعادت لي بواسطتك تلك الضمة الذابلة التي خاطرتُ بحياتي في سبيل جنيها كي تعلم أني أحبها؟

– نعم، وأنا عهدت بإبقائها إلى كلوكلو.

– لماذا أعادت لي تلك الضمة؟

– لأنها علمت أنك مريض.

– من أنبأها بمرضي؟

– لا أستطيع أن أجيب.

– ألعلها كانت ترجو أن أشفى من علتي الزوجية فأرسلت لي هذا التذكار؟

– هو ذاك.

– إذن هي تظن بأني لا أزال أحبها؟

– كلا، وا أسفاه فهي تعلم أن الحب لم يعد من الممكنات.

– إني مصغٍ إليك يا سيدتي، فقولي ما عهدتْ إليك أن تقوليه.

– إن مرسلين تحبك يا موسيو بوفور.

فضحك ضحك القانطين وقال: كيف أصدق ذلك؟

– إنها تحبك بملء جوارحها، وأنا أعرف ذلك منها؛ لأني لزمتها خمسة وعشرين عامًا، فكانت كل يوم تكلمني عنك.

– إذن ستخبرينني بكل أمرها؟

– نعم.

– ولكن إذا كانت تحبني كما تقولين فلماذا تركتني؟

– هنا تبدأ صعوبة مهمتي يا سيدي، وتبدأ تلك الحكاية المحزنة؛ فاسمح لي أن أذكِّرك ببعض أمور. أتذكر حين عرفت مرسلين أنها كانت تفرغ مجهودها في سبيل اجتنابك؟

– نعم؛ فقد كانت كذلك في البدء.

– إن مرسلين علمت أنك تحبها وشعرت أنها تحبك، وهذا الحب كان يرعبها.

– كيف تقولين ذلك وقد كانت حين تزوجتها من أسعد النساء؟

– دعني أتم حديثي؛ فإن مرسلين لم تكن تستطيع أن تتزوج بك فقد كنت خير كفء لها، ولكنها لم تكن كفئًا لك.

– كيف ذلك؟

– ذلك أن رجلًا شقيًّا أثيمًا كان قد أغواها وخدعها، وحين لقيتها في سويسرا كانت لاجئة إليك لستر زلتها.

– زلتها؟

– نعم؛ فقد كانت يومئذٍ أمًّا.

– فصاح المنكود صيحة يأس، وقال: لقد خطرت لي أمورٌ كثيرة أردت أن أعلل بها هربها، ولكن هذا لم يخطر لي في بال، ويح لنفسي، أتزوجت امرأة ملطخة بالإثم وأنا أحسبها من الملائكة الأطهار.

– لا تقضِ عليها ولا تلعنها واسمع بقية الحديث.

– وما عساي أسمع بعد؟

– تبرئتها.

فضحك ضحك المجانين، وقال: أتريدين تبرئتها أيضًا.

– نعم؛ فقد كانت لا تزال من أشرف النساء.

– وقد برهنت على شرفها بخيانة زوجها حين أوهمته أنها عذراء وهي من الأمهات؟

– اسمع بقية حديثي يا موسيو بوفور ولك بعد ذلك أن تحكم عليها بما تشاء.

فهز كتفيه وقال: تكلمي.

– إن مرسلين كانت مجرمة؛ لأنها وقعت في الفخ الذي نُصب لها.

ولكنَّ المجرم الحقيقي هو ذلك الأثيم الذي أغواها وهي لم تكد تبلغ سن الرشاد؛ فقد كانت غنية وكان فقيرًا، فطمع بثروتها ثم تركها حين علم بخسارة أبيها، وقد ذهبت إلى سويسرا لإخفاء زلتها، وعرفتَها هناك بعد ولادتها ببضعة أشهر، وإنك تذكر دون شك كيف أنها كانت تهرب منك، فلماذا لم تفهم سبب ابتعادها عنك على يقينك يومئذٍ من تعلقها بك؟

– كيف يمكن أن يخطر لي هذا السبب وأنا أتوهم أنها نقية طاهرة؟ وكيف يخطر لي أنها تعبث بي هذا العبث؟

– أتحسب أنها لم تكن تتألم؟

– يجب أن يكون لها قلب كي تشعر بالعذاب، ولكنها من غير قلب.

– بل إنك ذهبت إليها حيث كانت تختبئ، وتبعتها إلى حيث كانت تهرب، فأي ذنب لها، أما دعتك مرارًا إلى تركها؟ أما كنت ترى تألمها حين كنت تبثها غرامك.

لم تجتنبها، ولماذا لم تطعها وتتخلى عنها؟

– إنها كانت تمثِّل رواية؛ إذ لم تكن تقصد بما تفعله غير تشويقي وحملي على التعلق بها.

– أُقسم لك بأنك مخطئ وأن ذلك لم يخطر لها في بال.

– من أنبأك؟

– هي.

– لقد خدعتك كما خدعتني.

– كلا، ودليل ذلك أنها كانت تهرب منك دون أن تدعك تعلم أين هي، فكانت تجمعكما الصدفة إلى أن غلبتها بحبك وبإلحاحك، فصحَّت عزيمتها بعد التردد الكثير على إخبارك بكل أمرها.

– إنها لو فعلت لفعلت واجبًا يقضي به الشرف، نعم إنها كانت سحقت قلبي باعترافها ولكنها كانت أنقذتني.

– إن مرسلين فعلت كل ما يقضي به الشرف.

– ماذا تقولين؟

– أقول إن مرسلين قامت بواجبها، وأرادت أن تخبرك شفاهًا بحكايتها الهائلة، ولكن أية امرأة تجسر على مشافهة رجل بهذه الأبحاث؟

– كان يجب أن تكتب.

– وهذا الذي فعلته.

– أهي كتبت لي؟

– نعم، إنها كتبت لك كتابًا مسهبًا، وشرحت لك فيه كل تاريخها منذ عهد طفولتها إلى يوم التقائها بك.

– وماذا جرى لهذا الكتاب، إذ لا حاجة إلى القول أنه لم يصلني.

– نعم، وا أسفاه إن مرسلين علمت أنه لم يصلك.

– إذن ماذا جرى لهذا الكتاب؟

– عندما كانت في سويسرا قالت لك مرة هذا القول الذي لا تزال تذكره فيما أظن وهو: «ارجع غدًا يا بيير، فإذا رجعت كان رجوعك برهانًا على أنك لا تزال تحبني بالرغم عن كل شيء.»

وإني أذكِّرك بهذا القول الذي طالما أعادته لي مرسلين، وفي اليوم التالي كتبت إليك كتابها المسهب وأرسلته مع رجل يدعى كلوكلو، فسكر قبل أن يصل إليك وأضاع الكتاب، ولكن مرسلين لم تعلم بذلك؛ لأن الرجل لم يجسر على إخبارها بضياع الكتاب، وبرح سويسرا عائدًا إلى ترن.

ثم عدت أنت في اليوم التالي بعد قولها لك: «إذا رجعت كنت تحبني بالرغم عن كل شيء.» فحسبَت أنك اطلعت على كتابها وغفرت.

– وماذا افتكرت حين رأت أني لم أشِر أقل إشارة إلى كتابها؟

– قالت في نفسها إنك أكرم الناس خُلقًا؛ لأنها كانت كتبت لك في كتابها هذه الجملة:

ورجائي إذا عدت ألَّا تقول لي كلمة عما كتبتُه إليك، وألَّا تنظر إليَّ نظرة تدعني أخجل.

– إذا كانت مرسلين كتبت إليَّ حقيقةً هذا الكتاب فإنها لا تكون جانية.

– أتشَكِّك في أنها كتبت إليك؟

– ماذا يبرهن لي على صحة قولها.

– شهادة كلوكلو؛ فإنه يقول الحقيقة حين تأذن له مرسلين.

– أتريدين أن أصدق شهادة سكير؟

– إنه صادق كريم، ولك ألَّا تصدقه، ولكن يوجد برهان آخر؛ وهو أنها لو لم تكتب إليك هذا الكتاب فما الذي حملها على اليأس والهرب في اليوم التالي لزواجها؟ ألا تعلم السبب في فرارها؟ ألم ينبئك قلبك به؟ إذن فاعلم أنها كانت تحبك وأنها تزوجت بك على اعتقادها أنك تعرف ما فيها، ففي اليوم التالي لعرسها علمت أن الكتاب لم يصل إليك، وأنك لا تعلم حكاية ذلك الشقي الذي أغواها، وأنها أمٌّ أنت تحسبها نقية عذراء، فكبر عليها هذا الخطأ ورأت أنه لا بدَّ أن يجيء يوم تقف فيه على الحقيقة وتتهمها أنها خانتك وخدعتك أقبح خداع، فهربت وهي لا تريد غير الموت، ولكنها ذكرت أن لها ولدًا يموت بموتها فسافرت على ألَّا تعود.

– أراك تدافعين عنها بملء الحماسة.

– أما أتيت لهذا؟

– ولماذا أرسلتك إليَّ بعد ربع قرن، وإذا كان ما تقولينه حقيقة ولم تكن مجرمة فلماذا لم تحضر بنفسها؟

– إنها خافت غضبك أو دموعك.

– وأخيرًا فبأية مهمة أتيت إليَّ؟

– إن مرسلين عاشت بعد فراقك خمسة وعشرين عامًا كانت في خلالها خير قدوة للناس، وكان الجميع يحترمونها ويحبونها، ولا يذكر أحد أنه رآها يومًا تبتسم، وقد علَّمت ولدها خير تعليم على فقرها، فكان عزاءها الوحيد.

– ماذا يشتغل؟

– إنه طبيب.

– لماذا تترددين في قول ما جئت لأجله؟

– الحق أني أتردد.

– لماذا، ألعل الذي ستقولينه أشد هولًا مما سبق قوله؟

– إن مرسلين شقية؛ هي في حاجة إليك.

– مهما كان ذنبها فإني أمنحها كل مالي.

– ليست هي في حاجة إلى المال.

– إذن ماذا تريد مني؟

– تريد مصادقتك على زواج بنتها.

– لها بنت أيضًا، ثم تقولين إنها مثال العفة والطهارة! فإذا قالت إن مولودها الأول كان من غاويها أفلا تكون بنتها من عشيقها؟

– كلا يا سيدي لم يكن لها عشاق، بل لها الحق أن تدعو بنتها بلقب أبيها.

– من هو هذا؟

– اعلم يا سيدي أن مرسلين حين خرجت هائمة على وجهها من منزلك، وحين كانت تعاني عذاب الفقر والجوع شعرت أنها حاملة، فارتعش بوفور وقال: متى كان ذلك؟

– بعد ما فارقتك بشهرين أو ثلاثة.

– رباه ماذا أسمع!

– أتريد أن أقول لك الآن ماذا تدعو مرسلين والد بنتها، إنها تدعوه بيير بوفور؛ زوجها.

فغطى وجهه بيديه وجعل يقول: رباه! رباه، هذا أكيد؟!

قالت: إني أُقسم لك على صحة ما أقول، وفوق ذلك فإذا خطر لك أن تهين مرسلين الإهانة الكبرى وتتهمها بخيانتك؛ فما عليك إلا مراجعة التاريخ.

– وثقت، وثقت. إذن إن لي بنتًا.

– نعم، وهي حسنة ممتازة بصفاتها.

– وقد قلت لي إن مرسلين محتاجة إلى مصادقتي على زواج بنتها.

– نعم؛ فإنها تحب فتًى ويحبها وهو خير كفء لها، ولكنها لا تستطيع تزويجها إلا بمصادقة أبيها، وقد ترددت كثيرًا في الأمر ولكن عاطفة الأمومة تغلبت عليها، وأبت أن تكون بنتها من غير نسب، وهي يحق لها أن تنتسب إليك، ولا سيما أنها حاولت الانتحار حين أرادت أمها أن تحول دون زواجها، فألقت نفسها في نهر الواز.

– إذن أين تقيم؟

– في كريل.

– أتقيم هنا معي وأنا لا أراها، ومن يعلم فقد أكون رأيتها فلماذا لم تصحبك؟

– أتريد أن تراها؟

– أتسألينني إذا كنت أريد ابنتي وأنا أعيش منذ خمسة وعشرين عامًا في عزلة أندب حظي بزواجي، واليوم وقد بلغت حد الشيخوخة وعلمت أن لي بنتًا تسألينني إذا كنت أريد أن أراها؟

– اذهبي بي إليها من فورك فلم أعد أطيق الصبر.

– ولكن اذكر أنها ليست وحدها، بل مع أخيها وأمها، فكيف أذهب بك إلى البنت قبل أن أثق من صفحك عن الأم؟

– كيف يمكن أن أصفح بعد ما عانيت من العذاب؟

– إنها تعذبت فوق عذابك، ويجب أن تصفح عن الأم التي ليس لها ذنب يستوجب طلب الصفح.

– أأنا أصفح …؟ كلا، كلا لا أستطيع.

– إذن لقد انتهت مهمتي، فأستودعك الله.

– كلا، إنك لا تذهبين، فإني أريد أن أعرف ابنتي، وسأتبعك إلى أين سرتِ وأكون ألزم لك من ظلك.

– اصفح عن الأم.

– أهي مساومة تقترحينها عليَّ؟ فإذا لم أصفح عن الأم ألا تردين إليَّ بنتي؟ إن ابنتي تحب ولا تتردد عن الانتحار في سبيل حبها ثم تؤثرين أن تموت، فقولي لمرسلين إنها ليست أمًّا، وإنها غير جديرة بما تطلبه من الصفح. نعم، إني لا أرضى بهذه المساومة وأريد أن ترد إليَّ ابنتي من غير شرط، وإذا علمت بعد ذلك أن امرأتي استحقت الصفح بما عانته من الشقاء وبحسن سيرتها وحنوها على ولديها فقد أعفو، أما الآن فإني أريد ابنتي دون شرط.

فاصفر وجه مرسلين حتى خيل له أنها سيغمى عليها وركعت أمامه فقالت: لقد رضيت يا بيير ما تريده دون شروط، وسأرد لك بنتك فلا تصفح عني إلا بعد أن تعلم أني أستحق صفحك.

فطاش صواب بوفور، وقال لمرسلين: أأنت هي مرسلين؟

– نعم، أنا هي.

– أتكونين مرسلين ولا أعرفك، نعم، إنها عيناكِ. نعم، أنت هي مرسلين.

وقد سقط عن الكرسي شبه مغمًى عليه من فرط التأثر وقال: إذن إن الدكتور جيرار ذلك الفتى النابه الذكي الذي أخلصت له الود …

– إن جيرار هو الذي ولد في سويسرا.

– مَن هو أبوه الذي أغواك وصيَّرك أمًّا ثم نبذك حين علم أنك صرت فقيرة؟

– لماذا تسألني عنه؟

– لأني أريد أن أعرف ذلك، وهل هو حي؟

– لا أعلم.

– بل تعلمين؛ لأنه لو كان ميتًا لما ترددت لحظة عن قول اسمه، أريد أن أعرف اسمه يا مرسلين إذ يجب أن أعاقب هذا السافل.

– ويلاه هذا الذي كنت أخشاه!

– اسمه … إني آمرك أن تقولي اسمه؟

– ارحمه يا بيير كما عفوت عني.

– أتطلبين له الرحمة، ألعلك تحبينه وتخافين عليه؟

فقالت بلهجة تبين فيها الكره والاحتقار: أأنا أحبه؟

– إذن، لماذا تدافعين عنه؟

– لخوفي عليك.

– لا تهينيني.

– ليفعل الله ما يشاء؛ فإني لا أحب أن يبقى في قلبك أثر للريب.

– اسمه؟

– جان داغير.

– هو … هو … ألا تكذبين؟

– أُقسم بولدي أني أقول الحق.

– إذن سأقتله لا محالة، والآن لنهتم بأمورنا؛ فإن مودست التي رأيتها في حفلة فولون زينة الفتيات هي بنتي.

– نعم، وأنت أبوها مرتين، فأنت الذي أنقذتها من الغرق منذ عشرين عامًا، وهي تحب روبير بن فولون، فلم أكن أستطيع عقد الزواج بينهما؛ إذ لا بد من مصادقة أبيها، وأنت تعرف أن فولون لا يزوج ولده ببنتي قبل أن يعرف ماضي حياتي، بقي عليك أن تزيل هذا الحاجز.

– وسأذيله دون شك؛ فإن فولون لا يتردد في الموافقة متى وقف على الحقيقة.

– إذن قابله في أقرب وقت ممكن؛ فإن مودست في حالة اليأس وإني أشكرك لعواطفك النبيلة التي لم أشك فيها قط.

نعم، سأقابله اليوم، فهو هنا وقد لقيته صباحًا عند النوتير الذي دعاني وإياه إلى العشاء، وسأصحبه عند عودتنا إلى قصره فأخبره بكل شيء.

– ثم تخبرني عن جوابه.

– دون تأخير، والآن فإني أريد أن أرى ابنتي فهلمي بنا إليها.

– تمعن في الأمر يا عزيزي، فماذا تقول لها الآن إذا رأيتها؟ أليس الأجدر أن تأتي إلينا بعد اتفاقك مع فولون فأكون قد هيأتها لمقابلة أبيها؟ بل أكون قد نلت صفحها وصفح أخيها.

– لا يحق لأولادك أن يكونوا قضاتك، وليس لهم أن يصفحوا عنك، بل كل ما عليهم أن يمسحوا دموعك، ولكن الأجدر أن تهيئيها لمقابلتي كما تقولين، أما أنا فإني ذاهب إلى النوتير حيث أجتمع بفولون.

فركعت أمام زوجها، وقبلت يده وهي تقول: اصفح عني.

قال أظن أني سأصفح، ولكن ذلك لا يكون قبل اجتماعي ببنتك.

فمسحت دموعها وقالت له: أستودعك الله.

قال: إلى اللقاء القريب.

وقد خرجت وهي في أشد حالات الاضطراب، بحيث إنها لم ترَ رجلًا كان مختبئًا وراء الستائر.

أما هذا الرجل فإنه حين رآها خرجت من القاعة خرج من مكمنه، وقال: إنها مرسلين دي مونتكور! وإن الدكتور جيرار ولدي! فما هذا الاكتشاف؟! وكان هذا الرجل جان داغير يتنصت من وراء الباب وقد سمع كل الحديث.

– ولما خرج من مكمنه خرج بوفور أيضًا من غرفته والتقى الاثنان وجهًا بوجه، فجعل كل منهما ينظر إلى صاحبه وشفتاه ترتجفان إلى أن بدأ بوفور الحديث فقال له: أرأيت هذه المرأة التي خرجت من عندي الآن؟

قال: كلا.

– لقد كذبت؛ إذ يستحيل ألَّا تكون قد رأيتها، أما وقد كذبت فإما أن تكون قد عرفتها وإما أن تكون قد سمعت حديثي معها.

– أتحسب أني من الذين يصغون إلى الأحاديث من وراء الأبواب؟ وأية فائدة لي من ذلك؟

– إن هذه المرأة هي مرسلين دي مونتكور؛ أي امرأتي.

– أوجدتها بعد هذا الفراق الطويل؟

– وإن هذه المرأة كانت خليلة لك من قبل.

– أظن أنك تريد الممازحة.

فقبض بوفور على كتفيه فهزهما بعنف، وقال له: أتجسر على الإنكار أيها الشقي؟

وقد كان داغير أشد كثيرًا من بوفور، فلو أراد التخلص لاستطاع بأهون سبيل، ولكنه لم يفتكر بذلك، فهزه بوفور أيضًا وقال له: لقد عرفت الآن أنه لا بدَّ لواحد منا أن يموت وسنتبارز غدًا مبارزة لا تنتهي إلا بالموت، وسأرى ساعتئذٍ إذا كنت تظهر من البسالة ما أظهرته من السفالة يوم أغويت تلك الفتاة.

ثم نظر إليه نظرة ملؤها الاحتقار وتركه وانصرف، فلبث داغير هنيهة في موقفه، ثم دخل إلى غرفة بوفور فعثر بما كان يبحث عنه فيها؛ إذ وجد فوق المغسلة مسدس بوفور، فأخذه وفحصه فوجده محشوًّا بست رصاصات، فوضعه في جيبه وانصرف.

عندما خرج بوفور ذهب مسرعًا إلى منزل النوتير على رجاء أن يلقى فيه فولون.

وقد لقيه هناك وحده؛ لأن النوتير لم يكن قد رجع بعد، فقال له: إني أراك حزينًا يا موسيو فولون لسفر روبير.

قال: هو ذاك؛ فإني لا أستطيع إخفاء كدري.

– وإذا فزت بمنع ولدك عن مبارحة فرنسا؟

– هذا محال فقد أفرغت مجهودي في هذا السبيل، فلا يمكن أن تفوز.

– من يعلم؟

– أوضِح ما تقوله يا موسيو بوفور.

– إن ولدك يسافر لأنه يريد الزواج بابنة مرسلين لنجون.

– ولأن مدام لنجون لا تريده زوجًا لابنتها.

– أيوجد مانع يحول دون هذا الزواج؟

– بل يوجد مانعان؛ أحدهما: رفض مرسلين، والثاني: الأسرار المحيطة بما فيها.

– إن المانع الأول قد زال.

– ماذا تقول؟ أرضيت مدام لنجون؟

– نعم، رضيت زواج روبير لمودست.

– أأنت الذي حملتها على الموافقة؟

– بل هي وافقت من نفسها.

– والمانع الثاني؟

– أتريد به سر ماضي هذه المسكينة؟

– نعم.

– أنا أكشفه لك.

– ألعلك من السحرة؟

– ربما.

– وهنا سمعا صوت النوتير، فقال بوفور: إن الحديث طويل، فعيِّن موعدًا لاجتماعنا غدًا فأقصه عليك.

– لماذا تؤجله إلى الغد؟

– كيف نجتمع اليوم؟

– هذا بسيط؛ فإنك تذهب معي هذه الليلة إلى قصري فتقص عليَّ الحكاية في الطريق، ثم إنك تذود عني إذا التقينا بلصوص؛ فإني سأحمل أربعمائة وخمسين ألف فرنك ورقًا نقديًّا، فتبيت عندي وغدًا نتصيد في الغابة.

– لقد رضيت.

وعند ذلك دخل النوتير فانقطع الحديث بهذا الموضوع، وأرسل بوفور رسالة إلى مرسلين لم تتضمن غير هاتين الكلمتين:

الرجاء حسن.

وقد أطلعت مرسلين بنتها على هذه الرسالة، وقالت لها: إن الرسالة بشأنك يا ابنتي فاطمئني، ولا أستطيع أن أزيد شيئًا على ما قلته، ولكنك ستعلمين غدًا كل شيء.

•••

في الساعة التاسعة من مساء هذه الليلة خرج بوفور وفولون من منزل النوتير، فوضع فولون المال في محفظة وركب مركبته مع صاحبه وسافرا.

ولم تكَد تسير بهما حتى طلب فولون إلى صديقه أن يقص عليه الحديث.

قال: إني أدخل توًّا إلى الموضوع؛ فإنك أردت فيما مضى أن تتزوج مدام لنجون.

– نعم.

– لماذا لم تتزوجها يومئذٍ؟

– لأنها أبت.

– أعرفت سبب رفضها؟

– كلا.

– لقد رفضت؛ لأنها متزوجة.

– أأنت واثق مما تقول؟

– دون شك.

– أتعرف الموسيو لنجون؟

– إنه غير موجود.

– الحق أني غير متمرن على حل الألغاز.

– لا يوجد ألغاز؛ فقد قلت إنه غير موجود؛ لأن مرسلين كانت تتنكر بهذا الاسم.

– ومن هو زوجها ألعلك تعرفه؟

– نعم.

– قل لي اسمه فقد سئمت الاصطبار.

– إن زوج مرسلين يدعى بيير بوفور.

– فاهتز فولون اهتزازًا عنيفًا، وقال له بصوت مختنق: أأنت هو؟

– نعم أنا هو، وإنك تعجب دون شكٍّ كيف أني أكتم عنك هذا الأمر إلى الآن.

– هو الحق ما تقول.

– إني كتمته لأني لم أكن أعلم قبل اليوم أن مرسلين لنجون امرأتي.

فنظر إليه منذهلًا كأنما ظنه مجنونًا، وأدرك بوفور معنى ابتسامه فهز رأسه وقال: كلا، لست مجنونًا فثق بما أقوله لك، ولكن لا بد لكلامي من إيضاح، وإني موضحه لك فاسمع.

وكان القمر قد تلألأ في السماء، ودخلت المركبة التي كان يسوقها فولون إلى غابة، وساد السكون، فمضى بوفور في حديثه، ولكنه قبل أن يتم جملته سمع وقع خطوات بين الأدغال، فقال لفولون بصوت منخفض: ألا تسمع؟

قال: كلا، لا أسمع شيئًا.

قال: أما أنا فقد سمعت وقع خطوات.

– إن الوحوش تكثر في هذه الغابة.

– ولكن خُيل لي أني سمعت خطوات إنسان.

– بل إنك واهم.

– قد أكون متوهمًا ولكن الحذر محمودٌ، فهل لديك سلاح؟

– لقد وضعت في المركبة مسدسًا وسأضعه إلى جانبي كي أزيل مخاوفك.

وعاد بوفور إلى حديثه الأول، فقص عليه حكايته بتمامها منذ عرف مرسلين في سويسرا إلى أن اعترفت له بكل ماضيها، فلما فرغ من حديثه قال له: كيف رأيت؟

قال: إن هذه المنكودة تستحق صفحك، وإن حكايتها لم تزدني إلا احترامًا لها، أما أنت …

وهنا قطع بوفور عليه الحديث وقال: والآن أما سمعت …؟

قال: لقد قلت لك إن الأرانب تكثر في هذه الغابة.

– وأنا أقول لك إني أسمع خطوات رجل يتبعنا، وإنه على قيد بضعة أذرع منا.

– اطمئن أيها الصديق فإن مسدسي معي وأنا لا أخطئ المرمى.

وفي تلك اللحظة ومض برق من الأدغال وتلاه صوت طلق ناري، فأجاب فولون بمثله، فدوى طلقٌ ثالث من الأدغال.

وحدث كل ذلك بثانية، فصاح فولون بصوت مختنق قائلًا: ويح للأشقياء.

قال: ألعلك أصبت؟

فلم يجبه وجعل يقول بصوت متقطع: إليَّ … إليَّ.

ثم وقف في المركبة وقد سقط العنان من يده، وجمح الجواد، فانقلب فولون على دولاب المركبة وسقط على الأرض، واستمر الجواد على جموحه فكان ينطلق انطلاق السهم، وبوفور ممسك بحديد المركبة حذرًا من أن يقع، وقد شعر بمادة تسيل من رأسه على وجهه فعرف أنها دم، وحسب أنه دم فولون، ولكنه أحس بألم شديد فعلم أنه جريح، وأن الرصاصتين اللتين أطلقتا من الغابة أصابت إحداهما فولون فقتلته وأصابته الثانية في رأسه فجرحته.

غير أنه لم يفتكر بنفسه، بل بصديقه، وحاول إيقاف الجواد الجامح فلم يستطع.

وقد التطمت المركبة بصخر فسقط بوفور منها وأصيب برضوض شديدة فأغمي عليه نحو خمس دقائق، حتى إذا استفاق وجد المركبة واقفة حيث اصطدمت، فصعد إليها وذهب بها إلى حيث كان صديقه فولون؛ فوجده ميتًا لا حراك به.

وقد خطر له أن سبب الاعتداء قد يكون لمجرد السرقة؛ فإن فولون كان يحمل نحو نصف مليون فرنك، فبحث عن المحفظة المالية في المركبة حيث كانت بينهما على المقعد فلم يجدها، ثم بحث عنها بين الأدغال في مكان اصطدام المركبة فأيقن أن السارق القاتل قد ظفر بها وهرب.

ولم يكن يوجد أحد في تلك الغابة، وهي قريبة من قصر فولون، فأسرع بالمركبة إلى القصر وأخبر روبير بتلك النكبة، فذهب الاثنان يصحبهما بعض الخدم إلى مكان الحادثة وعادوا بالقتيل إلى القصر.

وكان أول ما فعله روبير بعد ذلك أنه أخبر النيابة برقيًّا بقتل أبيه فجاء القاضي يصحبه أحد أنفار البوليس.

وقد أرسل القاضي برقية إلى الدكتور جيرار أخبره فيها بقتل فولون، وسأله أن يوافيه إلى قصر القتيل لفحص الجثة ووضع التقرير، فعرفت عائلته بهذه النكبة، وكان وقعها عظيمًا عليها.

وقد وصل جيرار في الوقت المعين فعزى صديقه روبير تعزية صادقة، ثم انصرف إلى فحص القتيل.

وبعد ذلك ذهب الجميع إلى المكان الذي حدثت فيه الجناية وبحث القاضي بحثًا دقيقًا، فوجد في مكان قريب من المكان الذي وقعت فيه المركبة مسدسًا ملقًى على الأرض، فأخذه وفحصه، وجعل كلًّا من الحاضرين يفحصه إلى أن استلمه بوفور، فظهرت عليه علائم الانذهال وقال: إنه يشبه مسدسًا موجودًا عندي كل الشبه؛ حتى يقال إنه هو بعينه.

فنظر قاضي التحقيق نظرة منكرة إلى بوفور وقد خامره الريب، وخلا بمعاونه فقال له: أتعرف شيئًا عن حالة بوفور؛ فقد رابني قوله إن مسدسه يشبه مسدس القاتل؟

قال: إن الأمر بسيط إلا إذا بحثنا عن مسدسه في منزله ولم نجده.

قال: يقال إن حالته المالية على غير ما يرام وإنه أعلن تصفية أعماله.

– والذي أعلمه أنه رجل غني.

– لقد كان غنيًّا ولكنه خسر أموالًا كثيرة في تجارة الحديد، وفي كل حال فسيجلي التحقيق الحقيقة.

وقد خلا بعد ذلك بالدكتور جيرار وسأله أن يضع له تقريرًا مدققًا عن جرح بوفور، ففحصه ووضع تقريره، فكانت نتيجة ذلك التقرير أن الرصاصة التي أصابت رأسه كان مطلقها في مكان أرفع من مكانه؛ فأصابته من فوق إلى تحت، خلافًا للرصاصة التي أصابت صدر فولون فقد كانت مستقيمة السير وهو ما زاد شك القاضي ببوفور، بدليل أنه حين أراد أن يعود مع جيرار في مركبته منعه، وقال له: لا أزال محتاجًا إليك، وستعود في مركبتي إلى كريل.

عندما عاد الدكتور جيرار إلى منزله قالت له أخته إنه أتى خادم يسأل عنه وإنه ينتظره، فذهب جيرار إليه ووجد أنه خادم بوفور، فقال له: ماذا حدث، أعاد سيدك إلى المنزل؟ وهل يتألم كثيرًا من جرحه؟

قال: إنه لم يعد إلى المنزل وليس هو الذي أرسلني.

– إذن ماذا؟

– إنك تعلم يا سيدي أن الموسيو داغير شريك الموسيو بوفور يقيم مع شريكه في منزل واحد؛ فقد تركه خادمه منذ أسبوع، فلما رأيته اليوم لم يخرج من غرفته، حسب عادته، دخلت إليه وقد أحسنت بما فعلت.

– ألعلك وجدته مريضًا؟

– بل وجدته بحالة تشبه الاحتضار فناديته فلم يجب؛ إذ لم يستطع أن يجيب.

– ماذا أصابه؟

– لا أدري؛ ولكني وجدت دمًا كثيرًا على ثيابه ولعله من رعاف شديد، وهو الآن فاقد الصواب.

– ألعله مات؟

– كلا، ولكنه على وشك الموت.

قال: إني ذاهب إليه. وبعد ربع ساعة كان هناك فقال للخادم: ابقَ في الغرفة المجاورة فإذا احتجت إليك دعوتك.

لم يكن داغير يحتضر كما توهم الخادم، ولكن ثيابه كانت ملطخة بالدم والوحول، وقد تمعن في وجهه فأيقن أنه لم يصَب بالرعاف، وأن هذا الدم لم ينزف من أنفه أو فمه، فقال في نفسه: إنه جريح أيضًا فما معنى هذا؟

وقد أقفل باب الغرفة من الداخل كي لا يزعجه أحد، ثم عاد إلى داغير فكشف عنه الغطاء وقال في نفسه: لم أكن مخطئًا فهو جريح فإنه كان مصابًا برصاصة بكتفه، فعالج الرصاصة حتى أخرجها وخمد الجرح.

وكان قد أغمي عليه لكثرة ما نزف من دمه، فلما استفاق نظر إلى ما حواليه نظرة تشف عن الرعب، وقال لجيرار بصوت خافت: من أنت يا سيدي؟

قال: أنا الدكتور جيرار فلا تتكلم ولا تتحرك؛ لأن ذلك يؤذيك.

– ولكن يجب أن أقول لك …

– ستقول لي ما تريد قوله فيما بعد.

– كلمة فقط … لا تقل لأحد … فإني أنا جرحت نفسي خطأ.

وإني أستحلفك بشرفك وبشرف مهنتك التي تقضي عليك بكتمان الأسرار.

– لا فائدة من تنبيهي فإني أعرف واجباتي.

فأراد أن يشكره، ولكنه لم يستطع الكلام؛ إذ أغمي عليه، فقال جيرار في نفسه: لقد كذب هذا الرجل؛ إذ يستحيل أن يكون جرح نفسه كما قال؛ لأن الرصاص إذا أُطلق من مدًى قريب ترك أثرًا للبارودة في مكان الإصابة ولا يوجد شيء من هذا، فلماذا كذب؟

وهنا عاد إلى ذاكرته مقتل فولون، فنظر إلى الرصاصة التي أخرجها من الجرح بإمعان ثم وضعها في جيبه.

وصحا داغير ثانية وقد استراح بعد إخراج الرصاصة، فتنهد تنهد الراحة، ولكن كانت تدل على الخوف، ولا سيما حين كان ينظر إلى ملابسه الملوثة بالدماء والملقاة في زاوية من الغرفة.

ولم يخفَ معنى هذه النظرات عن جيرار، فقال له: أود أن أعلم لماذا ادعيت أنك جرحت نفسك؟

– ماذا يهمك؟

– إنك قد تكون ضحية هجوم، فإذا كان ذلك فلماذا لم تبلغ الحكومة؟

– أي شأن للحكومة فقد قلتُ لك إني جرحت نفسي خطأ وكفى، فعالجني ولا تهتم لمعرفة سبب جرحي.

– لقد وعدتك ألَّا أقول شيئًا عن جرحك لأحد عملًا بواجب مهنتي؛ إذ لا فرق بين الكاهن والطبيب في وجوب كتم الأسرار.

ولكن لا شيء يمنع الطبيب أن يبحث عن حقيقة أمر يشك به، فأنا لا أعلم كيف جُرحت، ولكني أسألك أن تقول لي الحقيقة.

– إني أعيد عليك ما قلته وهو أن هذا الأمر لا يعنيك.

– ولكنك لو عرفت ما يجول من خاطري من الشكوك لذُعرت.

– ولمَ؟ ألعلك تظن أنهم حاولوا قتلي؟

– ربما.

– إذن؛ افترض ذلك.

– وإذا افترضته يبقى أن أعلم لماذا لم تبلغ الحكومة.

فاضطرب لذكر الحكومة، وأجال نظره بين الطبيب وبين الملابس الدامية، وقال: إن ذلك يعنيني دون سواي ألا يمكن أن يكون ذلك الجرح نتيجة مبارزة خفية بسبب امرأة، فكيف يجوز أن أبلغ الحكومة في هذه الحالة؟

– فلم يعترض جيرار؛ لأن هذا التعليل كان ممكنًا، ولكنه بقي مشككًا، فودع الجريح وانصرف على أن يعود في الغد، واحتفظ بالرصاصة.

بقي داغير منصتًا إلى أن أيقن من انصراف الطبيب، فنهض من فرشه يمشي إلى الباب مشية السكران، فأقفله بالمفتاح وهو يقول في نفسه: ترى كيف أعلل وجود الوحل والدم على ملابسي؛ فقد يوجد إخصائيون يعرفون أن هذا التراب من تراب الغابة، فمن جاءني بهذا الطبيب الذي رأى كل شيء، ولكنه لم يفهم شيئًا فيما أظن، وقد جازت حيلة المبارزة عليه، ولكنها كيف تجوز على الحكومة؟ ولا سيما حين تسألني عن اسم مبارزي.

على أنه لا يبوح بما رآه عملًا بواجب مهنته، ولنفرض أنه أراد أن يبوح فإني أعرف كيف أمنعه.

وبعد فما هذا الاتفاق الغريب، فإن جيرار ولدي وحياتي بين يديه، إذا عرف سر الجناية، ولكنه لو عرفه يكتمه لا محالة، فلأنظر الآن إلى الأهم وهو إخفاء أثر الجرح.

وقد أخذ سكين صيد فقطَّع ملابسه قطعًا صغيرة وألقاها في المستوقد، ثم فتح الباب وعاد إلى فراشه، فنادى الخادم وسأله أن يأتيه بحساء، وشيء من اللحم البارد، وكأس من الخمر، فقال له: أرجوك يا سيدي معذرتي لإبطائي في الحضور إليك؛ فقد ذُعرت مما حدث.

– ماذا حدث؟

– إن رجال التحقيق هم الآن في المنزل؛ فقد قُتل الموسيو فولون في الليل حين كان يجتاز الغابة، وأصيب الموسيو بوفور برصاصة فجرح جرحًا غير خطر، والحمد لله.

– وأي شأن لرجال التحقيق في منزل بوفور؟

– إنهم عادوا به إلى منزله؛ لأنهم لم يستطيعوا نقله في الليل.

– كل هذا طبيعي، فما الذي أخافك؟

– لقد سمعتهم يتحدثون عن مسدس، ورأيت الاضطراب باديًا على الموسيو بوفور والدكتور جيرار.

– ألا يزال الطبيب هنا؟

– إنه لقي المحققين في الطريق حين انصرافه فعاد معهم.

– ألم يسأل الموسيو بوفور عني؟

– كلا.

– إذا سألك أحد عني فقل إني مريض وإني نائم.

وانصرف الخادم فقال داغير في نفسه: إنه سيذكر أننا متفقان على المبارزة، ولكنه متى علم أني مريض أرجأها إلى حين شفائي، ومتى شفيت …

أما جيرار فإنه أخرج الرصاصة من كتفي ورأيته يفحصها وهو قد أخذها دون شك؛ لأني لم أجدها، وكل هذا يدل على ريبه، وإلا فما يريد من احتفاظه بها، فإذا عرف بأمرها رجال التحقيق كنت من الهالكين.

وبعد هنيهة عاد الخادم بالطعام وعليه علائم الاضطراب الشديد، فقال له داغير: ماذا حدث؟

قال: نكبة عظيمة يا سيدي فقد أوقفوا الموسيو بوفور.

– بوفور … قبضوا عليه؟

– نعم يا سيدي كأنه من الممكن الظن بأن يُتهم بقتل صديقه فولون، وهو مثال الدعة ومكارم الأخلاق، فما هذا المصاب؟

وقد وضع الطعام على مائدة بجانب السرير وانصرف، فابتسم داغير ابتسام الأبالسة وقال: ما هذه الشهية للطعام فإني لم أكن أجدها في زمن العافية.

ولنقص الآن على القرَّاء ما جرى في المنزل؛ فإن قاضي التحقيق جاء مع بوفور إلى المنزل فقال له: هل لك أن تريني مسدسك؟

قال: دون شك فتفضل بالدخول معي إلى منزلي لترى أني لست من الكاذبين، على أني لا أعلم أية علاقة لي بالشَّبه بين المسدسين.

فلم يجبه القاضي ودخل معه إلى الحديقة، وهناك رأى بوفور جيرار خارجًا منها، فقال له: هل أتيت لتراني؟

قال: كلا، بل أتيت لعيادة الموسيو داغير.

قال: أهو مريض؟ وما هي علته؟

فأجابه بلهجة مضطربة: لم أعرف بعد.

قال: إلى أين أنت ذاهب ألا تستطيع أن تبقى معي ربع ساعة؟

قال: كما تريد.

وصعد الجميع إلى المنزل ودخل بوفور إلى غرفته كي يأتي بالمسدس، فعاد صفر اليدين، ولكنه كان يبتسم، فقال له القاضي: أين المسدس؟ قال: لم أجده ولا شك أن الخادم أخذه لينظفه.

وقد دعا الخادم وقال له: أين مسدسي؟

قال: إنه في موضعه يا سيدي.

– قال: لم أجده فاذهب وابحث عنه.

فامتثل الخادم وعاد فقال: لم أجده فقد نظفته أمس ووضعته في موضعه بعد انصراف السيدة التي كانت عندك.

فقال القاضي: من هي هذه السيدة؟

قال: هي مدام مرسلين لنجون والدة الدكتور جيرار.

فقال جيرار: ما أتت تعمل أمي عندك؟

قال: أتت تباحثني بشأن بنتها مودست وروبير بن فولون؛ ولهذا صحبت فولون إلى منزله، وقد باحثته بشأن زواج أختك وولده يا جيرار.

– بأية صفة كنت الوسيط؟

– بصفة كوني صديق فولون وصديق أمك.

فقال القاضي: لنبحث في المسدس، فكيف تعلل اختفاءه من منزلك؟

قال: لا أدري كيف أعلله.

– إنك تجيبني كما يجيبون عن أمر بسيط، ألا تعلم خطورة هذا الأمر؟

– دون شك.

– إذن أجبني كيف ضاع مسدسك؟

– لقد أجبتك بأني لا أعلم.

– ألا تشتبه بأحد؟

– كلا.

– أما تعوَّد أحد أن يستخدم مسدسك؟

– كلا، إلا إذا كان شريكي الموسيو داغير قد أخذه في مدة غيابي.

– أيمكن أن يكون هو الذي أخذه؟

– لا أظن؛ فإن لديه مسدسه.

– إنه يقيم في جناح من هذا المنزل كما أظن.

– نعم، وهو الآن في غرفته لأني علمت من خادمي أنه مريض.

– أريد قبل أن أزعجه بالسؤال أن أعرض على خادمك المسدس الذي وجدناه في الغابة.

ثم نادى الخادم وأراه المسدس، فلما رآه الخادم قال: هذا هو، فأين وجدتموه؟

قال: أواثق أنت أنه هو بعينه؟

قال: كل الثقة فإن في قبضته البيضاء لطخة سوداء لم أستطع إزالتها.

فنظر القاضي إلى القبضة فوجد اللطخة في المكان الذي عينه، فقال لبوفور: إذن لم يبقَ شك أن هذا المسدس لك.

قال: كلا، فهو لي.

– هل لك أن توضح لي كيف أنه أُخذ من منزلك واتفق وجوده مع القاتل؟

– كيف أستطيع أن أعلم؛ فإن حل هذه الألغاز من واجباتك.

– إن حلها سهل؛ وهو أن خادمك نظف مسدسك ووضعه في مكانه فأخذته وخرجت به.

– هذا خطأ.

– بل هي الحقيقة فقد أخذته وأنت الذي أضعته في الغابة.

– لماذا لا تسرع فتقول إني أنا قاتل صديقي الحبيب فولون؟!

– إني لا أشكوك يا موسيو بوفور، ولكن لا يسعني إلا أن أخبرك أني وجدت منذ هذا الصباح أدلة كثيرة تقضي عليَّ بإيقافك.

– أتوقفني أنا؟ ما هذا المزاح؟

– لا يمزحون في القضاء؛ فتفضل واتبعنا.

– إذا كنت لا تشكوني كما تقول فدعني أبقى في منزلي، وإني أُقسم بشرفي ألَّا أبرحه قبل أن تنجلي الحقيقة، وإذا كنت لا تثق بيميني فأقم معي مَن تشاء من رجال البوليس.

فلم يقبل القاضي وساروا به، فودعه جيرار بالنظر، وهو يكاد يذوب حزنًا عليه.

فلما عاد إلى منزله سألته أمه: كيف حال الموسيو بوفور؟ وهل وجدوا القاتل؟

قال: لقد قلت لك إن جرحه بسيط، ولكن …

– ولكن ماذا؟

– إن الموسيو بوفور أوصاني ألَّا أكتمك شيئًا، فاعلمي إذن أنه يوجد كثير من الأدلة تشهد عليه.

– بماذا؟ أسرع بالإيضاح.

– إنهم قبضوا عليه.

– لماذا؟

– لأنهم يتهمونه بقتل الموسيو فولون.

– لا شكَّ أنك تمزح!

– بل هي الحقيقة أقولها بملء الأسف.

ثم روى لها جميع ما حدث تفصيلًا، وقال لها: لا شك أن الصدفة قد قضت عليه بهذه التهمة، وفي اعتقادي أنه بريء.

– إذا كان ذلك فلا بدَّ لك من السعي لإنقاذه.

– كيف أستطيع ذلك؟

– لا أعلم، فسنبحث معًا عن الطريقة، نعم يجب إنقاذه يا بني فلو تعلم …

– ماذا؟

– ستعلم كل شيء فيما بعد، ولكن يجب عليك أن تحترم الموسيو بوفور وأن تحبه بملء جوارحك.

– ماذا تعنين يا أماه، فإنك لا تعرفين الموسيو بوفور، وعندما رجوتك أن تأذني بإقامته بيننا أبيتِ كل الإباء، فما الذي غيَّرك اليوم هذا التغيير؟

– ستعلم فيما بعد كما قلت لك.

وفي اليوم التالي عاد جيرار إلى داغير واستقبله باسمًا، وقال له: لقد أفادني علاجُك فأنا اليوم في خير حال.

قال: هو ما تراه، ولكن يجب أن تحذر الانتكاس؛ فإنك لا تزال شديد الضعف.

قال: نعم؛ فقد أردت أن أنهض اليوم فلم أستطع.

فجسَّ نبضه ونظر إلى زاوية الغرفة فلم يجد الثياب الملوثة بالدم، فقال له متظاهرًا بعدم الاكتراث: من الذي نظف غرفتك؟

قال: الخادم.

– أظن أنك أُصبت ببرد.

– كيف عرفت ذلك؟

– من النار التي أشعلتها في المستوقد.

– نعم؛ فقد بردت أمس فكلفت الخادم أن يوقد النار، فدنا جيرار من المستوقد وجعل ينظر إلى الرماد، فاضطرب داغير وقال له: ماذا تفعل؟

فلم يجبه الطبيب، ولو أراد إجابته في تلك اللحظة لما استطاع لفرط اضطرابه، ثم قال له بعد هنيهة: إنك ارتكبت خطأ عظيمًا.

– ما هو؟

– أما أوصيتك بالسكون وألَّا تنهض من فراشك؟

– وأنا امتثلت.

– أين هي الثياب التي كانت أمس في زاوية الغرفة؟

– لقد أخذها الخادم حين نظف الغرفة.

– أين وضعها؟

– لماذا تسألني هذا السؤال؟

– ستعرف يومًا ما السبب.

– إذن سأقول لك الحقيقة، وهي أني نهضت من فراشي حقيقة، ووقفت في النافذة فرأيت فقيرًا يتسول فألقيت إليه هذه الثياب.

– أهذا هو كل شيء؟

– ماذا تريد أيضًا؟

– أريد أن أعرف الحقيقة يا موسيو داغير؛ فإن كل ما قلته كذب محض.

– إنك تغتنم فرصة ضعفي فتهينني، وليس هذا عمل شريف، بل ليس هذا من الشجاعة في شيء.

– وأنت قد انحطيت حتى وصلت إلى الكذب، وليس هذا من شروط البسالة.

– وأخيرًا ماذا تريد؟

– أريد أن أعرف لماذا أحرقت ملابسك، ولا فائدة من الإنكار؛ فقد رأيت في المستوقد قطعة منها لم تأكلها النار، وهذا يفيد كثيرًا قاضي التحقيق لو خامره بك ريب.

– ماذا عسى يريبه مني؟ أما قلت لك كيف جُرحت؟ فلا تنسَ أن شرف امرأة متعلق بهذا الجرح، ألا يحق لي أن أتخذ وسائل الحذر؟

فحدَّق به جيرار كأنه يريد أن يخترق بنظراته أعماق قلبه، ولم يطِق داغير احتمال تلك النظرات فأغمض عينيه كي يتقيها، فتجسم الشك في قلب جيرار، وقال له: سأعودك في كل يوم.

قال: لم يبقَ فائدة من ذلك؛ لأني شُفيت، فتفضل بإرسال بيان حسابك.

قال: بل أزورك في كل يوم إلى أن تنجلي لي الحقيقة.

– وأنا حر في منزلي، فلا تستطيع معالجتي بالرغم عني؛ ولذلك أمنعك عن زيارتي.

– ذلك سهل قوله، ولكنك لا تفعله.

– لماذا؟

– لأنه يوجد معي طلسم أفتح به باب منزلك حين أشاء، وهو هذا.

وقد أخذ من جيبه الرصاصة التي أخرجها من كتفه وأراه إياها، وهي داخل لفافة من الورق.

فقال له: ما هذا فإني لا أرى؟

قال: هي الرصاصة التي أخرجتها من كتفك؛ فقد وضعتها في جيبي عرضًا، وحسنًا فعلتُ؛ لأنك كنت أتلفتها كما فعلت بملابسك، أما إذا بقيت معي فلا خطر عليها من التلف أو الضياع، أتعلم عما أبحث الآن؟ إني أبحث عن المسدس التي خرجت منه الرصاصة، وسأجده لا محالة.

فتلعثم لسانه من الرعب حتى لم يعلم ماذا يجيب، وتركه جيرار على هذه الحالة وذهب من فوره إلى مركز النيابة، ولم يكن قاضي التحقيق هناك فلقي الكاتب، وقال له: هل يمكن أن أرى المسدس الذي وجد في مركبة فولون؟

قال: ذلك سهل.

وقام فأعطاه مسدس القتيل وعاد إلى عمله، ففحصه جيرار، وأدخل فيه الرصاصة التي أخرجها من كتف داغير فأيقن أنها خرجت من المسدس نفسه، وأعاده إلى الكاتب ثم شكره وانصرف، وقد استحال شكه إلى يقين.

وفي اليوم التالي عاد إلى داغير فأقفل الباب من الداخل، وجلس على كرسي بجانب سريره، وقال له: لا شكَّ أنك تستطيع أن تُشفى الآن من غير معالجتي، وإني مخبرك الآن بما دعاني إلى الإلحاح بزيارتك.

– كلي آذان للسمع.

– ثم إني مخبرك بما فعلت وبما أريد أن أفعل.

– ماذا فعلت؟

– فعلت ما حملني على الوثوق من أن الرصاصة التي أخرجتها من كتفك إنما أطلقت عليك من مسدس المرحوم فولون.

– مسدس فولون؟

– نعم؛ فإنه حين شعر بأنه جريح أطلق مسدسه على قاتله، ولكن النيابة تتهم الموسيو بوفور.

– وهذا صحيح، ألم يجدوا مسدسه في مكان الحادثة؟

– من أنبأك بذلك؟

– خادمه الذي يخدمني الآن.

– هذا أكيد، ولكن ترى ما يقول قاضي التحقيق لو ذهبت إليه فقلتُ له: «إن الليلة التي قُتل فيها فولون وجُرح بوفور وُجد فيها أيضًا جريح ثالث، وإن الطبيب يثبت بالبرهان أن الرصاصة التي أصيب بها كانت من مسدس فولون، وإن هذا الجريح أحرق ملابسه الملوثة بالدماء كي يخفي أثر الجريمة، وإنه سرق حقيبة فولون وأخفاها ومشى يجر نفسه جرًّا إلى المنزل، فلو لم يدركه الطبيب لكان من الأموات.»

فقال داغير والرعب ظاهر في وجهه: هذا كذب.

قال: إن الذعر الذي يبدو في عينيك يقول بأفصح لسان هذا أكيد.

– والمسدس الذي وجد في الغابة؟

– إنه جريمة أخرى تضاف إلى جريمتك؛ فقد كنت عند النوتير حين قَبض منه فولون المال، فتركته مع بوفور وعدت إلى المنزل وأنتما تقيمان فيه معًا فسرقته وتركته بعد الجناية في ساحة القتل كي يعرف ذلك المنكود به وليُتَّهم بدلًا منك.

– لماذا أعرِّض بوفور لهذه التهمة؟

– سوف أعلم، وقد تكون فعلت ذلك لتُبعد التهمة عنك، ربما يتيسر لك الفرار أو لأنك تكره بوفور بعد أن خسرت مالك في شركته، والآن فإني أعتقد أنك أنت القاتل، فادحض براهيني إذا استطعت.

– أية فائدة من دحض البرهان؟

– افترض أني قاضيك، وأني أشكوك أتجيبني هذا الجواب التافه أم تدافع عن نفسك؟

– ولكنك لست بقاضٍ.

– إن الطبيب قد يكون قاضيًا في بعض الأحيان.

– إنك تغتنم فرصة ضعفي لتهينني، ولو كنت في عافيتي لقذفت بك إلى الخارج.

– ليس هذا الجواب، فقل لي مَن الذي جرحك، إلا إذا أردت أن أخبر قاضي التحقيق بأمرك فيسألك عني هذا السؤال.

– لقد قلت لك إن الشرف يمنعني عن ذِكر اسمه.

– لو كان قولك صحيحًا لما امتنعت عن أن تبوح لي به، وأنت تعلم أن سرك يُدفن في صدري، إني إذا شئت أقسمتُ ألَّا أبوح به لأحد.

– هذا محال.

– إذن قل لي أين كنت ليلة الجريمة؟

– إذا قلت لك أين كنت أكون قد بحت لك بالسر.

– تَكَتَّم قدر ما تشاء فسيتولى غيري سؤالك.

– من هو؟

– قاضي التحقيق.

فجلس في سريره وقال: كلا، إنك لا تفعل هذا.

– من يمنعني؟

– أنا.

– كيف؟

– بتذكيرك أنك طبيب، وأنك لا تقف على سري إلا حين مزاولة مهنتك، فشرف المهنة يدعوك إلى التقيد بهذا السر، وأنت تعرف ذلك أكثر مني، فليس عليَّ أن أرشدك إلى واجباتك.

وكان جيرار يعرف هذا الواجب؛ فإن المؤتمر الطبي تناقش في واجبات الطبيب، وطرح عليه هذا السؤال وهو: «إذا اتفق أن رجلًا بريئًا اتُّهم بجريمة هائلة وأن أحد الأطباء عرف الجاني الحقيقي حال ممارسة مهنته؛ هل يجوز أن يظهر الجاني الحقيقي؟»

فاتفق المؤتمر بعد الجدال على الجواب، وكان أنه لا يجوز، فتسجل في نظامهم وتحتم على كل طبيب أن يحترم هذا القرار.

ولذلك أجاب جيرار داغير فقال: نعم، إن واجبات الطبيب تقضي عليَّ بكتمان سرِّك، ولكنك لم تستند بدفاعك إلا إلى هذه الواجبات، وعجزت عن كل دفاع، وهو ما يدل على أنك مجرم، وإذا كنت لا تخافني فلماذا لا تعترف لي، وأية فائدة من الإنكار وأنا أعلم علم اليقين أنك القاتل؟

فأطرق هنيهة مفكرًا ثم قال: لقد أصَبت؛ فإني إذا بالغت في الإنكار حق لك أن تعتقد أني بريء، فحق لك أن تخبر أني جريح، فلا أعلم ما يكون من قاضي التحقيق؛ ولذلك أرى أن أخبرك بالحقيقة فتكتمها كما لو كنت شريكي، نعم إني أعترف للطبيب جيرار الذي وقف على سري بسبب معالجتي، وأقول: إني أنا الذي قتلت فولون وجرحت بوفور، فانسَ الآن هذه الحكاية واعمل بواجباتك كطبيب.

– وهذا البريء المقبوض عليه والمتهم بدلًا منك؟

– إنه قليل الحظ فليتدبر بأمره.

– ولكن هل خطر لك أنهم سيحاكمونه في محكمة الجنايات؟

– نعم، وسيبرئونه وأنجو.

– قد يبرئونه ولكنه سيوصم بوصمة عارٍ من شكوك الناس لا تُمحى أبد الدهر.

– إنك تبالغ أيها الطبيب.

– وإذا حُكم عليه بالإعدام، وهذا أيضًا من الممكنات؟

– عند ذلك تكون نجاتي مضمونة.

– أليس في قلبك ذرة من الحنان فتشفق على رجل يموت عوضًا عنك؟

– أتطلب الرحمة إلى رجل اعترف لك أنه قاتل؟ لا شك أنك من المجانين.

– ويح لك أيها الشقي.

– نعم إني شقي كما تقول، ولكني أريد أن أنقذ نفسي، ولو كنت من أهل العواطف الطيبة لما كنت قاتلًا سفاكًا، فلنبحث في غير هذا الموضوع.

– لا أكتم عنك أني لم أقر على شيء بعد فيما يتعلق بجنايتك.

– لا تستطيع أن تقر إلا على أمر واحد وهو الكتمان.

– بل أستطيع وسأتمعن، ولكني أعدك أني إذا اعتمدت على إخبار قاضي التحقيق فسأدعك تسلم نفسك كي يخف عقابك.

– أشكرك لاهتمامك بتخفيف عقابي، ولكني أوثر ألَّا أحتاج إلى ذلك.

– سأعود غدًا إليك وسنرى.

– وأنا أنتظرك.

وقد تركه جيرار وعاد إلى منزله، فأخذ قانون الأطباء وقرأ مرارًا علَّه يجد مخرجًا يعينه على الإباحة بسر المريض الذي يعالجه، والذي لم يكتشف سره إلا بسبب هذه المعالجة، فلم يجد نصًّا يعينه على ذلك، فأقفل الكتاب مغضبًا، وقال في نفسه: إني سأذهب إلى قاضي التحقيق فأقول له إن الذي قبضت عليه بريء، فابحث عن الجاني الحقيقي، ولا أزيد كلمة على هذا فأكون نبهت قاضي التحقيق، وكتمت سر الجاني المريض.

وقد ذهب من فوره إلى قاضي التحقيق فأحسن استقباله، ولكنه رأى الاضطراب باديًا في وجهه فسأله عن أسبابه فقال له: إني أتيت لأبلغك أمرًا خطيرًا على رجاء أن تأخذ كلامي على علاته فلا تحوجني إلى تصريح.

قال: لقد أدهشتني بهذه المقدمة؛ إذ لا أستطيع التقيد بها قبل أن أسمع أقوالك.

قال: كل ما أريد قوله هو أنك مخطئ في سير التحقيق في قضية فولون، ومخطئ في قبضك على بوفور.

– تريد أن تقول إنه بريء؟

– نعم.

– هذا كل ما أتمناه له، ولكن لا بدَّ لهذه الجناية من جانٍ، فإذا كنت واثقًا من براءة بوفور فاذكر لي اسم الجاني؟

فأجابه بصوت مختنق: لا أعرف اسمه.

– هذا ممكن، ولكن اذكر لي الأسباب التي حملتك على الاعتقاد ببراءة بوفور؟

– لا أستطيع أن أزيد كلمة على ما قلته، وهو أنه بريء وأنك مخطئ خطأ هائلًا بالقبض عليه، فلا تسألني زيادة.

فضحك القاضي وقال: لا شكَّ عندي أنك صادق في اعتقادك، ولكن أتحسب أن القانون يجيز لي إطلاق سراح متهم بشهادة رجل يقرر أنه بريء دون أن يؤيد قوله ببرهان؟ فقل أيها الصديق ماذا اكتشفت وكيف تولد عندك هذا الاعتقاد؟

فأطرق ولم يجِب، وجعل القاضي يسير ذهابًا وإيابًا في غرفته ثم وقف وقال له: ألعلك اكتشفت سرًّا يدعوك نظام مهنتك إلى كتمانه؟

– ليس لي ما أزيده على ما قلت.

– ألا تجيب حتى على هذا السؤال البسيط؟

– حتى على هذا السؤال.

– إذن جوابك هذا يعتبر بمثابة إجابتي بالإيجاب؛ لأنك لو أردت أن تجيب سلبًا لما احتجت إلى التردد. نعم إنك اكتشفت سر الجناية وأنت تزاول مهنتك، فلا ألح عليك بالسؤال؛ لأن الشرف يقضي عليك بالكتمان.

– ولكني أُقسم لك بشرفي أن بوفور ضحية الخطأ وأُقسم بشرفي أنه بريء.

– لا شك عندي أنك تعتقد صحة ما تقول.

– إذن هلا أرجو أن يُطلق سراح هذا البريء؟

– هذا أمر آخر؛ فقد قلتُ لك إني أثق باعتقادك أن ما تقوله حق، ولكن القانون لا يسمح لي بإطلاق سراحه، والأدلة متوفرة ضده إلا إذا نُقضت بالبرهان، ورجائي أن تتمكن بطريقة من الطُّرق من إرشاد النيابة إلى المجرم دون أن تخل بواجباتك.

– إذن إني لم أغير شيئًا بما قلته من حالة هذا المنكود؟

– كلا، ولكنا نستأنس بشهادتك.

فودعه آسفًا وانصرف، وبقي القاضي يناجي نفسه فيقول: ألعله وقف على سر الجناية … لا شك عندي أنه يعرف سرًّا يأبى الإباحة به فكيف أنتزعه منه؟ إن هذا محال؛ فإنه شديد التمسك بنظامه الطبي فلم يبقَ إلا أن أحتال.

وقد دعا إليه أحد معاونيه وقال له: أريد أن أعهد إليك بمهمة سرية، وهي مراقبة الدكتور جيرار؛ فقد أقسم لي بشرفه الآن أن بوفور بريء، فلما سألته البرهان أبى أن يظهره بحجة نظام الأطباء الذي يقضي بالكتمان، والظاهر أنه اكتشف هذا السر لدى معالجته الجاني؛ ولذلك أريد أن تكون له أتبع من ظله، فتعلم في كل لحظة أين يكون.

قال: لك أن تعتمد عليَّ.

قال: احذر أن يعلم أنك تراقبه.

– دون شك، فإذا علم فأية فائدة من المراقبة؟

– وأريد أن تأتيني بتقريرك في كل مساء.

سأفعل، وها أنا الآن ذاهب لأتنكر.

عندما خرج جيرار من عند القاضي لم يعد من فوره إلى المنزل، بل ذهب إلى داغير.

أما المعاون فإنه ذهب بعد أن تنكر إلى منزل جيرار، وجعل يرود حوله على اعتقاده أنه فيه، وأنه سيقفو أثره حين خروجه منه.

وكان جيرار قد ذهب إلى داغير كما تقدم فقال له: إني قادم من عند قاضي التحقيق، وقد قابلته وأخبرته بما علمته.

فاصفر وجهه وقال: إنك بحت بسر اؤتمنت عليه وما هذا شأن الأشراف.

قال: كلا، إني لم أبُح بالسر في حين أنه كان يجب أن أفعل؛ لأن عدم إنقاذ رجل بريء شريف كالموسيو بوفور يعد جريمة أعظم من جريمة الإباحة بالسر.

– إذا كنت لم تبُح به فأي شأن لك مع قاضي التحقيق؟

– أردت أن أخبره أنه مخطئ بسير التحقيق؛ فإن لديَّ براهين تدلُّ على خطئه.

– أيها التاعس؛ إنك ولَّدت في نفسه الريب، وسيقتفي أثرك ويراقبك أين ذهبت.

– هذا حقه.

– إذن لقد أصبحت من الهالكين.

– وهذا ما أتمناه؛ فليس في قلبي ذرة من الشفقة عليك.

– احذر؛ فإنك تندم.

– إن وعيدك لا يؤثر عليَّ في شيء فأنت قاتل سفَّاك، وأنا طبيب شريف، فأية صلة بيننا فأخاف وعيدك؟

– إن بيننا من الصلات فوق ما تظن، ومتى عرفت الصلة التي تجمع بيننا تأسف لما قلته للقاضي، ولكن الأوان لم يفُت لحسن الحظ.

– إني لا أفهم ما تقول فما الذي تعنيه؟

– أصغِ إليَّ يا موسيو جيرار؛ فإنك ابن رجل مجهول.

– ماذا يهمك مولدي؟

– وإنك لم تعرف أباك حتى الآن، فإذا كنت تريد أن تعرف حقيقة أمرك فأنا أكشف لك سره.

– أنت؟

– نعم أنا.

– وكيف عرفت هذه التفاصيل؟

– سوف ترى؛ فاعلم أن أمك من أسرة نبيلة وهي ابنة الكونت دي مونتكور، فعندما بلغت الثامنة عشرة من عمرها أحبت فتًى وهو أيضًا من النبلاء، غير أن أباها أبى تزويجها به وهما متحابان كما قلت لك، فكنت أنت الدكتور جيرار ثمرة هذا الحب.

ولكن ما بالك لا تسألني تمام الحديث ألا تريد معرفته؟

– من يضمن لي أنك غير كاذب فيما تقول؟

– يضمنه أمك، فلك أن تسألها حين عودتك.

– إذن امضِ في حديثك.

– إن الكونت دي مونتكور حين علم بزلة ابنته وافق على زواجها، ولكن الفتى كان قد مل الانتظار وحالت موانع دون زواجه بها، فاضطرت إلى السفر إخفاءً لزلتها.

– لا يوجد في الأرض موانع تحول دون زواج الشريف بفتاة يحبها وهو يريد الزواج.

ثم أطرق هنيهة ساكتًا وقال: وعلى ذلك فإن هذا الرجل كان أبي.

– نعم.

– إلى أين تريد أن تصل بحكايتك، وأي شأن لها بما نحن فيه، ألعلها تغير الواقع وهو أنك لص سفَّاك.

– كلا إنها لا تغير اعتقادك فيَّ ولكني أظن، بل أؤكد أنها تمنع انتقامك مني.

– لا أفهم ما تقول.

– أني أنتظر أن تسألني سؤالًا وأنا مستعد لإجابتك عليه.

– ما هو اسم هذا الرجل؟ ما هو اسم أبي أتعرفه؟

– لو لم أكن أعرفه لما قصصت عليك هذه الحكاية.

– مَن هو؟

– ألم تعرف بعد مَن هو؟

– كيف أستطيع أن أعرفه؟

– إن أباك … هو أنا.

فتراجع جيرار منذعرًا كأنما لسعته أفعى وهو يقول: أأنت أبي؟ أيمكن أن تكون أحبتك أمي؟!

– ما عليك إلا أن تسألها.

فسقط على كرسيه وستر وجهه بيديه، فلم يبكِ ولكنه خجل مما سمعه؛ حتى إنه أنف من النظر إلى الوجود فستر عينيه وهو يقول: أنت أبي … يا للهول أيمكن ذلك أن يكون؟!

ثم وقف وقد أصيب بما يشبه الجنون، فقال: كلا، كلا إن هذا الوحش لا يمكن أن تحبه أمي؛ فقد يكون خدعها وهي في أول حلقات العمر، وبين الانخداع والحب بَون بعيد.

أما داغير فإنه نظر إليه بعين المنتصر، وقال له: اذهب الآن إلى قاضي التحقيق، وقل له ما تعرفه عني فإنك إذا تكلمت تكلمت أنا، فيعلم الناس أن ولدي الذي خانني، وإذا عوقبت بالشنق أو بالسجن مدى العمر كان ذلك بفضل ولدي.

فقال جيرار: الويل لي من القدر! أأنا يكون لي مثل هذا الأب؟! إني ذاهب إلى أمي فأسألها؛ لأني لا أزال مشككًا إلى الآن.

قال: اذهب وأنا أنتظرك فإنك قد تعود، ولكن اسمع هذه النصيحة قبل انصرافك واعلم أن قاضي التحقيق سيراقبك؛ لأنك أثرت فيه الظنون، فاحذر حين تأتي إليَّ، إذا أردت ألَّا تخونني، وقد أعذر من أنذر، فإذا حدث لي شيء بسببك ولو كان خطأ أعتقد أنه كان منويًّا، والآن فاذهب إلى أمك وسَلها عن داغير دي مورتفال.

فخرج وهو شبه المجانين من اضطرابه حتى وصل إلى شارع منزله، فرآه المعاون الذي عهد إليه القاضي أن يراقبه ولم يخفَ عليه ذلك الاضطراب.

وصل جيرار إلى المنزل وهو يقول في نفسه: ماذا أقول لها وكيف أخبرها أني أعرف كل شيء؟

غير أن أمه عرفت من اضطرابه أنه جاءها بأمر خطير.

فقال لها: إني أريد أن أجتمع بك يا أماه وحدنا.

قالت: ما الذي يمكن أن تقوله ولا يجوز أن تسمعه مودست؟

– أرجوكِ يا أماه أن تقبلي رجائي.

فدخلت معه إلى مخدعها وقالت له: يظهر أنك مضطرب جدًّا يا بني، فماذا حدث؟

فلم يجبها واستخرط في البكاء، فجزعت أمه لبكائه جزعًا شديدًا، وجعلت تعانقه وتسأله أن يتكلم فقال: إني أعالج الآن الموسيو جان داغير دي مورتفال شريك الموسيو بوفور.

– أهو مريض؟

– نعم.

– وبعد ذلك؟

– إنه أخبرني بكل شيء.

فانقضَّ هذا النبأ عليها انقضاض الصاعقة، واصفر وجهها وشفتاها وسقطت على الأرض وهي لا تعي، فأسرع إلى معالجتها حتى استفاقت، فقال لها: أماه؛ إن هذا لا يمنعني عن أن أحبك حب عبادة.

قالت: لا أعلم لماذا تأثرت هذا التأثر في حين أنه لا بدَّ لك أن تقف يومًا من الأيام على سر مولدك، فأرجو أن تسامحني.

– على ماذا أسامحك يا أمي؟ فإن تأثرك هذا لم يحدث إلا لفرط حبك إياي.

– هو ذاك يا بني؛ فإني لم أكتم عنك اسم أبيك إلا لأني أضطر إلى الاعتراف بزلتي، وليس هذا بسهل على النساء، والآن قل لي كل ما سمعته من هذا الرجل؟

– خلاصة ما قاله لي أنك ابنة الكونت دي مونتكور، وأنك أحببتِه ولك ثمانية عشر عامًا من العمر، وأنك ولدت مولودًا من هذا الحب وهو أنا، وأن أباكِ أبَى أن يوافق على زواجكما … فلما قلتُ له إنك كاذب قال سل أمك فهي تخبرك أني لم أكذب، والآن فإني مصغٍ إليكِ.

– أهذا كل ما قاله لك؟

– نعم.

– أتُقسم لي؟

– دون شك.

– ألم يكلمك عن بوفور؟

– كلا، ولماذا يكلمني عنه؟ والآن أخبريني هل صدق فيما قاله هذا الشقي؟ وهل هو حقيقةً أبي؟

– نعم؛ فإن هذا الرجل لم يصدق إلا بقوله إنه أبوك، وقد كذب في سائر ما أخبرك.

– بماذا كذب؟

– فقد كذب حين قال إني أحببته.

– هذا الذي كنت واثقًا منه.

– وأنه أراد المتاجرة بي، وكان فقيرًا طمَّاعًا خلوًا من كل مبدأ شريف، وكنتُ أنا غنية فأغواني لحداثتي على رجاء أن يُكره أبي على تزويجي به.

– إذن لقد صدق فيما قاله عن أبيك، وهو أنه أبَى المصادقة على الزواج.

– بل كان أكذب الكاذبين؛ فإن أبي كان يأبى في البدء أن يصاهره مما كان يعلمه من فساد أخلاقه، وأنه لا يطمع إلا بثروتي، إلى أن خسر أبي ثروته في البورصة وعلم داغير بالخسارة فهجرني بعد أن وصمني بالعار، ولما أخبرت أبي بما كان قابله وتوسل إليه أن يكشف عنا هذا العار بالزواج فأبى وتوعده بالفضيحة إذا ألح.

– عجبًا كيف لم يقتله؟

– لأنه هرب في اليوم نفسه، ولكن أبي تبعه ولقيه في باريس فصفعه كي لا يبقى مانع من المبارزة، وفي اليوم التالي تبارزا، فلما عاد أبي قال لي: لقد انتقمت لكِ منه، فهو الآن من الأموات. ولكن أبي كان واهمًا فإن داغير شفي من جرحه.

– أهذا كل شيء يا أماه؟

– نعم، يا بني فهذا كل ما يتعلق بهذا الرجل أبيك.

– نعم، إنه أبي وإني مدين له بالحياة، ولكني لا أطيق أن أدعوه أبي، وهذا أمر يتعلق بي وبضميري.

– وأنا واثقة بما يوحيه إليك ضميرك، فهو لا يوحي إليك غير الحق والواجب.

– إنكِ أخبرتِني بكل ما يتعلق بهذا الرجل، ولكن بقي لك سر تكتمينه عني.

– أتريد بهذا السر مولد مودست؟

– هو ذاك.

– فقامت إلى درج فأخرجت منه ورقة رسمية، وقالت له: اقرأ، فهذه تذكرة مولد مودست، ومنها تعلم حقيقة أمرها.

فقرأ، ثم أعاد القراءة، وقال: مودست ابنة بيير بوفور وزوجته مرسلين دي منتكور؟

فقالت له: إنك لم تقرأ خطأ يا بني. ثم قصَّت عليه حكايتها منذ عرفت بوفور إلى حين مقتل فولدن فولون.

فأصغى إليها أتم الإصغاء حتى إذا فرغت من حكايتها ركع أمامها، وجعل يقول: أماه، أماه إني أحترمك وأحبك.

فأخذت تشهق بالبكاء وهو يلاطفها؛ إلى أن سكن ما بها فقالت له: لماذا كشف لك سره وبأية مناسبة؟

قال: لا أستطيع أن أقول.

فنظرت إليه نظرة شك ولم تلح عليه بالسؤال لما تعرفه من صحة عزيمته، ولكنها قالت له: أعلمت الآن لماذا أبيت أن يقيم بوفور في منزلنا؟ أعلمت الآن لماذا قلت لك إن بوفور بريء حين قبضوا عليه؟ فهل لا تزال مشككًا ببراءته؟

– لم يبقَ لي أقل أثر من الشك.

– أتنقذه؟

– كيف؟ سأفرغ مجهودي في سبيل إنقاذه ما دام بريئًا وهو زوجك وأنت تحبينه.

وهنا افترقا، فجعل جيرار يناجي نفسه فيقول: كيف أنقذه وهل أستطيع إنقاذه إلا إذا بُحت بسر داغير؟ وكيف أبوح والإباحة محرمة عليَّ؟ فهل توجد طريقة لإنقاذه غير هذه، وما هي، ومن يدلني عليها؟ أأدع ذلك الرجل الشريف البريء يُحكم عليه وهو زوج أمي التي تحبه ويحبها وهو أبو أختي مودست؟ كلا، إن هذا محال ولكن كيف العمل؟

وقد لبث مدة على هذه الحالة من التردد والهياج، ثم برح المنزل على نية الذهاب إلى داغير؛ فلم يكد يخرج من المنزل حتى لقي كلوكلو واقفًا أمام الباب ينتظره، فحياه وقال له: كيف حال أمك؟

قال: إنها محمومة كما تعلم.

– أتريد أن أذهب إليها فأعودها؟

– أظن يا سيدي الطبيب، وأرجو ألَّا يسوءك قولي إنك تضرها بعيادتها أكثر مما تفيدها.

فلم يتمالك جيرار عن الابتسام بالرغم عما هو فيه من الشواغل، ودنا منه كلوكلو فقال له: أرجو أن تأذن لي يا سيدي الطبيب بكلمة، وهي أني أرى منذ نصف ساعة رجلًا كبير اللحية يسير ذهابًا وإيابًا في هذا الشارع، وهو لا ينفك عن النظر إلى منزلكم.

– أهذا كل شيء؟

– كلا؛ فإن هذا الرجل لا يزال في مكانه، وهو الآن ينظر إلينا، ألعلك تعرفه؟

فخطر لجيرار ما قاله له أبوه، وهو أنهم سيراقبونك فاحذر، والتفت متظاهرًا بعدم الاكتراث فرأى الرجل دون أن يعرفه، وقال: إنك مخطئ يا كلوكلو فإنه ينصرف.

فهز رأسه وقال: بل إنه يراقبك يا سيدي، أتأذن لي أن أكون في خدمتك؟

– لك ما تشاء؛ فإني ذاهب لعيادة الموسيو داغير وأحب لأسباب خاصة ألَّا يعلم أحد أني طبيبه، فإذا تبعني هذا الرجل فامنعه.

– كيف؟

– لا أعلم، فعليك أن تبحث عن الطريقة.

– سأبحث وسأجد، أما أنا فقد كنت واثقًا من أن الموسيو داغير مريض.

– كيف ذلك؟

– ذلك أنه منذ بضعة أيام؛ أي في ليلة مقتل فولدن كنت عائدًا من كريل، وكان البدر يتوهج في السماء بحيث يرى الساري الأشياء على مسافة ميل، فلما وصلت إلى الغابة رأيت رجلًا خارجًا منها وهو يمشي مشية غريبة استلفتت نظري؛ إذ كان يجر نفسه جرًّا، وكان يقع وينهض وأحيانًا يسير ببطء، وأحيانًا يجدُّ في السير ويتألم.

– ألم يخطر لك أن تساعده؟

– نعم، لقد خطر لي ذلك واقتربت منه حتى وصلت إليه فقلت: ألعلك مريض أم أنت تحتفل بعيد باخوس إله الخمر؟ فإذا كان الأول، صحبتك إلى منزلك؛ فإن التعاون عندي من أخص واجبات الإنسان، وإذا كان الثاني، أودعتك إحدى الحفر وغطيتك ببركتي.

فلم يجبني، وحاول أن يركض فأدركته وحاولت إسعافه؛ فانتهرني قائلًا: اذهب عني فلستُ في حاجة إليك. فتأمل يا سيدي مقدار دهشتي حين عرفت أن هذا الرجل إنما هو الموسيو داغير.

– وماذا فعلت بعد ذلك؟

– تركته وشأنه؛ إذ لا يحق لي أن أساعده بالرغم عنه، ولكني لبثت أنظر إليه حتى توارى، ألستَ تعالجه لهذا يا سيدي الطبيب؟

– نعم، ولكني لا أريد أن يعلم الرقيب أني ذاهب إلى منزل داغير.

– وهو لن يعلم، فاذهب مطمئنًّا وأنا الضمين.

– وماذا تصنع إذا تبعني؟

– يوجد طريقة سهلة يا سيدي، وهي أنك إذا سمعتني أغني النشيد الذي مطلعه:

تبسم الأزهار من بكا الأمطار

فاعلم أنه مجد في أثرك.

وإذا سمعتني أنشد:

يا شقيق البان إن صبري بان

فاعلم أنه تراجع عنك.

وإذا التبس عليَّ أمره أنشدتُ القصيدة التي مطلعها:

يا طائر البان قد هيجت أشجاني

فتكون بهذه الطريقة على بينة من أمره دون أن تلتفت إليه.

قال: إنها طريقة سهلة، ولكني لا أظن أنك تحتاج إليها فإني أراه يتقدمنا.

قال: إنها خدعة يا سيدي فانظر فإنه وقف بحجة أنه يتفرج على صيد السمك، وإني أراهن بنصف ثروتك أننا إذا اجتزنا عشر خطوات لا يجتاز أكثر من خمس.

قال: إني رضيت باقتراحك في الحالين فابدأ بمراقبته منذ الآن.

ومشى الدكتور في طريق منزل داغير، فلم يسِر بضع خطوات حتى علا صوت كلوكلو بنشيد الحذر، فلم يلتفت جيرار؛ إذ عرف المقصود، وسار في عطفة لم يكن يريد السير فيها، فعرف من الغناء أن الرقيب يتبعه فلم ينتبه الرقيب في البدء، ولكن الأمر تكرر حتى لم يبقَ لديه ريبة.

وكان يعرف كلوكلو بالنظر، ويعلم أنه يرتزق من الغناء فعاد إليه وقال له: كم تكسب في اليوم؟

قال: نحو خمسة فرنكات.

قال: إني أعطيك عشرة الآن بشرط أن تذهب من فورك إلى منزلك فتستريح فيه كل يومك.

قال: إني أرضى هبتك بشرط أن تكون من غير شرط.

– لماذا؟

– لأني أضجر من ملازمة البيت.

– أنت وشأنك.

–وتركه فعاد إلى اقتفاء جيرار، وعاد كلوكلو إلى الغناء، فما شكك الرقيب أن هذا المغني رقيب عليه فارتد إليه، وقال له: ألا يروق لك الغناء في غير هذا المكان؟

– أين؟

– في شارع غير هذا الشارع.

– أرى أنك أشد استبدادًا من ملوك الصين؛ فإن هذا الشارع لجميع الناس.

– ولكني لا أطيق أن أراك في أثري ترهقني بغنائك كيفما مشيت، فلا شك أنك سكران.

– الحق أني لم أشرب كأسًا بعد منذ الصباح، فإذا أردت أن تجود عليَّ بسكرة، وإني أعرف خمارة قريبة من هذا المكان، فأيقن الرقيب أنه يهزأ منه فقبض عليه وهزه بعنف، وهو يقول: أتريد أن تنصرف من هذا الشارع؟

قال: كلا؛ فإننا جمهوريون وأول شروط الجمهورية الحرية.

– إذن أرني الجواز الذي يؤذن لك بالغناء في الشوارع.

– لا يحق لأحد أن يسألني هذا السؤال ما خلا رجال البوليس.

– وأنا منهم.

– هات برهانك.

فأراه رقعة دلَّت على أنه من البوليس، وأراه كلوكلو جوازه، فقال له الرقيب: أرى أنك من أهل العناد، ولكني أعذرك؛ لأنك سكران كما يظهر، فلماذا لا تدعني وشأني؟

قال: إني أدعك بشرط أن تدخل معي إلى هذه الخمارة فنشرب كأسين.

قال: ليس لي وقت للسكر.

قال: وأنا أسير في الشارع كما أشاء وأغني كما أشاء.

فلما أعيته به الحيلة نادى رجلًا من أنفار البوليس فعرَّفه بنفسه، وقال له: خذ هذا الرجل إلى القومسيير.

قال: هل ارتكبت جرمًا مشهورًا؟

قال: كلا.

قال: إن القومسيير شديد الوطأة كما تعلم فلا أستطيع أن أذهب به دون ذنب، إلا إذا كنت تصحبنا إليه.

فنفر الرقيب مغتمًّا، ومشى وهو يتمتم وتبعه كلوكلو ضاحكًا، فسار في أثره وهو يغني.

وكان جيرار قد توارى عن الأنظار، فقنط الرقيب من إدراكه وغيَّر الطريق، أما كلوكلو فإنه سار في طريق منزل داغير؛ إذ كان يعلم أن جيرار ذاهب إليه، وكان يوجد هناك مطعم يشرف على باب المنزل فأقام يأكل فيه وهو يراقب الباب.

أما جيرار فإنه دخل إلى داغير فوجده جالسًا على مقعد فأحسن استقباله، وقال له: لقد حسنت حالي كما ترى فإني برحت الفراش.

قال: ذلك؛ لأن نفسك أشد من جسمك، وقد تغلبت إرادتك على آلامك؛ لأنك تحاول الفرار وتضليل الحكومة.

قال: ما أعجب اتفاقنا في الأفكار! فهذا الذي كنت أحدث نفسي به قبل أن يخطر لك؛ لأني عوَّلت على ألَّا أبقى ساعة في فرنسا حين تشتد قواي، ليس لأني مشكك بوعدك من كتمان سري، بل لخوفي أن تبدر منك بادرة عن خطأ يزج بي إلى أعماق السجون أو يرفعني إلى المشنقة.

والآن قل لي يا بني: هل باحثت أمك بشأني؟

– إنها اعترفت لي بكل شيء.

– هل بقي لديك شك بأني أبوك؟

– كلا، وا أسفاه، ولكن أصغِ إليَّ؛ فإنك خدعت أمي وما أردت زواجها إلا طمعًا بثروتها، ثم مكرت بها حين وثقت من ضياع الثروة، فكنت أنا ابن الجريمة، أما أنت فهل ندمت حين علمت أنك صرت أبًا، وأنك قضيت على شرف تلك المنكودة عندما وثقت بك؟ ثم إنه كان بوسعك أن تعود إليها وتتزوجها، وتجعلني ولدًا شرعيًّا، فكيف تريد أن أبر بك؟ وكيف تطمع أن أحبك؟

– إني لا أطمع إلى هذا الحد.

– وقد كان من الممكن أن أشفق عليك لو كنت تركت في قلب أمي ذرة من الرفق بك، ولكنك لم تخلِّف في قلبها غير البغض والاحتقار، كلا إني لا أستطيع أن أنظر إليك نظر الابن إلى أبيه، بل إني أشفق على الغريب أكثر من إشفاقي عليك؛ لأنك قاتل مجرم، وإذا كتمت سرك فلا أكتمه لأنك أبي، بل لأن واجبات مهنتي تقضي عليَّ بالكتمان.

وقد أتيتك اليوم أرجو أن تكون هذه آخر مرة أراك فيها لأخبرك بما أريد؛ كي لا أكون أخللت بشيء من واجبي.

– إني أرفض مقدمًا ما ستقوله؛ لأن شروطك لا يمكن أن تكون مقبولة.

– ربما، ولكن لا بأس من أن تسمعها، فاسمع؛ إنك مجرم تستحق العقاب، وبوفور بريء، وهو متهم بجريمتك، فاهرب من فرنسا، ولكن بشرط أن تعترف بالجريمة اعترافًا خطيًّا، وإني أعاهدك على أن لا أظهر اعترافك هذا إلا بعد أن تصبح في مأمن خارج فرنسا، فينجو بوفور وتنجو أنت.

– هذا محال؛ فإنهم لا يطلقون سراح بوفور.

– لماذا؟

– لأن برهان إقرار الجاني وحده لا يكفي لتبرئة المتهم، ولا تنتقض البراهين التي ضده حتى تكون براهين تبرئته قوية متوفرة.

– أنا أقدم عندئذٍ البراهين التي لا تدحض؛ إذ أكون قد أصبحت في حِل من يميني، ولا سيما حين ترشدني إلى المال الذي سرقته من قتيلك فأرده إلى ورثته.

– لا تعتمد عليَّ بإرجاع المال فهذا محال.

– ولكن إرجاعه يدل على ندمك.

– أما قلت لك إني أرفض شروطك سلفًا، وإنها غير مقبولة، فأية فائدة من البحث في هذا الموضوع؟

– لم يبقَ في قلبك شيء إنساني حتى لا تخاف وعيدًا ولا تتأثر لرجاء؟ إني لا أراك بعد الآن، ولكن ثق أني لا أغفل عنك طرفة عين، وسأكون لك أتبع من ظلك حتى يفتضح أمرك بصدفة الأقدار فاحذر.

– أشكرك؛ لأنك نبهتني وسأحذر.

– إني أتوسل إليك لآخر مرة.

– وأنا أقول لك إنك تضرب في حديد بارد.

– إذن لتكن مشيئة الله، فأنت الذي أردت.

وقد نهض يحاول الانصراف، فلما وصل إلى الباب تراجع؛ إذ سمع كلوكلو ينشد النشيد الدال على وجود الرقيب.

ورأى داغير ما كان منه فقال له: ما هذا؟

قال: هذا يدلُّ على أنهم يراقبونني، وأنهم دروا بأني دخلت إلى هنا أو أنهم يشكُّون، وأنهم ينتظرون خروجي ليكونوا على ثقة.

– ألعلك خنتني؟

– كلا، فما أنا من أهل الخيانة، ولكن يظهر أن قاضي التحقيق ذكر كلامي فخامره الشك.

فاصفر وجه داغير، وقال له: لا تخرج وانتظر.

– أرأيت مبلغ خوفك ولم يحدث بعد سوى أنهم يراقبونني؟ فماذا يكون منك لو خامرهم الشك فيك وراقبوك؟ تمعن في الأمر واكتب لي كتاب الإقرار الذي طلبته منك والله يغفر لك.

– كلا.

– إذن لا تلُم إلا نفسك عما قد يصيبك.

– إنك تتمنى بملء قلبك أن يتحقق هذا الخطر الذي يتوعدني.

– لا أنكر عليك أنك تقول الحق.

– ومع ذلك فإني لم أسِئ إليك.

– لأنك لم تجدني في طريقك.

– لا تنسَ أنه يوجد بيننا صلة مقدسة؛ فإنك ولدي.

– وأنت لا تنسَ أني أحتقر نفسي حين أذكر أنك أبي؛ فإني حين أفتكر بك أفتكر بأني ابن التي خدعتها أيها السافل، والذي رأيته وأراه أنه لا فائدة من استمالتك.

– هو ذاك.

– لا يوجد دليل على سفالتك أعظم من هذا الدليل.

– إذن سأدافع عن نفسي، ولكن دفاع القانطين؛ أي كدفاع وحش مفترس يعلم أنه سيموت.

– وأنا أحب أن تكون كذلك.

وقد تركه ومشى إلى الحديقة مشي المحترس واختبأ بين أشجارها، فلم يطُل وقوفه حتى سمع كلوكلو ينشد نشيد زوال الخطر فخرج من الحديقة إلى الشارع، ولقي كلوكلو فأخبره بكل ما اتفق له مع الرقيب، وسار الطبيب عائدًا إلى المنزل بعدما أوصى كلوكلو أن يأتي إليه في الصباح.

وقد أخبرته أمه أنه أتى رجلٌ في غيابه وسألها عنه وعن المرضى الذين يعودهم، ووصفتْ له الرجل، فكانت أوصافه تنطبق على الرقيب الذي كان يقتفي أثره، فأوصاها بالكتمان ودخل إلى غرفته فاختبأ فيها.

أما الرقيب فإنه عاد إلى قاضي التحقيق وقصَّ عليه كل ما جرى له، فاستنتج القاضي من كل تلك الحكاية ومن مجيء جيرار إلى النيابة وفحصه مسدس القتيل، أنه يعرف القاتل وأنه يكتم اسمه لتقيده بواجب مهنته، وأن القاتل جريح وأن الطبيب قد يكون أخرج الرصاصة منه وفحص المسدس كي يعلم إذا كانت هذه الرصاصة هي التي خرجت منه، فأوصى معاونه أن يراقب في الغد جيرار وكلوكلو معًا وأن يبالغ في التكتم حذرًا من الفشل.

تقدم لنا القول إن مودست لم ترَ روبير بن فولون منذ مقتل أبيه؛ فإن هذا المنكود كاد أن يجَن من يأسه وجزعه على أبيه.

وقد حاول جيرار أن يزوره فيسليه ويعزيه فأبى أن يستقبله، ولكنه كتب إليه يقول:

إني أعلم الغرض من زيارتك، فإنك خشيت عليَّ الجنون وهو كل ما أشتهيه؛ لأنه خير علاج للنسيان.

على أن لكل شيء حدًّا؛ فإن الحزن أخذ يخف تباعًا، فكتب إلى صديقه جيرار يخبره أنه سيزورهم في الغد؛ لأنه في أشد حاجة إلى التعزية بإخلاص الأصدقاء.

وقد كان فرح مودست عظيمًا وكذلك جيرار خلافًا لأمه، فقالت له: ألا ترى يا بني أن هذه الزيارة ستجدد أحزاننا؟ ألا تعلم حقيقة موقفنا بإزاء ابن فولون؟ إن بوفور لم يتفق وجوده مع فولون في تلك المركبة ليلة قتله؛ إلا لأني ذهبت إليه وقلت له: «إن مودست هي ابنتك وإني أنا امرأتك، فإذا وضعت الحواجز في سبيل زواج ابنتي فليس لعدم كفاءة الزوج، بل لأني لا بدَّ لي من كشف سر زواجنا.» فلما علم بوفور أن له بنتًا فرح وغفر لي بعض الغفران، وذهب إلى فولون ليخبره بجلية الأمر ويزيل تلك الحواجز، فاعلم يا بني أن موقفنا الآن مع روبير مثل ما كان موقفنا مع أبيه؛ أي إنه يجب إطلاعه على حقيقة أمرنا.

قال: سأتولى إطلاعه عليها.

قالت: ولكن ألا ترى أن زواج أختك به أصبح من المستحيلات؟

– لماذا؟

– لأن بوفور متهم بقتل أبيه، فكيف يتزوج بنته؟

– سأقنعه أنه بريء فيثق بما أقول.

– أتمنى ألَّا تكون منخدعًا يا بني.

وفي اليوم التالي جاء روبير وعليه علائم الحزن الشديد، فأحسنوا استقباله وقال لمرسلين: إنه إذا أتيح لي العزاء عن مصيبتي القادمة تكونين أنتِ السبب الوحيد فيه، فعديني يا سيدتي تذكارًا لأبي الذي كان يحبكم كثيرًا، وباسم حبي لمودست ألَّا تعارضي في زواجنا أكن سعيدًا مع أحزاني.

فأجابته مودست قائلة: إن الموافقة التي تطلبها قد حصلت عليها من أمي قبل وفاة أبيك ببضعة أيام.

فقال لأمها: أحق ما تقوله يا سيدتي؟

قالت: نعم.

قال: لقد كنت أحسب أن الحياة متعذرة عليَّ بعد فقدِ أبي، أما وعدك الآن فإنه أحياني وأراني السعادة في الحياة بعد أن كنت أحسبها في الموت.

أما جيرار فإنه قال لروبير بصوت منخفض: يجب أن أختلي بك هنيهة أيها الصديق فتعال معي.

ودخل الاثنان إلى غرفة فاختليا فيها، وبدأ جيرار الحديث فقال: اعلم أيها الصديق العزيز أنه لو كان أبوك في قيد الحياة لقال لك ما سأقوله الآن.

– عمَّ تتكلم؟

– عن حالتنا الحاضرة وسأبسطها لك، فأرجو المعذرة لما تراه عليَّ من علائم التأثر؛ لأني لم أخَف مرة على الذين أحبهم مثل خوفي الآن.

– لقد أرعبتني أيها الصديق فأسرع بحديثك!

– إنه حديث طويل مؤثر، فأصغ إلى النهاية دون أن تقطع عليَّ الحديث.

إنك أيها الصديق لم تسألني مرة عن والد مودست.

– أية فائدة من ذلك، فهي التي سأتزوجها وإني موفر عليك مؤنة القول؛ فإنك لا تعرف أباك وكذلك مودست، ولكن ماذا يهمني ذلك وقد عرفت بنفسي ومن أبي أن أمك من شريفات النساء؛ فلا أتطلع إلى ماضيها.

– ولكن لا بد من معرفة ذلك الماضي.

– لماذا؟

– لأن والد مودست موجود.

– هل يعترف بها؟

– دون شك! فإن أمي زوجته وابنتها منه شرعية.

– إذن لقد عرفت ما مضى؛ فإن أمك لم تكن على وفاق مع زوجها فاضطرت إلى الافتراق عنه والعيش من كسب يديها؛ لأن زوجها لم يكن من كرام الناس، ولكني أحب مودست، والعدل يقضي ألَّا يؤاخَذ أحد بذنب سواه، فإذا كان هذا الذي حدث …

– كلا.

– إذن ماذا؟ بل لنفرض أن الأب قد وُصم بوصمة عار فإن بنته ستدعى باسمي وتعيش عيشًا جديدًا.

– ما أكرم قلبك أيها الصديق،! ولكن الأب لم يتدنس ولا يمكن أن يوصم بوصمة عار، فاسمع كيف كان زواج أمي.

وقد روى له كل ما عرفه القرَّاء من حكاية مرسلين دون أن يذكر له أسماء الكونت دي مونتكور وداغير وبوفور، فأصغى إليه أتم الإصغاء حتى إذا أتم حديثه قال له: أهذا كل ما تريد أن تقوله؟

قال: نعم.

قال: أتريد أن أحكم بما سمعت؟ إن أمك جديرة بحبك واحترامك؛ بدليل أنها عاشت عيش الشهداء، وكفى بتربية ولديها شاهدًا، ولكنك لم تذكر لي اسم أبيك ولا اسم والد مودست، ولك أن تكتم اسم أبيك ولكني أود أن أعرف اسم والد أختك.

– يحق لك أن تعرفه، ولا يحق لي أن أكتمه عنك.

– من هو؟

– إن زوج أمي ووالد أختي هو …

– ما بالك وجمت؟

– إنه بيير بوفور.

– رباه … ماذا أسمع … أهو قاتل أبي؟

وقد اصفر وجهه وجعل ينظر إلى جيرار نظرة المأخوذ، وهو لا يدري ما يقول: فأخذ جيرار بيده وقال له: ما هذا الاصفرار الذي تولَّاك؟

– يا لهول ما سمعت … أهذا الشقي والد التي أحبها؟

– خفِّض روعك يا روبير ولا تسترسل في الأحزان.

– أتسحق قلبي بهذا النبأ ثم تسألني الصبر، كلا فلم يبقَ أحب إليَّ من الموت.

– بل يجب أن تعيش.

– لمن؟ وقد فقدت مودست إلى الأبد.

– كلا، فلم تفقدها.

– ماذا تعني؟

– ألم تقل منذ هنيهة إن المرء لا يؤخذ بذنب سواه؟

– نعم، ولكني كنت أجهل أنها ابنة قاتل أبي.

– وأنا ألم أجِبك أنه لا يمكن أن يوصم بعار.

– إنه سيجازى بالإعدام، وأي عار أعظم من هذا؟

– بل إن براءته ستظهر كالشمس في رابعة النهار؛ فإن المحكمة لا يمكن أن تضل عن القاتل الحقيقي، فهل تمعنت في الأمر يا روبير؟ إن بوفور كان صديق أبيك الحميم.

وكان كثير التردد إليه، فهل رأيت من أخلاقه ما يدل على أنه من أهل الشر؟ ثم إنه واسع الشهرة وافر الثروة فلماذا يقتل أباك، أليسرقه كما يتهمونه وهو الغني، أم لينتقم منه وهو صديقه المخلص؟! وفوق ذلك فإنه كان على وشك مصاهرتك، وقد كان مع أبيك في مركبة واحدة وأثبت التحقيق وجود كمين في الغابة.

– ولكنك تعرف البراهين المتوفرة ضده أكثر مما أعرفها.

– إنها الصدفة يا روبير، ولا بد للحقيقة أن تنجلي، ولو كان يحق لي الكلام لبرأت بوفور بكلمة.

– يظهر أنك واثق من براءته؟

– كل الثقة.

– من أين تولدت هذه الثقة؟

– أتثق بي أيها الصديق؟

– دون شك.

– أتصدق قولي إذا قلت لك إن بوفور بريء؟

– إذا أيدت قولك بالبرهان.

– ليس لي من البراهين ما أستطيع أن أقوله لك.

– إذن لديك براهين؟

– نعم.

– هذا محال؛ لأنه لو كان لديك برهان كما تقول لما كتمته لحظة.

– ولكنه برهان سري؛ فلا أستطيع الإباحة به؛ فإن الأطباء يعترفون لهم أحيانًا كما يعترفون للكهنة.

– أتترك بوفور يُحكم عليه وأنت تعتقد أنه بريء؟

فمسح جيرار العرق عن جبينه، وقال: لا أستطيع أن أفعل شيئًا لإنقاذه.

– ألا تنتقم لأبي على ما بيننا من الوداد؟

– لا أستطيع أن أقول كلمة.

– وأنا لا أستطيع أن أصدق حرفًا من أقوالك؛ فإنك تريد العبث بي، ولكني أغفر لك.

– إني أُقسم لك يا روبير.

– لا فائدة من الإقسام.

– إن الحزن أضاع رشدك، فثق أني أقول الحقيقة.

وعند ذلك طرق الباب وسمع صوت مودست، فقال: هل علمتْ أن بوفور أبوها؟

قال: كلا.

فقالت مودست من الخارج: أتأذنان لي بالدخول؟

فلم يجيباها، ففتحت الباب ودخلت فرأت الاثنين يضطربان كأوراق الخريف، فقالت لهما: ماذا حدث بينكما؟

فقال لها روبير: اسمعي حكايتنا وكوني حكمًا بيننا.

فاعترضه جيرار قائلًا: ماذا تفعل يا روبير؟

فلم يحفل باعتراضه، وقال: إن زواجنا مُحال يا مودست.

قالت: لقد توقعت مصابًا حين رأيتكما، إذن أنت لا تحبني.

– بل أعبدك.

– إذا كان الأمر كذلك فكيف تقول إن زواجنا مستحيل؟

– لأن زواجنا معلق على مصير بوفور المتهم بقتل أبي.

– إنه بريء، وستعرف المحكمة خطأها، ومهما يكن من مصير بوفور الذي أحبه؛ لأنه أنقذني من الموت فأية علاقة له بزواجنا؟

– لا يحق لي أن أطلعك على هذا السر، ولكن لا بدَّ أن تقفي عليه بعد بضعة أيام، أما الآن فإن أخاك يريد أن يثبت لي براءة بوفور، وأنا أعتقد أنه مجرم، وهو يقول إن لديه براهين تثبت براءته ولكنه لا يستطيع إظهارها، وأنا أقول إني لا أقنع من غير برهان، فاحكمي بيننا.

فقالت لأخيها: أحق أن زواجنا موقوف على براءة بوفور؟

فأومأ برأسه إشارة إلى الإيجاب، فقالت: كيف تكتم عني هذه الصلة بيننا وبينه؟

قال: ستخبرك أمك يا مودست.

– وما زلت تعلم أن زواجنا موقوف على براءة بوفور، وتقول إن لديك براهين تثبت براءته فما يمنعك عن إظهارها؟

– الشرف يا مودست فلا تلحي عليَّ.

– لا أعلم كيف يمنعك الشرف عن إنقاذ بريء!

– بربكما لا تلحَّا عليَّ، فلا أستطيع القول.

– اذكر يا أخي أن حياتي موقوفة على كلمة من فمك، وأني ألقيت بنفسي في النهر، وأني لولاك لكنت في عداد الأموات، أتنتزع مني حياتي بعد أن أنقذتها؟

وقال روبير: اذكر أن أبي كان يحبك، وأنه لو عاش لكان أسعد إنسان بزواجي.

– إنكما تعذبانني عذابًا لا يحتمله بشر على علمكما أني لا أستطيع أن أقول شيئًا.

– واذكر أيها الصديق أنه يوجد بريء يتألم ومجرم قاتل يتنعم، فإذا كتمت أمره ألا تكون شريكًا له بالجريمة؟

– روبير، روبير!

– نعم، إنك تكون شريكه بالجريمة، وإن الجاني يضحك الآن عليك وعلينا؛ لأنه واثق من كتمانك وشرفك، وكيف يكون شريفًا مَن يساعد القتلة واللصوص على الفِرار ويرضى بمعاقبة الأبرياء.

وقد قال قوله الأخير بلهجة تبين فيها الغضب، فقال له جيرار: إني أغفر لك يا روبير وأنسى كل ما قلته لي، وأغفر لكِ أيضًا يا أختي ما توعدتني به من الانتحار؛ فقد مزقت قلبي.

ثم خرج ببطء من الغرفة وبقيت مودست فيها مع روبير، فقالت له: إذن لقد انتهى كل شيء بيننا.

– نعم، وا أسفاه! ألم تسمعي ما قاله أخوك؟!

– ومع ذلك فإنك تحبني؟

– لو كان أبي حيًّا لأخبرك بما لقيته من البأس حين كانت أمك تعارض في زواجنا.

– إذا كان الأمر كذلك فإنك لا تمتنع عن إجابتي على سؤال أعرضه عليك.

– ما هو؟

– أية علاقة بين زواجنا وبين مصير بوفور؟

– أتريدين أن تعلمي؟

– نعم، لقد مللت من هذه الأسرار المحدقة بي.

– إذن فاعلمي أن بوفور هو أبوكِ.

– بوفور أبي؟ أبي قاتل أبيك!

وقد اصفر وجهها حتى خشي روبير أن يغمى عليها، وأسرع يحاول نجدتها ولكنها صدته، وقالت: لا تخَف فإني قوية، ولكن أنت مسكين، روبير … يالله من هذا الهول.

ثم شمخت برأسها أنفة، وقالت: إذا كان بوفور أبي فقد صدق جيرار ولا يمكن أن يكون أبي من المجرمين.

– إذن لماذا لا ينقذه؟

– لا أعلم يا روبير؛ فإن ذلك منوط بضميره الذي لا يطلع عليه غير الله.

كان روبير قد أتى ليتعزى عن نكبته ففوجئ بنكبة أشد، أتى وملء قلبه الرجاء بالزواج فإذا به يجده من المستحيلات، وقال له جيرار: إن بوفور بريء ولكنه لم يأتِ ببرهان، فعاد إلى منزله وهو أشد الناس نكدًا وقنوطًا.

في اليوم التالي لهذا الاجتماع كان امرأتان في مركز النيابة؛ وهما مودست ومرسلين؛ فقد كانت مودست أخبرت أمها بما علمته من روبير؛ وهو أن بوفور أبوها، وقالت لها: أريد أن أرى قاضي التحقيق وأن أرى أبي.

وقد استأذنتا من القاضي بمقابلته فأذن لهما وسألهما عن سبب هذه الزيارة، فقالت له مرسلين: لقد أتينا بأخبار قد تفيد التحقيق في مسألة بوفور.

– كيف ذلك؟

– إني أستطيع أن أخبرك عن السبب الذي صحب بوفور من أجله فولون ليلة القتل، فنرى منه أنه يستحيل أن يكون بوفور كمن لفولون وقتله.

– تكلمي يا سيدتي.

فحكت له مشروع زواج بنتها بابن فولون، والموانع الأولى التي حالت دون الزواج، وكيف أنها حكت حكايتها لبوفور وأخبرته ببنته، واستنتجت من ذلك أنه يستحيل أن يخطر لبوفور قتل صديقه وصهره، ثم ذكرت له أن بوفور ذهب إلى فولون ليطلعه على سر مولد مودست، وكان ذلك في صباح ليلة القتل، ثم قالت له: لا يمكن أن يكون بوفور سمع حديثنا الآن، فسله يخبرك بمثل ما أخبرتك، فإذا اختلف القولان فلك أن تحسبه من المجرمين.

وقد أصغى القاضي إليها وأثرت أقوالها عليه، فأخرجت مرسلين مكتوبًا فأرته إياه وقالت: إنه في اليوم الذي جرت المحادثة التي أقصها عليك بيني وبين بوفور اجتمع زوجي مع فولون فتباحث وإياه، وأرسل إليَّ هذا الكتاب الذي لا يتضمن غير كلمتين وهما:

الرجاء وطيد.

فاشتد تأثر القاضي من هذه البراهين، ولكنها براهين أدبية يلجأ إليها المحامون، فيؤثرون بها على اعتقاد المحلفين. وقد زاد اعتقاد القاضي ببراءة بوفور عندما استجوبه، فكان كلامه منطبقًا تمامًا على كلام مرسلين.

وقد أذن لهما بمقابلة بوفور أمامه، فكانت مقابلة شديدة التأثير؛ بكى فيها الثلاثة بكاء الأطفال.

وبعد انصرافهم دخل الرقيب إلى القاضي وقال له: هل لديك أوامر تصدرها إليَّ؟

قال: كلا، ولكني أوصيك بالتدقيق في مراقبة الدكتور جيرار؛ فقد بدأ يداخلني الشك في صحة سيرنا بالتحقيق.

قال: حبذا لو كان جيرار يبوح بما يعلمه.

قال: هذا محال فإنه لن يبوح بحرف، وإذا لم أعثر على براهين جلية اضطررت إلى إحالة بوفور على المحكمة، فاجتهد أن تجد هذه البراهين قبل ثمانية أيام؛ لأني لا أستطيع الصبر أكثر من ذلك.

فخرج الرقيب وهو يقول في نفسه: نعم، سأجدها، ولكن ليس بمراقبة جيرار، بل بمراقبة كلوكلو.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤