الوقف

قال عيسى بن هشام: وظللت أنا والباشا نواصل الطَّواف بالطواف للوقوف على تلك الأوقاف، ونسائل العابر وابن السبيل، عن المسجد «والسبيل»، ولا سؤال المُجدِب عن الروض، والظمآن عن الحوض، فلم نجد من يُرشد، إلى ما نَنشد، وأخذ الباشا يتذكر الطرق وأماكنها والأزقة ومساكنها، ويقول: كان هنا وكان هنا، وجلَّ ما يقضي به إلهُنَا، وما زال يقاصر في خَطَواته، ويطاول من آهاته، ويبكي لرسوم الأطلال والديار، بكاءَ صاحب عزَّة١ أو صاحب نَوَار.٢
فاسألَنها واجعل بكاك جوابًا
تجد الدمع سائلًا ومجيبَا

حتى وصلنا بعد طول التَّجوال والتجواب، وترداد المجيء والذهاب، إلى مُنعطف مضيق، في منتهى الطريق، فوقف الباشا هناك قُبالة دور مهدَّمة، وجدران محطّمة، ومسجد في ناصية منه حانوتُ خمار، وفي زاوية منه دكان عطار، وبجانبهما حوانيت متباينة الأوصاف، مختلفة الأصناف، فطفق الباشا يصعد نظره فيها ويصوبه، ويُخَطئ حَدسه تارة ويصوبه، فهداهُ طول النظر والتدقيق، وشدة الإمعان والتحقيق، أن رأى شيخًا فانيًا متربعًا في دكانه، متحيزًا بمكانه، عليه علامات الانحلال والسقوط، وشارات الخذلان والقنوط، وسيما الرضاء بالمقسوم، والتسليم للقضاء المحتوم، له جبهة كأنها من ورق البَردي العتيق، تتلو فيها ما دوَّنه الدهر من آيات الشدة والضيق، فخرج الباشا في الحال من حال المتحير المتردد، إلى حال الواثق المتأكد، فنادى صاحب الدكان عن بُعد، نداء السيد للعبد، فانتفض الرجل انتفاضًا عجيبًا، وقَصَدَه مُلبيًا ومُجيبًا، فما شككت من هيبة النداء وأدب التلبية إلا أن ملكًا ينادي أحد الحاشية، ووقف الرجل أمامنا وقفة الممتثل الخاضع، والمطيع الخاشع، فقال له الباشا، بعد أن حدّد فيه نظره، واستجمع فكره:

الباشا : ألستَ أنت أحمد أغا الرِّكبدار المعدود من أهل حاشيتي، ألَا تعرفني من أنا؟
صاحب الحانوت : لولا أن الموت حجاب كثيف وحجاز منيع بين ظهر الأرض وبطنها لقلت: إنك سيدي وأميري، ويشهد الله أنني كلما أمعنتُ في وجهك وسمعت لصوتك كاد يطير عقلي ويندهش لبي لاستحكام الشبه بينك وبين سيدي المرحوم.
الباشا : إني أنا سيدك وهذه هي العلامة التي تعلمها في جسمي من أثر اللعب بالجريد على مشهد منك في يوم من أيام السباق والرهان. (وكشف الباشا عن ساقه فأراه العلامة، فوقع الرجل مُنكبًّا على الأرض من شدة الدهشة يقبل قدم الباشا، ويغسلها بمنحدر الدموع ويقول في بكائه وشهيقه):
صاحب الحانوت : كيف بالحياة بعد الممات، لحقٌّ أنت إحدى المعجزات، وليس ما أراه بغريب فقد شاهدت في هذا العمر الطويل ما لا تحيط بوصفه الأقلام، ولا تتسع له بطون الدفاتر من عجائب الانتقال وغرائب الانقلاب، فلا يبعد بعد ذلك أن تُشرق الشمس من مغربها وتُخرج الأرض أمواتَها من مقابرها.

قال عيسى بن هشام: فقلت للرجل: لا تكثر من الدهشة والحيرة ولا تغرب في الاستغراب والتعجب:

على أنها الأيام قد صرن كلها
عجائب حتى ليس فيها عجائب

واعلم أن القدرة لا تعجز عن شيء في الوجود ولا تحيط بها العقول، ثم قصصت عليه قصة الباشا منذ البداية، فصاح الرجل يبكي ويتضرع ويقول:

ليت أمي لم تلدني وليت القدرة التي بعثت الأمير من بعد موته نشرت معه زمنه وأعادت عصره، وإلا فكيف له بالعيش في هذا الزمن، وما أولاهُ بالعودة إلى أدراج الكفن.

ثم التفت إليَّ الباشا وشرع يقص عليه ما مرّ به من الحوادث والكوارث، وما جرى لبيت الباشا ولأهل طبقته من النوازل والخطوب:

صاحب الحانوت : ولم يبقَ لك أيها المولى من أثرٍ يُذكر في ثروتك ومتاعك، وأموالك وضياعك، وقد عشتُ دهرًا وأنا متمتع بريع ما وقفتَه أيها الأمير على حاشيتك وأتباعك، وعلى هذا المسجد والسبيل والكتاب لتخليد ذكرك وإحياء اسمك، فما لبث الوقف أن تهدم وتخرب بطول الترك والإهمال، فوقعنا كلُّنا في الفاقة والاحتياج وانقلب الكُتاب مخزنًا والسبيل خمَّارةً والمسجد مصبغةً كما تشاهد وترى، وأصبحت أنا بيطارًا بعد أن كنت «ركبدارًا»، وأخذتُ هذه الحانوت من الوقف لممارسة صناعتي فيها والتعيش منها، وسبحان مقلب الأحوال، ومبدل الأشكال.
الباشا : ألم يبق من ذريتي أحد يباشر هذا الوقف بنظره؟
البيطار : آخر العهد عندي كان بواحد منهم ذهبتُ إليه لأجل هذه الحانوت وأعلمته بمكاني من أهل الحاشية فانتهرني وطردني، وأبعدني وزجرني، ولكنّ الحاجة دفعتني إلى الإلحاح، فترددت عليه مرارًا فتخلص من ثقل إلحاحي بإحالتي على رجل إفرنجي عنده يدبر له ما بقي لديه من ثروة نضبت عينها، ونزحت بئرها، فأحالني الإفرنجي على صاحب الخمارة؛ لأنه أصبح صاحب الأمر في أرض الوقف بوضع اليد عليها، وليس يجسر أحد أن يعمل فيها شيئًا بغير إرادته؛ خوفًا من الخصومة في المحاكم، فقصدت الخمار واتفقت معه على أجرة معيَّنة، وأقمت في هذه الحانوت أصرع الدهر ويصرعُني، وأطلب القوت ويعوزني، وأتعجل الأجلَ ويُمهلني، وتعالى الله المتفرد بعزته، المبدع في حكمته.
الباشا : وأين هذا الولد العاق المخالف لإرادتي، وهو يعلم أن شرط الواقف كنص الشارع.
البيطار : هو مقيم الآن في «الأوتيل».
الباشا : وما الأوتيل؟
البيطار : «اللوكاندة».
الباشا : وما «اللوكاندة»؟
عيسى بن هشام : الأوتيل» هو بيت معروف يعدُّونه لنزول مَنْ لا بيت له من الغرباء على أجر معين، وهو في المعنى كالخان الذي تعرفونه في زمانكم.
الباشا : هل وصل التدنِّي بهذا الخائن إلى سُكنى الخان، وسبحان مصرِّف الأحوال ومغيّر الأزمان، وكيف يطيب للمسكين عيش على هذه الحال، بعد عز النعمة ووفرة المال، أفكان رجوعي إلى الحياة على ما لا أرغبه ولا أرضاه، تعذيبًا لي على ما فرطت في جنب الله، أوَلم يكن عنده سبحانه في الآخرة من عذاب النار، ما يغني عن التعذيب بالعار، في هذه الدار، ربِّ إن الجحيم لأهون عليَّ في العذاب والنكال، مما ألاقيه من الرزية في المال والعيال:
فليت وليدًا مات ساعة وضعِهِ
ولم يَرتَضع من أمه النُّفَساء
عيسى بن هشام : ليست السكنى في «الأوتيل» اليوم عن ذل وفقر، بل هي عن عز ويسر، فإن النفقة فيه عن بضعة أيام تكفي لنفقة شهر، على أكبر قصر بجواريه وخَدَمه، وأتباعه وحَشَمه، وقد دعا أولادَكم إلى ذلك ولوعهم بأحكام التقليد للأجانب وإتقان الاقتداء بهم، والسعيد المنعم من أولاد الأمراء اليوم من يبيع عقاره ويرهن ضياعه لتتيسر له الإقامة في هذا الخان، ومنهم من يتعذر عليه مفارقة أهله فيُؤتى له بالطعام من «الأوتيل» إلى البيت، وعنده الطباخ في أسفله والجواري الطاهيات في أعلاه.
الباشا (للبيطار) : أرجوك أن تصف لصاحبي مكان «الأوتيل» الذي يسكنهُ ذلك الغلام فإن بي حاجة إلى لقائه.
البيطار : كيف تخاطبني أيها الأمير بلفظ الرجاء، وأنا أنتظر في خدمتك أن تأمرني بما تشاء، وهل تظن أني أفارق ركابك أو أزايل معيتك مهما تقلبت الأحوال وتبدلت الأزمان؟ فهلمّ منك الأمر والإشارة وعليّ السمع والطاعة.
١  عزة: هي التي كان يتشبب بها كثير الشاعر.
٢  نوار: هي امرأة الفرزدق التي كان يتشبب بها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤