الفصل السابع عشر

في صباح اليوم التالي لزيارته لرئيس الوزراء، كان جوليان مصابًا بقلقٍ مستمر وغريب. فاتجه إلى أرض تيمبل ووجد مايلز فورلي في حجرة تعبق بدخان التبغ ورائحة سهرةٍ استمرت حتى ساعةٍ متأخرة من الليل.

قال جوليان بينما كان الرجلان يتصافحان: «لا يمكنني الشعور بالراحة يا مايلز.»

أقرَّ فورلي: «أشعر بالارتباك نفسِه. لقد جلست هنا حتى الرابعة صباحًا. وجاء فينياس كروس، ونصف دزينة من الآخَرين. شعرت أنَّني لا بد أن أتحدَّث إليهم، لا بد أن أستمرَّ في دراسة الأمر تفصيلًا. نحن على صواب يا جوليان. لا بد أننا على صواب!»

«هذه مسئولية ضخمة. أتساءل ماذا سيقول التاريخ عنا.»

قال فورلي متأوهًا: «هذا أسوأ ما في الأمر. أولئك الذين سيكتبون قدَّاسنا الجنائزي أو رِثاءنا ستكون لديهم نظرةٌ أكثر شمولًا للأمر برمَّته. هل قرأتَ الصحف هذا الصباح؟ إنها جميعًا تُلمح إلى تحركٍ كبير في الغرب. الأمر يتردد في النوادي. بل إنني سمعتُ ليلة أمسِ أننا كنا في أوستيند. الأمر كله تلاعبٌ بالطبع. يريد ستينسون أن يربح بعض الوقت.»

سأله جوليان: «مَن افتتح تلك المفاوضات مع فرايشتنر؟»

«فين. لقد التقاه في مؤتمر جنيف، في العام السابق للحرب. والتقيتُ به أنا أيضًا، لكنني لم أرَه كثيرًا. إنه رجلٌ رائع يا جوليان، على عكس أي ألماني نمطي التقيتَ به قبل ذلك على الإطلاق.»

«إنه شخص نزيه، على ما أعتقد؟»

أجاب بثقة: «كوضَح النهار. لقد دخل السجن مرتين كما تعلم؛ لصراحته في الحديث. إنه الرجل الوحيد في ألمانيا الذي خاض الحرب منذ بدايتها بكل ما أُوتي من قوة.»

أمسك جوليان صديقَه من كتفه.

وقال: «مايلز، أتعتقدُ حقًّا في صميم قلبك أن لدينا ما يُبرر ما نفعله؟»

«لم أشكَّ في ذلك قط.»

«أتُدرك أننا عمليًّا صنعنا ثورة … أننا أسسنا لديكتاتورية؟ لا بد لستينسون أن ينصاع وإلا فسيُواجه الفوضى.»

قال فورلي: «إنه صوت الشعب ورأيُه. أنا مقتنعٌ بأن لدينا مبررَنا. مقتنعٌ بعدم جدوى استمرار هذه الحرب.»

تنهَّد جوليان تنهيدة ارتياح صغيرة.

وقال: «لا تظنَّ بأنني أتخاذل. تذكَّر أن هذا الأمر جديدٌ بالنسبة إليَّ في الواقع العملي، على الرغم من أنني قد أكون مسئولًا عن جزءٍ من النظرية التي وراءه.»

قال فورلي: «الشعب هو الأصحُّ دائمًا في إدارة سياسة الأمة. فالسياسات العليا تتحوَّل الآن إلى شيءٍ أشبهَ إلى حدٍّ كبير بمباراة شِطرنج مع الوقت؛ فهي محاطة من كل جوانبها بالأصول والسوابق. إن ما نريده هو إنقاذُ الحياة الإنسانية يا جوليان. فالشعب لا يكفُّ عن إدراك المأساة المفجِعة لموت ولو رجلٍ واحد … رجل واحد له دائرته الصغيرة من الأقارب والأصدقاء. فالمرء يُصيبه النسيان في خضمِّ لعبة الحرب. لقد صار البشر من شتى الأطياف — العمال الكادحين، والعاملين على منضدة النجار، والصيادلة، والمزارعين، وعمال المحاجر — يرتدون الزيَّ العسكري، يتحولون إلى جنود عسكريِّين، ويبدو أن ثَمة شيئًا مختلفًا قد ألمَّ بهم. كثير من الأرواح البشرية تُزهَق كل يوم؛ الجنود هم الخَسارة التي يجب أن ندفعها في سبيل تقدمٍ طفيف أو انسحاب مكلِّف. ويا إلهي، كل واحد منهم أسفل زيِّه الكاكي، بشر! الساسة لا يُدركون ذلك يا جوليان. هذا هو مبررنا فيما نفعل. في اليوم الذي تُوقَّع فيه الهدنة، سوف تنجو عدةُ مئات — وربما آلاف — من الأرواح على أقل تقدير؛ سوف تستمرُّ الشمس في السطوع لعدة مئات من النساء. فكِّر فيما سنجنِّبه للآباء، والمحبين، والأطفال، وكل هؤلاء!»

قال جوليان: «لقد رُدَّت إليَّ الروحُ مجددًا. لنذهب إلى ويستمنستر. ثمة أشياءُ كثيرة أريد أن أسال المسئول التنفيذي عنها.»

انطلقا بالسيارة إلى المبنى الكبير الذي يشغله أعضاء مختلفون من المجلس العمالي. كان لكل ممثلٍ عن كل نقابة مهنية مكتبُه الخاص وطاقمٌ من الموظفين وهاتفٌ خاص. أما فين، الذي حيَّا الرجلين بحرارة مفرطة، فقد نصَّب نفسه دليلًا لهما. فراح يصحبهما من غرفةٍ إلى أخرى وينتظر فيما يتبادل جوليان الملاحظات مع بعضٍ من المفوضين الذين لم يلتقِ بهم بصفة شخصية.

أوضح فين قائلًا: «كل عضو من أعضاء مجلسنا على اتصال مباشر بالسكرتير المحليِّ لكل مدينة تُمثَّل فيها صناعته. أترى هذه؟»

ثم توقَّف ووضع يده على كومة صغيرة من نماذج البرقيات كُتِب على كلٍّ منها كلمةٌ واحدة.

وتابع فين قائلًا: «هذه البرقيات كلُّها جاهزة لإرسالها في اللحظة التي نسمع فيها من السيد ستينسون ردًّا سلبيًّا. وهذه النماذج مقسَّمة إلى دفعات، وستُرسَل كلُّ دفعة من مكتب بريد مختلف؛ حتى لا يكون هناك أيُّ تأخير. وفي غضون سبع ساعات، على أقصى تقدير، طبقًا لتقديراتنا، سيكون النبض الصناعي للبلاد قد توقف عن الخفقان.»

سأل جوليان: «كم من الوقت استغرق تأليف منظمتك؟»

قال ديفيد ساندز وهو يستدير في كرسيِّه المتحرك عن المكتب الذي كان يكتب عليه: «ثلاثة أشهر بالضبط. وقد بدأنا في مخططنا بعد بضعة أيام من نشر مقالك في جريدة «بريتيش ريفيو». وقد اتخذنا شعارك منطقًا لنا «التنسيق والتعاون».»

شقوا طريقهم إلى قاعة الاجتماعات وعلى مائدة الغداء، في وقتٍ لاحق من اليوم، جاهد جوليان من أجل تحسينِ معرفته بالرجال الذين كانوا يجلسون حوله. كان بعضهم أعضاءً معروفين بالبرلمان، وبعضهم الآخرُ انحصر في نطاقه المحليِّ إلى حدٍّ بالغ، لكنهم جميعًا بدَوا جادِّين وذَوي فطنة ورؤية ثاقبة. بدأ فينياس كروس في الحديث عن الحرب بصفة عامة. كان قد عاد لتوِّه من زيارة مع أعضاء آخرين بحزب العمال إلى الجبهة، رغم أنه ليس من المؤكَّد ما إن كانت نتيجةً تلك الزيارة تتفق تمامًا مع نوايا القُوى التي دعَته.

قال كروس: «سأخبركم بشيءٍ عن الحرب يتناقضُ تمامًا مع كل تجرِبة أخرى. قلما كان في العالم موضوعاتٌ كبرى لا يتحتَّم عليك أن تتعامل معها كوحدةٍ واحدة وتُقدِّرها بصورة شاملة من أكبر وجهة نظر. أما في الحرب، فالأمر مختلف تمامًا. إذا ما أردتَ أن تفهم ما هو أكثرُ من البديهيات العامة، فعليك أن تنظر إلى جزءٍ واحد فقط من القتال. لنقل إن هناك خمسين رجلًا إنجليزيًّا، من خيرة الرجال، انتُزِعوا من مِهَنهم ووظائفهم كتجَّار متجولين أو حِرفيِّين صغار أو عمال، وما إلى ذلك، واختلطوا مع عددٍ مماثل لهم من الألمان. إن أولئك الألمانَ ليسوا بالشياطين الذين نقرأ عنهم. فهم لا ينضَحون بالنزعة العسكرية. ولا يرغبون في السيطرة على العالم بأسرِه. إن لديهم الميولَ نفسَها، والنظرة العامة نفسها تجاه الحياة كالرجال الإنجليز الذين أجبرتهم يدٌ حديدية على بذلِ أقصى ما لديهم لقتلهم. وأولئك الرجال الإنجليز لم تكن لديهم رغبةٌ في قتلِ أحد مثلهم في ذلك مثل الألمان. بل كانوا مضطرِّين لفعل ذلك أيضًا؛ لأن ذلك ببساطة كان جزءًا من اللُّعبة. رأيتُ هناك مجموعةً من الأسرى الألمان، وكانوا يتحدَّثون مع حارسهم ويتبادلون معه السجائر. كان أحدُ أولئك حلَّاقًا في بلدة ريفية. وكان الرجل الذي يُصاحبه لحراسته حلَّاقًا إنجليزيًّا. ويا للعجب، كان الرجلان يتحدثان بابتهاجٍ وحماسة! لم يكن ذلك الحلاق الألماني يريد أي شيء في الحياة سوى وَفْرة من الطعام والشراب، وأن يكون زوجًا ووالدًا صالحًا، وأن يدخر ما يكفي من المال لشراء منزل صغير له. وكان الإنجليزي مثله تمامًا. كان الإنجليزي سيتخذ الألماني رفيقًا له في يومِ صيد أو في نُزهة في الريف، كما كان سيفعل أي شخص آخر. لم يكن أيٌّ منهما يحمل ضغينةً تجاه الآخر. فأين بحق الجحيم روحُ الكراهية هذه؟ فلتكمل مسيرتك، ميلًا بعدَ الآخر، وستجد أن معظم مجموعات الرجال الصغيرة التي يواجه بعضها بعضًا على الحال نفسِه. ستجد هنا وهناك شعورًا بالمرارة من قتالٍ يبدو جائرًا وبلا حق، لكن هذا لا شيء. تظل الحقيقة أن أولئك الملايين من الرجال لا يكرهون بعضهم بعضًا، وأنه لا يوجد ما يكره بعضُهم بعضًا لأجله، وأنهم منقادون لذبح بعضهم البعض كالحيوانات الضارية. ومن أجل ماذا؟ ربما يمدُّك السيد ستينسون بإجابة هذا السؤال. وربما يمدُّك بها محرِّروك العظماء. وقد يكون جنرالاتك العظام لَبِقين في الإجابة. يمكنهم أن يكتبوا في ذلك مجلدات، لكن ما من شيء فعليٍّ في كلامهم. في رأيي أنه ليس هناك مَدْعاة للقتال في هذا الجيل، وما كان ينبغي أن يكون هناك أيُّ قتال.»

قال جوليان: «أنت لستَ محقًّا فقط، بل محقٌّ بصورة مذهلة يا سيد كروس. هذا حديث إنساني.»

أجاب كروس ببساطة: «إنما هي كلمات وأفكار رجل عادي.»

قال فين متذمرًا بصوته الرفيع: «ولكنني إن تحدَّثتُ بهذا الشكل، يَصِفوني بأنني نصيرٌ للسلام، وينهض الكثير من المشاغبين ويشرعوا في غناء «لِتَسُدْ بريطانيا» ويُحاولوا طردي من القاعة التي أتحدَّث فيها.»

أشار كروس وهو يضع كأس الجِعَة التي كان يشرب منها، قائلًا: «أترى، ثمة اختلافٌ أيها الفتى. في بعض الأحيان تتحدَّث بذلك الحديث الجبان حول عدم رد الصاع إن كان هناك مَن يريد إيذاءك، وتجرُّ ضميرك ووجدانك إلى ذلك، وتُردد أن كل الناس إخوةٌ وما إلى ذلك من اللغو والهراء. والإنجليزي الأصيل لا يحبُّ ذلك؛ لأننا جميعًا نريد أن نحميَ ما لدينا، بأي شكل وبأي ثمن. لكن هذا لا يُغيِّر حقيقة أن ثمةَ خَطبًا في العالم حين نُساق إلى القيام بهذه الحماية على نطاقٍ شامل، ونُرغَم على القتل على نطاقٍ لا يُمكن أن يتخيَّله أو يفكِّر فيه سوى الشياطين. إن مَن هم على رأس السلطة هم المسئولون عن هذه الحرب، وحين يأتي الشعب ليُحاسبهم، سيقولون إن المسئولية مُلقاةٌ على عاتق كلِّ مسئول في حكومات القُوى المتقاتلة، لكن كانت ثَمة مسئولية أكبرُ بكثير على الألمان أكثرَ من غيرهم، وهذا هو السبب في أن مئات الآلاف من شبابنا ممَن أبغَضوا الحرب، وكان شعورهم حيالها مثلَ شعوري، ذهبوا إليها وأدَّوا دورهم وأبقَوا أفواههم مغلقة.»

قال فين مجادلًا: «لا يمكنك أن تُنكر أن الحرب مناقضة للمسيحية.»

أجابه كروس وهو يغمز بعينه لجوليان الجالسِ في الجهة الأخرى من الطاولة: «لا أعرف يا فتى. يبدو لي أنه كان هناك الكثيرُ من القتال العنيف في العهد القديم، وكان الربُّ في العموم منحازًا لجانبٍ أو لآخر. لكنني لن أدخلَ معك في جدال وتشاحُن يا سيد فين. إن أول قرار اتخذه هذا المجلس، حين ضمَّ أكثرَ من دُزينة منا على اختلاف أساليبنا في التفكير، كان أن نغلق أفواهنا على أفكارنا ونلتزم بالمخطط. ولذا أعطني حفنة من التبغ من غليونك، وسنتناول فنجانًا من القهوة معًا.»

وضعَ كيس التبغ الخاصَّ بجوليان أولًا على الطاولة، وقام الرجل من نورث آمبر بملء غليونه بتؤدة.

قال في نبرةِ استحسان وهو يُعيد التبغ إلى جوليان: «إنه تبغٌ من نوع جيد يا سيدي. إنني أتحول إلى رجلٍ مسالم إلى حدٍّ بعيد بعد العشاء …» وأضاف وهو ينظر إلى السكرتير وهو يبتعد عنهم: «حتى حين يأتي فين مثرثرًا. لكنني لا أُخفي هذا. لقد أدركتُ منذ البداية أن هذا الدمج لكلِّ الفئات العمالية مقترحٌ رائع. إنه يجعل منا قوة، رغم أنه قد يجعلنا على مَشارف الثورة كما قلت أنت يا سيد أوردين في أحد مقالاتك. لكن هذا هو كل ما أمكنني فعله من أجل أن أحمل نفسي على الجلوس إلى الطاولة نفسِها مع فين وصديقه برايت.» ثم أوضح قائلًا: «كما ترى، فهناك لحظاتٌ تُضطر فيها إلى فعل شيء ترفضه من الأساس وتعرف أنه خطأ. إنني أستهجن هذه الحرب وأرفضها، وأعرف أنها خطأ؛ إنها فوضى مَقيتة جرَّنا إليها أولئك الذين كان يُفترض أنهم يعرفون أكثر، لكنني لستُ مثل فين في هذا الصدد. إننا نخوضُ هذه الحرب وينبغي لنا أن نخرج منها، ليس كالجبناء وإنما كإنجليز، ولو كان القتال هو السبيلَ الوحيد للخروج، لأيدتُ القتالَ حتى الرمق الأخير. ولحُسن الحظ، استطعنا أن نتواصل مع العقلاء من الجانب الآخر. ولو لم نكن قد تمكنَّا من ذلك … حسنًا، لن أقول أيَّ شيء آخر سِوى أنَّ لي ولدَين يخوضان الحرب وأحدهما مدفون في إبرس، ولديَّ ولدٌ ثالث يتدرَّب على القتال رغم أنه ما زال صغيرًا للغاية.»

قال جوليان: «لقد أفدتَني أكثر من أي شخص تحدَّثتُ معه منذ بداية الحرب يا سيد كروس.»

أجابه كروس: «هذا صحيحٌ يا فتى. فأنت تسمع لحديث شخص واحد، وليس ذلك فقط، بل هو حديث مليون شخص آخَرين خلفي، يُشاركونني الشعور نفسه.» ثم أضافَ وهو يجول ببصره عبر الغرفة ويخفض صوته قليلًا: «لكن احذَر من ذلك الشيطان المخادع فين. فهو لا يحمل لك أيَّ نوايا طيبة.»

قال جوليان وقد استغرقَ في الذكريات: «لم يكن سجَّانًا حسَن الضيافة.»

تابعَ كروس قائلًا: «أنا لا أتحدَّث عن ذلك فقط. فلم يكن بيننا مَن لم يُصوِّت لصالح انتزاع تلك الوثيقة منك بطريقةٍ أو بأخرى، ولو تطلَّب الأمر ليَّ عنقك من أجل الحصول عليها، فلا أدري مَن كان سيتردد في ذلك؛ ذلك أنك كنت تقفُ حائلًا بيننا وبين غايتنا الأسمى. لكن فين وذلك الحقير الفظ المدعو برايت لا يُؤتمَنان في رأيي، ويبدو لي أنهما ينتقدانك دومًا. فمن ناحيةٍ كان فين يُعوِّل على أن يكون رئيسَ هذا المجلس، وهناك أمر تلك المرأة الشابة من ناحية أخرى، أليس كذلك؟»

كرَّر جوليان متسائلًا: «امرأة شابة؟»

أومأ كروس بالإيجاب.

«تلك الشابة الروسية، الآنسة آبواي. كما تدعو نفسها. فقد كان فين طوعَ بَنانها؛ فيصطحبها لتناول العشاء بالخارج وما إلى ذلك. أردتُ فقط تحذيرك، هذا كل ما في الأمر. أنت جديدٌ بيننا يا سيد أوردين، وقد تظن أننا جميعًا رجالٌ شرفاء. لكن في الواقع، لسنا جميعًا كذلك؛ هذا كل ما في الأمر.»

استعاد جوليان وعيه بعد نوبةٍ من الذهول اللحظي.

وقال: «أنا مَدين لك كثيرًا لصراحتك وسلامة نيتك يا سيد كروس.»

قال الرجل القادم من نورث آمبر في رجاء: «يمكنك أن تتغاضى عن كلمة «سيد» هذه يا سيدي.»

ردَّ جوليان مبتسمًا: «وأنت كذلك يمكنك أن تتغاضى عن كلمة «سيدي».»

أقرَّ كروس قائلًا: «خيرُ الأمور الوسط. وبما أننا تطرَّقْنا إلى هذا الموضوع يا صديقي الجديد، فاسمح لي أن أُخبرك بالآتي. إنني لكي أشعر بالارتياح التامِّ تجاه هذا المجلس، يوجد ثلاثة أشخاص أرغب في رؤيتهم خارجه: فين وبرايت وتلك الآنسة الشابة.»

بادره جوليان متسائلًا: «ولمَ الآنسة الشابة؟»

أجابه الآخر: «وربما تسألني أيضًا «لماذا فين وبرايت»؟» واستدرك: «وسوف أُجيب عن السؤال. كما تعرف، نحن أهل الشمال نؤمن بالخرافات، ونُصدق حَدْسنا بشدة. وكل ما يمكنني أن أُخبرك به هو أنني لا أثق في أيٍّ من هؤلاء الثلاثة قِيدَ أنملة.»

قال جوليان معترضًا: «لكن الآنسة آبواي فوق مستوى الشبهات بلا شك، أليس كذلك؟» وأردفَ: «لقد تخلَّت عن مكانةٍ اجتماعية مرموقة، وكرَّسَت الجزء الأكبر من ثروتها لخدمة القضايا التي نُناضل أنا وأنت ونحن جميعًا من أجلها.»

قال كروس: «هناك الآن الكثير من الأعمال التي عليها القيامُ بها في روسيا.»

قال جوليان مذكِّرًا إياه: «ليس هناك شخصٌ واحد ذو أصول نبيلة يمتلك أدنى فرصةٍ للعمل بكفاءة في روسيا في الوقت الراهن. بالإضافة إلى ذلك، فإن الآنسة آبواي نصفُ إنجليزية. وبخذلانها لروسيا، فمن الطبيعي أن تختار هذا البلد لتُسديه أكبرَ قدر ممكن من النفع والخير.»

بدا الرد الذي كان سيردُّ به الآخر وقد تلاشى عن شفتيه. وانعقد حاجباه الأشعثان قليلًا بينما كان ينظر تجاه الباب. تبعَ جوليان نظراته إلى حيث كانت تتَّجه. ودلفت كاثرين إلى الغرفة وراحت تجول بنظرها في أرجائها وكأنها تبحث عن أحد.

كانت كاثرين تضع حجابًا كثيفًا أكثرَ من المعتاد. وكان فستانها وقبعتها بلونٍ أسودَ قاتم، وكانت أكثرَ قلقًا واضطرابًا في أسلوبها. اقتربت كاثرين ببطءٍ نحو الطرَف الذي كانا يجلسان إليه من الطاولة، على الرغم من أنه كان واضحًا أنها تبحث عن شخص آخر.

وقالت متسائلة: «أتعرفان أين السيد فين؟»

رفعَ جوليان حاجبَيه مندهشًا.

وأجابها قائلًا: «كان هنا قبل بِضع دقائق، لكنه تركنا فجأة. أظنُّ أنه استهجن محادثتنا.»

قالت كاثرين: «ربما ذهب إلى غرفته. سأصعد إلى الطابق العلوي.»

واستدارت لكي تنصرف. لكن جوليان تبعها إلى الباب.

وسألها قائلًا: «هل سأراكِ مرة أخرى قبل أن تُغادري؟»

«بالطبع، إذا كنت ترغب في ذلك.»

ساد صمتٌ ملموس بينهما لحظة.

ثم تابعت كاثرين الحديث قائلة: «ألن تصعد معي إلى غرفة السيد فين في الطابق العلوي؟»

«ليس إن كنتِ تُريدينه في أمر شخصي.»

بدأت كاثرين تصعد الدرج.

وقالت: «ليس بأمرٍ شخصي، لكنني أريد من السيد فين أن يُخبرني شيئًا ما بالتحديد، وهو — كما تعرف — شخصٌ غريب الأطوار. ربما كان من الأفضل أن تنتظرني بالأسفل إن كنت لا تُمانع.»

كان رد فعل جوليان غامضًا بعضَ الشيء. لكن كاثرين تركَته من دون أن يبدوَ عليها أنها لاحظت تردده وطرقَت باب غرفة فين. وجدته جالسًا خلف مكتبه، ويملي بعض الخطابات على كاتبٍ على الآلة الكاتبة، وقد لوَّح له فين بالانصراف لدى دخولها عليه.

صرَّح فين في حماس: «أنا مسرورٌ لرؤيتكِ يا آنسة آبواي، بل في غاية السرور! تعالي واجلسي من فضلك، وحدِّثيني. كان صباحنا اليومَ حافلًا. وعلى الرغم من أن الآلة جاهزة للبدء في العمل، فإنها في حاجة إلى يدٍ يقظة طوال الوقت.»

غاصت كاثرين في الكرسي الذي أزالت عنه كومةً من الأوراق ورفعت حجابها.

وأقرَّت قائلة: «أتيتُ لرؤيتك يا سيد فين؛ لأنني في غاية القلق.»

نكَصَ فين بعضَ الشيء. وضاقت عيناه. وأصبح أكثرَ حذرًا في سلوكه.

وكرَّر قائلًا: «قلقة؟» وأردفَ: «حسنًا، ما الأمر؟»

«أريد أن أسألك: هل وصلك أيُّ شيء من فرايشتنر خلال اليوم أو اليومين المنصرمين؟»

تجمَّد وجه فين. كان ما زال لا يُظهر أيَّ علامة انزعاج، فقط كان صوته غير طبيعي تمامًا.

وكرَّر مفكِّرًا: «خلال اليوم أو اليومين المنصرمين؟» ثم أردف: «لا، لم يصلني منه شيءٌ يا آنسة آبواي. لستُ في حاجة إلى أن أُذكِّرك بأننا لا نُخاطر بالتواصل إلا حين تقتضي الضرورة ذلك.»

قالت كاثرين في رجاء: «هَلا تحاول التواصل معه في الحال؟»

سألها فين رامقًا إياها بنظرة متفحصة: «لماذا؟»

قالت كاثرين: «ذات مرة كتبَ أحدُ كتَّابِنا الروس يقول إن هناك ألفَ دوامة في تيارات الفرص. وقد صادفتُ إحداها اليوم أو بالأحرى أمس. إن فرايشتنر شخصٌ فوق مستوى الشبهات، أليس كذلك؟»

أجابها في ثقة: «بل يفوق مستواها بكثير. وأنا لستُ الشخصَ الوحيد الذي يعرفه. اسألي عنه الآخرين.»

فألحَّت في سؤالها قائلة: «أتظن أن من الممكن أن يكون قد تعرَّض للخداع؟»

«بأي شكل؟»

أردفت كاثرين في لهفة: «فيما يتعلَّق بقوته، بقوة حزبه. أتظن أن من الممكن أن يكون الإمبرياليون قد تظاهَروا بأنهم يرَون فيه عنصرًا أهمَّ بكثير في هذا الموقف يفوق أهميته الحقيقية؟ أن يكونوا قد تظاهروا بالإذعان لشروط السلام تلك بنيَّةِ نقضها بمجرد أن نتمادى ونتجاوز كلَّ الحدود؟»

بدا فين وقد انكمش في كرسيِّه للحظة. وتاهت عيناه أمام نظراتها القوية. وانقصم حاملُ الأقلام الذي كان يُمسكه بين أصابعه. ومع ذلك كان صوته هادئًا متماسكًا.

وقال معترضًا: «عزيزتي الآنسة آبواي، مَن أو ما السبب في إثارة هذه الأفكار في رأسكِ؟»

فأجابته: «تسبَّبت فرصةٌ حقيقية أمسِ في أن أتواصل مع رجل — من المحايدين — من المفترض أنه على معرفة وثيقة بما يحدث في ألمانيا.»

تساءل فين في لهفة محمومة: «وما الذي أخبركِ به؟»

أقرَّت كاثرين قائلةً: «لم يخبرني بشيء. لم يكن لديَّ شيءٌ أردُّ به سوى رفعِ حاجبي في حيرة واستغراب. لكنني خرجتُ من الموقف بشعور من الاضطراب وعدم الارتياح. ومنذ ذلك الحين وأنا أشعر بالبؤس. وما زلت بائسةً إلى الآن. أناشدك أن تتواصل في الحال مع فرايشتنر. يمكنك أن تفعل ذلك الآن دون أي مخاطرة. اطلب منه فقط تأكيدًا على الموقف الراهن.»

وعدها فين قائلًا: «هذا أمرٌ سهل للغاية. سأفعل ذلك دون تأخير.» ثم أضاف وهو يمسح شفتَيه الجافتَين بلسانه: «لكن في تلك الأثناء، ألا يُمكنكِ أن تعرفي ما يرمي إليه هذا الرجل، أو هذا المحايد؟»

أجابته قائلة: «للأسف لا يُمكنني ذلك، لكن سأحاول. لقد دعوتُه على العشاء الليلة.»

«إذا ما عرَفتِ أيِّ شيءٍ، فمتى ستُعلمينا به؟»

وعدَته قائلة: «في الحال. سأتصل بالسيد أوردين هاتفيًّا.»

فقدَ فين السيطرة على نفسه للحظة.

وسألها في انفعال: «لماذا السيد أوردين؟» واستطرد: «إنه أصغرُ أعضاء المجلس. ولا يعرف شيئًا عن مفاوضاتنا مع فرايشتنر. أنا الشخص الذي عليكِ أن تتواصلي معه بالتأكيد، أليس كذلك؟»

قالت مذكِّرة إياه: «سيكون ذلك في ساعة متأخرة جدًّا من المساء، والسيد أوردين صديقٌ شخصي لي، خارج نطاق المجلس.»

سألها فين في شراسة: «وأنا لست كذلك؟» وأردفَ: «أريدُ أن أكون صديقًا شخصيًّا لكِ. لقد حاولتُ أن أكون كذلك.»

ويبدو أنها وجدَت انفعاله مثيرًا للقلق، فانسحبت بعضَ الشيء بعيدًا عن الأصابع الممتلئةِ بالبقع الصفراء التي حاولت أن تتسلل إليها.

وقالت مراوِغةً إياه: «نحن جميعًا أصدقاء. ربما لو كان هناك أي شيء ذا بال، حينها سآتي إليك أو سأرسل لك.»

هبَّ فين واقفًا، ولم يبدُ تصرفه هذا من باب اللباقة؛ إذ كانت تهمُّ بالمغادرة، بقدر ما كان بنية الاقتراب منها أكثر. غير أنه جلس فجأةً مرة أخرى، وقبضَ أصابعه معًا في الهواء وبدا وجهُه شاحبًا بصورة شنيعة.

سألته قائلة: «هل تشعر بتوعك يا سيد فين؟»

صبَّ لنفسه كوبًا من الماء بأصابع مرتعشةٍ وراحَ يشربه بغير ثبات.

وقال: «أعتقدُ أنها الأعصاب. لقد اضطُررت إلى تحمل عبءِ هذه المفاوضات كاملًا على عاتقي، ولم أحصل إلا على نذرٍ يسير من المساعدة، ودون أي تعاطف مُرضٍ.»

تعارضت دفقة لحظية من الشفقة مع نفورها الشديد من الرجل.

وقالت محفزة إياه: «لا بد أن تتذكَّر أن ما تقوم به عملٌ مجيد، وأنك تحظى بتعاطفنا وامتناننا.»

فتساءل فين في فورة انفعال بسيطة أخرى: «حقًّا؟» وأردف: «امتنان، حقًّا! لو كان المجلس يشعر بالامتنان، فلمَ لم يقع الاختيار عليَّ لمخاطبة رئيس الوزراء بدلًا من جوليان أوردين؟ التعاطف! لو كان لديكِ شيء منه — وأنتِ الشخص الوحيد الذي أرغب في تعاطفه — فلِم لا يُمكنكِ أن تكوني أكثرَ لطفًا معي؟ لمَ لا تستجيبين، ولو قليلًا، لما أُكنُّه تجاهكِ من مشاعر؟»

تردَّدت كاثرين لحظة، باحثةً عن أقل الكلمات إيذاءً لمشاعره. ونظرًا إلى كونه شخصًا أخرق كعادته، فقد أساء فهمها.

ثم مضى يقول في لهفة: «ربما تعثَّرتُ قليلًا في مسيرتي، لكن اللُّعبة لم تنتهِ بعد. صدِّقيني، ما زال لديَّ أوراق مؤثِّرة في جُعبتي. أعلم أنكِ معتادة على الرغد والثراء.» وأردفَ خافضًا صوته إلى همسٍ أجش: «آنسة آبواي، لم أكن أتباهى أو أتفاخر في تلك الليلة. لقد ادخرتُ أموالًا، وضاربتُ في البورصة وحالفني الحظ … أنا …»

خنقت النظرةُ التي لاحت في عينَيها استرسالَه البليغ. فتوقَّف عن الكلام، وحَلَّ به صمتٌ واجم.

قالت كاثرين: «سيد فين، للمرة الأخيرة، هذا النوع من الحديث بغيضٌ إلى نفسي. أنا لا أفهم قدرًا كبيرًا مما تقول. وما أفهمه منه يُشعرني بالنفور.»

ثم تركته وعلى محياها نظرةٌ مبهمة. لم يحاول فين أن يفتح لها الباب. بل وقف يتسمَّع خطوات أقدامها وهي تبتعد، واستمع إلى أصوات جرس استدعاء المصعد الحادَّة، واستمع للمصعد نفسِه وهو يُقعقع في طريقه للأسفل. ثم عاد إلى كرسيه وجلسَ إلى مكتبه. ولم يكن مظهرُه يَسرُّ الناظرَ إليه بأي حال؛ إذ عقد يدَيه معًا في حركة عصبية، وكانت هناك بقعةُ حبر على وجنته، فيما كان فمه مفتوحًا بعضَ الشيء كاشفًا عن أسنانه المشوَّهة وغير المنتظمة.

نفخَ فين في بوقٍ بجانبه وتمتم بأمر غير مفهوم. وفي غضون دقائق معدودة جاءَ برايت.

قال الأخير باقتضاب وهو يُغلق الباب خلفه: «أنا مشغول.»

فجاء الرد الصارم: «ستكون مشغولًا أكثرَ في غضون دقائق قليلة. ثمة شيءٌ يدعو إلى الريبة.»

وقفَ برايت بلا حَراك.

وسأله بعد أن سكت لحظة: «هل هناك مَن أزعجك؟»

فأعطاه فين أمرًا مقتضبًا قائلًا: «انزل إلى مكتبك في الحال. واطلب من أحدهم تتبُع الآنسة آبواي. أريد تقاريرَ عن تحركاتها في كل ساعة. سأظل هنا طوال الليل.»

ابتسم برايت ابتسامة مقيتة.

«شمشون آخر، صحيح؟»

فجاء ردُّ فين عنيفًا: «اذهب إلى الجحيم، وافعل ما أُمِرت!» وأردفَ: «عيِّنْ أفضل رجالك لهذه المهمة. لا بد أن أعرف، لأجلنا جميعًا، اسمَ الشخص المحايد الذي ستُقابله الآنسة آبواي الليلة والذي تتبادلُ معه الأسرار.»

هزَّ برايت كتفَيه وغادر الغرفة. وأضاء نيكولاس فين المصباح الكهربائي، وأخرج من درج مكتبه دفترَ حساب مصرفيًّا، وبعد أن ألقى به في النار، راحَ يُراقبه حتى التهمته تمامًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤