القسم الرابع

يذكر القراء أن جيرار حين افترق عن كلوكلو أوصاه أن يجيء إليه في اليوم التالي.

وقد جاءه في الموعد المعين، فقال له جيرار: إن داغير على وشك الشفاء، ومتى شُفي برح المنزل، فأريد أن تراقبه أتم المراقبة فتعلم إلى أين يذهب، فاجتهد أن تقف على كل ما يفعله، وإذا وقفت على شيء غير مألوف فأسرع بإخباري.

قال: سأفعل يا سيدي؛ فاسمح لي أن أسألك إذا كنت مشككًا بداغير.

– لا أشكك بأحد.

– أما أنا فأشك كثيرًا بهذا الرجل، وكفاني برهان ذلك الدم الذي رأيته فوق ثيابه ليلة الجريمة، وقد روت الجرائد أن القاتل جريح فلا ريب عندي أن القاتل هو …

– لا تذكر اسم أحد فقد يسمعونك.

– سأفعل كل ما تريده يا سيدي، وكل ما أرجوه أن تطلق يدي في العمل.

– ولكن بشرط أن تخبرني بكل ما يخطر لك فعله قبل الشروع فيه.

فاتفقا على ذلك، وذهب كلوكلو إلى جهة منزل داغير، وهو لا يعلم أن معاون قاضي التحقيق يسير في أثره وهو متنكر أتم التنكر.

وكان يوجد في تلك الجهة فندق صغير يشرف على باب منزل داغير، فاستأجر غرفة فيه، وبعد هنيهة خلا الرقيب مع صاحب الفندق؛ فأسفر هذا الاختلاء عن اتفاقهما على كلوكلو.

وفي اليوم التالي بينما كان كلوكلو جالسًا وراء النافذة يراقب رأى داغير في الحديقة وهو بملابس الصيد، ثم رآه وقف في الباب الخارجي فنظر يمنة ويسرة إلى الطريق، فلما لم يرَ ما يريبه مشى في الطريق المؤدية إلى الغابة، وهو يمشي لضعفه مشية السكيرين.

وأسرع كلوكلو في أثره، وفيما هو في الطريق، التفت داغير إلى الوراء وخشي كلوكلو أن يرتاب به فدنا منه وقال له: أتريد يا سيدي أن أصحبك فأخدمك في الصيد؟

فأجابه بجفاء: كلا.

وكان كلوكلو يعلم أن داغير وبوفور قد استأجرا مكانًا في الغابة للصيد فيه؛ إذ صحبهما مرارًا إليه، فتقدم داغير وسار إلى ذلك المكان فكمن بين الأدغال لوثوقه أنه سيأتي إليه، فأقام نحو ساعة دون أن يراه، فقال في نفسه: لا شك أنه ارتاب بي فعاد أدراجه.

والحقيقة أنه عاد إلى المنزل، ولكنه لم يعُد لهذا السبب، بل لأنه لم يتمكن لضعفه من مواصلة السير.

أما كلوكلو فإنه عاد إلى الفندق، وقد وثق قبل الدخول إليه أن داغير في المنزل إذ رآه واقفًا وراء النافذة.

ودخل إلى الفندق فوجد في قاعة الطعام رجلًا غريبًا يأكل ويشرب ويكلم صاحب الفندق بلهجة أهل الألزاس، فعرَّفه صاحب الفندق بذلك الغريب، وكان كلوكلو ولوعًا بالشراب، فمال عليه الرقيب بالكئوس حتى سكر وانطلق لسانه، فجعل الرقيب يستدرجه، فعلم منه أن داغير خسر ثروته لشركة بوفور، وأنه جريح، وكاد أن يخبره بكل ما يعرفه ولكنه توقف عن الكلام لما رآه من اهتمام الألزاسي، فعاد إليه شيء من صوابه.

وأدرك الرقيب ذلك منه فألحَّ عليه بشرب كأس ثم بالثانية والثالثة، فعقد لسانه بعد الانطلاق وانقلب صريعًا من سكره تحت المائدة.

وعند ذلك سأل صاحب الفندق الرقيب إذا كان يريد أن يعد له مرقدًا فقال: كلا، بل أبقى بجانب هذا الصريع حتى يستفيق؛ فأكون أتبع له من ظله.

ونام كلوكلو نحو ساعتين، ثم استفاق من رقاده لا من سكره، فكان أول ما خطر له داغير، فقال في نفسه: ويح لي! أيعهد إليَّ جيرار بمراقبته فأشتغل عنه بالنوم! وماذا أقول له إذا كان قد سافر دون أن أراه؟ أأقول له لقد شغلني عنه السكر. إن داغير لا بدَّ أن يكون الآن في الغابة، ولا بدَّ لي من الذهاب إليها الآن، فإذا لم أجده فيها عدت إلى مكمني في الفندق.

قال هذا وخرج من الفندق والفجر يكاد ينبثق، فسار في طريق الغابة والرقيب في أثره، حتى إذا وصل إليها شعر بنعاس لا يقاوَم فقال لا يشفيني من هذا النعاس غير الاستحمام في البحيرة.

وسار إليها ولكنه قبل أن يبلغها ببضعة أمتار غلبه النعاس فنام بين الأدغال، واختبأ الرقيب بالقرب منه ليعلم ماذا يفعل بعد أن يستفيق.

لنعد إلى داغير؛ فإنه حين رجع إلى منزله كان منهوك القوى؛ فإنه لم يكن يستطيع السير بعد، غير أنه كان واثقًا أن الخطر يدنو منه كل يوم، وأنه لا رجاء له بالنجاة إلا إذا تمكن من الفرار، وكيف يهرب دون أن يأخذ المال الذي سلبه من فولون وخبأه في الغابة؛ فإنه لم يرتكب جريمة القتل إلا لهذا المال.

ولم تكن الغابة تبعد أكثر من ساعة، ولكن هيهات أن يستطيع الوصول إليها ماشيًا، فافتكر أن يذهب راكبًا، ودعا الخادم فأمر أن يعدَّ له مركبة الصيد في الساعة السادسة من الصباح.

ونام ليلته وهو شديد الجزع، وفي الصباح ركب المركبة وحده، وكان هو يسوقها ودفعها إلى الغابة، بينما كان كلوكلو نائمًا بين الأدغال والرقيب ساهرًا مختبئًا ينظر إليه من حين إلى حين.

ولما وصل إلى الغابة ومر بالمكان الذي قتل فيه فولون أغمض عينيه بالرغم عنه، وضرب الجواد بالسوط كي يسرع السير ويبعد عن هذه الذكرى، كأنما العواطف الإنسانية عادت إلى قلبه الوحشي، وعطف إلى جهة البحيرة حتى وصل إلى الأدغال المحدقة بها، فأوقف المركبة ومشى بين تلك الأدغال.

كان الرقيب مختبئًا بين تلك الأدغال يراقب كلوكلو كما قدمنا، وفيما هو على ذلك سمع وقع خطوات، فالتفت إلى كلوكلو فوجده لا يزال نائمًا، فقال في نفسهِ: ترى من يكون هذا القادم؟ فإني إذا بقيت في موضعي لا أراه، وإذا خرجت أخاف أن يراني. وقد التفت عند ذلك إلى كلوكلو فرآه قد فتح عينيه، وأنه ينظر محدقًا إلى جهة البحيرة، وقد برقت عيناه، فقال في نفسه: لا شك أنه يحدث ما يدعو إلى انذهال كلوكلو، ولا بدَّ لي أن أرى ما يجري.

وقد أزاح عند ذلك بملء العناية فرعًا غليظًا كان يحول بينه وبين الطريق، فرأى رجلًا يسير إلى البحيرة لم يستطع أن يعرفه؛ لأنه لم يكن يرى غير ظهره، حتى إذا وصل إلى المياه نظر إلى ما حواليه نظرة الفاحص الخائف، ونزل إلى تلك المياه فبلغت إلى ركبتيه، فدهش الرقيب مما رآه ونظر إلى كلوكلو فرآه يكاد يفترس داغير بنظراته، فقال في نفسه: لماذا كلوكلو ينظر إليه هذه النظرات؟ وأي شأن لهذا الرجل في البحيرة، وهو يمشي فيها دون أن يخلع نعليه؟ وما عساه يجد هناك غير الضفادع؟

ثم اختلف المنظر فجأة فرأى أن داغير قد ارتعش ارتعاشًا عنيفًا؛ فإنه التفت اتفاقًا وهو يسير في المياه فرأى كلوكلو مضطجعًا بين الأدغال وهو ينظر، فكان ارتعاشه من التقاء النظرات.

ولكنه ملك نفسه بسرعة، وبعد أن وقف بضع ثوانٍ في البحيرة عاد إلى الشاطئ، وجعل يسير باحثًا في التراب، كأنه يقتفي أثر طريدة يطاردها، ثم خرج من بين الأدغال وتوارى عن الأنظار، فركب مركبته وانصرف عائدًا إلى المنزل وهو على حالة من الاضطراب لا تصفها الأقلام؛ فإنه لو لم يرَ كلوكلو ينظر إليه لأخرج المال الذي دفنه في البحيرة وافتضح أمره؛ إذ لا برهان على الجناية أمتن من هذا البرهان.

غير أنه أخذ يبحث في الحادثة بحثًا مدققًا فاطمأن؛ إذ قال في نفسه: إما أن يكون كلوكلو جاء إلى هنا ليصطاد، وإما أنه أتى لينام، وهو في الحالتين غير عالم بشيء من أمر الحقيبة؛ إذ كيف يخطر له أني خبأتها تحت المياه؟ أما انبغاته من اجتيازي المياه فهو أمر طبيعي؛ ولذلك فقد كان خوفي في غير محله.

أما كلوكلو فإنه لبث هنيهة وهو شبه المأخوذ مما رآه، ثم خطر له أن يقتفي أثره ولكنه سمع صوت المركبة تسير به فسار إلى المكان الذي مشى فيه داغير من البحيرة، واقتدى به فنزل إلى المياه، ومشى في نفس طريقه دون أن يعلم سر نزوله إلى الماء، ثم عاد وجلس على الضفة وأخذ يفتكر بحل هذا اللغز.

وعند ذلك قطع الرقيب غصنًا ورماه عند قدمي كلوكلو فوقف منذعرًا، والتفت إلى ورائه فرأى الألزاسي صاحبه بالأمس يضحك مقهقهًا ويقول له: ماذا تصنع هنا أيها الرفيق، ألعلك تصيد الضفادع؟

فاصفر وجهه من الغضب وذكر أنه هو الذي أسكره بالأمس، فقال له: وأنت ماذا تصنع هنا بدلًا من أن تكون نائمًا في الفندق؟

قال: إني أتنزه.

– وفي مثل هذه الساعة يتنزهون؟

– هي عادة قديمة جريت عليها.

– أأنت هنا من زمن طويل؟

– منذ ساعة بالتقريب.

وقد غمز بعينه إشارة إلى أنه رأى ما حدث، وقال: نعم لقد رأيت ذلك الرجل الذي غاص في البحيرة ورأيتك حين اقتديت به.

– إذن أصغ لما أقول.

– ماذا تريد أن تقول؟

– أريد أن تذهب من هنا في الحال.

– كلا لا أذهب.

– أترفض طلبي؟

– نعم.

– لماذا؟

– لأن الغابة حرة، ألم تقل لي هذا القول مرة حين كنت تراقبني في الطريق؟

فبرقت عيناه ببارق غريب، وقال له: من أنت؟

قال: أصغ إليَّ الآن بدورك إذ لم يبقَ فائدة من التنكر.

وقد نزع شعره المستعار ولحيته، وقال: أنا هوبتسون معاون قاضي التحقيق، أعرفتني الآن؟

– أتم العرفان.

– إذن فاعلم أن اتفاقنا بعد ما جرى خير لنا من الخلاف، ولنبحث الآن بحث العاقلين؛ فإن كلينا يسعى لغرض واحد؛ فقد اختاروني لكشف الغامض عن مقتل فولون، فأنا أبحث عن القاتل.

– كيف تبحث عنه وهو في السجن؟

– لأن السجين بريء، ولا يسر الدكتور جيرار مثل إظهار براءته، فيجب عليك أن تساعدني على إظهار الحقيقة؛ لأنك تبحث عنها مثلي، وأنت مخلص للدكتور فيما أظن.

– نعم، وإني أحبه؛ فقد أنقذ أمي، وأنا وأمه من بلد واحد، ولي أسباب أخرى تدعوني إلى هذا الإخلاص.

– لا أسألك أن تكشف لي أسرارك، وإني مخبرك بكل ما عرفته بغية نيل ثقتك؛ فإني أريد معرفة القاتل، وإذا عرفته أكون قد خدمت الموسيو بوفور والذين يحبونه أجلَّ خدمة، فاعلم أن أول ما سعيت إليه معرفة المرضى الذين يعالجهم الدكتور جيرار، ولا بدَّ للوصول إلى هذه الغاية من اقتفاء أثره أينما ذهب، فكنت أنت أيضًا تقف لي كيفما ذهبت، وتنبه الدكتور بأناشيد اصطلحت عليها معه.

– أعرفت ذلك؟

– دون شك، فاستنتجت منه أن الدكتور لا يريد أن يراقبوه، ولا تستطيع أن تنكر أنكما كنتما على اتفاق.

– إذا لم يكن لديك غير هذا البرهان …

– [ هناك] برهان آخر، وهو أنك جئت في صباح اليوم التالي إلى الدكتور، فخلوت به هنيهة، وذهبت إلى الفندق الكائن تجاه منزل بوفور فاستأجرت غرفة فيه، فظهر لي جليًّا أنك تريد المراقبة، ولكني لم أعرف في البدء من هذا الذي تريد أن تراقبه، إلى أن خرجت من غرفتك لتقفو أثر صياد خرج من منزل بوفور، وكان هذا الصياد داغير كما أخبرني صاحب الفندق، فلماذا قفوت أثره؟ ألعلك أردت أن تسأله صدقة؟

– ما أنا من المتسولين، بل سألته إذا كان يريد أن أصحبه فأخدمه في الصيد.

– وقد أبى، بدليل أنك ذهبت وحدك إلى الغابة بالرغم عن شدة ضعفه، فلم يبقَ لدي شك في أنك تراقب داغير.

– أي غرض لي من مراقبته؟

– سوف أخبرك؛ أما مرضه فقد عرفته من صاحب الفندق ومن خادم منزله، ويظهر أن القبض على شريكه وصديقه كان السبب في مرضه.

– كيف ذلك؟

– ذلك أنه مرض يوم حدوث الجناية، وفي ذلك اليوم ذهب الدكتور جيرار لعيادته.

– إنك تعرف من ذلك فوق ما أعرف.

– ربما، فأصغ إليَّ يا كلوكلو؛ إن الدكتور جيرار ذهب منذ بضعة أيام إلى قاضي التحقيق وقال له: إن لدي برهانًا يثبت براءة بوفور، فقال له القاضي: أتعرف القاتل؟ قال: نعم. قال: من هو؟ قال: لا أستطيع أن أذكره لك؛ لأن هذا السر علمته وأنا أمارس مهنتي، وواجباتي تقضي عليَّ بالكتمان.

فلم يلح عليه بالسؤال ليقينه من أنه لا يجيب، ولكنه دعاني إليه وأخبرني بما سمعه من جيرار، ثم قال لي: إن الطبيب يكتم هذا السر ولكنه لا يستطيع أن يمنعنا عن معرفته بما لدينا من الوسائل، فإذا تمكنا من معرفة القاتل كان سرور الدكتور عظيمًا؛ لأنه ينجو من تقريع الضمير.

فقال له كلوكلو: أتُقسم لي بأنك تقول الحقيقة؟

– أُقسم لك بأن كل ما قلته صحيح، وأن الدكتور يعرف القاتل، ولكن واجبات مهنته تقضي عليه بالكتمان.

– لقد بدأت أن أفهم.

– هل أصبحت تثق بي الآن.

– كل الثقة.

– يسرني أن تثق بي فإننا إذا عملنا يدًا واحدة وصلنا إلى الغرض الذي نسعى إليه. والآن فقد قلت لك كل ما أعلمه، بقي أن تخبرني عن هذا الرجل الذي رأيناه في البحيرة؛ فإني لم أرَ غير ظهره؛ أليس هو داغير؟

– هو بعينه.

– هل تعلم لماذا نزل إلى المياه؟

– كلا.

– أتقول الحقيقة؟

– نعم؛ فإن الدكتور أمرني أن أراقبه، وأن أخبره بكل ما يصنع، أما قدومي إلى البحيرة فلأجل أن أغتسل فيها على رجاء أن أستفيق من سكري، فغلبني النوم قبل وصولي إليها، ونمت حيث رأيتني.

– ألا ترى ما أراه وهو أن داغير لم يأتِ إلى البحيرة لغسل ساقيه؟

– دون شك؛ فإن له مأربًا، ولكن ما هو؟

– إذا بحثنا فقد نجده، ولو لم يرَك وهو في البحيرة لعرفنا ما يريد، وقد أتينا إلى هذه الجهة ليلة القتل وبحثنا بحثًا دقيقًا فلم نظفر بشيء.

– عمَّ كنتم تبحثون؟

– عن أموال فولون المحفوظة في كيس من جلد؛ فإن القاتل لا بد أن يكون خبأها هنا.

– لماذا لا يمكن أن يكون قد أخذها إلى منزله؟

– كلَّا، لأنه أصيب بجرح من مسدس القتيل ونزف منه كثير من الدماء، فخشي أن يغمى عليه قبل وصوله إلى المنزل، فإذا وجد الكيس معه كان ذلك أعظم برهان على جريمته.

– أتقول إنه كان جريحًا؟

– نعم، وهذا مثبوت من وجود الدم في الطريق.

– لقد فهمت الآن كل شيء.

– ماذا فهمت؟

فأطرق مفكرًا ثم قال: لقد وعدت الدكتور جيرار ألَّا أفعل شيئًا قبل إخباره به، فعدني أننا نخبر الدكتور بما نكتشفه قبل قاضي التحقيق.

– إنك تطلب مطلبًا صعبًا.

– وأنا لا أقول شيئًا إلا إذا وعدتني هذا الوعد.

– لقد رضيت؛ فإني واثق من العثور بالقاتل كيفما اتفق.

– إذن فاعلم أني لقيت رجلًا ليلة الجناية خارجًا من الغابة، ورأيت ثيابه ملوثة بالدم ويده على صدره وهو يمشي ويقع شأن السكران، أتعلم من كان هذا الرجل؟

– داغير؟

– هو بعينه.

– إذن لم يبقَ شك، فهو القاتل.

– احذر أن تكون مخطئًا باتهامه كما أخطأتم حين اتهمتم بوفور.

– كلا؛ فإن جريمة هذا أصبحت واضحة لا متسع فيها للخطأ.

– والآن ماذا نصنع؟

– ننصب الفخ الذي لا بدَّ لداغير أن يقع فيه.

– إني مستعد لمشاركتك فيما تريد.

– ولكن لا بد لنا قبل العمل أن نتحقق من أمر؛ فقد قلت لك إننا بحثنا عن الكيس في الغابة فلم نجده؛ لأنه مخبوء في البحيرة، وإني أراهنك على زجاجة من الخمر …

– لا أقبل هذا الرهان؛ فقد عاهدت ربي ألَّا أذوق الخمر بعد سكرة أمس.

– إذن هلم بنا نبحث؛ فقد أرشدنا داغير إلى الطريق. فوافقه ونزل الاثنان إلى البحيرة، فبحثا بحثًا دقيقًا دون أن يظفرا بشيء؛ إلى أن صاح كلوكلو صيحة فرح، فقال له الرقيب: ماذا حصل؟

قال: لقد لقيته!

وقد أخرجه من تحت المياه، وهو كيس من جلد محكم الإقفال، فأخذه الرقيب ففتحه؛ فوجد فيه الأوراق المالية بتمامها، وفيه أيضًا أوراق تختص بأشغال فيلون.

ولما وثق من ذلك أقفله وأرجعه إلى مكانه.

فدهش كلوكلو وقال: ماذا فعلت؟

– قال: اتبعني أخبرك.

وخرج الاثنان من البحيرة فقال الرقيب: إن البرهان الذي نحتاج إليه لإثبات الجريمة هو هذا الكيس، فإذا أخذناه ذهب البرهان، أما إذا تركناه في موضعه فلا بدَّ لداغير أن يأتي يومًا ليأخذه؛ فنقبض عليه متلبسًا بالجريمة، ولا بدَّ أن يحضر فإنه لم يقتل إلا للحصول على هذا المال، ولا عبرة في أنه رآك هنا فإنه لو خامره شيء من الريب فيك لهرب من فوره، ولكنه حمل وجودك على محمل الصدفة، فذهب مطمئنًّا على مهل؛ ولذلك لا بدَّ له أن يعود فهو قد يعود الليلة أو غدًا أو بعد أسبوعين.

– ونحن ماذا نصنع في انتظار ذلك؟

قال: نراقب هذا المكان في الليل والنهار، ولا أنكر صعوبة العمل فإن هذه البحيرة محاطة بالأدغال، وهو سيطوف بها دون شك باحثًا مفتشًا حتى يثق من خلو المكان، وهو قد يحضر في الليل، ولكني أرجح حضوره في النهار؛ حذرًا من الرقباء الذين تسهل عليهم مراقبته في الظلام.

– ولكن كيف نكمن له وأين؟

– إني سأبقى وحدي هنا نحو ساعة.

– وأنا؟

– تذهب في البدء إلى الدكتور جيرار.

– وأخبره بكل ما حدث؟

– هو ذاك.

– وبعد ذلك؟

– تذهب إلى الفندق الذي كنا فيه، وتطلب إلى صاحبه باسمي الحقيقي لا المستعار أن يعطيك معولًا وطعامًا لأربعة أو خمسة أيام وغطائين من الصوف؛ فإن البرد يشتد في الليل، فننام كل بدوره؛ بحيث يكون واحد منا ساهرًا للمراقبة.

فانصرف كلوكلو، وبعد ساعة كان عند الدكتور فأخبره بالأمر، وذهب إلى الفندق لإتمام المهمة، ثم ذهب الدكتور إلى قاضي التحقيق وقال له: أتيت أرجوك وفاء أمر، وعسى ألَّا أخيب.

– بمن يتعلق هذا الأمر؟

– بالموسيو بوفور.

– لقد خرج أمره من يدي فلم أعد أستطيع شيئًا.

– كيف ذلك؟

– ذلك أني أحلت أوراق الاتهام إلى المحكمة، وقد علمت الآن أنها عينت يوم المحاكمة في ٥ سبتمبر.

فسقط جيرار على كرسيه واهي القوى وهو يقول: يا للشقاء ألا توجد طريقة للتأجيل؟

– ألعلك تريد أن تبلغ النيابة شيئًا جديدًا؟

– أما اليوم فلا.

– إذن؟

– ألا يمكن أن يظهر القاتل الحقيقي بعد بضعة أيام؟

– لا يزال أمامك ثمانية أيام؛ فإن موعد الجلسة ٥ سبتمبر كما قلت لك، فإذا حدث أمر جديد تبلغني إياه، فأجري تحقيقًا إضافيًّا، ثم لا تنسَ أنك مستدعى إلى المحكمة فتقول ما تشاء.

– لا أستطيع أن أقول غير ما يمليه عليَّ ضميري، إذ لا أستطيع أن أغيِّر حرفًا من تقريري الطبي، ولكني أقول إني واثق من براءة بوفور.

– أما المحكمة فتقول لك هات برهانك.

– وبوفور أين هو الآن؟

– نُقل إلى سجن بوفيه.

– مسكين! ألا تعلم أن الحكم عليه يُعد أعظم جناية؟

– وهذه الجناية يكون لك اليد الطولى فيها؛ لأنك تعرف أمورًا كثيرة تكتمها.

– لا أستطيع أن أفعل شيئًا، ألا يمكن التأجيل؟

– يمكن.

– كيف السبيل إلى نيله؟ فإن براءة بوفور قد تظهر بعد بضعة أيام.

– يجب أن تقدم عريضة إلى المحكمة تطلب فيها التأجيل.

– أتجيب بالإيجاب؟

– بشرط أن تذكر سببًا وجيهًا يدعو إلى هذا التأجيل.

– ولكن، هذا محال.

– والتأجيل أيضًا محال.

فخرج جيرار قانطًا والدموع تكاد أن تسيل من عينيه لإشفاقه على بوفور.

أما كلوكلو فإنه بعد أن ترك الدكتور جيرار ذهب إلى صاحب الفندق، فأخذ المعول والمئونة وعاد إلى صاحبه فقال له: ماذا تريد أن تصنع بالمعول؟

قال: سأحفر حفرة تجاه البحيرة عمقها متر وعرضها متران، وأجعل سقفها من الأدغال، فيبيت فيها واحد منا للمراقبة، ويبيت الآخر على شجرة من هذه الأشجار الضخمة، فإذا جاء وبحث لا يرى أحدًا منا، أما نحن فنراه الواحد من خلال الأدغال والآخر من خلال الأوراق في أعلى الشجرة.

– وما نصنع بالتراب الذي سنخرجه من الحفرة؟

– ننقله بسلة الطعام إلى البحيرة.

وبعد ساعتين فرغا من إعداد الحفرة ونقل التراب، فدخل كلوكلو إلى الحفرة وصعد الرقيب إلى الشجرة.

مرَّ على ذلك بضعة أيام كان الاثنان في موقفيهما ليل نهار، فلا يغيب كلوكلو غير ساعة كل يوم ليتفقد داغير فيعلم أنه لا يزال في المنزل فيعود.

أما داغير فإنه لم يكن يخاف غير خطر واحد، وهو أن تدرك جيرار الرأفة لبوفور، فيبوح بما يعلم غير مكترث لواجبه الطبي، فكان يؤثر التعجيل لنجاته من هذا الخطر.

ولم يكن التقاؤه بكلوكلو عند البحيرة قد أخافه؛ إذ حمل وجوده هناك على محمل الصدفة، ولكنه رأى أن يصبر بضعة أيام من قبيل الحذر.

وكان يوم المحاكمة يومًا مشهودًا غصَّت فيه القاعة بالحضور، وانقسم الناس إلى قسمين بين مشفق على بوفور وواثق من براءته، وبين ناقم عليه يتمنى إعدامه، وقد دافع المحامون عن بوفور خير دفاع. وسئل جيرار، فلم يزد شيئًا على ما كان يقوله لقاضي التحقيق، فإذا سأله الرئيس البرهان على براءة بوفور وجم وظهرت عليه علائم القنوط.

وما زال هذا دأبهم بين أخذ ورد حتى تعالى النهار وقد فرغوا من المحاكمة، وطلب المدعي العام معاقبة بوفور معاقبة القاتل عمدًا بإصرار، فلما فرغ المحامون من الدفاع طلب الرئيس إلى المحلفين أن يختلوا ليقولوا كلمتهم في المتهم.

وعند ذلك دخل أحد الحجاب، ودنا من موقف الشهود، فنادى جيرار وقال له: هذه رسالة برقية وردتك الآن يا سيدي. فأسرع إلى فض البرقية وقرأ فيها ما يأتي:

إذا لم يكن الحكم قد صدر بعد فأجلوا المحاكمة، إن بوفور بريء ونحن قادمون بالبرهان.

كلوكلو

فاستوقف جيرار الرئيس وهو على أهبة الخروج وصاح قائلًا: مهلًا يا سيدي الرئيس، مهلًا يا أسيادي المحلفين إلى أن تقفوا على هذه الرسالة.

وقد دفعها إلى المحامي فقرأها مسرعًا، وقال: إن هذه البرقية تتضمن ظهور براهين تثبت براءة موكلي، فأنا أطلب باسم القانون توقيف الجلسة.

وقد دفع الرسالة إلى الرئيس فقرأها وقرأها القضاة، وعاد إلى بوفور شيء من النشاط، فسأل المحامي قائلًا: من الذي أرسل هذه البرقية؟

قال: إنها موقعة بإمضاء كلوكلو.

وسأل الرئيس جيرار قائلًا: مَن هو كلوكلو؟

قال: إنه رجل من المغنين، ولكنه نبيل العواطف مستقيم السيرة، وأنا أضمن صدق ما يقوله، وقد عهدت إليه بمهمة فأتمها كما أظن، ولا أعلم كيف أتمها ولكن ثق يا سيدي الرئيس أن هذه الرسالة عظيمة الخطورة.

فلم يجد الرئيس بدًّا من توقيف الجلسة، واشتد الهرج بين الناس، وقد مضى ساعتان دون أن يرد نبأ جديد.

ونحن موردون للقراء تفصيل ما حدث خلال محاكمة بوفور.

كان الرقيب وكلوكلو مواظبين على الحراسة لا يملان منها، ولا سيما أن كلوكلو اضطر مكرهًا إلى الحنث بيمينه وعاد إلى معاطاة الخمر، غير أنه بدأ يخامره الشك بعودة داغير خلافًا لرفيقه؛ فقد كان اعتقاده ثابتًا لا يتزعزع.

وكان يعلل تأخر داغير عن الحضور إلى البحيرة بقوله: إنه ينتظر يوم المحاكمة فيشغل الناس عن مراقبته بحضورها، ولا سيما جيرار فإنه سيكون من الشهود.

ففي اليوم المعين للمحاكمة قال لرفيقه ادخل إلى الحفرة وسأصعد أنا إلى الشجرة، فإذا رأيته قادمًا نزلت وأتيت إليك. وأقام كل في مكمنه إلى أن انتصف النهار، فرأى الرقيب من أعلى الشجرة مركبة تتوغل في الغابة قادمة إلى البحيرة، فأيقن أنها مركبة داغير، وأسرع بالنزول فدخل إلى الحفرة؛ حيث كان كلوكلو، وغطاها بالسقف الذي صنعه من الأدغال وشده بالخيوط؛ فجعله قطعة واحدة.

وأقاما ينتظران وقد حبسا أنفاسهما، وبعد هنيهة سمعا صوت المركبة، ثم علما أنها وقفت، ثم سمعا وقع خطوات داغير وقد مرَّ بقرب الحفرة باحثًا بين الأشجار والأدغال كي يستوثق من خلو المكان.

فلما استوثق تنفس الصعداء وذهب توًّا إلى البحيرة فخاض فيها، وعند ذلك رفع الرقيب سقف الحفرة قليلًا وجعل يراقبه، فرآه قد مد يده إلى المكان المخبوء فيه الكيس فأخرجه من المياه، وقد برقت عيناه ببارق غريب، فحمل كنزه وخرج به من البحيرة، فسار مسرعًا إلى المركبة وهو يحسب أنه نجا بكيسه؛ والحقيقة أن هلاكه كان بهذا الكيس؛ فإنه قبل أن يصل إلى المركبة شعر بأيادٍ قد قبضت عليه من الوراء، فألقى الكيس إلى الأرض، والتفت فرأى كلوكلو والرقيب وهو يعرفهما، فهزهما بكل ما لديه من القوى بحيث تمكن من الإفلات وأطلق مسدسه فأصاب كلوكلو.

ولكنه قبل أن يتمكن من إطلاق النار على الرقيب هجم عليه هجوم المستميت، فانتزع المسدس من يده وضربه بقبضته على رأسه فصرعه وأغمي عليه لضعفه، فاغتنم الرقيب هذه الفرصة وقيد يديه ورجليه بقيد البوليس المعروف.

ثم أسرع إلى كلوكلو ليتفقده، فقال له: ألعلك جريح؟

قال: نعم، ولكن أظن أنه جُرح بسيط.

فكشف عن الجرح فوجد أن رصاصة داغير قد اخترقت لحم كتفه دون أن تكسر العظم، فغسله بماء البحيرة وربطه بمنديله، وقال له: هل تتألم كثيرًا؟

قال: لا تهتم بي؛ بل بذلك السفاك.

وكان داغير قد استفاق من إغمائه وحاول أن ينهض، فشعر أنه مقيد، وكادت عيناه تخرجان من وجهه.

أما الرقيب فقد وقف أمامه وجعل يضحك، فقال له داغير: ماذا تريد مني؟

قال: لا شيء سوى أن أقبض عليك.

– لماذا تقبض عليَّ؟

– لتذهب إلى محكمة الجنايات يوم القبض عليك، وتحاكَم في اليوم نفسه، وهذا من غرائب التوفيق.

– لا شك أنك من المجانين أو أنك طامع بمالي، فإذا كان هذا قصدك فخذ المال وأطلق سراحي.

– هلمَّ بنا؛ فإن الوقت أقصر من أن نضيعه بهذه المباحث التافهة.

فسأل كلوكلو قائلًا: ماذا نصنع؟

قال: نذهب في البدء إلى قاضي التحقيق فنريه القاتل والكيس الذي خبأه في البحيرة، ثم نرسل برقية إلى جيرار لتطلع عليها المحكمة لتوقف الحكم إذا كان لم يصدر بعد، ثم ننهب الأرض بمركبة داغير إلى المحكمة لنبسط ما لدينا من البراهين.

أما داغير فقد خارت عزائمه وأيقن أن كل ذلك من صنع جيرار، فحملاه إلى المركبة وسارا به إلى كربل فأرسلا البرقية التي اطلع عليها جيرار في المحكمة، ثم ذهبا إلى قاضي التحقيق وأخبراه بما كان، فجاء بداغير وقال له: أأنت قاتل فولون؟

فضحك ضحك المستهزئ دون أن يجيب.

فقال له: خير لك أن تقر فقد ترحمك المحكمة.

– قال: لا أفهم كلمة مما تقول؛ فإن جميع أهل البلد يعرفونني ومن يتهمني بالقتل يتهمونه بالجنون.

فأمر القاضي أن يأتوه بجنديين، وأمرهما أن يسيرا في حراسة القاتل، ثم قال: اصبروا إلى أن أكتب تقريرًا كافيًا تسلمونه إلى رئيس المحكمة، والآن حلوا قيود المتهم، فامتثلوا وسأله قائلًا: ألا تزال مصرًّا على الإنكار؟

قال: كيف يكون جواب البريء؟ أما كيس النقود فقد خبأته في البحيرة، وهو لي.

– ولكن الغريب أنه مكتوب عليه الحرفان الأولان من اسم القتيل، وفيه رسائل باسم فولون، ألا تزال بعد هذا البرهان مصرًّا على الإنكار؟

– نعم.

– لم تبقَ فائدة من ضياع الوقت في استنطاقك، ولكن القتيل رماك برصاصة من مسدسه فأصابك؟

– هذا كذب.

– انزع ملابسك لنرى.

– لا أريد، ولا يحق لك أن تتهمني.

– إني واثق من أنك القاتل فلا ألح عليك، وإن الذي أبيت أن تفعله هنا ستفعله هناك في المحكمة.

وقد كتب تقريره فختمه، وقال لمعاونه يجب أن تسلم هذا التقرير حين وصولك إلى الرئيس، والآن فاذهبوا بسلام.

فشدوا وثاق داغير وذهبوا به إلى المحكمة.

وكان الرئيس قد سئم الانتظار وأمر بإعادة الجلسة، فدخل الناس أفواجًا، ووقف بوفور في مكان المتهمين وجلس جيرار في مكان الشهود، فأمر الرئيس أحد الحجَّاب أن يدخل إليه معاون قاضي التحقيق.

فارتعش جيرار مسرورًا؛ إذ كان يعلم أن هذا المعاون رفيق كلوكلو، ودخل المعاون فقال له الرئيس: من أنت؟

قال: إني أدعى بنسون، وقد عهد إليَّ رئيسي قاضي التحقيق في كربل أن أهتم بقضية فولون.

– ماذا تريد أن تقول؟

– لدي أشياء خطيرة وبراهين لا تُدحض، ولما كان لي شريك بالوصول إلى هذه النتيجة فإني ألتمس من حضرة الرئيس أن يأمر بإدخاله فيسمع قولنا، وهذا الشريك يدعى كلوكلو.

فأمر الرئيس بإدخاله، فدخل وأحدقت به الأنظار، وقد كان مصفر الوجه كثير التألم من جرحه، فحيا تحية الجنود القدماء وبشكل أضحك الحاضرين، وأمرهما الرئيس أن يتكلما، فرويا له كل ما عرفه القراء بالتدقيق.

حتى إذا فرغا من أقوالهما أمر الرئيس بإدخال داغير، فقال له بعد الأسئلة المعتادة: إنك متهم بقتل الموسيو فولون وإعداد الكمين له بُغية سرقته.

قال: إنها تهمة زور.

– إنك تنكر وقد قبضوا عليك ملتبسًا بالجريمة؛ إذ كيف تجيب عن وجودك في البحيرة وإخراج الكيس منها ومجيئك إليها مرتين؟

– لا أجيب بشيء سوى أني بريء فما أنا القاتل، وهذه البراهين التي تظهرونها غير كافية.

– لقد ثبت لنا أن فولون جرح قاتله وأنت جريح من مسدس؛ فماذا تقول؟

– أقول إن هذا غير صحيح.

فأمر الرئيس اثنين من الجندرمة أن يكشفوا عن صدره فظهر أثر الجرح، وسأل الدكتور جيرار أن يقول رأيه في الجرح، فقرر أنه جرح من مسدس، وأن أثره يدلُّ أنه منذ ثلاثة أسابيع.

فسأله الرئيس قائلًا: كيف جُرحت؟

قال: كنت أقلب مسدسًا فانطلق وأصابتني رصاصته.

فقال جيرار: هذا لا يمكن أن يكون؛ فإن المرء لا يستطيع أن يصيب نفسه في هذا المكان.

فقال الرئيس: أسمعت يا داغير؟ إني أنصحك للمرة الثانية أن تعترف اعترافًا تامًّا إذا أردت أن يرحمك القضاة.

فأطرق برأسه، وقد رأى أنه لم يبقَ سبيل إلى الإنكار، فقال بصوت أجش: نعم، أنا هو القاتل فاصنعوا بي ما أنتم صانعون.

وعند ذلك انتهت الجلسة، فأخرجوا داغير ودخل المحلفون للمذاكرة في الغرفة المخصصة لذلك، فلم يطل قيامهم فيها، وعادوا، فقال رئيسهم: لقد حكمنا بالإجماع أن داغير مجرم، وحكمنا بالإجماع أن المتهم بوفور بريء، وأنه لا توجد أسباب مخففة.

فأمر الرئيس بإدخال داغير لسماع الحُكم واشرأبت إليه الأعناق، فأعطى جيرار خنجرًا لبوفور وقال له همسًا: أعطه لداغير باسمي؛ فإنك ستقف بجانبه لسماع الحكم.

وتلا الرئيس الحكم، فحكم عليه بالإعدام، ودفع بوفور الخنجر لداغير وقال له: خذه من ولدك.

وكأنما الندم قد ملأ قلبه في تلك الساعة الرهيبة، فنظر إلى جيرار وقال له: اغفر لي، ثم التفت إلى بوفور وقال له: وأنت اغفر لي أيضًا.

وقد طعن قلبه بالخنجر قبل أن يتمكن رجال الجندرمة من منعه، فأسرعوا إليه وحاولوا إنهاضه، فقال لهم جيرار: لا فائدة من ذلك فقد مات.

وقد انتهت هذه الرواية كما تنتهي عادة الروايات؛ فإن بوفور غفر لمرسلين وعاش وإياها عيشًا حلوًا أنساه مرارة الماضي.

وروبير تزوج بمودست بعد انقضاء مدة الحداد.

وأما كلوكلو فقد ضمنوا له رزقه إلى آخر أيامه، ولكنه لم ينقطع عن الشرب والغناء، وهو لا يزال يغني إلى الآن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤