المرأة والبغاء

لا يمكن لأي نظام غير عادل أن يكون منطقيًّا، والنظم الظالمة لا بدَّ أن تنتج عنها ظواهر غير معقولة ومتناقضة، وإن الحضارة الذكورية التي يعيشها العالم الحديث نتجت عنها ظواهر لا معقولة.

إن أمريكا تدفع خمسين مليون دولار لكل رجل واحد ترسله إلى الفضاء، وتدفع ألف دولار لكل رجل واحد تقتله في الشرق الأقصى أو الشرق الأوسط. على حين أن آلاف البشر يموتون في أفريقيا وآسيا من الأمراض، ولا يتكلف إنقاذ الواحد من الملاريا مثلًا إلا دولارًا واحدًا، وأن ملايين البشر الذين يعيشون في المنطقة العربية والذين يعانون من الفقر والجهل والأمراض كان يمكن أن يعيشوا حياة أفضل لو لم تمتصَّ الدول الرأسمالية الاستعمارية مواردهم الخام بأبخس الأسعار، ثُمَّ تعيدها إليهم بضائع مصنعة بأعلى الأسعار. إن الأغلبية الساحقة من ملايين البشر في العالم تعاني من الفقر والجوع والمرض من أجل أن يُثْرِيَ ثراءً فاحشًا حُفنةٌ من الرأسماليين في أمريكا وأوروبا.

ومن السهل أن ندرك التناقض في معظم القيم الاقتصادية والسياسية والأخلاقية التي تفرضها الدولة الأقوى على الدولة الأصغر، أو المجموعة القوية على المجموعة الضعيفة، أو الفرد الأقوى على الفرد الأضعف.

لا يمكن لأي قانون (في ظل عدم التساوي) أن يكون عادلًا؛ ولهذا لا يمكن لأي قانون يتناول علاقة المرأة بالرجل أن يكون عادلًا؛ لأن الحضارة الذكورية منذ نشأتها الأولى ومنذ بداية الأسرة الأبوية أعطت السلطة للرجل، وفرضت على المرأة الخضوع بالقوة. ولعل ظاهرة البغاء التي بدأت مع بداية الأسرة الأبوية تدلُّنا على تلك التناقضات الأخلاقية الصارخة، التي تميز المجتمعات الذكورية والحضارة الحديثة.

والبغاء معناه: حدوث عملية جنسية بين رجل وامرأة؛ لتلبية حاجة الرجل الجنسية، ولتلبية حاجة المرأة الاقتصادية، وبالرغم من أن الحاجة الجنسية (في الحضارة الذكورية عامة) ليست في أهمية من حاجة الرجل الجنسية، وهذا هو الأمر دائمًا في حالة عدم التساوي بين الأفراد. إن حاجة الحاكم مهما كانت ثانوية فهي أهم من حاجة المحكوم مهما كانت ضرورية، إن حاجة السيد إلى المتعة أو الترفيه أهم من حاجة العبد إلى الطعام أو النوم، إن حاجة الزوج إلى المتعة الجنسية أهم من حاجة الزوجة المريضة أو المرهقة إلى النوم، إن حاجة الرجل إلى المتعة الجنسية أهم من حاجة المرأة أو أطفالها إلى الطعام أو الكساء … وهكذا.

وبذلك يُعطى الرجل الحق في إشباع حاجته الجنسية (داخل الزواج أو خارجه عن طريق تعدد الزوجات والخليلات والجواري والسراري وما ملكت يمينه)، وكذلك أيضًا عن طريق المومسات أو العشيقات، بشرط ألا يحضر عشيقته إلى بيت الزوجية (القانون المصري حتى اليوم).

أمَّا المرأة فهي التي تُعاقَب في جميع الأحوال، وفي جميع الظروف التي تدفعها إلى ممارسة الجنس، سواء كانت حاجة اقتصادية أو حاجة جنسية، ولا يُسمَح للمرأة بممارسة الجنس إلا مع زوجها فقط. والسؤال الذي يجب أن يُسأل هنا هو: لماذا لا يُسمَح للرجل أيضًا بعدم ممارسة الجنس إلا مع زوجته فقط؟ (زوجة واحدة وليست أكثر من ذلك، كما في حالة المرأة)، لماذا يعطي المجتمع الرجل حرية جنسية داخل الزواج وخارجه بغير شروط، وفي جميع الظروف، وجميع الأمكنة (ما عدا مكانًا واحدًا هو بيت الزوجية في حالة الرجل المتزوج)؟ هل هناك سبب تشريحي أو فسيولوجي؟ لقد اتضح من جميع هذه العلوم التي تتعلق بالجسد أو النفس أنه ليس هناك من سبب علمي يعطي الرجل حرية جنسية أكثر من المرأة، بل العكس هو الصحيح كما اتضح من البحوث البيولوجية الحديثة التي أوضحت أن الطبيعة زوَّدت المرأة بقدرة وحاجة بيولوجية وجنسية أشد من الرجل.

إن الأسباب التي دعت إلى إعطاء حرية جنسية للرجل ليست موجودة داخل جسم الإنسان، وإنما علينا أن نبحث عنها خارج الإنسان، أي في المجتمع. والسؤال الآن هو إذن: متى بدأ البغاء في العالم البشري؟!

وتدلنا معظم المصادر العلمية على أن البغاء بدأ في العالم البشري مع بدء الأسرة الأبوية، شأنه شأن «الرق»، الذي بدأ أيضًا مع بدء الأسرة الأبوية. إن الإنسان البدائي (قبل نشوء الأسرة الأبوية) لم يعرف شيئًا اسمه البغاء، ويقول علماء الأنثروبولجيا من أمثال «مارجريت ميد» و«بروست» و«ساجنر» و«دوبوميري» و«شورتز»: إن البغاء لم يظهر في المجتمعات البدائية؛ لأن الحرية الجنسية كانت ممنوحة للشباب من الجنسين، ولم تعرف المجتمعات الأمومية البغاء؛ لأن مكانة المرأة الاجتماعية كانت عالية، وكانت لها الحرية الكاملة كالرجل. وهذا شيء منطقي. كما أن البغاء لا يمكن أن يحدث أيضًا في مجتمع يساوي بين الجنسين في القيود الجنسية. إن المساواة بين الجنسين سواء في الحرية أو في القيود تمنع حدوث البغاء، إن البغاء لا يحدث إلا إذا أُعطيت الحرية لجنسٍ، وفُرضت القيود على الجنس الآخر. وهنا يأتي السؤال: كيف يمكن أن يستخدم الجنس الحر حريته؟ ومع من يمكن أن يمارسها، طالما أن الجنس الآخر مُقيَّد؟ وبهذا كان لا بدَّ من خلق مجموعة من الجنس الآخر تكون مهمتها الوحيدة هي إرضاء رغبات الجنس الحر، وهذا هو ما حدث في التاريخ. إن الرجل حين سلب من الأم النسب وأنشأ الأسرة الأبوية لم يكن في إمكانه أن ينسب أولاده إليه إلا إذا فرض على نفسه زوجة واحدة، إنه لو فرض على نفسه زوجة واحدة كما فعل مع المرأة لما ظهر في التاريخ البغاء، ولأصبح كل النساء زوجات وكل الرجال أزواجًا.

لكن الرجل الذي أخذ السلطة في يد أدرك منذ البداية أنه لن يكتفي بزوجة واحدة، وأن المرأة أيضًا لن تكتفي بزوج واحد (كان الرجل بالفطرة واعيًا بطبيعته وطبيعة المرأة)؛ ولذلك صنع الرجل لزوجته حزام العفة الحديدي، وخصص لمتعته الجنسية نساء أخريات خارج نظام الزواج، وأطلق عليهن اسم المومسات. وقد اتضح لعلماء الأنثروبولوجيا أن نظام الزواج (الأبوي) لم يكن من الممكن له أن يعيش ويثمر لولا وجود البغاء؛ فالبغاء هو الوجه الآخر للزواج؛ لأنه من غير البغاء لم يكن من الممكن للأزواج أن يَرْضَوْا جنسيًّا إلا إذا فُرض عليهم حزام العفة كما فُرض على النساء، لكن السلطة والقوانين كانت بيد الرجال، ولم يحدث في التاريخ أن أصحاب السلطة فرضوا على أنفسهم ما فرضوه على المحكومين.

والذي يدرس تاريخ البغاء يندهش كيف برر الرجل ذهابه إلى امرأة أخرى غير زوجته، إنه بالطبع لم يُشِرْ إلى رغبته الجنسية أولَ الأمر، لكنه ألبس هذه الرغبة (كعادته دائمًا) رداءً دينيًّا مُقدَّسًا، وجعل البغاء عملًا مُقدَّسًا، وواجبًا دينيًّا تؤديه المومس في المعبد، وتنكَّر الرجل في زي الإله أو الكاهن، ومارس الجنس مع المومس على أنها عملية مقدسة.

ويقول الباحثون في تاريخ البغاء: إن الفتاة (قبل الزواج) كانت تهب نفسها جنسيًّا إلى الإله الذي يمثله كائن مقدس (لا بدَّ أن هذا الإله أو هذا الكائن المقدس كانت له أعضاء جنسية، وإلا كيف يمكن أن تمارس معه الفتاة العملية الجنسية). وبعد ممارسة الجنس مع هذا الرجل المقدس تكتسب العذراء التقديس، وتصبح امرأة مقدسة في وقت واحد.

وقد ظل هذا السلوك في تقديس إزالة البكارة موجودًا بعد قيام نظام الكهنة؛ فأصبح الكاهن يمثل الإله، وحلت البغِيُّ المقدسة محل المرأة التي تُزال بكارتها. وفي عصور متأخرة كان الساحر أو الملك هو الذي يمثل الإله، وانتقلت عادات من هذا النوع إلى الغرب وأصبحت أساسًا لحق الملك في بعض الشعوب في مواقعة كل امرأة في ليلة زفافها.

وقد انتشر في أوروبا في العصور الوسطى حق السيد الإقطاعي في إزالة بكارة الفتيات في إقطاعيته ليلة زفافهن، وقد ورث السيد هذا الحق عن ملوك وأمراء وحكام هذه العصور، وكان يُطلق عليه Ius Primae Noctis.

وقد استطاع الرجل (وبالذات صاحب السلطة) بهذه الطريقة أن يمارس الجنس خارج الزواج مع فتيات ونساء غريبات عنه تحت اسم الواجب المقدس، وعلى أساس أن الإله قد منحه قوة خارقة للطبيعة في إزالة بكارة الفتيات.

وفي بعض الشعوب كان الأب هو الذي يقوم بنفسه بإزالة البكارة (شعوب أورانجساكي في الملايو وسومطرا وسيلان)، لكن الأغلبية الساحقة كانت من الرجال الغرباء.

ويقول العلماء: إن البغاء المقدس تطور عن تلك العملية المقدسة، وهي إزالة الرجال الغرباء لبكارة العذارى، وكان هدف البغاء المقدس عند هؤلاء الرجال هو رغبة الرجل في إمداد البغِيِّ بالقوة الخارقة التي تضمن أهليتها للإنتاج، وأن البغِيَّ المقدسة تنوب عن الآلهة في منح روادها قوة الإخصاب. ولست أدري لماذا رفضت الآلهة أن تنوب عنهم «الزوجة» في هذه المهمة بدلًا من امرأة أخرى سموها «البغي المقدسة»؟!

وكان يلحق بالهياكل في «سومر» عدد من النساء منهن خادمات، ومنهن سراري للآلهة أو لممثليهم الذين يقومون مقامهم على الأرض (الرجال)، ولم تكن خدمة الهياكل على هذا النحو «الجنسي» يُعتبَر عارًا، بل إن الأب كان يفخر بأن يهب ابنته لتخفف ما يعتري حياة الكهنة المقدسة، ويقدم القرابين في هذا الاحتفال، كما يقدم بائنة ابنته إلى المعبد الذي تدخله.

وكان على كل امرأة من نساء بابل (كما ذكر المؤرخون ومنهم هيردوت) أن تذهب مرة في حياتها إلى معبد الإلهة ميليتا Mylitta، حيث تجلس تنتظر أي رجل يدخل إلى المعبد، فإذا أُعجب الرجل بشكلها ألقى في حجرها قطعة من الفضة، ثُمَّ مارس معها العملية الجنسية، داعيًا لها أن ترعاها الإلهة ميليتا، ولم يكن مسموحًا للمرأة أن ترفض ما أُلقيَ في حجرها مهما كان، فإذا ما انتهت العملية الجنسية وانتهى معها واجبها الديني تركت المعبد وعادت إلى منزلها. وكانت الجميلات من النساء لا يمكثن طويلًا بالمعبد، أمَّا المرأة الدميمة فكانت تبقى بالمعبد ثلاثة أو أربعة أعوام في انتظار الرجل الذي يمارس معها الجنس لتعود إلى بيتها. وكان ما يدفعه الرجل من مال يذهب أول الأمر إلى مذبح الآلهة، ثُمَّ تطور الأمر وأصبحت النساء يحتفظن بهذا المال؛ ليدخرن منه مهور زواجهن.

وكانت عقائد البابليين تصور لهم أن الآلهة تذهب ليلًا إلى النساء المؤمنات في فراشهن لتستولدهن أبناء.

وقد استمر البغاء المقدس في بابل حتى القرن الرابع قبل الميلاد، ثُمَّ أمر بإلغائه الإمبراطور قسطنطين حوالي سنة ٣٢٥ق.م.

وكان اسم إلهة المعبد يتغير من بلد لبلد، في بابل كانت البغايا المقدسات يخدمن في معبد الإلهة ميليتا، وفي كلدانيا وسوريا وفينقيا حلت محل الإلهة ميليتا الإلهة «عشتروت Mithea»، وفي أرمينيا معبد أنايتيس Artemis، وفي مصر القديمة كان هناك الإله آمون، الذي كانت تُختار له أجمل بنات الأسر الشريفة في طيبة، فإذا كبرت الواحدة منهن في السن ولم تعد ترضيه أُخرجت من خدمته بمظاهر التشريف والتعظيم وتزوجت، ولقيت الترحيب والإجلال في أرقى الأوساط. وكانت الفتيات يتعاطين البغاء (كما يقول سترابون) حتى وقت حيضهن التالي عندما يتزوجن، وكانت البغايا المقدسات يتألفن من طبقة الكاهنات، يطلق عليهن «حريم الإله» أو حريم آمون. واشْتَهَرت في روما في معابد الرومان المقدسات لدى الآلهة برياب وباكوس وموتينوس وغيرها.

وفي قبرص ذكر هيرودوت أنه كان على كل امرأة أن تمارس الدعارة بتقديم نفسها للرجال في مذبح المعبد قبل زواجها.

وقد ظل البغاء المقدس موجودًا حتى عصرنا هذا في بلاد منها الهند واليابان، وتفتح المعابد أبوابها في الهند والسند لاستقبال الفتيات اللائي يهبن أنفسهن للآلهة، ويخصص بعض هؤلاء الفتيات لإرضاء شهوات الكهنة والبعض الآخر لإرضاء شهوات حجاج الرجال الجنسية فحسب، ولكنهن يشتغلن أيضًا كخادمات في المعبد، فينظفن أرضه ويغسلن الصحون (المقدسة) ويرقصن ويغنين ويطربن الرجال، ويمارسن معهم الجنس، وغير مسموح لهن أن يتزوجن. ويدفع الرجال الذين يزورون المعبد ثمن اتصالهم الجنسي بالبغايا المقدسات، ويرأس كل مجموعة من البغاء رجل يتولى تحديد أجر كل واحدة منهن ويدير شئونهن. وإذا حملت البغِيُّ وولدت أنثى أصبحت بَغِيًّا كأمها ومُنعت من الزواج، وإذا كان المولود ذكرًا أصبح خادمًا في المعبد.

وقد كان الآباء في مناطق مختلفة (فينيقيا ومستعمراتها) يقدمون بناتهم لإرضاء الأجانب الوافدين على البلاد، وفعل ذلك أيضًا الآباء في قبرص وغيرها من الشعوب. وامتد هذا البغاء الذي سُمِّيَ بالبغاء «الضيافي» إلى أوروبا، واستمر في القرون الوسطى، حين كانت الحكومات تخصص بعض البغايا لضيوفها السياسيين، وكانت تضع برامج حفاوتها بهم نظامًا يكفل قضاء شهواتهم من البغايا، كما كان الأمر في برلين وأولم وبونو ونوريوريخ، وكانت البلدية في القرن الرابع عشر في مدن أوجيسبرج وهامبورغ وفينيا تضع تحت رعايتها بعض منازل البغاء لهذا الغرض.

ويقول جيمس وعدد آخر من العلماء: إن منازل البغايا حلت كتطور طبيعي محل المعابد المقدسة، وظلت تؤدي الوظيفة الأساسية لها، وهي إرضاء شهوات زوار هذه المنازل، والذين كانوا من قبل زوار المعابد.

وظلت منازل البغايا تؤدي وظيفتها الهامة للمجتمع في العصور الوسطى، وفي بداية انتشار المسيحية في أوروبا كان هناك بقايا صلة دينية بين البغاء والكنيسة.

وقد ظل البغاء طوال فترة العصور الوسطى يُعتبَر جُزءًا من الحياة الاجتماعية، وفي سنة ١٤١٤ حين جاء الإمبراطور سيجسموند Sigismund بجيشه في زيارة لبيرن بسويسرا، فإن أبواب منازل البغايا فُتحت على مصراعيها له ولجنوده كنوع من الحفاوة. وقد وقف الإمبراطور في حفل عام وشكر أصحاب السلطة في بيرن على حسن ضيافتهم.

وفي القرن الثامن عشر حين عُرف ذلك النظام المُسَمَّى الآن بالبوليس، ثُمَّ خضعت للقوانين التي كانت تصنعها المجتمعات المختلفة لتنظيم البغاء والإشراف عليها طبيًّا (حتى لا تنتقل الأمراض التناسلية إلى الرجال)، وأيضًا من أجل تحصيل ضرائب تأخذها الحكومة على البغايا.

وحينما اشتد خطر البغاء بسبب انتشار الأمراض التناسلية وبسبب ازدياد البغايا (بسبب ازدياد الفقر من تزايد السكان وانخفاض المستوى الاقتصادي لهم)، واضطراد تزايد أعدادهن فأصبحن يمثلن مشكلة اجتماعية واقتصادية وطبية؛ اضْطُرَّت بعض المجتمعات في أماكن مختلفة في العالم إلى إصدار قوانين بمنع البغاء تمامًا، لكن هذا المنع لم يحدث إلا على الورق فقط، وظل البغاء يمارَس كما كان ولكن في الخفاء. وأوضحت الدراسات أنه في أي مكان يُحرَّم فيه البغاء قانونًا فإن ذلك لا يعالج المشكلة، وإنما يدفع بها إلى الممارسة السرية وما ينتج عن ذلك من مشاكل أخطر.

ويقول جيمس: إنه قد ثبت أن ظاهرة البغاء هي ظاهرة غير قابلة للمنع، وليس لها من حل في أي وقت قبل المسيحية أو بعدها، ولا حتى في تلك الأوقات التي حصلت فيها الكنيسة على أقصى قوة سياسية.

لقد اتضح لعدد من العلماء أن البغاء ظل جزءًا متمِّمًا للحياة الزوجية في العصور الوسطى، وقد وصف إدوارد الأول سنة ١٢٨٥ كيف أن الزواج في العصور الوسطى لم يكن ناجحًا بسبب افتقاده الحب، وبسبب الوضع الأدنى للنساء والأطفال.

ويعتقد بعض العلماء أن البغاء ظاهرة اقتصادية، وأنه لا بدَّ أن يوجد في البلد الذي لا يوفر العمل لجميع أفراده رجالًا ونساءً، أمَّا البلاد التي تتيح العمل لجميع أفرادها رجالًا ونساءً فإن البغاء ينقرض بغير قوانين. لقد انقرض البغاء في معظم المجتمعات الاشتراكية، وأصبح من المعروف الآن — للرجال الذين يزورون هذه البلاد — أن عملية البحث عن المومسات عملية يائسة تمامًا، وأن عليهم أن يبحثوا عنهن في البلاد الأخرى حيث تكون الدعارة (وحوانيت الاتِّجار بالجنس والفن الجنسي الرخيص) جزءًا لا يتجزأ من النشاط التِّجاري والرأسمالي في البلد.

إن عملية بيع الجسد نظير المال عملية غير إنسانية، لا يقدم عليها الإنسان (امرأةً أو رجلًا) إلا اضطرارًا لحاجة اقتصادية معينة. ومن المعروف أن تجارة الدعارة في أي مجتمع في أيدي الرجال أساسًا، والمرأة في معظم الأحيان ليست إلا أداة في يد رجل قَوَّاد، يشغِّلها ويستغل المال الذي تكسبه بجسدها وهوانها، ولا يعطيها إلا ما يسدُّ رَمَقها … إن الرجال هم الذين يكسبون من وراء البغاء ماليًّا أو جنسيًّا، أمَّا المرأة فهي التي تدفع الثمن وتؤدي الضريبة، وتتحمل العار وحدها والهوان، وتُساق عند اللزوم وحدَها إلى السجن والعقاب.

إن هذا القطاع من النساء اللائي أُطلق عليهن «المومسات» لسن إلا إحدى الظواهر الاجتماعية للحضارة الذكورية القائمة على الأبوية، وكان على هؤلاء النساء التعيسات أن يكُن كبش الفداء لهذه الحضارة من أجل أن تقوم وتستمر وتزدهر.

وكان هناك أيضًا قطاع آخر من البشر لا بدَّ أن يكون كبش فداء لهذه الحضارة القائمة على الظلم والاستغلال وعدم المساواة بين الجنسين، هذا القطاع من البشر هم الأطفال، الذين يَنتجون عن ممارسة الرجال للجنس خارجَ الزواج أو الأسرة الأبوية، والذين أُطلق عليهم (الأطفال غير الشرعيين). إن هذه الظاهرة ليست إلا مظهرًا من مظاهر التناقض الأخلاقي والإنساني للحضارة الذكورية غير الأخلاقية وغير الإنسانية، لكن شهوة السلطة تُفقد الرجال المنطق، وتصبح قوانينهم متناقضة، وتنتج عنها ظواهر لا معقولة وقيم عكسية؛ ففي الوقت الذي يدَّعي فيه الأب الإنسانية والأبوة والحب في علاقته بأطفاله، نجد هذا الأب نفسه يقسو ويتنكر لأطفاله، لماذا؟ لأن أطفاله من النوع الأول، وُلدوا من المرأة التي اختارها الرجل للزواج، أمَّا أطفاله من النوع الثاني فقد وُلدوا من المرأة التي اختارها الرجل للعشق فقط!

إن الرجل في كلا الحالين (الزوج أو العشيق) هو الذي يختار، وهو الذي يحدد العلاقة زواجًا أم عشقًا فقط … وإن الرجل في كلا الحالين هو الأب لجميع الأطفال الناتجين عن زواجه أو عشقه، ومع ذلك فإن هذا الرجل الواحد لا يعامل أطفاله بالتساوي، لماذا؟ والسبب واحد، وهو توريث أطفاله من داخل الزواج فقط من أجل استمرار بقاء النظام الأبوي.

وهذا يكشف أن الرجل في علاقته بأطفاله لا يعرف الحب ولا الإنسانية ولا الأبوة الحقيقية؛ لأن الحب بين الأب وأطفاله لا يمكن أن يكون حقيقيًّا إلا إذا منح هذا الحب للأطفال جميعًا، وليس لجزء منهم دون الجزء الآخر، خاصةً أن الطفل المولود يأتي إلى الحياة بغير إرادته، وليس من العدل ولا المنطق ولا الإنسانية جعله كبش فداء للنظام الأبوي القائم.

وكم من قصص أليمة عن حياة الأطفال الذين عُرفوا بالأطفال غير الشرعيين، كم يُحرَمون من جميع الحقوق الأخلاقية والإنسانية والاقتصادية والاجتماعية التي يحظى بها إخوانهم الشرعيون. والغريب أن الرجل مهما تنوَّر ومهما بلغ من الثقافة أو العلم أو الفن فإنه يتهرب من أطفاله غير الشرعيين، ويحرمهم من المال مهما بلغ ثراؤه.

إن رجلًا برز (في الحضارة الذكورية الحديثة) كعملاق في الفن هو بيكاسو، ترك بعد وفاته ثروة يقدِّرونها بأكثر من «١٠٠» مليون دولار، ومع ذلك فقد حرم في وصيته اثنين من أولاده غير الشرعيين، وهما ابنته «بالوما» وأخوها «كلود» من عشيقته فرانسواز جيلو.

وهذا يدلنا على أن ممارسة المرأة للجنس خارج الزواج قد يُقدَّس (البغاء المقدس)، وقد يُلعَن ويصبح عارًا على المرأة وحدَها وأطفالها، فالمسألة هنا ليست الفعل ذاته، وإنما هي نظرة الرجل إلى هذا الفعل، قد يقدسه وقد يلعنه حسبما يتراءى له ذلك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤