الفصل الحادي والعشرون

لو أنَّ الستائر المسدلة بإحكامٍ على نوافذ بنايات ويستمنستر العديدة قد أُزيحَت في تلك الليلة وفي الصباح الباكر، لبَدا المكان كخليَّة نحلٍ تعجُّ بالحركة. كان ثمة عِشرون رجلًا يعملون بكدٍّ في عشرين غرفةً مختلفة. بعضهم كان يؤدِّي عمله في ارتياب، والبعض في رعب، والبعض الآخر في سرور وابتهاج، وواحد أو اثنان منهم في ندمٍ حقيقي واضح. تحت بنان أصابعهم كانت الأوامر الرسمية المطوَّلة، التي ستتبع قنبلة البرقيات التي جرى إعدادها بالفعل، بصدد إحداث شللٍ في المجالات الصناعية في إنجلترا في غضون بِضع ساعات، حيث ستبقى سفنها ساكنةً في موانيها، وستتوقف قطاراتها عن الحركة على قُضبانها، وستصمت مناجمها، وتبرد نيران مسابكها، وتخلو مصانعها من العمال. كان حتى أضيقهم أفقًا وخيالًا يشعر بالإثارة، وبرهبة العمل الذي يقوم به ومدى عِظَمه. كان الأمر، على الورق وفي مخيلاتهم، يبدو رائعًا ومنطقيًّا للغاية وبَدت نتائجُه المرجوَّة منه أكيدة. والآن صارت هناك أفكارٌ أخرى تقتحم أذهانهم وتشق طريقها عنوة إلى السطح. كيف سيَذكُر التاريخُ أسماءهم؟ كيف سينظر الإنجليز في كل أنحاء العالم إلى هذا الفعل؟ أكانوا يتِّبعون الحقيقة فعلًا، أم سرابًا زائفًا ومدمِّرًا؟ ربما كانت هذه شكوكًا عابرة إلى زوال، لكنها تجلَّت لأكثرَ من شخص من أولئك الكادحين في منتصف الليل متنكرة في هيئة هاجسٍ داخلي كئيب يُثبِط العزائم.

سمعَ الجميعُ سيارة تتوقَّف بالخارج. لكن لم يرَ أيٌّ منهم أن الأمر يستحق التوقف عن عمله بما يكفي لكي ينظر إلى الخارج ويرى مَن يكون زائرُ الليل ذاك. ولكن في غضون وقتٍ قصير للغاية، توقَّفت أعمالهم. كان جوليان ومعه كاثرين والأسقف — الذي كانا قد عرَّجا عليه في طريقهما — يتنقلون من حجرةٍ إلى أخرى ويُرددون رسالة قصيرة. لم يُثِر أيٌّ منهم مشكلةً في الذَّهاب إلى قاعة اجتماعات المجلس. وكان أول احتجاج واجهوه صادرًا من آخِر حجرة دخلوها، وقد تعمَّدوا تركها حتى النهاية. كان يبدو أن نيكولاس فين قد انتهى من عمله أو قطعه. فقد كان جالسًا أمام مكتبه وذقنه يستندُ على ذراعيه المعقودتين، وبين شفتَيه سيجارة. أما برايت فكان جالسًا في تكاسلٍ في كرسي وثير على بُعد بِضع أقدام منه. كان رأساهما قريبَين بعضهما من بعض، وكان الحديث الدائرُ بينهما، أيًّا كان موضوعه، يُدار هَمسًا. كان يبدو أنهما لم يسمعَا طَرق جوليان على الباب؛ إذ ابتعدا بعضهما عن بعض في إجفال وكأنهما متآمِران حين فُتِح الباب. وانقسمت تعابيرُ وجه فين بين الخوف والخُبث بينما كان يُحدِّق فيهم.

تساءَل قائلًا: «ماذا تفعلون هنا؟» واستطردَ: «ما الخَطْب؟»

أغلقَ جوليان الباب.

وأجاب باقتضاب: «هناك خَطب جلل. لقد عرَّجْنا على كل فرد من المفوَّضين وطلبنا منهم التجمع في قاعة اجتماعات المجلس. فهَلا تأتي أنت وبرايت إلى هناك في الحال؟»

تنقَّل فين ببصره بين زائريه وظلَّ صامتًا لبضع ثوانٍ.

وتساءل في خبث: «ستتنحَّى، أليس كذلك؟»

قال جوليان: «لدينا بعضُ المعلومات نريد إخطاركم بها.»

تحرَّك فين فجأةً مبتعدًا عن ظل المصباح الكهربائي الذي كان يتدلى على المكتب. وكان صوتُه مضطربًا وعلى غير طبيعته.

وقال بنبرة فظَّة صارمة: «لا يمكننا النظر في أي معلوماتٍ أخرى. لقد اتخذنا قراراتِنا. لا شيءَ يمكن أن يؤثِّر فيها. هذا أسوأ شيءٍ يحدث حين يكون هناك غرباء في مجلسنا. كنت واثقًا من أنكم لن تُواجهوا الأمر حين تأتي اللحظة الحاسمة.»

قال جوليان: «بما أنكَ معنيٌّ بصورة شخصية في هذا الأمر، فأعتقدُ أنه سيكون من الأفضل لو جئتَ مع الباقين.»

قال فين معلنًا في إصرار: «لن أبرحَ هذه الغرفة. لديَّ عملٌ أقوم به. أما فيما يتعلق بكوني معنيًّا بما ستقول، فسأكون شاكرًا لك إن لم تتدخل فيما لا يَعنيك وتركتني وشأني.»

تدخَّل الأسقفُّ في الحديث قائلًا: «أود أن أُقدِّم لك نصيحتي يا سيد فين بأن تنضمَّ إلينا في الحال في قاعة اجتماعات المجلس.»

كان جوليان وكاثرين قد غادرا الغرفةَ بالفعل. ومالَ فين إلى الأمام، وكانت نبرة صوته متغيِّرة.

إذ تساءل بصوتٍ أجشَّ: «ما معنى ذلك أيها الأسقف؟» وأضافَ: «هل يريد هذان الاثنان التراجع؟»

أجابه الأسقف: «ينبغي أن نقول ما جئنا لنقوله أمام الجميع.»

ثم انصرف. وتبادل فين وبرايت نظراتٍ سريعة.

سأله فين: «ماذا تفهم من ذلك؟»

غمغم برايت: «لقد غيَّرا رأيهما، هذا كل ما في الأمر. إنهما مُنظِّران. تبًّا للمنظِّرين جميعًا! إنهم يُطلقون فقاعاتٍ من أجل فرقعتها ليس إلا. أما عن الفتاة، فقد أمضت الليل كلَّه في الحفلات، كما نعرف.»

أقرَّ فين قائلًا: «أنت محق. كنتُ أحمق. هيا بنا.»

كان الكثيرُ من المفوَّضين يبدون سعداءَ بالهروب ولو لدقائق قليلة من مهامهم. فقد دخل واحد أو اثنان منهم الحجرة بكوب من القهوة أو مشروب الشوكولاتة. وكان معظمهم يُدخن. أما فين وبرايت فكانا آخر من دخل الغرفة. وعبثًا حاول الأخير إطلاقَ تعليق مرِح.

فتساءل قائلًا: «أهذه استراحة من أجل تناول المرطبات؟» وأردفَ: «إذا كان الأمر كذلك، فأنا معكم.»

أوصد جوليان الباب حيث كان يقفُ بالقرب منه منتظرًا. وذُهِل فين لذلك.

وقال متسائلًا: «لماذا فعلتَ ذلك بحق الجحيم؟»

«مجرد إجراءٍ احترازي. لا نريد أن يُقاطعنا أحد.»

اتجه جوليان نحوَ مساحة شاغرة صغيرة عند نهاية الطاولة ووقفَ هناك، ووضع يدَيه على ظهر أحد الكراسي. وظلَّ الأسقف بجواره مُسبل العينين وكأنه يُصلي. أما كاثرين، فجلست على الكرسي الذي دفعه كروس باتجاهها. هنا خيَّم على الغرفة جوٌّ من التوتر، بعد أن كان في بادئ الأمر يُخيم عليه الترقب ليس إلا.

استهلَّ جوليان حديثه قائلًا: «أصدقائي، قبل بضع ساعات اتَّخذتم قرارًا بالغَ الأهمية. وأنتم جميعًا الآن تعملون من أجل تنفيذه. وقد أتيتُ للقائكم؛ لأنني أخشى كثيرًا أننا وقعنا ضحايا لتقاريرَ زائفة ومؤامرة شائنة.»

قال فين ساخرًا: «هُراء!» وأضافَ: «أنت تريد التراجع، هذه حقيقتك.»

ردَّ جوليان في صرامة: «من الأفضل لك أن تشكر العناية الإلهية أنَّ هناك وقتًا كافيًا لك لتتراجعَ أنت أيضًا، هذا إن كنتَ تكترث مثقال ذرة لأمرِ وطنك. والآن يا سيد فين، سأطرح عليك سؤالًا. لقد وجَّهتَنا هذا المساء إلى الاعتقاد بأنك كنت على تواصل مستمرٍّ مع فرايشتنر، رغم أن كل الخطابات بينكما قد جرى التخلص منها. فمتى تواصلتَ معه آخرَ مرة، أقصِدُ على الصعيد الشخصي؟»

أجابَ فين في جُرأة: «الأسبوع الماضي، والأسبوع قبل الماضي.»

«وقد تخلَّصت من تلك الخطابات؟»

«بالطبع فعلت! فلم أحتفظ بشيءٍ سيتسبَّب في إعدامي؟»

«إذن لا يمكنك أن تُقدِّم لنا أيَّ خطابات من فرايشتنر، عدا مقترحات السلام التي كُتِبت في غضون … لنقل الشهر المنصرم؟»

تساءل فين في انفعالٍ شديد: «ما الذي ترمي إليه بحق السماء؟» وأضافَ: «وبأي حقٍّ تقف هكذا وتستجوبني؟»

قال جوليان بنبرةٍ جادة صارمة: «بحق أنني مستعدٌّ لأن أنعتَك في وجهك بالكاذب. لدينا معلوماتٌ مؤكَّدة تمامًا أن فرايشتنر مسجون الآن في حِصن ألماني وسيُعدَم رميًا بالرصاص قبل انقضاء هذا الأسبوع.»

سرَت همهماتُ ذعر، بل عدم تصديق. كان فين نفسه واجمًا. وتابعَ جوليان حديثه في حماسة.

«أصدقائي، على الورق ومن الوقائع التي قُدِّمت إلينا، يبدو أننا اتخذنا القرارَ السليم، لكن كان ينبغي لنا أن نضعَ في اعتبارنا ما يلي. إن كلمة ألمانيا وتوقيعاتها وشرَفها لا يعني الكثير حين يتعارضُ ذلك مع مصالحها. إن ألمانيا، على الرغم من كل نجاحاتها، تتعطَّش إلى السلام. وستُشكِّل هذه الهدنة الخلاصَ بالنسبة إليها. وقد بادرت للحصول عليها، لكن ليس على نحوٍ نزيه كما جعَلونا نعتقد، بل عن طريق مؤامرة خبيثة. لقد زعمَت ألمانيا أنها انبهرت برغبات مجلس نوابها في إحلال السلام. وزعَم أعضاء رابطة عموم الألمان رغبتهم في الانصياع إلى الاشتراكيِّين. وكلُّ تلك المزاعم كاذبة! لقد شجَّعوا فرايشتنر على مواصلة مفاوضاته مع فين. وكان فرايشتنر أمينًا بما يكفي. لكنني لست واثقًا بشأن فين.»

هبَّ فين واقفًا وانطلقت من بين شفتَيه صيحةُ سباب. فوقفَ جوليان في مواجهته في ثبات. وفي تلك اللحظة صار جوُّ الغرفة محتدمًا.

وتابعَ جوليان حديثه قائلًا: «سأُنهي ما أريد قوله. أعرفُ أن الجميع هنا يريدون مني ذلك. نحن جميعًا هنا لنبحثَ عن الحقيقة ولا شيءَ سواها، وبفضل الآنسة آبواي، عثرنا عليها بمحض المصادفة. إنَّ مقترحات السلام تلك، التي تبدو جيدةً للغاية على الورق، ما هي إلا شَرَك. لقد قُدِّمت لكي تُنقَض. وقد أُضيفَت تلك التوقيعات ليتمَّ التنصلُ منها. أقول إن فرايشتنر مسجونٌ منذ بضعة أسابيع، وأنكرُ أن فين تسلَّم خطابًا واحدًا منه خلال تلك المدة. بينما يؤكِّد فين أنه تلقى خطاباتٍ منه لكنه تخلَّص منها. وأُكرِّر أنه كاذب.»

قال كروس: «هذا كلامٌ واضح وصريح. والآن يا فين، ماذا لديك لتقولَ حيال ذلك أيها الفتى؟»

اتَّكأ فين إلى الأمام، والتوت قسماتُ وجهه بتعبيرٍ ربما كان غَضبًا، لكنه كان أقربَ كثيرًا إلى الخوف.

ثم صاحَ قائلًا: «هذا ليس إلا جزءًا من تراجعه!» وأردف: «أنا لا أحتفظُ أبدًا بأي مراسلاتٍ من فرايشتنر. وقد أخبرتُكم بذلك من قبل. أما الخطابات الأولى التي تلقَّيتها منه، فقد عرضتُها عليكم، وتداوَلناها معًا. ومنذ ذلك الحين، وكلُّ ما تسلَّمت منه من خطاباتٍ كانت وُدِّية وقد تخلصتُ منها.»

سرَت همهمةُ تشكيك. وتابعَ جوليان حديثه.

وقال: «أترون، السيد فين غير قادر على تبرئة ساحته من أول اتهام أُوجهه له. والآن لنسمع ما لديه بشأنِ هذا الاتهام التالي. أظنُّ أن السيد فين بدأ حياته مدرِّسًا في مدرسة أبرشية، وهي وظيفة رائعة وجديرةٌ بالاحترام. ومِن ثَمَّ أصبح مديرًا لشركة من شركات تجار الخشب في المدينة، وشرَعَ في اهتمامه بالحركات العُمالية. ثم صعدَ بفضل المهنة وجدارته إلى وضعه الحالي؛ مسيرةٌ مِهنية ممتازة، لكنني لا أظن أنها مجزية كثيرًا. هل يمكن أن نقول إنه يتقاضى الآن راتبًا يصل إلى عشرة جنيهات في الأسبوع؟»

صاحَ الرجل المُستفَزُّ قائلًا: «ما شأنك بهذا بحق الجحيم؟»

ردَّ جوليان: «شأني وشأننا جميعًا؛ لأنني سأطرح الآن سؤالًا بعينه. هلا تُطلِعنا على دفتر حسابك البنكي؟»

تمايلَ فين في كرسيه لحظة. وتظاهرَ بأنه لم يسمع السؤال.

وتلعثمَ قائلًا: «أُطلعِكم على ماذا؟»

كرَّر جوليان في هدوء: «دفتر حسابك البنكي. بما أنك لم تتسلَّم آخر دفعةٍ لك من ألمانيا إلا هذا الأسبوع، فعلى الأرجح أنك لم تحظَ بعدُ بالوقت لكي تشتريَ الأسهم والسندات أو العقارات حيثما تقودك ميولُك. ولذا فإنني أظن أننا سنجدُ فيه رصيدًا يُقدَّر بنحوِ ثلاثين ألف جنيه، وهي آخِر دفعة سدَّدها لك عميلٌ ألماني هنا في لندن.»

هبَّ فين واقفًا. كان مظهرُه مظهرَ رجل على وشك أن يُدافع عن نفسه دفاعًا قويًّا مفصَّلًا. ثم فجأةً ترنَّح وصار وجهه بشعًا إلى حدٍّ لا يُطاق معه النظر إليه والتوت شفتاه.

وصاحَ قائلًا: «براندي! ليحضر لي أحدكم البراندي! أشعر بتوعُّك!»

ثم سقطَ فجأةً على الأرض. فحملوه إلى مقعد كان موضوعًا قبالة الحائط، ومالت كاثرين فوقه. كان الرجل ممددًا يتأوَّه. فأرخَوا ياقة قميصه وراحوا يصبُّون له مُنبهاتٍ من بين أسنانه ليستفيق. وظلَّ صامتًا لبعض الوقت. ثم بدأ يتأوَّه مرة أخرى. فعادَ جوليان إلى الطاولة.

وقال في جديةٍ وصرامة: «صدِّقوني، هذا الأمر يُمثِّل فاجعةً لي؛ شأني شأن كل فرد هنا. أعتقدُ أنكم جميعًا عدا …» ثم التفتَ نحو الأريكة وأضافَ: «عدا أولئك الذين لن نذكر أسماءهم، مضَيتم في هذا الأمر بصدق ونزاهة، كما فعلتُ أنا. علينا ألَّا نكترث له. مزِّقوا برقياتكم. ولتأذنوا لي بالذَّهاب للقاء ستينسون في الحال. إنني أرى حقيقة هذا الأمر الآن كما لم أرَها من قبل. لا سلامَ لنا مع ألمانيا حتى تركع، حتى نسلبها كلَّ قوتها؛ حتى لا تتمكنَ من التسبُّب في المزيد من الأذى. وحين تأتي تلك اللحظة، لنكن كُرماء. لنتذكَّر أن عمالها من لحمٍ ودمٍ كعُمالنا، وأنهم في حاجة إلى الحياة كما أنتم في حاجة إليها. لنحرص على أن نترك لهم من السُّبُل ما يُعينهم على العيش. لنلتمس الرحمة لهم جميعًا، الرحمة لهم، وكل الإمكانيات اللازمة لحياة حرة كريمة. وليذهب إلى الجحيم كلُّ مَن كان مسئولًا عن السم الذي تسلَّل في كل أوساط ألمانيا، والذي أفسدَ أولًا الطبقة الأرستقراطية المتغطرسة، بدايةً من القيصر وأصدقائه، ثم الطبقة المتوسطة المكافحة الكادحة، بل تغلغل بدرجةٍ ما إلى أوساط العامة أنفسِهم، الذين حكمَ عليهم حاكمهم السيئُ السمعةِ بأن يحملوا على كواهلهم عبءَ طموحٍ بشع وآثم وغير سوي. لديَّ الكثير لقوله، لكنني أظنُّ أني قلت ما يكفي. لا بد أن تنكسر شوكة ألمانيا، ويمكنكم تحقيقُ ذلك. ولتكن ذِكرى تلك البرقيات التي لم تُرسَل مصدرَ عون لكم. أمضوا وقتكم بين أولئك الذين تُمثلونهم. أظهِروا لهم الحقيقة. اشرحوا لهم أنَّ كل عبءٍ يحملونه، في كل مرة يقبضون فيها على معاولهم، وفي كل طرقةٍ يطرقونها في عملهم اليومي، هو مصدر نفع وعون. كنت سأتحدَّث عما نَدين به للموتى. لكنني لن أفعل. لا بد أن نهزم ألمانيا ونجعلَها تركع. يمكننا أن نفعل ذلك وسنفعله. بعدها سوف يأتي وقتُ الجُود والصفح.»

ضربَ فينياس كروس الطاولةَ بباطن يده.

وقال: «أيها الرجال، أشعر بالعرق يتصبَّب من كل مسام جسدي. كنا قابَ قوسين أو أدنى من ارتكاب شيءٍ مريع. نحن معك يا سيد أوردين. لكن ماذا عن ذلك البغيضِ القابع هناك؟ كيف اكتشفتَ أمره؟»

أجابه جوليان: «عن طريق الآنسة آبواي. هي مَن تستحق الشكر. وأؤكِّد لكم أنَّ كل اتهامٍ وجَّهتُه يمكن إثباته بالدليل.»

سرَت همهمةُ ثقة خافتة فيما قال. وبدا عسيرًا على الجميع التعبيرُ بالكلمات المناسبة.

مضى جوليان يقول: «كلمة أخيرة. لا تحلُّوا هذا المجلس. أبقوا عليه كما هو. أبقوا على هذا المبنى. أبقوا على اتحادنا وكرِّسوه لغايةٍ واحدة؛ النصر.»

جاءه الرد في هيئة موجة صاخبة من التصفيق. والتفتَ كروس مرة أخرى نحو ذلك الرجل الممدَّد على الأريكة.

فأوعزَ إليهم جوليان قائلًا: «لا يتدخَّلَن أحد. هناك قانون سوف يتولَّى أمره. سيتم إبعاده عن هذا المكان في الوقت الراهن، ولن يسمع عنه أحدٌ مجددًا لبعض الوقت. لا نريدُ أن يعرف أحدٌ كم كنا على مقربة من الوقوع في فخِّ الخداع. ويقع على عاتق كل واحد منكم مهمةُ إتلاف كل آثارِ ما قد يكون قد حدث. يمكنكم فعلُ ذلك إذا ما أردتم. وغدًا اعقدوا مجلسكم. وعيِّنوا رئيسًا دائمًا لكم وسكرتيرًا جديدًا، واستخلصوا منهجًا للعمل يهدف إلى تعزيز زيادة الإنتاج، وبثِّ رغبة حماسية متَّقدة في تحقيق النصر في كل مجال من المجالات. وإن كنتم في حاجةٍ إلى مساعدتي من خلال الحديث أو الكتابة أو بأي طريقة أخرى، فهي لكم. سأكون أحدَ أنصار قضيتكم طَوعًا. لكن اسمحوا لي أن أكون سفيرَكم هذا الصباح. دعوني أذهبُ إلى رئيس الوزراء برسالة منكم. دعوني أُخبره بما قررتموه.»

صاحَ كروس: «مَن يوافق على ذلك فليرفع يده!»

رفعَ الجميعُ يدَه. وعاد برايت من عند الأريكة وكان يرمش بعينه من تحت نظارته السميكة، لكنه كان خانعًا مُذعِنًا.

قال الأسقف ملتمسًا: «لنحمل ذِكرى هذه الساعة كشيءٍ مهيب في حياتنا. سيُثبِت مجلسُ العُمال نفسه، وسينقل صوتَ الشعب وإرادته، ويحارب من أجل النصر.»

ردَّد جوليان بصوت مدوٍّ: «من أجل السلام الذي يتأتَّى من النصر!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤