الفصل الثامن

غادرت مجموعةُ صيد صغيرةٌ ذا هول بعد الغداء مباشرة لخطط أُعدَّت في وقت مبكِّر من اليوم، ولم تعد حتى ساعة متأخرة من العصر. لذلك لم يرَ جوليان كاثرين ثانيةً حتى دلفت إلى غرفة الاستقبال قبل دقائق قليلة من الإعلان عن موعد العشاء، وكانت ترتدي ثوبًا مسائيًّا رائعًا من الحرير بلون أزرق باهت، وتزين عنقها بعقد بديع من اللؤلؤ وترتدي على رأسها غطاءً روسيًّا. وكما هو حال كل النساء اللائي يتمتعن بالعبقرية، كان استبدال كاثرين لثيابها بالكامل وارتداء ثوب مسائي يشير إلى تغيُّر موازٍ في سلوكها أيضًا. فقد بدا أسلوبها المثير للاهتمام والهادئ إلى حدٍّ ما الذي أبدته في مساء اليوم السابق وقد تلاشى. هيمنَت كاثرين على الحديث على مائدة العشاء. فأظهرَت معرفةً صميمة بكل عواصم أوروبا وبشخصيات لا حصر لها من ذوي الحيثيَّة والأهمية. وتبادلت ذكرياتٍ شخصيةً مع اللورد شيرفينتون الذي كان ملحقًا بالسفارة الإنجليزية في روما، وكذلك مع السيد هاناواي ويلز الذي كان يَشغل منصبَ سكرتير أول السفارة في فيينا. تحدثت بطريقة طريفة عن ميونيخ، التي، فيما يبدو، كانت أولَ مكان درسَت فيه الفنون، لكنها أسهبَت بكل حماس الفنان، في الحديث عن أسفارها إلى إسبانيا، وعن الألوان الناعمة الزاهية الرائعة للمدن الجنوبية فيها. بدت كاثرين وكأنها تخلصَت تمامًا من الجاذبية التي أظهرت لمسات منها في مساء اليوم السابق. لم تعد تلك الشابة الجادة التي تحمل غاية وهدفًا. لقد خرجَت من شرنقتها وتحوَّلت إلى فراشة، إلى ملكة شابة أنيقة متألقة وعلى دراية بالعالم، تحكم بكل سهولة، لا بالغطرسة التي تمنحها لها مكانتُها، بل من خلال موهبتَي الجاذبية والفِطنة اللتين حُبِيَت بهما. لم يُحقق جوليان استفادةً من وجوده إلى جوارها إلا قليلًا؛ ذلك أن المحادثة في تلك الأمسية كانت عامةً من أولها إلى آخرها. وبدا أن الجوَّ العام الذي خلقَته في الغرفة ظل باقيًا حتى بعد أن غادرت.

صرَّح الأسقفُّ قائلًا: «لم أفهم الآنسة آبواي بطريقة صحيحة من قبل. إنها شابة ذكية بصورة غير عادية.»

اتفق معه اللورد شيرفينتون.

فقال موضحًا: «لقد ظهرت كاثرين آبواي أمامكم الليلة كما كان ينبغي لها أن تكون لولا الصرعتان الغريبتان المتناوبتان على الظهور؛ الفن والاشتراكية. لقد اتَّسع ذهنها مبكرًا جدًّا، وحين كانت في مرحلة الصبا تقريبًا، انضمَّت، لسوء حظها، إلى جماعة صغيرة من الشباب الروس اللامعين، كان لهم بالغُ التأثير عليها. معظم هؤلاء الآن في سيبيريا والآخرون اختفَوا. كان أحد هؤلاء، وهي آنا كاتينسكي، قد أُحضرت من توبولسك في اليوم الأول من أيام الثورة وكأنها أميرة متوَّجة.»

فقال الإيرل بنبرة وعظ: «من الغريب أن تُناصر امرأة شابة كالآنسة آبواي، بما حَظِيت به من نشأة ومواهب، قضيةَ حزب العمال الغوغائي ذاك، المبتلى بالفعل بلعنة كثرة القادة.»

فقال السيد هاناواي ويلز: «حين تناصر المرأة قضيةً ما، فإنها دائمًا ما تبحث إما عن الأشياء الجذابة أو عن شيء يخاطب المشاعر. وما دامت لا تختلط بهم، فإن قضية الشعب تحظى بالكثير من الأشياء التي تُزكيها. يمكن للمرء أن يستخدم عباراتٍ جميلة، ويدَّعيَ المثالية مع قدرٍ معيَّن من المنطق، ويحقق الكثير من الأشياء بالفعل.»

هزَّ جوليان كتفيه مستهجنًا.

وقال مُعلِّقًا: «في رأيي أننا جميعًا لا نبصر الخطر الذي يُحدق بنا من خلال الازدهار الكبير الذي يُحققه العمال اليوم.»

اتَّكأ الأسقفُّ على الطاولة.

وقال: «هل قرأتَ لفيسك هذا الأسبوع.»

سأل جوليان بلا اكتراث: «هل اقتبست من كلامه؟» وأردف: «إن ذاكرتي ضعيفة. لن أجرؤ أبدًا على أن أصبح سياسيًّا. ودائمًا ما أنطق بعبارات الآخرين وكأنها عباراتي.»

تدخَّل السيد ستينسون قائلًا: «إن فيسك محقٌّ تمامًا بشأن حجته. فالحرب تسير بإيقاع سريعٍ في اتجاه خلق طبقة جديدة من البرجوازيين. والفروقات فيما يتقاضاه العمالُ المهَرة ستتسبَّب في المشاكل قبل وقتٍ ليس بالطويل، كعمال المناجم الذين يتقاضَون خمسين أو ستين شلنًا وعمال صناعة الذخيرة الذين يجنون سبع جنيهات أو ثمانية، وهم جميعًا من الطبقة نفسها.»

قال الإيرل مسترسلًا في خطابه المفضَّل: «لم تكن إنجلترا في حالة هدوء ورضًا أبدًا إلا حين كانت الأجور في أدنى مستوياتها.»

قال السيد هاناواي ويلز منذرًا بنبرة كئيبة: «لن تعود تلك الأيام ثانيةً أبدًا.» واستطرد: «لقد ذاق العامل لذة الانتصار. بدأ يُدرك قوته. وكان وزراؤنا نائمين طيلةَ جيل كامل. إن أولى هذه النقابات العمالية الحديثة كان يجب أن تُعامَل كجماعات سرية في إيطاليا. انظروا إليهم الآن وإلى ما يمثلونه! أتخيَّل ما سوف يعنيه ذلك حين يتعلمون جميعًا كيف يتحدون معًا! حين يُفرز حزب العمال قادةً حقيقيين!»

تساءل لورد شرفينتون قائلًا: «هل يمكن لأحد أن يشرح الديمقراطية الألمانية؟»

أجابه السيد ستينسون: «كان فيسك، الكاتب الواسع الانتشار، يُحاول شرحها الأسبوع الماضي في أحد أعداد جريدة «ريفيو». استند في حجته إلى أن ألمانيا وحدها، من بين الأمم كافة، امتلكت صفة إضافية أو حِسًّا إضافيًّا — نسيت الاسم الذي أطلقه عليه — وهو حس الانضباط. إنه صفة متأصلة تجري في دمائهم. والمسئول عنه أجيال من الخدمة العسكرية. قد يكون شعارهم هو الانضباطَ والاتحاد. لقد تشكَّل الفكر الفردي في اتجاهات بعينها، تمامًا مثلما تُخصَّص الجهود الفردية في مجالات بعينها. إن الألمان يطيعون الأوامر لأن طبيعتهم تقضي بذلك. والسؤال الوحيد هو ما إن كانوا سيستطيعون الصمود أمام هذا — وهو أقسى اختبار في تاريخهم — ويستمرون حتى النهاية إلى أن يتخطَّوا الأمر.»

قال هاناواي ويلز: «في رأيي الشخصي، أعتقد أنهم سيفعلون، لكن إن كنتُ مخطئًا في ذلك، أي لم يتمكنوا من تخطي ذلك، فستكون الثورة الفرنسية مجردَ نزهة مقارنة بنظيرتها الألمانية. إن الأمر يتطلب الكثير من أجل إخراج فكرة قومية من العقل الألماني، لكن إن فهم الألمان بالضبط وبدقةٍ كيف تم خداعهم من أجل تحقيق المجد لقادتهم، فإنني في الواقع أُشفق على أولئك النبلاء الألمان الشبان مما سيحدث لهم.»

سأل الأسقف في كياسة: «هل قادتك مقالاتك في الصحافة يومًا إلى التطرق إلى الموضوعات العمالية يا جوليان؟»

جاء رده متواضعًا: «مرة أو اثنتين، وعلى نحوٍ مخفف للغاية.»

قال رئيس الوزراء: «لقد حظيتُ بحوارٍ شيق مع فورلي صباح اليوم. أخبرني أنهم يُفكِّرون في مناشدة ذلك المدعوِّ بول فيسك كي يُعلن عن هُويته. إنهم في حاجةٍ ماسة وملحة إلى قائد، وأشكر الربَّ أنهم لا يعرفون أين يبحثون عنه!»

احتجَّ جوليان قائلًا: «لكن لا شك أنهم لا يتوقعون بالضرورة أن يجدوا قائدًا لهم في مساهم مجهول الهوية يكتب في جريدة «ريفيو»؟ فقد يكون فيسك — حين يجدونه — رجلًا سبعينيًّا، أو رجلًا ذا عقلية أكاديمية لا يبرح مكتبه قط. بل قد يكون «بول فيسك» حتى اسمًا مستعارًا لامرأة.»

نهض الإيرل من مقعده.

وأعلن قائلًا: «لقد قرأت عصرَ اليوم أحدثَ مقال لذلك المدعوِّ بول فيسك. وفي رأيي أنه شخص خبيث وشرير للغاية، ولا يتمتع ولو بقليلٍ من الفَهم للقُوى المؤثِّرة بحقٍّ في الحكومة.»

كانت عينا الأسقف تتلألأن عندما غادر الغرفة ويدُه على ذراع ابنه بالمعمودية.

وهمس له قائلًا: «سيكون من المثير فعلًا أن نسمع رأي ذلك المدعو فيسك عن خِطاب أبيك الأخير في مجلس اللوردات حول ذوي الأملاك!»

لم يرَ جوليان كاثرين إلا بعد انتهاء أمسية غيرِ مرضية تمامًا للعبة البريدج المملة. جاءت كاثرين من قاعة عرض الصور لاهثة، يتبعها أربعةُ جنود شبان أو خمسة كانت تُعلِّمهم خطواتِ رقصة جديدة، فالتفتَت إلى جوليان في اندفاعٍ أدهشه ووضعَت أصابعها على ذراعه.

وقالت بنبرة توسُّل: «فضلًا، خُذني إلى مكان يمكننا أن نجلس فيه ونتحدث، وأعطني شيئًا لأشربه.»

تقدَّمها جوليان إلى قاعة البلياردو وقرع الجرس.

ثم قال وهو ينظر إليها في فضول: «لقد أنهكتِ نفسك.»

أجابته: «حقًّا؟» وأردفت تقول: «لا أعتقد ذلك. لقد اعتدت الرقص طوال الليل في باريس وروما، قبل بضع سنوات. لكن هؤلاء الشبان خَرْقى للغاية، وأعتقد أنني متوترة.»

اتَّكأت كاثرين في كرسيِّها وأغمضت عينيها نصف إغماضة. أحضر أحد الخدم مياهَ إيفيان التي طلبتها وويسكي وصودا لجوليان. أخذت تشرب بلهفةٍ ونهَم، وفي غضون بضع لحظات بدا أنها تخلصَت من الإجهاد الذي كانت تشعر به. ثم التفتت إلى رفيقها في شيءٍ من الإصرار.

وقالت في نبرة تنم عن إصرار: «لا بد أن أُحدثك بخصوص أمر الرسائل يا سيد أوردين.»

«مرةً أخرى؟»

«لا حيلةَ لي في ذلك. لقد نسيتَ أن الأمر يعني لي مسألة حياة أو موت. لا بد أن تُدرك أنك كنت مؤتمنًا عليها ليس إلا. وأنت رجل تتحلَّى بالشرف. أعطني إياها.»

«لا يُمكنني ذلك.»

«إذن ماذا عساك تفعل بها؟»

أجابها: «سآخذها معي إلى لندن غدًا، وأسلمها إلى صديق لي في وزارة الخارجية.»

سألته بنبرة انفعالية: «أما من شيء يمكن أن أقوله أو أفعله من شأنه أن يؤثر على قرارك؟»

فأجابها ببساطة: «كل شيء تقولينه أو تفعلينه يُثير انتباهي ويُؤثر بي، لكن مسئوليتي واضحةٌ حين يتعلق الأمر بهذه المسألة. لا داعي للخوف مما سأقول بشأن كيفية حصولي على هذه الرسائل. من المستحيل أن أتهمك بما أخشى أن تكوني عليه. وعلى الجانب الآخر، لا يمكنني أن أسمح لك بالتنعُّم بثمار مغامرتك.»

قالت بعد سكوتٍ لحظي: «أظنك تعتبرني جاسوسة للعدو؟»

فقال مذكِّرًا إياها: «لقد أثبتِّ ذلك.»

اعترفَت قائلة: «بالنسبة إلى مراقبي — أو بالأحرى شريكي — فهذا صحيح. أما بالنسبة لي فهو غير صحيح. إنني وسيط شريف بين الشرفاء من شعبَي إنجلترا وألمانيا.»

فصرَّح قائلًا: «لا يمكن أن يكون هناك تواصل بين البلدين أثناء الحرب إلا من خلال القنوات الرسمية.»

هنا لمعت عيناها. بدَت كاثرين في خِضمِّ واحدة من دفقات الغضب العنيف الصغيرة التي كانت تُباغتها في بعض الأحيان.

وصاحت في اندفاع وجهدٍ قائلة: «أنت تتحدث … تتحدث كما يفترض أن تتحدث! ماذا فعلت القنوات الرسمية لإنهاء هذه الحرب؟ أنا لستُ هنا لأُعين أحد الجانبين. إنما أنا أمثل الإنسانية. إنك إن أتلفتَ هذه الرسائل أو سلمتها إلى الحكومة، ستُسدي لبلادك صنيعَ شر.»

هزَّ جوليان رأسه نافيًا.

وقال: «أشعر بالارتياح لسماع كل ما تقولين وأنا سعيدٌ أبلغ السعادة لأنك لا تعتبرين نفسك شريكة للمراقب. لكن من جهةٍ أخرى، ينبغي عليك أن تعرفي أن أي تحرك تجاه السلام، بعيدًا عن القنوات المخوَّل لها ذلك، يُعدُّ خيانة للبلاد.»

قالت في تأوُّه: «لولا أنك المبجَّل جوليان أوردين ابنُ أحد النبلاء الإنجليز!» وأضافت: «لولا أنك ذهبتَ إلى إيتون وأكسفورد! ليتك كنت رجلًا من الشعب يُمكنه أن يتفهَّم!»

فقال مطمئنًا إياها: «لم يكن لأصلي ولا تعليمي أيُّ تأثير على منظوري الحاليِّ للحياة.»

فقالت ساخرةً: «أف!» وأردفت: «تتحدث وكأنك قطعة ورق مقساة جامدة! إذن سأغادر غدًا من دون الرسائل؟»

فقال مؤكدًا: «بالتأكيد يجب أن تُغادري — حين تغادرين — من دونها. غير أن ثمة شيئًا آمُل حقًّا أن تتركيه لي.»

«ما هو؟»

«عفوك.»

سألته بعد أن سكتت لحظة: «عفوي عن ماذا؟»

«عن تهوُّري صباح اليوم.»

اتَّسعَت عيناها قليلًا من الدهشة.

وقالت من دون أن تجفل: «لأنك قبَّلتَني؟» وأردفت: «ليس هناك شيء لأعفوَ عنه.» وتابعت قائلة: «بل في الواقع، أظنُّ أنه كان سيوجد الكثير مما يستحق العفو لو لم تُقبِّلني.»

شعر جوليان بالحيرة المختلطة بالشجاعة. كانت كاثرين دائمًا ما تُحيره بتحولاتها المفاجئة من تلك المرأة الرصينة إلى تلك المرأة العاطفية التي تتوق لتبادل العواطف والمشاعر. في تلك اللحظة بدا وكأنَّ جنسها يغلب عليها فيُزيح كل شيء آخرَ جانبًا. كانت عيناها رقيقتين وتفيضان بالرغبة في الحب، وكانت شفتاها عذبتَين وترتعشان. فجأة، خلقت حولها جوًّا جديدًا، جوًّا من الأنوثة المتقدة والمربكة.

قال في رجاء: «هلا أخبرتِني فضلًا ماذا تعنين بذلك؟»

فأجابته برقة شديدة وإن كان بمسحةِ سخرية في نبرتها الخفيضة: «أليس ذلك واضحًا؟» واستطردت: «لقد قبَّلتَني لأنني دعوتُك لذلك عمدًا. أنا متأكدة من ذلك تمامًا. إنما غضبي من نفسي، وكنت غاضبة من ذلك.»

كان جوليان مندهشًا بعض الشيء. كانت تلقائيتها ساحرة ومحيِّرة قليلًا.

فقال معترفًا: «لا شك أنكِ بدَوتِ مثيرة، لكن كان ينبغي عليَّ ألا أنسى.»

قالت متنهدةً: «أنت أحمق للغاية. إنما طلبت عناقك عمدًا. وما كان إحجامك عن فعل ذلك سوى إضافةٍ إلى الإهانة التي أشعر بها. أنا غاضبةٌ من نفسي؛ لأن مثل هذا الشيء لم يحدث لي من قبل، على الرغم من أنني عشتُ جزءًا كبيرًا من حياتي مع الرجال، وكنت أقف على قدم المساواة معهم، وأعمل معهم، وألهو معهم، وأراهم في جميع الأوقات أكثرَ مما أرى بنات جنسي.»

قال ببساطة: «استشعرت ذلك.»

أشرق وجهها لحظة. لاحت في عينَيها نظرةُ امتنان. وخلَّف إمساكها التلقائيُّ ليده خَدَرًا في أصابعه.

غمغمَت قائلة: «أنا سعيدة لأنك تفهمت ذلك. ربما سيساعدني هذا قليلًا. أما بالنسبة إلى البقية فستنساه إذا ما أردتَ أن تكون كريمًا.»

فوعدَها قائلًا: «إن لم أستطع فعل ذلك، فعلى الأقل سأُغلق صندوق ذكرياتي.»

قالت متوسِّلة: «افعل ما هو أكثرُ من ذلك، ألقِ بمفتاحه في البحر، أو أي وسيلة تشاء كي يصيرَ الأمر في طيِّ النسيان. إنَّ لحظاتٍ كتلك ليس لها مكان في حياتي. فثمة غاية واحدة لديَّ، وهي أقوى من أي شيء آخر، ومن سخرية القدر الكئيب أنه يبدو أنك تمتلكُ الآن القدرةَ على تدمير هذه الغاية.»

ظل جوليان صامتًا. فقد بدت تعبيراتُ الندم المعتادة غيرَ ملائمة كثيرًا. بالإضافة إلى أن سحر اللحظة كان يتلاشى. كان الوجه الآخر من شخصيتها يُعيد التأكيد على حضوره.

استطردَت بشيءٍ من الكآبة قائلة: «أعتقد أنني حتى لو أقسمت لك بشرفي، ومن واقع معرفتي الأكيدة، على أن تسليم هذه الرسائل في موعدِها قد يُنقذ حياة الآلاف من بني وطنك، ويُنقذ الكثير من القلوب من الانفطار، والكثيرَ من المنازل من الدمار والخراب؛ حتى لو أخبرتُك بكل هذا، فهل سيساعدني ذلك في استجدائي لك؟»

قال مطمئنًا إياها: «لا شيء يمكن أن يساعدك سوى ثقتك الكاملة، وأخشى حينها أن النتيجة ستكون مشابهة.»

تمتمَت قائلة: «أوه، يا لك من قاسٍ!» وأردفت: «ثقتي مِلكٌ للآخرين. إنها ليست ملكًا لي وحدي لكي أمنحك إياها.»

فقال موضحًا: «أتعلمين، إنني أعرف مسبقًا أنك تتحدثين بالحقيقة كما ترَينها. أعرف مسبقًا أن أي مخطط أنتِ ضالعةٌ فيه إنما هو من أجل مصلحة إخوتنا في الإنسانية وليس للإضرار بهم. لكن للأسف! أنت تُنصِّبين نفسك قاضيةً على تلك الأمور، وهناك أوقات يكون فيها المجهود الفردي أخطرَ شيء في الحياة.»

تنهدت قائلة: «لو أنك شخص آخر!»

قال محتجًّا: «لماذا تنحازين ضدي؟» وأردف قائلًا: «صدقيني، أنا لست بشخص عابث طائش. أنا أيضًا أفكر في الحياة ومشاكلها. أنتِ نفسك من الطبقة الأرستقراطية. فلمَ لا أتعاطف مثلك مع من يعانون وأشعر بهم؟»

قالت مذكرةً إياه: «أنا روسية، والأمر في روسيا مختلف. إلى جانب ذلك، فلم أعد من الطبقة الأرستقراطية. إنما أنا مواطنة في هذا العالم. لقد زهدتُ كل شيء في الحياة عدا شيء واحد، وفي سبيله عملت بكل ما أوتيتُ من جهد وطاقة. أما بالنسبة إليك، فماذا فعلت؟ ماذا قدَّمت؟»

أقرَّ قائلًا: «أخشى أنني لم أقدِّم شيئًا يُذكر. فكما تعلمين، تداخلَت فترة تجنيدي القصيرة مع بدايتي الواعدة للغاية في المحاماة.»

فقالت: «ليس لك مجال مِهني محدَّد في الوقت الراهن. بل كنت تُضيع وقتك في الرقابة.»

«إنني بصدد العودة إلى مهنتي.»

قالت ساخرة: «مهنتك!» واستطردت: «هذا يعني أنك ستقضي وقتك في نزاعٍ مع عدد آخر من الأشخاص ذوي الشعر المستعار والأفق الضيق بشأن تفاصيل قانونيةٍ غير مهمة لا تؤدي إلى أي شيء، ولا يهتمُّ لأمرها أحد.»

«هناك مهنتي بالصحافة.»

«لقد لعنتها حين أطلقت عليها «الصحافة المأجورة»!»

«قد أدخلُ البرلمان.»

ردت قائلة: «نعم، لكي تحفظ حقوقك.»

فقال متنهِّدًا: «يؤسفني أنك لا تُحسنين الظن بي.»

فقالت: «بوسعك أن تجعلني أراك أشجع وألطف الرجال وأكثرَهم حصافة.»

هزَّ جوليان رأسه.

«أرفض أن أُفكر في أن نظرتك لي ستتحسَّن بأي حال بارتكاب فعل شائن من أجلك.»

فقالت متوسِّلة واضعةً يدها مرة أخرى على يده: «جربني. إذا ما أردتَ أن تحظى بمشاعري الطيبة وامتناني الدائم، فهما لك. أعطِني تلك الرسائل.»

قال بنبرة حازمة عنيدة: «مستحيل. إن كنت ترغبين في أن تُغيري موقفي تجاه تلك الرسائل، لا بد أن تخبريني بالضبط عن مُرسلها ومحتواها ولمن ستذهب.»

«أنت تطلب المستحيل … أنت تجعلني أندم …»

«تندمين على ماذا؟»

قالت في جُرأة: «أندم لإنقاذي حياتك. لماذا لا أندم على ذلك؟ هناك الكثير ممن سيُعانون ويفقدون حياتهم بسبب عنادك.»

«إن كنتِ تعتقدين ذلك، فأفضي لي بالأمر.»

هزَّت رأسها في حزن.

«فقط لو كنتَ مختلفًا!»

قال محتجًّا: «أنا إنسان. لديَّ قلب ومشاعر تعاطف. يمكنني أن أُضحي بحياتي عن طيب خاطر من أجل أن أمنع وقوع أي مجزرة.»

تمتمت في يأس: «لا يمكنني أن أجعلك تفهم أبدًا. ولن أحاول. لا أجرؤ على المجازفة بالفشل. أهذه الغرفة حارة، أم أن ذلك من وحي خيالي؟ هل يمكن أن تفتح إحدى النوافذ؟»

«بكل تأكيد.»

سار جوليان بالاتجاه الآخر من الغرفة ورفع الستار من أمام إحدى النوافذ العالية المطلة على البحر. وعلى اللوح الذي يكسو الجدارَ بين النافذة التي اتجه إليها والنافذة التالية لها، كان هناك مِرآة طويلة مذهَّبة من أطلال زمن سابق، يعود إلى بضع مئات من السنين، حين كانت الغرفة تُستخدم كغرفة استقبال. ومن قبيل الصدفة البحتة، ورغبةً في الاستمتاع باستراق نظرة خاطفة على كاثرين، تصادف أن نظر جوليان في المرآة وهو ينحني نحو قفل النافذة. وقف جوليان لحظة متسمرًّا في مكانه. كانت كاثرين قد نهضت واقفة، دون أي أمارة على شعورها بالإجهاد، ومالت على الصينية التي وضع عليها شراب الويسكي والصودا الخاص به، وكانت في أثناء ذلك في حالة من التوتر والحذر. كانت يدها ممدودة. ورأى جوليان خيطًا رفيعًا من مسحوق أبيض يقع في الكأس. راوده شعور حاد وممرض بالخيبة كاد يجعله يتأوه. لكنه غالبَ شعوره بصعوبة، وفتح النافذة بضعة إنشات، ثم عاد إلى مكانه. كانت كاثرين مستلقية في الكرسي وعيناها شبه مغلقتين، وذراعاها يتدلَّيان من جانبي الكرسي في خمول.

سألها جوليان: «هل تشعرين بتحسن؟»

قالت مطمئنةً إياه: «كثيرًا. لكن أظن أنني سأخلد إلى الفراش إن كنت لا تمانع. فأنا أعاني من نوبة عصبية شديدة قلما تنتابني. اشرب الويسكي والصودا، ثم هلا اصطحبتني بعد ذلك إلى غرفة الاستقبال؟»

ظل جوليان يعبث بكأسه وهو مستغرقٌ في التفكير. كان أول ما خطر بباله أن يُسقطه. غير أنَّ ثمة تدخلًا خارجيًّا كان على وشك الحدوث. فقد انفتح الباب، ودلفَت الأميرة برفقة اللورد شرفينتون.

صاحت الأولى قائلة: «أخيرًا!» وأردفَت: «كنت أبحث عنكِ في كل مكان يا طفلتي. أعرف أنك تشعرين بالإنهاك، وأصرُّ على أن تخلدي إلى الفراش.»

توسَّلَت كاثرين إلى جوليان قائلة: «أنهِ شراب الويسكي والصودا، وسأتكئ على ذراعك حتى الدرج.»

مدَّت كاثرين يدها اليُمنى لتساعده. وأمسكت الأميرة بابنة أخيها.

وقالت في إصرار: «سأعتني بكِ بنفسي. فالسيد أوردين مطلوب للعب البلياردو. اللورد شرفينتون يتوق إلى مباراة.»

أجاب جوليان بسرعة: «سيكون هذا من دواعي سروري.»

واتجه نحو الباب وفتحه وظل ممسكًا به. أعطته كاثرين أصابعها وابتسامةً صغيرة بها شيء من الشك.

وقالت متنهدة: «فقط لو لم تكن متعنتًا إلى هذا الحد القاسي!»

لم يجد كلماتٍ للرد عليها. فقد كان لا يزال تحت وطأة صدمة ما اكتشفه.

ناداه اللورد شرفينتون مبتهجًا وقال: «ستُعطيني ثلاثين نقطةً من مائة كل نقطة تُحرزها. وأغلق ذلك الباب بأسرعِ ما يمكن، إذا تكرمت. ثَمة تيار هواء عنيف للغاية.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤