الطب والأطباء

قال عيسى بن هشام: ولما حال أمرُنا من المحكمة إلى الأوقاف، وعلمَ الباشا بما هنالك من قلة الإنصاف، وأنه لا بد لنا من أن نطيل الالتماس والرجاء، ونكرر الدعاء والنداء، ونكثر من الغدوّ والرواح، في كل مساء وصباح، فنُبلِي في هذا الديوان جدَّة الزمن، ونقف عليه وقوف العاشق على الدِّمن، ولما هو مستفيض من اختلال أعماله، واعتلال عماله، وفساد إدارته، وسوء نظارته، نَزَل به من الهم والغمّ، ما أورثه الضَّنى والسَّقم، وحل به من الحزن والكمد، ما أخل بنظام الجسد، فغَدا هزيلًا نحيلًا، ووقع مريضًا عليلًا، فأشرت عليه بالطبيب، قال: يخطئ ولا يصيب، وماذا يجدي العلاج وما يفيد، وللآجال توقيت وتحديد؟! فأقنعتهُ بأن الاعتقاد بتحديد الأجل، لا يمنع من مداواة العلل، وسبحان من أرشدنا إلى الدواء، عند حلول الداء، لالتماس الشفاء، فقبل إشارتي بعد طول الإباء، فجئت له بأحد الأطباء، من ذوي الشهرة بالبراعة، في ممارسة الصناعة، فجلس بجانبه يجسُّ نبضه ويقرع صدره، ثم استلم قلمه وولَّاه ظهره.

وأخذ يرقم أصناف العلاج، بيد دائمة الاختلاج، ثم قال: دونكم هذا الدواء، جرعة في الصباح وأخرى في المساء، ولا تأخذوه إلا من صيدلية فلان فإنه صادق مؤتمن، لا يغشُّ في التركيب ولا يُغلي في الثمن، ثم وقف عند المرآة يسوِّي مفرق شعره، ويصقل ما استطال من ظفره، ويرسل اللحظات تباعًا نحو الباب، بنظر مستراب، كأنه يريد أن يستشف ما وراء الحجاب، من آنسةٍ في الخدر أو كعاب، ولما أعوزهُ ما تفقده، طلب أن يغسل يده، وقال: إني أرى حالة المريض شديدة، تَقضي بعيادته أيامًا عديدة، حتى ينتهي المرض من شدته، ويتلطف من حدته.

ومضت مدة والطبيب يذهب ويعود، ودرجة الحرارة لا تفتأ في صعود، والمريضُ يهذي في شدة حُمَّاه، وأنا أتضرع وَا رُحماه، حتى كدت أيأس من الشفاء، وأُسلم لحكم القضاء، ولكن زارني أحد الأصدقاء، ممن يولعون بالطب والأطباء، فقال لي وهو يبصر حالته: من الطبيب الذي يعالج علته؟ فقلت: هو الشهير فلان، قال لي: علمت السبب الآن، وأنا أنصحك أن لا تعتمد في الطب، إلا على أطباء الغرب، أولئك قوم قد برعوا في معرفة الأمراض، وتشخيص الأعراض، وأحاطوا بكل جليل وحقير، من البسائط والعقاقير، فالأدواء لا تستعصي في أيديهم، وليس بين الوطنيين من يماثلهم أو يدانيهم، وأنا آتيك بمن هو فيهم أوسع معرفةً وعلمًا، وأشهر صيتًا واسمًا، وقام فعاد بأجنبي يهد الأرض بخطواته، ويكثر من إشاراته ولفتاته، فتقدم نحو المريض فجس ولمس، ثم قطب وعَبس، ووضع طرف منديله على أنفه، وقال لنا في صَلَفه وعُنفه: إن هواء الغرفة فاسدٌ قتال، وداءُ المريض داءٌ عضال، ولا رجاء إلا باتباع إشارته، في تواتر زيارته، ثم هَزَأ بما رآه من دواء الطبيب الأول، بعد أن كتب علاجه بوصفٍ مطوَّل، وقال: لا يُحسن تركيب هذه الأجزاء إلا صاحب «صيدلية الشفاء»، وما زال هذا الطبيب أيضًا يذهبُ ويحضر، والعلاجُ يتجدد ويتكرر، والمريضُ يتألم ويتضجر، والمرضُ باقٍ لا يتقدم ولا يتأخر، حتى جاء في خاطري أن أجمع منهم جماعة للاستشارة والمداولة، فنخلص من هذه المراوغة والمطاولة، فلما اجتمعوا وقعوا في الحِجَاج واللجاج، ولم يتوافقوا على تشخيص الداء أو تقرير العلاج، وأقام كل واحد منهم منفردًا برأيه، لا يهتدي إلَّا بهديه، وسمعت بينهم مَنْ يقول لرفيقه، لا ينبغي أن نوافق فلانًا في تحقيقه، كما أنه لم يوافقنا على رأينا في الاستشارة الماضية، وأنكر علينا جميع أدويتنا الشافية.

ثم خلَّفوني ونزلوا على الخلاف، وإن كانوا اتفقوا في تناول الأجرة عند الانصراف، وكنت شاهدت بينهم طبيبًا يُظهر نفوره من طريقتهم، ويجري معهم على غير حالتهم، فأرسلت في أثره مَن دعاه، وكاشفتُه بأنني اخترته على سواه، فقال لي: إن علَّة المريض بسيطة فيما أراه، لا يجب فيها هذا الاختلاف والاشتباه، ولعلها ناشئة عن انفعالات نفسانية، من هموم فجائية، فقلت له: نعم أصبت في النظر، ثم أخبرتُه بجملة الخبر، فقال: الآن تبين أن معالجة الأطباء كانت بغير اهتداء، ولا يلزم لعلاجه إلا الامتناع عن هذه المركبات، والاكتفاء ببعض البسائط من النبات مع جودة الغذاء، وتبديل الهواء، فأيقنَّا حينئذ بمهارته، وسلمنا لإشارته، فلم يمض إلا بضعة أيام حتى انتقلنا من دَور السقم والاعتلال، إلى دور النقاهة والإبلال، وجلس الباشا ذات يوم إلى الطبيب يشكره على حذقه وبراعته، ويحاورنا في الحديث على حسب عادته:

الباشا : كيف اهتديتَ أيها الطبيب إلى ما لم يهتد إليه سواك من الأطباء فأدركتَ سبب علتي، وأحسنت تشخيص مرضي، وأصبت في اختيار العلاج فكان الشفاء؟ لا شك عندي أنك نادرة عصرك ونابغة زمنك.
الطبيب : لا فضل لي يستحق كل هذا المدح والثناء، والسبب في خطأ الأطباء أن العدد الأعظم منهم يسيرون في ممارسة صناعتهم على طريقة معيَّنة ودائرة محدودة قررتها العادة فيهم، فهم لا يتخطَّونها ولا يتعدَّونها، فترى كل واحد منهم يحصر في ذهنه عدة أمراض معلومة وعلل معروفة، فيطبق عليها كل ما يراه من الأعراض التي تظهر له في عامة المرضى — والأعراض تختلف وتشتبه — فيحكم بمعرفة الداء ويأمر بالدواء المعيَّن لذلك المرض المعين بقطع النظر عن الفحص والتأمل في حال المريض أو البحث، والتدقيق في معرفة الأسباب المادية والأدبية التي يرجع منشأ المرض إليها، ولا يكلف ذهنه التبصر أو التصرف على حال من الأحوال، فيعيش في أسر العادة وقيد الطريقة لا يعبأ بالبحث في اختلاف الأمزجة وتباين الغرائز، وتفاوت المعايش وتغاير القُوَى في البُني؛ فلذلك يكثر منهم الخطأ ويقل الصواب.
عيسى بن هشام : كأنك تريد أنهم يكونون على مثل حال أهل الصناعات الآليّة الذين يحل فيهم مجرى العادة محلَّ إعمال الفكرة؛ فتنطلق أيديهم على وجهٍ واحدٍ وتنصرف أفكارهم عن التصرف أو التفنن في وجوه شتَّى.
الطبيب : نعم لقد أصبت في التشبيه، وغير ذلك فإن بين هؤلاء الأطباء من لا يرى في صناعته إلا آلة لاجتلاب الرزق واصطياد الربح، واستدرار الدرهم والدينار حتى يصلوا إلى اكتناز الأموال، ويصبحوا في مصاف أهل الغنى والثَّراء لا يبالي أحدهم أيَّ باب طرق ولا أيَّ سبيل قصد للتوصل إلى هذا الغرض المطلوب، فكل الوسائط لديه مقبولة وكل الطرق عنده مسلوكة، فهو يدخل على المريض طامعًا في ماله لا طامعًا في شفائه، فيحتال له أنواع الحيل لتطول مدته في المرض فيتسع نصيبه من الأجرة، فيعطيه من أصناف الأدوية ما لا ينفع ولا يضر، أستغفر الله بل ما يضر ولا ينفع ليبقى المريضُ في حاجة دائمة إلى تجدد العيادة والزيارة، وفي كل مرة يصف له نوعًا حديثًا وصنفًا جديدًا من المركَّبات التي يعظم ثمنها بمقدار ما يقل نفعُها، وينفسح له بذلك طريق للكسب والربح فوق أجر العيادات يرصده له الصيدلي في دفتر شركتهما؛ ليقاسمه أرباح تلك الأثمان الفادحة لتلك الأدوية المتكررة، فيضرب الطبيب في صناعته بقدحين، ويصيب في الكسب بسهمين، بعد أن يملأ جوف العليل من كل دواءٍ ضار، ويخلي كيسه من كل فضة ونضار.
ومن أولئك الأطباء من يجعل همه منصرفًا إلى الإبداع والتفنن، في وجوه التزيِّي والتزيُّن، ويسلك سبيل التصنع والتكلف، في أبواب التظرف والتلطف، ثم يتفنن ما استطاع في حسن المحاضرة، ويتعمد رقة الحديث والمسامرة، ويتقلب في أساليب المؤانسة والمجاملة، وأفانين المغامزة والمغازلة، ليقيم له بين النساء بضاعةً رائجةً، وسوقًا رابحة فيحل من أهل الحرم محل الجليس المحبوب، والأنيس المطلوب، وينزل من ربات الخدور، بمنزلة المُحَبِّ المكرَم، ويكون بين مقصورات القصور، أكرم زائر في أرحب منزل، والنساءُ لا يعدمن العلّات، على العلات، ولا تعوزهن العلل، في اختراع العلل، لا سيما إن كانت دعوى المرض، تُدني من نيل الغرض، فيكون للطبيب بينهن زيارات وعيادات، وروحات وغدوات، والطبيب كما يعلم الناسُ مؤتَمن الجانب، يؤتمن فوق الأهل والأقارب، تُفتح أمامه الأبواب، ويُكشف من دونه الحجاب، فترى له زيارات بين كل صباح ومساء، تكتب له بوافر الأجر وسوءِ الجزاءِ: بوافر الأجر في دفتر حسابه، وبسوء الجزاء يوم عرضه وحسابه، ومنهم من يتطلع إلى ما فوق ذلك فيطمع في ثروة البيت بأكملها وفي حيازة الأموال بأجمعها، فيديم التردد ويُوالي العشرة ويُحكم الصلة ويلحم الخلطة، حتى إذا تأرَّبت عقدة الحبل تم الاتفاق بينه وبين ربة البيت وصاحبة المتاع على التأهل بها، لا التفات هناك إلى تفاوت الأقدار ولا عناية بوجود الكفاءة، فتصبح له حليلة بعد أن كانت خليلة، وينتهي ما كان من أمر الداء والعلاج، بما تم من أمر العقد والزواج.
عيسى بن هشام : الآن تبيَّن لي ما كان عليَّ غامضًا واتضح ما كان مبهمًا من أمر الطبيبين اللذين كانا يعالجان الباشا في كثرة الزيارة وقلة نفع الدواء، وشدة التدقيق في تعيين الصيدلية، وطول استراق النظر لما وراء الحجاب.
الطبيب : أجل، هذا هو حال بعض الأطباء، مع الأعلّاء وأشباه الأعلّاء، فأما حالهم مع الأصحاء وذوي السلامة من بعض الخلق فهو أعجب وأغرب، وما يعزب عنك أن كثيرًا من المولعين بسوء التقليد للغربيين والمتهالكين على حب التظاهر بمظهر الرفه والترف، يتغالون في الاحتياط لأبدانهم ويبالغون في التوقي لأجسامهم، فينمو فيهم وسواس المرض والسقم، فتراهم يتوجسون من كل أكلة شرًّا، ويتوقعون من كل شربةٍ ضرًّا، ويتخيلون أن في كل لقمة تخمةً، وفي كل جرعة غصة، فلا يتناولون قدحًا من الماء، أو يستنشقون نَفَسًا من الهواء، إلا وفي اعتقادهم أنه لا يخلو من كل هامة سامة، أو جرثومة ضارّة، ولا يزالون على هذه الحال حتى يمتنعوا عما فيه صلاح أبدانهم من المأكل والمشرب، ويُبعدوا ما استطاعوا في طرق الحمية من غير علة ولا داءٍ فيبدلوا الماء الزلال بالماء المعدني، ويهجروا الأغذية المناسبة لتركيب الجسم، وقوام البدن إلى الأطعمة الغريبة عن أذواقهم المنافرة لنسيج أبدانهم، فيضطرب نظام التركيب وتضعف البنية، ويصبح كل واحد منهم جازمًا بأن به داءً دفينًا وما به من داءٍ، وعلةً كامنةً وما به من علة، فيشكو أمره إلى الطبيب فيكون الطبيب حينئذٍ أسرع من وهمه وخياله في اختلاق علة له واختراع مرض دون أن يفحص أمره أو يبلو خبره، فينزل به ما ينزل من بوائق الخوف والفزع، ويُوالي عليه الطبيب ما يوالي من صنوف الخلاصات المعدنية والجواهر السامة والمركبات الحادة، فيترصف على مائدته من ألوان العلاج والدواء أضعاف ما يترصص عليها من ألوان الطعام والغذاء، ويتقيد المسكين بمعيشة لا تُناسب غريزة البنية ولا فطرة المولد ولا طبيعة الإقليم، ولا توافق إلا مَن جمدت عروق آبائه تحت جليد لوندرة، لا من ذابت مفاصل أجداده تحت هجير القاهرة، فلا يلبث أن يأتي على ما بقي في الجسم من قوةٍ، وما في البدن من صحة، ويعيش إن عاش في يد الطبيب حيًّا كميت، ويكون بين الأموات والأحياء، لا من هؤلاء ولا من هؤلاء، إلى أن يلحد في لحده، شهيد طبيبه وقتيل يده، وهناك يخلق بأهله أن يكتبوا بنجيع الدمع لا بسواد المداد، ما كُتب على قبر عظيم من قدماء القواد: «لم تُمتني قوةُ الأعداء، وإنما أهلكتني قوة الأطباء.»
ولقد سرى هذا البلاء فينا مسرَى العادة فأصبحنا لا نرى في جمهور من نراهم من المترفين المقلدين إلا شاكيًا من ألم أو متألمًا من مرض، فراجت سوق الطب وعظُم عدد الأطباء وغدت حوانيت الصيادلة في الأسواق أكثر عددًا من حوانيت الخبازين والقصَّابين، وصار من متاع البيت وجهاز العروس صناديقُ الدواء وآنية العلاج، وقل أن تجد اليوم بيتًا خاليًا من مريض ولا مجلسًا ليس فيه من سقيم.
عيسى بن هشام : كأنك تحاول أيها الطبيب الآسي أن تقنعنا بقوة البرهان، وجليّ البيان أن لا فائدة من الطب ولا منفعة في الأطباء.
الطبيب : حاشا لمثلك أن يشتبه عليه القصد أو أن يذهب بقولي خلاف مذهبه، وما قصدت بكلامي هذا كله إلا أن أظهر عيب بعض الأطباء في ممارسة صناعتهم دون التعرض لصناعة الطبِّ في ذاتها، على أنه يمكنني أن أُضيف إلى ما قلته ما قد قيل من قبل، وهو أن العلم علمان: علم تستنير به البصائر وتهتدي به العقول فهو جميل الأثر، محمود الورد والصَّدر، وعلمٌ تصدأ منه الأفهام، وتضلَّ به الأحلام، فهو وبيُّ المرعي، سيئ العُقبى، وكذلك الطب طبان: طبٌّ يصحح الأجسام، ويشفي الأسقام، فهو عظيم النفع جليل القدر، وطب يورث الأمراض ويولد الأدواء فهو شديد الوطء عظيم الضر، ومدار الأمر كله على حسن الاهتداء للتمييز بين النافع والضار والتفريق بين الطيب والخبيث، ولا تتوهمن أيضًا أنني أتناول بكلامي جماعة الأطباء قاطبة، فإن فيهم الصالح كما أن فيهم الطالح، ولكنني أعني من بينهم أولئك الذين يطلبون مجرد الربح من مباشرة الصناعة مع الجهل بها، أو يتعمدون الحيل وينصبون الأشراك حتى يعتل جسم الصحيح ويُزمن مرض المريض ليكون لهم من وراء ذلك ما يسد بعض شرههم في الغنَى واليسار، وما أولى سائر الناس بأن يثبتوا بينهم عادة أهل الصين في معاملة مثل هؤلاء الأطباء، وذلك أنهم يجرون على أطبائهم العطاء ما داموا أصحاء، فإذا نزل بأحدهم المرض انقطع العطاء عن الطبيب حتى يعود المريض إلى سلامته، فيكون من مصلحة الأطباء على الدوام أن تطول مدة السلامة وتقصر مدة العلة، على خلاف الحال بيننا.
وما ينبغي أن ينصرف شيء مما قلته إلى بقية أهل الصناعة من ذوي الحذق والأمانة الذين يوفون الصناعة حقها، ويؤدون الواجب عليهم فيها حق أدائه، والذين يراعون في ممارستها ما يكون من تفاوت الأحوال في العلل والأمراض، وما تقضي به أحكام البلاد والعادات واختلافُ الأمزجة والطبائع، والذين يجعلون لأنفسهم من حسن تبصرتهم وكثرة تجربتهم عُدةً حاضرة لمقاومة الأمراض وصحة تشخيص الأدواء ولطف تناسب العلاج وحسن الإرشاد لرفع الوسواس ودفعِ الخيال، وما يجري هذا المجرى من استعمال ما يليق بأهل الإقليم الحار مما لا يليق إلا بأهل الإقليم البارد، واجتناب ما لا يوافق أمزجة أهل البلاد الشرقية من المركبات المجهزة لطبائع أهل البلاد الغربية، ولقد طالما سمعت عن أشياخي في الصناعة أنه يجب على الطبيب في مصر أن يختار ما يكون من الأدوية وغيرها ألين قوةً حتى لا يكون على طبيعة المصريين فيها كلفةٌ، ولا يلحق أبدانهم منها مضرةٌ، وأن لا يقدم على كل الأدوية المسطَّرة في كتب أهل الغرب، فإن أكثرها عُملت لأبدان قوية البنية عظيمة الأخلاط على خلاف المعهود في أهل مصر، فيتعين على الطيبب حينئذٍ أن يتوقف في إعطاء هذه الأدوية للمرضى، ويختار ألينها وينقص من مقدار تركيبها، ويبدل كثيرًا منها بما يقوم مقامه ويكون ألين منه، وأن لا يهمل الاعتماد على الأدوية الطبيعية وهي البسائط واللين والحمية والفصد والاستحمام والرياضة والهواء، وأن يكون على الجملة مولعًا بلذة الصناعة في ذاتها لا يعادلها لديه سواها من سائر اللذات، ممتلئ النفس بجلال قدرها وشرف منزلتها من بين الصناعات والفنون، فتعظم عنده نفسُهُ ويشرف في عينه قدرُهُ، فيترفع عن سفالة الطمع وحِطَّةِ الشَّرَهِ ويزهد في نيل الغنى من طريق التحايل على اقتنائه من وراء هذه الصناعة الجليلة، وكيف تزدهيه لذات العالم أجمع من مالٍ وجاهٍ أو زخرفٍ ومتاع في جانب لذة الإتقان في الصنعة والإحسان في العمل، وأية رتبة من مراتب الخلق تماثل رتبة الطبيب العامل، وهو القيّم على قوام الأبدان والكفيل بصحة الأجسام والرقيب على اعتدال الأمزجة والمشرف على سلامة الجوارح، لا بل أية صناعة في الوجود تفضُل صناعته وهي أمس الصناعات بخلقة الصانع الفاطر وتكوين المبدع القادر.

وإذا كان قد بلغ عُجْب الصناعة بأحد النحاتين المصوِّرين في الزمن السابق لما ازدهاه جمال الإتقان والأحكام في صورة إنسان نَحَتَهَا من المرمر أن استخفَّه الطرب واستفزته لذة الصنعة، فعُمّي عليه فأنحى على التمثال بمنحاته، يُثيره على نطق اللسان بعد أن أحكمت فيه خلقة الإنسان، ويكلف الجماد، وقد أتقنت فيه الصنعة، أن يخرج من الجمود إلى الحركة، حتى أطار عنه بعض أجزائه وبقي التمثال قائمًا إلى اليوم يفصح بما فيه من التلف عن نهاية الكمال في جمال الإتقان ومقدار لذة الإحسان في عمل الإنسان، فما بالك بلذة الطبيب ومقدار طربه في صناعته إذا هو شاهد أجسام الأحياء أمامه، وقد استخلصها من شوائب الأمراض واستنقذها من آفات العاهات، وردها إلى سواء التكوين، وأعاد نظام الخلقة إلى أصله وانتساق التركيب إلى شكله، فهل يجوز في العقل لمن يدرك كنه هذه الصناعة من الأطباء أن يرغب عن تلك الدرجة الرفيعة إلى الدرجة الوضيعة، فينزل بصناعته إلى مصافِّ أهل التجارة والسلع لا يفقه فيها من معنى سوى اصطياد الدرهم، ولا يعلم لها من مزية سوى الاحتيال على اكتساب الأموال، لا جرم أن الطبيب المدرك يفضّل لذة صناعته في ذاتها على كل لذة، ويسلو عندها أعظم مزية في العالم وأعلى رتبة، وفصلُ الخطاب، في هذا الباب، أن يكون مبلغ همته، ومجمع لذته، أن يرى المريض بعد شفائه، بوجه لامعٍ كالدينار، لا أن يراه في طول شقائه، بنظر طامعٍ في درهم أو دينار.

قال عيسى بن هشام: فأعجبني من هذا الطبيب صدقه في مقالته، وحسن نظره في صناعته، وسألت الله لجماعة الأطباء، أن يهتدوا مثل هذا الاهتداء، ثم إني ودعتُه بعد أن عين لنا البقعة المناسبة لتبديل الهواء، وقرر ما يناسب حال المريض من العلاج والغذاء، إلى أن يتدرج من النقاهة إلى تمام الشفاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤