الفصل التاسع

انتهت سهرة جوليان في ساعةٍ غير محددة من الصباح الباكر، وفي ذلك الحينِ أُدير مقبض باب حجرته ببطء، وفُتح الباب ثم أُغلق مرةً أخرى. كان جوليان يرقد ممددًا على سريره ولم يكن قد استعدَّ للنوم تمامًا بعد؛ إذ كان هناك ثيابٌ ليلية ملفوفة حول جسده، واستمر جوليان يتنفس بعمقٍ وعيناه نصف مغلقتين ويتسمَّع بانتباهٍ شديد إلى صوت رفرفة الثياب الخفيفة، وصوت خطوات خفيض، يكاد يكون صامتًا، لأقدام خفيفة. سمعها جوليان تعبث في سُترة السهرة، وتبحث في الجيوب، وسمع صوتَ فتح وإغلاق الأدراج خِلسةً في دولابه. وسرعان ما اقتربت الخطوات نحو فراشه. وللحظةٍ اضطُر جوليان إلى أن يحبسَ أنفاسه. وجاءته نفحةٌ صغيرة من عِطر غريب غير معروف وكان آسرًا ومنفِّرًا في الوقت نفسِه، فشعر جوليان بشعور مزعج إذ كان يألفُه. توقفَت بجوار فراشه. وشعَر بيدها تتسلل تحت وسادته التي كان رأسه يُلامسها بالكاد، ثم راحت تبحث في جيوب رداء نومه، بل فتَّشَت السرير. أنصتَ جوليان لصوت أنفاسها الرقيقة. كان إدراكه لوجودها القريب واللصيق بجواره قد أثَّر فيه بطريقةٍ تتعذر على التفسير والشرح. ثم سرعان ما ابتعدت منسلَّةً عن جواره، ما أشعره بارتياحٍ بالغ، ثم جاءت اللحظة التي كان ينتظرها. سمع جوليان خطواتها وهي تتراجع إلى حجرة جلوسه الصغيرة عبر الباب الواصل بينها وبين حجرة نومه، حيث تعمَّد تركها مضاءةً قليلًا. انسلَّ جوليان في هدوء شديد من فِراشه وتبعها. كانت تميل فوق مكتبٍ مفتوح حين عبر عتبة الباب بين الحجرتَين. فأغلق جوليان الباب ووقف مولِّيًا ظهره إليه.

ثم قال: «هنا أدفأ بكثير، لكنها ليست هنا كما ترَين.»

انتفضَت بشدةٍ عندما سمعت صوته، لكنها لم تلتفت إليه في الحال. وكان تصرفها هذا صادمًا له. لم يكن في أسلوبها أيُّ شيء يدل على التوتر أو الأسف. فقد لمعت عيناها وهي تنظر إليه في غضب. كانت ترتدي شالًا فضفاضًا أحمرَ اللون ومزخرفًا بفروٍ أبيض، وكانت ترتديه بلا هندام بصورة غير مألوفة، وجذابًا إلى حدِّ الإثارة.

صاحت في سخط قائلة: «إذن كنتَ تُمثل أنك نائم!»

فأقرَّ قائلًا: «بالضبط.»

لم يتحدَّث أيٌّ منهما للحظة. وقعت عيناها على كأسٍ من الويسكي والصودا كان موضوعًا على طاولة مستديرة بجوار كرسيه الوثير.

قال جوليان مطمئنًا إياها: «لم أخلد إلى الفراش ظمآن. لقد تناولتُ كأسًا أخرى في الأسفل أعددتُه لنفسي. أما هذا فقد أحضرته هنا معي لكي أرى إن كان بإمكاني تذكرُ ما يكفي من دراستي للكيمياء بما يُعينني على تحديد محتوياته. وما أراحني كثيرًا أنني خلصتُ إلى أن نيتَكِ على الأرجح كانت أن تكتفي بإدخالي في نوبةِ سُبات مؤقَّت لا غير.»

فقالت بنبرة هادئة: «أردتُ أن أُزيحك عن طريقي بينما أُفتِّش في غرفتَيك. لو لم تكن ذلك الشخصَ المتعنت العنيد القاسي المتحيز، لما كان ذلك ضروريًّا.»

فتمتمَ قائلًا: «يا إلهي!» وأردف: «أكل تلك الصفاتِ فيَّ؟ ألن تجلسي؟»

بدَت كاثرين للحظة وكأنها على وشك أن تضربه بالمشعل الكهربائي الذي كانت تُمسك به. لكنها وبعد جهد كبير للسيطرة على نفسها، غيَّرَت رأيها وألقت بنفسها في كرسيه الوثير بإيماءة صغيرة تشير إلى لا مبالاة من جانبها. جلس جوليان في مواجهتها. وعلى الرغم من أنها أشاحت بوجهها عنه قدر استطاعتها، أدرك في غضون تلك اللحظات القليلة أنها تنعم حقًّا بجمال استثنائي. كان سلوكها مفعمًا بالبهاء الغاضب. وكان ارتعاشُ شفتَيها هو العلامةَ الوحيدة على ضعفها. وكانت عيناها مفعمتين باستياءٍ فاتر.

قالت كاثرين: «حسنٌ إذن، ها قد صرتُ أسيرةً لديك. كلِّي آذان مصغِية.»

«أعتقد أنكِ تبحثين عن الرسائل؟»

قالت ساخرةً: «يا للدهاء!» وأردفَت: «لقد ائتمنتُك عليها، وأنت تصرفتَ بهمجية وفظاظة. لقد تحفظتَ عليها. وليس لك من الأمر شيء. ليس لك الحقُّ في امتلاكها.»

قال مقترحًا: «لنتفاهم معًا، مرةً واحدة وإلى الأبد. لن أناقش حتى مسألةَ مشروعية حيازتها من عدمها. الرسائل بحوزتي، وسأحتفظ بها. ولا يُمكنك أن تحتالي عليَّ لأخذِها مني، ولا يُمكنكِ سرقتُها مني. سآخذ الرسائل غدًا إلى لندن وأعطيها لصديقي في وزارة الخارجية. وما من شيء يمكن أن يدفعَني لتغيير رأيي.»

بدَت فجأةً وكأنها علقت في دوامةِ شعورٍ جديد. فقد لاح في تعبيراتها شعورٌ كبير بالمرارة. جثت كاثرين على ركبتيها إلى جواره، ومدَّت يدها متلمسةً الطريق إلى يديه، ورفعت وجهها، الذي كان مفعمًا باستجداءٍ وتوسُّلٍ بالغَين. وكانت عيناها مغرورقتَين بالدموع وصوتها بائسًا مثيرًا للشفقة.

قالت في رجاء: «لا تكن فظًّا قاسيًا بهذا الشكل. أقسم أمام الربِّ إن تلك الرسائلَ لا تحمل شيئًا من الخيانة، وإنها الرابط الأساسيُّ الوحيد في مخططٍ إنساني عظيم. كن كريمًا يا سيد أوردين. جوليان! أعدها لي. إنها ملكي. أقسم …»

أمسكَت يداه بكتفيها. شعرت أنه ينظر خلفها، وأن عينيه تحملان نظراتِ ذعر. تلاشت الكلمات من فوق شفتيها. ثم أدارت رأسها هي الأخرى. كان باب حجرة الجلوس قد فُتِح من الخارج. وكان اللورد مالتينبي واقفًا في ثياب نومه، ويده ممدودة خلفه وكأنه يُحاول أن يمنع شخصًا خلفه من اتباعه.

تساءل اللورد بنبرة صارمة: «ما معنى هذا يا جوليان؟»

ظل جوليان واجمًا للحظة، فاقدًا للقدرة على الحديث أو الحركة. كانت كاثرين لا تزال راكعةً في مكانها. ثم أُزيح اللورد مالتينبي جانبًا بفظاظة وبلا تكلُّف. كانت الأميرة من دخلت بعده.

صرخَت قائلة: «كاثرين!» وكررت: «كاثرين!»

نهضَت الفتاة ببطء. كانت الأميرة متكئةً على ظهر كرسي، تُكفكِفُ دموعها بمنديلٍ وتنتحب بصورة هستيرية. ثم سُمع صوت اللورد شرفينتون من الخارج.

تساءل: «ما كل هذه الجلَبة بحق السماء؟»

اجتاز العتبةَ هو الآخر وظلَّ متسمرًا في مكانه. أغلق الإيرل الباب بقوة ووقف موليًا ظهره إلى الباب.

ثم قال: «هيا، لا نريد مزيدًا من المشاهدين لهذا المشهد الشائن. أرجو أن تتذكر يا جوليان أنك لستَ في شقة العزوبية خاصتك. أنت في المنزل الذي تُشرِف عليه والدتك. هل لديك أي سبب لتُقدمه أو عذر تدفع به يجعلني لا أطلب من تلك الفتاة أن تغادر المنزل مع انبلاج الفجر؟»

فأجابه جوليان: «ليس لديَّ عذر يا سيدي، لكن لديَّ سببًا بالتأكيد.»

«ما هو؟»

«أنك بذلك تُوجِّه إهانةً للفتاة التي وعدتني بأن تكون زوجةً لي. أنا مدرك تمامًا أن وجودها في حجرة جلوسي أمر غير عادي، لكن في ظل هذه الظروف لا أرى أنني مطالَب بتقديم تفسيرٍ عام. ولن أقول شيئًا سوى أن أيَّ تعليق قاسٍ سيُوجَّه إلى زوجتي المرتقبة سأعتبره إهانةً لها.»

توقفت الأميرة عن إصدار أصوات نحيبها وجفَّفت عينَيها. وكان اللورد مالتينبي واجمًا.

ثم تساءلت الأميرة بنبرة بائسة: «لكن لِمَ كل هذا الغموض؟» وأردفت: «هذا حدث رائع. لماذا لم تُخبريني يا كاثرين حين أتيتِ إلى غرفتي؟»

قال جوليان موضحًا الأمر: «كان ثمة سوءُ تفاهم بسيط. وقد زال الآن.» ثم أضاف: «كنا على شفا مأساةٍ بسببه. وبعد ما أخبرتكم به، أتمنى أن تنسَوا أي شيء قد يبدو لكم غيرَ عادي في الزيارة التي شرفَتني كاثرين بها.»

تنفَّس اللورد مالتينبي الصُّعداء قليلًا. ولحسن الحظ، أغفل تلك النبرةَ المسرحية في سلوك جوليان التي ربما كانت ستترك الموقفَ محلَّ شك.

قال اللورد مالتينبي في حسم: «حسن إذن يا جوليان، ليس هناك شيء آخرُ يمكن قولُه بشأن هذا الأمر. اسمحي لي يا آنسة آبواي أن أرافقك إلى حجرتك. يمكننا أن نؤجل أيَّ تفسيرات أخرى قد تُقررين تقديمها لنا إلى الصباح.»

قال جوليان: «ستجدون أن اللوم كله في هذا الحدث غيرِ الملائم يقع على كاهلي.»

تمتمَت كاثرين في ندمٍ قائلة: «كان الأمر كله خطئي أنا. آسفةٌ جدًّا إن كنتُ قد تسببت في كدرٍ لأي أحد. لا أعرف، حتى في هذه اللحظة …»

ثم التفتَت نحو جوليان. فانحنى إلى الأمام نحوها ورفع أصابعها إلى شفتَيه.

وقال: «الجميع منفعلٌ قليلًا يا كاثرين. وقد انتهى سوء الفهم الذي وقع بيننا. سموَّ الأميرة، هل لي أن أحاول كسب عفوك غدًا.»

ابتسمت الأميرة ابتسامةً باهتة.

وقالت متذمرة: «كاثرين في غير طبيعتها تمامًا.»

أمسك جوليان بالباب مفتوحًا، وانصرفوا جميعًا مصطفِّين في الممر الذي تراجع منه اللورد شرفينتون بخُطًى سريعة قبل وقتٍ طويل. وقف جوليان مكانه حتى وصلوا إلى منحنى الممر. فالتفتت كاثرين، التي كانت تستند على ذراع والده. ولوَّحَت بيدها في شيء من التردد. كانت بعيدةً عنه بحيث لم يتمكن من رؤية تعبيرات وجهها، لكن كان ثمة شيءٌ مثير للشفقة في خطواتها البطيئة المتململة التي بدت وقد تجردت من رشاقتها الحماسية التي كانت تتحلى بها قبل بضع ساعات.

لم تستفق كاثرين من حالة الخمول التي أمضت فيها الجزءَ الأكبر من رحلتهم إلى لندن إلا حين قاربوا على الوصول إليها عصر اليوم التالي. ومن مكانها في مقعد الزاوية في المقصورة التي جلسوا فيها في هدوء منذ غادروا ويلز، راحت كاثرين ترقب رفيقها عبر عينين نصف مغمضتين. كان جوليان يقرأ مقالًا في أحد أعداد جريدة «ريفيو» وظل غيرَ مدرك تمامًا لتمحيصها فيه. كان جبينه مغضَّنًا وفمُه ممطوطًا قليلًا في ازدراء. كان واضحًا أن لم يكن يستحسنُ ما يقرؤه تمامًا.

خلال تلك الساعات القليلة التي قضتها وحيدة، أدركت كاثرين تغييرًا طفيفًا يتنامى في بطءٍ في موقفها النفسيِّ تجاه رفيقها. فحتى حلول تلك الساعات الدراماتيكية في منزل مالتينبي، كانت كاثرين تعدُّه رجلًا لطيفًا بل جذابًا، لكنه ينتمي إلى نوعيةٍ من البشر لا تتعاطف معها قلبًا وقالبًا. كان في تصرفه الشهمِ الرزين في الليلة السابقة وما توصلَت إليه في أفكارها وتأملاتها بينما كانت جالسةً في مكانها تتفحصه؛ ما جعلَها تميل إلى التشكيك في دقة حكمها الأول عليه تمامًا. فقد وجدَت كاثرين شيئًا عقلانيًّا وقويًّا بصورة غيرِ متوقعة في حالة التركيز التي كان عليها في تلك اللحظة؛ في جبهته البارزة الشاحبة وعينَيه الغائرتين المنتبهتين. كانت قامته الطويلة وقوامه الليِّن أبعدَ ما يكون عن القبح، وكانت بذلتُه الرمادية المصنوعة من الصوف الخشن وحذاؤه البني المهترئ يبرزان الشكل المهمَل لرجل ليس في حاجةٍ إلى الاعتماد على مصمِّم ملابسه من أجل التميز. كانت يداه أيضًا قويَّتين وتنمَّان عن قدرة ومهارة. وجدَت نفسها فجأةً تتمنى لو كان الرجل نفسه مختلفًا، لو كان ينتمي إلى نوعية أخرى أكثر تجانسًا وتواؤمًا.

بمرور الوقت، وضع جوليان الجريدة التي كان يُطالعها ونظر من النافذة.

صرَّح بنبرة مهذبة دمثة: «سنكون في لندن في غضون ثلاثة أرباع الساعة.»

استقامت كاثرين في جلستها وتثاءبت وأخرجت علبة بودرة التجميل خاصتها، ونظرت في المرآة واستخدمت مذررة مسحوق التجميل بتلك الثقة الساحرة إلى حدٍّ ما التي تُميز الأجنبيات. ثم أغلقت علبة أدوات التجميل بضغطةٍ سريعة، وأنزلت حجابها ونظرت إليه.

سألته بنبرةٍ رزينة: «وكيف سيُرفِّه عني خطيبي هذا المساء؟»

رفع جوليان حاجبَيه.

ثم أجاب بصورة غير متوقَّعة: «أنا في خدمتك تمامًا، باستثناء نصف ساعة فقط.»

فصرَّحَت قائلةً: «أنا كثيرة المطالب. وأطلب وجودك في نصف الساعة تلك أيضًا.»

«أخشى أنني لن أسمح لأي شيء أن يُعطل الزيارة السريعة التي عليَّ القيامُ بها.»

«في داونينج ستريت؟»

«بالضبط!»

«أسَتَذهب للقاء صديقك في وزارة الخارجية؟»

«فور الوصول إلى مسكني.»

أشاحت بنظرها بعيدًا عنه ونظرت من النافذة. وتحت حجابها كانت عيناها دامعتين بعض الشيء. لم ترَ شيئًا من الحقول المقسَّمة بأناقة، ولا الريف المارِّ بجانبها. بدَت وكأنَّ المآسيَ تمر أمام عينيها؛ عتاد الجنود المخضب بالدماء في ساحة المعركة، والمنازل الخاوية المدمَّرة، ونحيب النساء وهن يتَّشحن بالسواد ويُحاولن جاهدين طمأنةَ أطفالهن في حين أن قلوبهن مفطورة. حين أشاحت بوجهها عن النافذة، كانت تعابيرُ وجهها متصلِّبة. مرة أخرى وجدت نفسَها تكره الرجل الذي كان يُرافقها. كانت تشعر في تلك اللحظة أنها قاتلة، أيًّا كان ما سيحدث بعد ذلك.

صاحت به قائلةً: «حين تخلد إلى نومك الليلة، اعلم أنك ستكون الرجل الأكثرَ تدنسًا بالدماء في العالم!»

قال في تأدُّب: «لن أُنازع صديقك هوهنزولرن في هذا اللقب.»

ردَّت وصوتها يهتزُّ من فرط الانفعال: «ليس بصديقي. أنا خائنةٌ في نظرك لأنني تسلَّمتُ رسالةً من ألمانيا. ممن أُرسِلت برأيك؟ من المحكمة؟ أم من المستشار، أم من أحد أتباعه الأوفياء؟ يا لك من أحمق! إنها مرسَلة من أولئك الذين يكرهون العسكر. إنها قادمة من ألمانيا التي خُدع شعبُها وخُنِق على مدى الحرب. إنها آتية من الشعب الذي حاول ساستُك الوصول إليهم وفشلوا.»

قال جوليان ببرود: «الاقتراح مثير، لكنه بعيد الاحتمال.»

قالت وهي تميل قليلًا إلى الأمام وتنظر إليه بثبات: «أتعلم أنني لو كنتُ خطيبتَك بحق — أو لو كنت زوجتك، وهو الأسوأ! — أظن أنني كنتُ سأتحول لقاتلة في غضون وقت قصير!»

«أتكرهينني إلى هذا الحد؟»

«أكرهُك! أعتقد أنك أكثر مخلوق غبي وعنيد ومغرور وجاهل دمَّر قضية عظيمة من قبل.»

تقبَّل جوليان كلماتها التي نزلت عليه كسوطٍ لاذع، دون إبداءِ أي علامة على شعوره بالإهانة؛ بل بدا، في الواقع، أنه يفكِّر فيها بإمعان.

وقال محتجًّا: «لقد أضعتِ الكثير من وقتكِ وطاقتكِ في إهانتي. لماذا لا تُبررين لي الأمر؟ أخبريني بقصتك وقصة أولئك المتورطين معك في تلك المراسلات السرية مع ألمانيا؟ إن كنتم تعملون من أجل غايةٍ نبيلة، فأعلميني بها. أنتِ تلومينني على الحكم الذي أصدرتُه عليكِ، على حفاظي على رباطة جأشي. أتعلمين، أنتِ شخص مسئول.»

فأجابته لاهثةً: «بل ألومك لكونك ما أنت عليه. لو كنتَ شخصًا يفهم، وتشعر بالحراك العظيم للإنسانية خارج حدود دائرتك الصغيرة، وبإمكانك أن تنظر عبر الحدود وتُدرك أن الجنسية ما هي إلا شيء عرَضي وأن الأخوَّة في الإنسانية عبر أرجاء العالم هي الحقيقة الواقعية الوحيدة الجديرة بأخذها بعين الاعتبار … آه! لو كان بإمكانك إدراكُ هذه الأشياء، لاستطعتُ التحدث وتوضيحَ الأمور لك.»

«أنتِ تحكمين عليَّ بطريقة استبدادية بعض الشيء.»

«أحكم عليك من واقع حياتك، وانحيازاتك، وحتى من وجهات نظرك التي عبَّرتَ عنها.»

فقال لها على سبيل التذكِرة: «البعض منا يكون الصمتُ بالنسبة إليهم هبةً قومية. يروق لي ما قلتِهِ للتو. لماذا تُسلمين بأنني إقطاعيٌّ ضيق الأفق؟ لماذا لا تصدقين أنني أيضًا أشعر بالأهوال التي نراها اليوم؟»

صاحت قائلة: «أنت تشعر بها بصورة فردية وليس بصورة موضوعية. أنت تشعر بها بعقلك لكن ليس بقلبك. لا يمكنك أن ترى أنَّ ثمة روحًا من أصل واحد تعيش في الفلاح الروسي والعامل الألماني والعامل الإنجليزي الكادح والصانع الفرنسي. إنهم جميعًا يُضحُّون بدمائهم من أجل حلمهم، الذي هو حلم رجل سياسي. نحن لا نظفر بالحرية بالحروب. بل لا بد أن نظفر بها — إن قُدِّر لنا ذلك — من خلال التضحية المعنوية وليس بالدم.»

فقال في رجاء: «إذن اشرحي لي ماذا تفعلين بالتحديد؟ ما مبرركِ في التواصل مع الحكومة الألمانية؟ تذكَّري أن الرسالة التي اعترضتُها لم يكن مصدرها مجردَ شخص في ألمانيا. بل كانت ممن هم في السلطة.»

فأجابت: «مرةً أخرى هذا ليس صحيحًا. كنتُ سأطلب الإذن لكي أشرح لك كل هذه الأشياء، لولا أن ذلك أمر ميئوسٌ منه تمامًا.»

فذكَّرها قائلًا: «ستكون قضيةُ زملائك ميئوسًا منها أكثرَ على الأرجح، بعد الليلة.»

هزَّت كاثرين كتفيها في لا مبالاة.

وقالت بنبرةٍ جادة: «سنرى. لم تُفاجئ الثورةُ الروسية أي أحد. لربما تزعزع ثورةٌ إنجليزية كلَّ شيء حتى ثقتك بنفسك.»

لم يرد عليها. وتجمَّد الدم في عروقها، وكان بمقدورها أن تُوجه له لطمةً بسبب تلك الابتسامة الخافتة، التي نمَّت عن تندُّر، والتي ظهرت على شفتَيه لحظة. كان جوليان قد نهض بالفعل وشرع يجمع متعلقاتهما.

سألها قائلًا: «أيمكنكِ أن تُساعديني فيما يتعلق بالتفسيرات التي سيكون علينا أن نُقدمها لعمتك ولأهلي؟ لقد غادَرْنا هذا الصباح، إن كنتِ تذكرين، لكي تزوري السفارة الروسية وتُعلني عن خِطبتنا. وأعتقد أنكِ ملزَمةٌ بالعودة والمكوث مع أمي.»

ردَّت قائلةً: «لا يمكنني التفكير في تلك الأشياء اليوم. يمكنك أن تقول إنني متعبة وإنك كان لديك عمل. أنت تعرف عنواني. فهل لي أن أتشرف بمعرفة عنوانك؟»

أعطاها بطاقة وكتب عليها رقم هاتف. كانا في هذه اللحظة في المحطة، وأمتعتهما في يدَي اثنين من الحمالين. كانت كاثرين تسير ببطء إلى جواره على رصيف المحطة.

فبادرها بقوله: «هلا تسمحين لي بأن أُعبِّر عن مدى أسفي لكلِّ هذا؟»

سرَّتها نبرةُ عدم اليقين الطفيفة في كلامه. فرفعَت نظرها إليه في ندمٍ عميق. وحين اقتربا من الحاجز، مدَّت يدها إليه.

وقالت بنبرة مرتعشة قليلًا: «أنا أيضًا آسفة أكثرَ مما يُمكنني أن أخبرك. وأيًّا كان ما سيحدث، فإن هذا هو ما أشعر به. أنا آسفة.»

وبهذه الكلمات افترقا. دنا من كاثرين رجلٌ نظر إليه جوليان نظرة سريعة لبرهة في دهشة، وكان ملبسه وهيئته يُشيران بوضوحٍ إلى انتمائه إلى مستوًى اجتماعي مختلف، رغم ما بدا فيهما من ثقة. رمق الرجل جوليان بنظراتٍ تنم عن استياءٍ بدا مشوبًا بشيء من الغيرة. ثم أمسك بيد كاثرين في حرارة.

«مرحبًا بعودتك إلى لندن يا آنسة آبواي! ما أخبارك؟»

لم يكن ردُّها مسموعًا. فقد أسرع جوليان في خطاه وسبقهما إلى الخروج من المحطة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤