أبناء الكبراء

قال عيسى بن هشام: ودعاني الباشا للسير معه، وهو يكفكف دمعه، وتبعَنا البيطار من خلفنا بخطاه الثقيلة، وعصاه الصقيلة، فقد صقلها طول التوكؤ والاستعمال، وتعزَّى بها في السير والانتقال، عن ظهور الخيل ومتون البغال، إلى أن وقفنا عند أحد القصور الكبيرة، من الفنادق الشهيرة فهال الباشا ما رآهُ من ضخامة البناء، وفخامة المنظر والرُّواء، وما لقيه من أدب الخدم والأعوان، ورشاقة الوصفاء والغلمان، فتخيل أننا أخطأنا الأبواب والمداخل، فدخلنا بيتًا من بيوت الوكلاء أو القناصل، وتقدمت للسؤال والاستخبار، وقد خلفنا البيطار في الانتظار، فدلنا أحد الخدم على رقم المكان الذي يسكنه الأمير، وبعد طول التردد والتفكير، فما وصلناه حتى دفع الباشا بيديه دفَّتَي الباب، لم يلتفت لطلب إذن ولا لرجع جواب، فوجدنا أمامنا جماعة من أولاد الأمراء، وأعقاب الكبراء، مختلفين في الجلوس، حاسرين عن الرءوس، ففريق منهم عاكفون على لعب القمار، وفريق ينظرون في صور خيل المضمار، ومنهم جماعة قد استداروا بامرأة نصف لا عجوز شوهاء،١ ولا فتاة حسناء، تجتلب الحسن بإفراط التأنق والتفنن في وجوه التصنع والتزين، فيكاد يضيء وجهها بسَنَا العقود والقلائد، ويتلألأ جبينها بلألاء الجواهر والفرائد، وفي وسط المكان مائدة عليها صنوف الراح، في الأباريق والأقداح، وبجانبها مِنضدة،٢ عليها آنية منضَّدة، وفوقها الدواة والقرطاس، وبراعة مرصعة بالماس، وكتبٌ أعجمية موشاة بالذهب، لا أدري إن كانت في اللهو أم في الأدب، وعلى الأرض أوراق أحكام منشورة، وجرائد تحت الأقدام منثورة، لم يفضض عنها «ظرف»، ولم يقرأ منها حرف، وسمعناهم يتراطنون جميعًا بلغات أجنبية، دون اللغة التركية أو العربية، إلا ما كان من أسماء الخيول العربية بعد أن يبدلوا القاف بالكاف، وينطقوا بالحاء كالهاء، ولما رأونا ظهر منهم العبوس والقطوب، وبدا عليهم انقباض الصدور والقلوب، وانبرى من جانب المرأة شاب فأسرع نحو الباب فخاطَبَنا بعبارة فرنسية ولثغة باريسية:
الشاب : كيف ساغ لكما الدخول بغير إذن؟
عيسى بن هشام : دعا إلى ذلك شوق الوالد إلى رؤية ذريته.
الشاب : لست أفهم لك كلامًا فصرح لي وبيِّن.
عيسى بن هشام : فلان يسأل عن فلان.
الشاب : إني أنا فلان ولكن من فلانٌ الذي يسأل عني؟
عيسى بن هشام : هو جدك الأكبر أحياه الله بعد مماته وبعثه من رقاده، وكان من أمره أنني كنت أزور المقابر ذات يوم من الأيام …
الشاب (مقاطعًا مستهزئًا) : اذهب عني فلست أسمع لهذا الكذب والخَرَف وليس لي اليوم من جدٍّ ولا والد، ولا أنا ممن يصدق بحديث البعث في الآخرة، فكيف برجوع الموتى إلى الدنيا، تعالوا أيها الإخوان فاعجبوا معي واضحكوا مما أسمعهُ من هذا الرجل الذي يخاطبني وانظروا إلى هذا «الباشبوزق» الغليظ الذي بجانبه، فهو يدعي أنه آبائي وأجدادي بعثه الله ليطالبني فيما أظن بما ورثته من الأموال، وينازعني في نظارة الأوقاف، فهل سمعتم بأعجب مما أصبحنا فيه اليوم؛ لم يكتف الدهر بتكدير عيشنا وتعكير حياتنا بمطالبة أرباب الديون حتى بعث الأموات من قبورهم ليطالبونا بمواريثهم وأموالهم، ألا ترونها أيها الخلان أنها أبدع نكتة في أواخر القرن؟

قال عيسى بن هشام: فاستغرق الجميع عند ذلك في الضحك واستلقوا من القهقهة، وكلما سألني الباشا عن مكان حفيده، واستفهم مني عما يجري معي من الكلام استمهلته لتمام الحديث حتى لا يقف على شيء مما يقال، ولا يحس بوقع تلك السهام والنبال، ولما انتهى الشبان من ضحكهم نادوا بالخادم ليأمروهُ بطردنا وإخراجنا، وحانت في هذه الأثناء التفاتةٌ من الحفيد بين دورانه وحركاته فلمح أحدَ قرنائه وإخوانه قد انزوى بتلك الخليلة، التي هي عندهم كالحليلة، يلاعبها وتلاعبه، ويغازلها وتداعبه، فانقض عليهما كالصقر الأجدل فاستَعَر بينهم الجدال واشتد الخصام والتفّ حولهم الجمع، وسمعت الحفيد يعتب، والصاحب يعتذر، والمرأة تبكِّت وتؤنِّب وتقول لعاشقها: «ليس لك مثل هذه الجرأة في العتاب والملام، ولا يأتي ما تأتيه من الحدة والتهور في الغيرة إلا مَن كان قائمًا بحاجتي مجيبًا لرغبتي، وقد طلبت منك بالأمس أن تشتري لي ذلك العقد الذي حضر لتاجر الحليّ من أوروبا في البريد الأخير فسوَّفت وماطلت بعد أن أجبت ووعدت، واعتذرتَ بالإعسار والضيق، ثم بلغني اليوم أنك اشتريت فرسًا جوادًا بمقدار عظيم من المال، فكيف تقصر في حاجتي مثل هذا التقصير، وتَبغي مني الاقتصار عليك والاختصاص بك دون بقية من يبذل ماله وروحه في سبيل مرضاتي من أصحابك وإخوانك؟»

ثم سمعتُ الحفيد يجاوبها والعرق يتساقط من جبينه والوجد يقطع أنفاسه: «تالله ما اشتريت شيئًا، ولكن بعت أشياء لأشتري لك العقد بثمنها، ولا يغرّنك ما يقال لك عن ثروة هذا الصاحب الدنيء الخائن وعن قلة أموالي ورهن أطياني، فأنتِ تعلمين بمقدار الأموال التي ستأتيني من اكتساب القضايا المعلقة لي في المحاكم كما ينبئك به المحامي في كل حين.»

وما سمع ذلك الصحاب سبّه بهذين النعتين حتى اضطرم واضطرب، وثارت به سَورة الغضب، فتقدم فَلَعَنَه وشتَمَه، ودفعه ولطمه، فوعده الملعون الملطوم، بالمبارزة في يوم معلوم.

ثم علا هنا صياحٌ أيضًا في مجلس القمار بين صديق وصديق، أحدهما في يسر والآخر في ضيق، وأخ يبغي الاقتراض من أخيه، ومفلسٍ يطالب ميسِّرًا بدين لا يؤديه، وانكشف الجدال كذلك عن الضرب واللكم. وانتهى النزاع بالصفح واللطم.

واشتبك خصام آخر في ركن المكان، بين أهل السبق والرهان؛ هذا يقول: فرسي سابق، وفرسك لاحق، وذاك يقول: «ركبداري» حاذق وابن حاذق، وجوادك قصير وجوادي شاهق، وأنت الآن مقرٌّ معترف، بأن الوزن بينهما مختلف، واشتدت المنافسة والمنابَزَة، وجرى بينهم حديث للمبارزة، كل هذا والمرأة تتسحب من حلقة إلى أخرى، تسحُّبَ الحية والأفعى، فتطفئ نار الجدال مرة على حسب بغيتها، وتشعلها طورًا لخبث نيتها.

ورأيت الأجدر بنا أن نتركهم على هذه الحال، فجذبت بضبع الباشا وخرجنا من ذلك المكان، وأسرعت به منحدرًا إلى الطريق، فسألني عن تفصيل ما كان وجرى، فترجمت لهُ شرح الحال والمآل، فاحتدم غيظه واضطرم حنقه فلم يطفئه إلَّا ما قلته له في آخر الحديث من عزم القوم على المبارزة فيما بينهم بالسلاح، فقال وهو يتابع زفراته: لعل القدرة تكشف عني هذا المصاب، وتُريحني المبارزة من الأبناء والأعقاب، فقلت في نفسي: إن أبناءكم لم يرِثُوا منكم أخلاقكم، كما ورثوا عنكم أموالكم، وليس عندهم من الشهامة ما يدفعون به عن الأعراض والأحساب، ولا مِن الشجاعة ما يؤنسهم بالطعان وبالضراب، ولا يأبهون لكشف العار، وأخذ الثأر، والمبارزة عندهم كلمة تقال بالليل وتمحى بالنهار.

وتذَكَّرَ الباشا في طريقه شدة حاجته إلى وفاء ما عليه من الأجر للمحامي، فالتفت إلى البيطار يسأله:

الباشا : هل بقي أحد ممَّا كانوا حولي من الخُلَطاء والأقران أهل النجدة والفتوة وأصحاب الهمة والمروَّة؟
البيطار : لم يبق منهم إلا فلان وفلان وفلان.
الباشا : ابدأ بالذهاب معنا إلى بيت الأول منهم.

قال عيسى بن هشام: فسرنا إلى حيث أشار والهموم تَفْرسُنَا، والغموم تُخرسُنا، والأكدار لا تفارقنا، والأقدار لا توافقنا.

١  النصف: المرأة الوسط بين الحدثة والمسنة.
٢  المنضدة: شيء له أربع قوائم يوضع فوقه متاع البيت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤