الدين والأخلاق والصحة النفسية

إن جميع الأديان وجميع المبادئ الأخلاقية الإنسانية تدعو إلى الصدق والحب والحرية والعدالة بين البشر على اختلافهم (نساءً أو رجالًا أو أطفالًا أو فقراء أو أغنياء أو سودًا أو بيضًا أو صفرًا أو حمرًا). وليس هناك أي تعارض بين هذه المبادئ وبين الصحة النفسية؛ فإن مقومات الصحة النفسية هي الصدق والعدالة والحرية والحب.

ولكن الناس يستمعون إلى هذه المبادئ تُتلى عليهم في الجوامع أو في الكنائس مثلًا، ثُمَّ يخرجون إلى حياتهم العادية في البيوت أو المدارس أو الأسواق أو المكاتب أو الدواوين فإذا بهم يفعلون العكس تمامًا. إنهم يكذبون، وينافقون، ولا يعدلون، ويفرضون القيود، ويشعرون بالكراهية. ويصبح الإنسان (رجل أو امرأة) الذي يتمسك أو يمارس المبادئ السابقة مجنونًا أو مريضًا نفسيًّا أو أبله أو غبيًّا أو طفلًا. ويدرس الناس تلك الازدواجية الواضحة بين المبادئ الإنسانية الصادقة وبين الواقع الذي يعيشه الناس، ولكنهم يقفون أمام هذه الازدواجية مكتوفي الأيدي، يعترفون بالعجز الإنساني والضعف البشري أمام إبليس أو الشيطان، وأن الشر جزء من طبيعة البشر (لأنهم ليسوا ملائكة)، وأن الله غفور لجميع الذنوب؛ وهم لذلك يذنبون ثُمَّ يصلُّون لله من أجل أن يغفر ذنوبهم، وبعد الصلاة وبعد أن يستغفروا الله يعودون إلى حياتهم العادية، ويذنبون ثُمَّ يصلُّون، وهكذا تدور الحلقة المفرغة.

وحينما نسأل هؤلاء الناس عن سبب الازدواجية الأخلاقية في المجتمع وسبب الفساد المختفي تحت طبقة سطحية من ادعاء الفضائل فإنهم إمَّا يكذبون على أنفسهم وعلى الآخرين وينكرون وجود الفساد وينكرون ذنوبهم، وإمَّا أنهم يتهمون غيرهم، ويقولون إن السبب في كل هذا هو ابتعاد الناس عن الدين، وإن الحل الوحيد هو العودة إلى حظيرة الدين، ولكن ما هو الدين؟! هل الدين هو تلك الفرائض والعبادات التي تؤدَّى داخل المساجد والكنائس؟ أم أن الدين هو سعي الإنسان لتحقيق الصدق والعدالة والحرية والحب بين البشر؟!

إن التاريخ الإنساني منذ نشأته الأولى وعلى مر العصور المختلفة يدلُّنا على أن سعي الإنسان وكفاح الإنسان كان من أجل الصدق والعدالة والحرية والحب بين البشر، وأنه لولا هذا لانقرضت مهمة الفلاسفة والأنبياء والفنانين والزعماء الشعبيين على مر العصور، وهي تذكير الناس بهذه المبادئ، ومقاومة الحكومات والسلطات التي كانت تحطم هذه المبادئ.

إن هؤلاء الفلاسفة والأنبياء والفنانين والزعماء الشعبيين كانوا يدركون دائمًا هذه المبادئ الأربعة: الصدق والحرية والعدالة والحب، وكانوا يدركون أنها الأسس لسعادة الإنسان، أو بعبارة أخرى الأسس لصحة الإنسان النفسية، ولكن هؤلاء كانوا يَلْقَوْنَ المقاومة والاضطهاد، لا من جموع البشر العاديين أو الشعب، وإنما من تلك الفئة القليلة من الناس التي ملكت السلطة والقوة المسلحة والمال. ومن الحقائق المعروفة أنه إذا أرادت الأقلية أن تحكم الأغلبية فلا بدَّ أن تلجأ الأقلية إلى البطش والظلم والكراهية والقهر، وإلا لما تيسر لها أن تحكم الأغلبية وتستغلها.

وعلى هذا تتضح المشكلة، فالمشكلة هي مشكلة السلطة التي تحاول استغلال الأغلبية؛ وبالتالي لا يمكن لها أن تطبق مبادئ العدالة والحرية والصدق والحب، ولكنها يمكن أن تغطيَ أفعالها بكلمات عالية وتتشدق بالعدالة والحرية والصدق والحب، أمَّا الممارسات الفعلية فهي عكس ذلك تمامًا؛ ومن هنا تنشأ الازدواجية، وتنتقل الازدواجية إلى جميع مرافق الحياة، وإلى البيوت والمدارس والجوامع والكنائس والمكاتب والأسواق. ويعتنق معظم الناس الازدواجية من أجل التكيف مع المجتمع والشعور بالأمن الاجتماعي، وعدم التعرض للبطش من السلطة، ويرتبط النجاح في العمل والمجتمع بمقدار ما ينافق الإنسان السلطة، وبمقدار ما يتكيف مع هذه الازدواجية؛ فتصبح له حياة علنية يدَّعي فيها المبادئ الأربعة الإنسانية السابقة: (الصدق، الحرية، الحب، العدالة)، وحياة خفية سرية يمارس فيها أشياء أخرى مناقضة لما يصرح به أمام الناس.

ويرتبط الفشل في العمل والمجتمع بمقدار ما يكون الإنسان صادقًا مع نفسه والآخرين، وبرفضه التكيف مع الازدواجية، وتصبح له حياة واحدة هي حياته العلنية التي يمارس فيها المبادئ الأربعة: (الصدق، الحرية، الحب، العدالة)، وهذا قد لا يقوده إلى الفشل فحسب، ولكنه قد يقوده إلى السجن أو إلى مستشفى الأمراض النفسية.

ومن هنا ندرك أن المبادئ الدينية أو جوهر الدين لا يتعارض مع الصحة النفسية، ولكن الذي يتعارض مع الصحة النفسية هو الازدواجية في القيم، وانفصام حياة الإنسان إلى شطرين: شطر علني وشطر سري خفي.

ولكن الأمر ليس بهذه البساطة؛ لأن الأمور في حياة البشر لا تسير بهذا الوضوح ولا بهذه البساطة، وقد يلعب الدين في حياة البشر دورًا غير الدور الذي وُجد من أجله. ولكي نفهم كيف يحدث ذلك لا بدَّ أن نعرف أوَّلًا ما هو الدور الحقيقي للدين في حياة الإنسان (امرأة ورجل)، ولكي نعرف الدور الحقيقي للدين لا بدَّ أن نعرف أوَّلًا ماذا نعني حين نقول «الدين».

إن التاريخ القديم يدلنا على أن الإنسان (قبل نشوء الأديان السماوية) كان يحتاج دائمًا إلى وجود إله، وهو لا يعرف تمامًا ما هو هذا الإله، ولكنه يعتبره القوة المجهولة وراء مظاهر الحياة والطبيعة المجهولة. كان المصريون القدماء مثلًا لا يعرفون مثلًا سبب فيضان النيل، وتصوروا أن وراء ذلك قوة إلهية وبذلك عبدوا إله الفيضان، وحينما كانت الأرض تتأخر في إنتاج المحاصيل الزراعية كانوا يصلُّون لإله الخصوبة والخضرة، وحينما كانت تحدث الكوارث أو العواصف أو تشفى المرضى وهكذا … ونستنتج من ذلك أنه كلما تقدم العلم وكشف عن أسباب الأمراض والكوارث وأسرار الطبيعة تقلص دور الآلهة والأديان.

وهنا يأتي السؤال الثاني: هل يقتصر دور الدين في حياة الإنسان على تفسير ظواهر الطبيعة والحياة المجهولة؟! أو بعبارة أخرى هل دور الدين في حياة الإنسان دور علمي فقط؟! (العلم هو دراسة القوانين التي تفسير ظواهر الطبيعة والحياة)، أم أن الدين له دور آخر روحي أو نفسي؟ ومعنى ذلك أن الإنسان (رغم كشفه بالعلم لظواهر الطبيعة) يظل في حاجة نفسية إلى الدين ليشعر بالراحة النفسية والسعادة؟! ما هي هذه الحاجة النفسية إلى السعادة؟ إننا لو سألنا أي إنسان هذا السؤال: ما هي سعادتك؟ هل إذا أكل الإنسان حتى شبع، وارتدى أحسن الملابس، وسكن أحسن البيوت، هل هذه هي السعادة؟ إن معظم الناس سيقولون إن سعادة الإنسان أكبر من مجرد الأكل والشرب والسكن، ومعظم علماء النفس أيضًا سيقولون إن السعادة والصحة النفسية للإنسان أكبر من مجرد أن يعيش الجسد ويستمتع، وأن الإنسان يختلف بلا شك عن الحيوان؛ لأن الإنسان لا يكفيه أن يأكل ويشرب ويتناسل، ولكنه يريد أن يستخدم عقله من أجل الوصول إلى الحق والعدالة والحرية والحب بين البشر، والصحة النفسية هي قدرة الإنسان على استخدام عقله من أجل الوصول إلى الحق والعدالة والحرية والحب.

لقد ظل الإنسان في حاجة دائمًا إلى تحقق هذه المبادئ الأربعة؛ ليشعر بالسعادة، وليشعر بالصحة النفسية.

لكن عقل الإنسان سلاح ذو حدين؛ فهو يرفع الإنسان عن مرتبة الحيوانات، لكنه يبصره ويفتح عينيه على معرفة الكون الضخم الذي لا يمثل فيه الإنسان إلا جزءًا صغيرًا جدًّا. إن الحيوانات والنباتات (لأنها لا تفكر كالإنسان) تعيش في انسجام كامل مع الكون، كجزء لا ينفصل عن الطبيعة؛ ولذلك لا تشعر الحيوانات والنباتات بأي صراع بينها وبين الكون الخارجي الضخم، لكن الإنسان فقد هذا الانسجام مع الكون بسبب عقله الذي يفكر، والذي دله على أنه ذات منفصلة مستقلة عن الكون. ومن هنا نشأ الصراع الإنساني الخاص بالإنسان وحده؛ فالإنسان يعيش رغبتين متناقضتين، إنه يحاول دائمًا أن يحقق ذاته كفرد مستقل، وهو في نفس الوقت لا يستطيع أن يعيش وحده، ويشعر بالعجز والضآلة وحده، ويواجه الموت وحده، ولا بدَّ له من الاتصال بالآخرين والانتماء إلى المجتمع أو إلى شيء أكبر منه؛ من أجل إعادة الانسجام بينه وبين الكون، ومن أجل مقاومة الموت أو البقاء بعد الموت، كأثر خالد، أو جزء حي من الكون. ومعنى ذلك أن الإنسان يريد أن يكون منفصلًا عن الكون ومتصلًا بالكون في الوقت نفسه، إنه يريد أن يكون فردًا مستقلًّا بذاته المنفردة وأن يكون جزءًا من مجتمع أكبر في الوقت نفسه، وهذه معادلة صعبة حيرت الإنسان كثيرًا، وسببت له كثيرًا من المعاناة، وهي تشبه معاناة الطفل وسط أسرته. إن الطفل يريد أن يستقل عن الأب والأم ويصبح فردًا مستقلًّا، ولكنه يشعر أيضًا بالرغبة في الالتصاق بالأم والأب والانتماء إلى الأسرة والاحتماء فيها من خطر العالم الخارجي.

وقد كان «فرويد» من العلماء النفسيين الأوائل الذين حاولوا تفسير ظاهرة الدين في حياة البشرية على أساس نظريته في سيكلوجية الطفل. وفي كتابه عن مستقبل الوهم حاول فرويد أن يفسِّر حاجة الإنسان إلى الدين تفسيرًا سيكلوجيًّا، وقال ما معناه إن أصل الدين في حياة البشر يرجع إلى إحساس البشر بالعجز في مواجهة قوى الطبيعة الخارجية، وقوى الغرائز داخل النفس، وإن الدين نشأ في المرحلة المبكرة للتطور البشري حين كان الإنسان عاجزًا عن استخدام عقله في مواجهة هذه القوى الخارجية والداخلية، وكان عليه أن يكبت هذه القوى أو يعزوها إلى قوًى أخرى يجهلها، وبدلًا من أن يشعل الإنسان عقله لفهم هذه القوى الداخلية ويسيطر عليها، فإنه يخلق ما سماه فرويد بالوهم illusion الذي يستعيره الإنسان من خبرته السابقة وهو طفل، حين كان صغيرًا، يشعر بالاحتماء بالأب من مخاطر العالم الخارجين، هذا الأب الذي يمثل له القوة والحكمة، والذي يستطيع أن يحظى بحبه وحمايته له إذا أطاع أوامره وابتعد عن كل ما يغضبه.
وهكذا رأى فرويد أن الدين هو تكرار لخبرة الطفل، وأن الإنسان يعالج القوى التي تهدده بالطريقة نفسها التي يعالجها بها الطفل. إنه كطفل قد تعلَّم أنه يعالج خوفه من هذه القوى بالاعتماد على أبيه وطاعته والإعجاب به، والخوف من عقابه. وقد قارن فرويد الدين بالعُصاب المسلط الذي يحدث في الأطفال؛ ولهذا يرى فرويد أن الدين «عُصاب جماعي Collective neurosis».
وقد حاول «فرويد» أن يبحث في الأسباب النفسية التي دعت الإنسان إلى تكوين فكرة وجود الإله، وهو لا يكتفي بأن يقول إن الدين مجرد وهم illusion، ولكنه أيضًا خطر dangerous؛ لأنه يمنع الناس من استخدام عقولهم أو التفكير النقدي في أمور حياتهم؛ وبذلك يضمحل ذكاؤهم وتفتقر عقولهم. ويقول فرويد: إن عدم استخدام العقل أو التفكير النقدي في أمر من الأمور يعطل التفكير النقدي في الأمور الأخرى. ويرى «فرويد» أن الدين خطر أيضًا على القيم الإنسانية الأخلاقية الأساسية، والتي يسميها: الحب الأخوي بين البشر Menschenliebe والحق والحرية. ويقول فرويد: إن الإنسان إذا تخلص من الوهم الذي يجعله يعتمد على الإله الأب فإنه يواجه وحدته وضآلته في العالم الكبير، ويصبح شبيهًا بالطفل الذي ترك بيت أبيه، لكنه يقول إن النضوج الإنساني لا يمكن أن يتحقق إلا بالتخلص من هذا التعلق الطفولي، وإن الإنسان لا بدَّ أن يعلِّم نفسه كيف يواجه الحقيقة دون الاعتماد على قوًى أخرى خارجية. إذا عرف الإنسان أنه ليس هناك من شيء يعتمد عليه سوى نفسه وقوته، فهو سوف يتعلم كيف يستخدمها. إن الإنسان الذي لا يستطيع أن يستخدم قوته هو الذي تحرر من السلطة التي تحميه أو التي تهدده. إن الطفل لا ينضج ولا يستقل ويعتمد على نفسه ويستخدم قوته إلا بعد أن يتحرر من الاعتماد على أبيه أو الخوف منه.

وقد افترض فرويد بطبيعة الحال بهذا المنطق أنه ليس هناك علاقة بين الطفل والأم، وافترض أيضًا أن هناك علاقة وحيدة بين الأب والطفل، وهي علاقة الخوف وطاعة الأوامر رغبةً في الحماية، وبنى عليها أن علاقة الإنسان بالإله هي علاقة مشابهة، أي إنها علاقة الخوف وطاعة الأوامر رغبةً في الحماية، ولكن ألا توجد علاقة أخرى بين الطفل والأم قائمة على الحب وليس على الخوف؟! ألا يمكن أن تكون العلاقة بين الطفل والأب أو بين الطفل والأم قائمة على المناقشة والاقتناع، وليس على الطاعة العمياء للأوامر؟! والسؤال الثاني هو: هل علاقة الإنسان بالإله في جميع الأديان البشرية قائمة على الخوف والطاعة العمياء للأوامر؟! أليست هناك أديان قائمة على الحب والمناقشة والاقتناع؟!

وهناك كثير من الأديان تنص في جوهرها على أن الله هو الحب، وأن علاقة الإنسان بالإله علاقة حب، وأن حب الله ليس معناه إلا أن يحب الإنسان أخاه الإنسان وأن تكون معاملته للناس على أساس الصدق والعدل والحرية والمساواة، ولا شك أن هناك كثيرًا من المسلمين والمسيحيين الذين يفهمون دينهم على هذا الأساس.

ويقول أريك فروم في كتابيه «الإنسان لنفسه» و«التحليل النفسي والدين» ما معناه أن الأديان التي تقوم فيها العلاقة بين الإنسان والإله على الحب هي إنسانية humanistic، ويُفرِّق بينها وبين الأديان التي تقوم فيها العلاقة بين الإنسان والإله على الخوف، والتي يسميها أديانًا استبدادية أو authoritarian. ويقول أريك فروم إن الأديان الإنسانية القائمة على الحب تساعد الإنسان على استخدام عقله وقوته الذاتية من أجل إسعاد الآخرين وتطور المجتمع إلى الأفضل، أمَّا الأديان الاستبدادية القائمة على الخوف فهي تشل عقل الإنسان، ولا تساعده على استخدام قوته الذاتية؛ لأنه يعتمد على قوة أخرى غير نفسه، يسقط عليها كل الصفات الطيبة كالعدل والحق والحكمة، ولا يبقى لنفسه إلا الصفات الشريرة؛ وبذلك يجد الإنسان تبريرًا منطقيًّا لأفعاله الشريرة المناقضة للعدل والحق والحكمة، إنه يستأصل من نفسه الجزء الطيب فيه، ويسقطه على قوة أخرى خارج نفسه ينظر إليها في خوف وهلع؛ لأنه يشعر أمامها بذنب دائمًا وأنه آثم دائمًا، وتصبح علاقة الإنسان بالله قائمة على الإحساس بالذنب والخوف من العقاب والإيذاء، أي تصبح العلاقة ليست علاقة حب وإنما هي علاقة ماسوشية، يحاول الإنسان فيها أن يتخلص من ذنبه ومن خوفه، وذلك بمزيد من الخضوع وامتهان النفس وإذلالها رغبةً في الحماية والإفلات من العقاب.

ويشعر الإنسان أيضًا بالاغتراب عن نفسه، لقد استأصل من نفسه الجزء الطيب وأسقطه على قوة خارجية بعيدة عنه، وهكذا تصبح نفسه الطيبة بعيدة عنه، غريبة عنه. من هنا ينشأ الشعور المُسَمَّى بالاغتراب، ويحاول الإنسان أن يعالج هذا بعبادة الله، إنه في هذه العبادة يحاول أن يصل إلى هذا الجزء الطيب من نفسه الذي فصله عنه.

ويقول أريك فروم: إن هذه الأديان الاستبدادية هي التي تشبه علاقة الأب المستبد بطفله، وهي التي وصفها فرويد بأنها نوع من العُصاب، والرغبة في الاعتماد على الأب وكسب حمايته، بالخضوع الكامل له وطاعته طاعة عمياء دون مناقشة، وعدم الرغبة في الانفصال عنه؛ خوفًا من الاستقلال والحرية التي تعني له أن ينفصل عن أبيه، ويخرج من بيته، ويهيم على وجهه باحثًا عن حياة خاصة به، وذات مستقلة عن ذات أبيه، إنه يسقط كل القوة على الأب الذي يمثل له الحماية، وتكون علاقته به علاقة خضوع وطاعة، ويجرد نفسه من القوة فيشعر بالضعف، وهذا يحدث أيضًا في علاقته بالدين وفي علاقته بالحاكم أو كل من كان في موضع السلطة العلوية.

أمَّا في الأديان الإنسانية فإن أريك فروم يرى أن الإنسان لا يسقط الجزء الطيب فيه على قوة أخرى خارجه. إن الإنسان يدرك أن صفات العدل والحق والحكمة والحرية والحب داخل الإنسان وليس خارجه، ومعنى ذلك أن الله داخل الإنسان وليس خارجه، وأن على الإنسان أن يمارس الصدق والعدل والحرية والحب؛ ليحقق ذاته كلها، ويشعر بالسعادة المتكاملة، ويتمتع بالصحة النفسية. ومن هنا يتضح أن ممارسة الصدق والعدل والحرية والحب تقتضي أن يدرك الإنسان أن هذه الصفات موجودة فيه، وأن عليه أن يبحث عنها داخل نفسه، ويمارسها في حياته اليومية؛ وبذلك تصبح ممارسة الصدق والحب والعدل والحرية هي الوسيلة الوحيدة لتقرب الإنسان من الله أو من نفسه الكلية، وهذا هو جوهر الدين الإنساني.

لكن الذي يحدث في حياة البشر أن الناس إذا عجزت عن تحقيق الجوهر لجأت إلى التمسك بالشكل كنوع من إرضاء الضمير أو التبرير أو التقليل، لكن ضمير الإنسان (وهو الله في الدين الإنساني) لا يخدعه الشكل والحركات الخارجية، ويدرك الحقيقة من الكذب؛ ولذلك يتعذب ضمير بعض الناس حين لا يمارسون الصدق أو العدل أو الحب أو الحرية، وبعض الناس الذين ماتت ضمائرهم لا يتعذبون وهم يمارسون الكذب والظلم والكراهية.

ويقول أريك فروم: إن الإنسان الذي يتعذب وهو يمارس الكذب والنفاق أفضل من الإنسان الذي لا يتعذب وهو يمارس الكذب والنفاق. ولا شك أن عذاب الإنسان الأول يسبب له العُصاب أو المرض النفسي، ولكن هذا الإنسان أكثر صحة نفسية من الإنسان الآخر الذي مات ضميره تمامًا، ولم يعد يشعر بأي عذاب، وقد يبدو للآخرين أنه أكثر صحة نفسية؛ لأنه أكثر تكيُّفًا مع المجتمع الذي تسود فيه قيم الكذب والنفاق، أمَّا في المجتمع الذي تسود فيه قيم الصدق والعدل والحرية والحب فإن الإنسان ذا الضمير الحي لا يشعر بالعذاب؛ لأنه يمارس هذه المبادئ في حياته اليومية.

ويقول أريك فروم ورونالد لينج ودافيد كوفر وتوماس زاس وغيرهم من علماء النفس إن تفكير الناس يتكون حسب تكوين شخصياتهم، وإن شخصياتهم تتشكل حسب ممارستهم اليومية، أو بعبارة أخرى حسب النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي يحكم المجتمع، إذا كان المجتمع محكومًا بأقلية تسيطر على الأغلبية وتستغلهم لصالح الأقلية، فإن الإنسان الفرد يعيش في خوف دائم من بطش السلطة، ويمنعه الخوف من النضوج والاستقلال والإحساس بقوته وإرادته؛ ولهذا تشجع مثل هذه الأنظمة الاستبدادية الأديان الاستبدادية، وتستغل حاجة البشر إلى الدين الإنساني (بمعناه الإنساني السابق)، وتحوله إلى دين استبدادي إرهابي قائم على الخوف والهلع والعجز والحماية، وليس قائمًا على الحب والقوة والاستقلال، ويصبح الله عند الناس ملجأً وهروبًا سلبيًّا من الحياة وليس مواجهة للحياة وتطورها إلى الأفضل.

وإن تاريخ معظم الأديان يدلُّنا على ذلك الترابط بين النظام الاجتماعي الاقتصادي الحاكم وبين نوع الدين الذي يُفرَض على الناس، إن الدين المسيحي في بدايته كان دين الفقراء الذين بدءوا يحاربون السلطة الحاكمة المستبدة بالناس الظالمة لحقوقهم. والدين الإسلامي أيضًا كان دين الفقراء الذين قاوموا السلطة الحاكمة المستبدة والمستغلة لجماهير الناس. وكذلك أيضًا معظم الأديان، إن معظم الأديان تبدأ بدايات إنسانية، ولكنها بمرور الزمن تنتهي بانتصار النظم الاستبدادية الحاكمة، ووقوع الأغلبية الساحقة تحت رحمة الأقلية المسيطرة المستغلة، يصبح على الحكام أن يستغلوا الدين ضمن أي شيء آخر في حياة الناس، فيجردوا الدين من معناه الإنساني ومن مبادئه الأساسية الجوهرية، ويجعلوه سيفًا مسلطًا على رقاب الناس، ويصبح دينًا استبداديًّا يتفق مع الحكم الاستبدادي، ويساعده على استغلال الناس تحت ستار من الكلمات والشعارات الرنانة، فالعمل والكفاح والقناعة بالأجر الضئيل والموت في سبيل الوطن كلها قيم عظيمة مفروضة على الأغلبية المحكومة، أمَّا الأقلية الحاكمة فهي تستمتع بالراحة والجشع والثراء والأجور المرتفعة والبُعد عن خطر الموت في سبيل الوطن. وتسود في تلك الأنظمة — بطبيعة الحال — الازدواجيةُ في كل شيء؛ وذلك لأن الحكام يقولون أمام الناس أشياءَ ويمارسون في الواقع أشياءَ أخرى عكسية، وتنشر الكلمات المعكوسة المزدوجة الكاذبة، ويتشدق الجميع بالصدق والعدل والحرية والحب، ويطفح الواقع بالكذب والنفاق والظلم والكراهية والقيود والسجون ونزلاء المستشفيات النفسية. وفي تلك الأنظمة يصبح أفضل البشر إمَّا داخل زنزانة السجن أو داخل زنزانة المستشفى النفسي، والفرق بين الاثنين ليس كبيرًا، فالثائر السياسي هو الشخص الذي يرفض الكذب والظلم والكراهية، ويسعى جاهدًا بكل قوته من أجل تغيير النظام الاجتماعي بنظام آخر يقوم على العدل والصدق والحرية والحب، والمريض نفسيًّا (رجلًا أو امرأة) هو الشخص الذي لم يستطع أن يكره بطلًا ثائرًا كالسابق، ولكنه لم يستطع أيضًا أن يقتل ضميره تمامًا (كما فعل الآخرون)؛ ولذلك يتعذب وهو يمارس الكذب والكراهية والظلم، ويقوده العذاب إلى العُصاب والقلق والأرق والاكتئاب والهيستيريا.

ويتوقف علاج الطبيب النفسي للمرضى أو المريضات نفسيًّا حسب موقفه من النظام الاجتماعي الاستبدادي الحاكم، وحيث إن معظم الأطباء لا يعرفون شيئًا في السياسة أو المجتمع، وحيث إن الأنظمة الحاكمة الاستبدادية تفرض على الأطباء أو غيرهم من أصحاب المهن أن يفصلوا بين العلم والسياسة أو بين الطب والسياسة، ويصبح التعليم في المدارس والجامعات ليس تعليمًا من أجل المعرفة وفهم حقائق الحياة والمجتمع ولكن مجرد معلومات متفرقة غير مترابطة تؤهل الشخص للحصول على شهادة من أجل الحصول على وظيفة، ومن أجل سد الرمق فحسب.

لهذا يصبح أطباء النفس بغير موقف تجاه النظام الاجتماعي الاستبدادي الحاكم، ومعنى ذلك أنهم يستسلمون بغير تفكير لأية سلطة تحكمهم، معتبرين أن السياسة ليست من اختصاصهم، وهكذا يتفرغون لمصالحهم الخاصة، ويفصلون بين المريض والمجتمع، ولا يدركون الأسباب الاجتماعية التي تسبب المشاكل المرضية للإنسان، ويصبح كل همهم كيفية الاستفادة من مهنة الطب والإثراء عن طريق العيادة الطبية الخاصة، وهكذا يصبحون جزءًا من النظام الاستغلالي الحاكم، وينظرون إلى الخارجين على هذا النظام أو الرافضين له كمرضى بالعُصاب أو الجنون، ويتصورون أن الشخص العادي المتكيف مع النظام أكثر صحة نفسية من الشخص المُصاب بالعصاب والذي تمزقه الصراعات والعذابات، ويصبح العلاج في نظر هؤلاء الأطباء هو أن يتكيف المريض نفسيًّا مع المجتمع، ولا يكون ذلك إلا بقتل البقية من ضميره وتفكيره الحر المستقل عن طريق غسيل المخ بالصدمات الكهربية أو الحقن المهبطة للتفكير أو الأقراص المهدئة أو المنومة.

وقد أصبحنا نعلم الآن أن مقومات الصحة النفسية عند المرأة نفسها مقومات الصحة النفسية عند الرجل؛ فالمرأة إنسان والرجل إنسان، ومقومات الصحة النفسية للإنسان هي قدرته على النضوج والاستقلال، واستخدام عقله وقوته الذاتية من أجل ممارسة الصدق والعدل والحب والحرية لنفسه ولغيره من البشر.

ولكن هل يسمح الآباء والأمهات لبناتهم (وأبنائهم) بتلك الفرص التي تساعدهم على النضوج والاستقلال؟! هل تقوم العلاقة بين الآباء (والأمهات) وبين بناتهم (وأبنائهم) على الحب والحرية والمناقشة والاقتناع؟! أم تقوم على الخوف والطاعة والكبت؟!

لا بدَّ من الاعتراف بأن معظم علاقة الآباء (والأمهات) بالبنات (والأولاد أيضًا) تقوم على الخوف والطاعة أكثر مما تقوم على المناقشة والحرية والحب. إن كثيرًا من الآباء يتصورون أن الصرامة والشدة والتخويف كلها ضرورية لتربية البنات (والأولاد) تربية جيدة، وهم لا يَدْرون خطورة هذه التربية على الصحة النفسية لبناتهم وأولادهم. إنهم يتصورون أن الطاعة صفة حميدة، وقد يتفاخرون بأن بناتهم وأولادهم يطيعونهم ولا يعصون لهم أمرًا. والحقيقة أن هذه الطاعة ليست صفة حميدة، ولكنها مرض نفسي لا بدَّ من شرحه هنا.

عندما تخضع الابنة (أو الابن) لأوامر أبيها القاسي الصارم، عندما تخافه لدرجة أنها لا تستطيع أن تخالفَه، تصبح فتاة مطيعة مؤدبة، وتكبر شابة مطيعة مؤدبة، ولا تظهر عليها أي أعراض تلفت إليها نظر أطباء النفس، ويقولون عنها إنها تتمتع بصحة نفسية.

لكن علم النفس الحديث يكشف النقاب عن هذه الصحة المزيفة، ويقول إن هذه الابنة (أو الابن) بينما هي تكيف نفسها مع صرامة أبيها يحدث لها شيء داخلها، إنها تقهر عداوة متراكمة ضد أبيها وتكبتها؛ لأنها تشعر بالخطر لو أظهرتها، بل لو كانت على وعي بها، هذه العداوة المكبوتة (رغم أنها خفية) تخلق في نفس الفتاة قلقًا قد يُفضي إلى خنوع عميق، وقد يفضي إلى تحدٍّ غامض، ليس موجَّهًا ضد الأب بل موجَّه ضد الحياة بصفة عامة، وفي كلتا الحالتين الخنوع العميق أو التحدي الغامض غير المصحوب بفعل، تبدو الفتاة أمام الناس مطيعة مؤدبة، أو بمعنًى آخر متكيفة مع الظروف الخارجية.

إن هذا التكيف مع الظروف الخارجية (وخاصة في سن الطفولة المبكرة) غير صحي لنمو وتطور الإنسان نفسيًّا، فهذا الطفل الذي لا يستطيع أن يخالف والده يقمع في نفسه قدرته على التفكير النقدي، وباستمرار عملية القمع يفقد الشخص قدرته على التفكير النقدي نظرًا لأن الاحتفاظ بهذه القدرة أمر خطر وداعٍ لليأس أيضًا، وهكذا تصبح الابنة أو الابن مستعدًّا لقبول أفكار أبيه كما لو كانت أفكاره هو، وحين تصبح شابةً أو شابًّا يكون مستعدًّا دائمًا لقبول أفكار الآخرين كما لو كانت أفكاره هو، وهذا هو ما يُسمَّى في علم النفس بالتفكير الزائف؛ لأنه ليس نتاج تفكير الإنسان نفسه. والتفكير الزائف يُفضي بطبيعة الحال إلى رغبات زائفة، والرغبات الزائفة تُفضي إلى أفعال زائفة.

هذه النشاطات الذهنية الثلاث (التفكير – الرغبة – الفعل) هي التي تكوِّن النفس الأصلية للإنسان، وحينما تكون هذه النشاطات الذهنية ليست خاصة بالإنسان، بمعنى أنها ليست نتيجة نشاطه الذهني الخاص، وأنها لم تصدر عنه بل وُضعَت فيه من الخارج، وأنه يستشعر ذاتيًّا لو كانت منه هو، حينما يحدث ذلك يكف الإنسان عن أن يصبح نفسه، إنه يعتنق نوع الشخصية المقدم له من جانب المجتمع؛ ولهذا فإنه يصبح تمامًا كما يتوقع منه الآخرون أن يكون.

والشخص الذي يتنازل عن نفسه ويصبح آلة متطابقًا مع ملايين الآخرين من الآلات المحيطة به يشعر بما يُسمَّى الأمن الاجتماعي، لقد اختفى منه الخوف الشعوري بالاختلاف، وهو لم يعد بحاجة إلى أن يشعر بالوحدة أو القلق، إنه يشعر بالحماية والأمن الاجتماعي، لكن الثمن الذي دفعه في سبيل هذه الحماية غالٍ جدًّا، إنه فقدان نفسه.

وبالرغم من صفات الطاعة والأدب والتكيف والنجاح الاجتماعي التي يتميز بها هذا الشخص إلا أنه أصبح من وجهة نظر علماء النفس لا يتمتع بصحة نفسية؛ فالصحة النفسية هي قدرة الإنسان على الاحتفاظ بنفسه الأصلية؛ وحيث إن النفس الأصلية تتكون من ثلاث عناصر (تفكير – رغبة – فعل)، فإن الصحة النفسية هي قدرة الإنسان على أن تكون أفكاره ورغباته وأفعاله أصلية، ونابعة منه حقيقة، ومعبرة عنه حقيقة.

إن أي كبت لأي عنصر من عناصر النفس الثلاث يستأصل أجزاء من نفس الإنسان الحقيقية، ويفرض بديلًا من الشعور الزائف أو التفكير الزائف لمن هو مصاب بالكبت. وعلى هذا يمكن القول إن الصحة النفسية تحتاج إلى أن يعيش الإنسان في جو خالٍ من الكبت على أفكاره أو رغباته أو أفعاله؛ بمعنى أنه في حاجة إلى أن يتحرر من القيود. لكن هذه الحرية من القيود ليست كل شيء، إنه لا يكفي للإنسان أن يتحرر من قيود العالم الخارجي ليستمتع بالصحة النفسية، إن هذه الحرية حرية سلبية كما يقول أريك فروم، وهذه الحرية السلبية تفصل الإنسان عن العالم الخارجي كما ينفصل الجنين عن جسد أمه. حينما يولد الطفل ينفصل جسده عن جسد أمه بضع سنوات حتى يستطيع الاعتماد على نفسه؛ وبذلك يتحرر منها نفسيًّا ويصبح إنسانًا مستقلًّا، أي حُرًّا بجسده الخاص ونفسه الخاصة. هذه الحرية الجسدية والنفسية التي حدثت للطفل هي حرية سلبية، لقد تحرر الطفل من جسد أمه وتحرر من حاجته البيولوجية والنفسية لها؛ أي إنه تخلص من القيد الذي كان يربطه كالوتد بأمه، وهو الآن يقف منفصلًا عنها، حُرًّا، وحيدًا، يواجه الحياة وحده ككائن منفصل ومستقل. هذه الحرية تعني الوحدة وتعني المسئولية، وتعني أيضًا القلق والخوف والإحساس بالخطر؛ ذلك أن الإنسان قد انفصل عن جسد الأم أو جسد الكون وفقد ذلك الأمان الذي تعوده حين كان جزءًا صغيرًا في شيء كبير، ولم يكن مسئولًا عن شيء، بل كان جسد الكون هو الذي يحركه وهو المسئول عنه.

ولهذا يصاحب هذه الحرية السلبية الأولى إحساس بالقلق والخوف والوحدة، ويحاول الإنسان أن يتغلب على حدته وعزلته وقلقه وخوفه بأن يبحث عن وسائل تجعله يتحد مرة أخرى بالكون أو أن يكون جزءًا من شيء أكبر؛ وحيث إن الإنسان لا يمكن بحال أن يعود إلى رحم أمه، إذن لا بدَّ أن يجد في المجتمع من حوله «حَبلًا سُرِّيًّا» جديدًا يصله بالعالم به، حينئذٍ يشعر بالأمان ويضيع منه الإحساس بالوحدة والانعزال والقلق.

ولكن هل يجد الإنسان في المجتمع هذا «الحبل السُّرِّي»؟! أو بمعنًى آخر: هل يوفر المجتمع للإنسان الظروف التي تجعله يقيم مع العالم علاقات حميمة؟! وبشكل أوضح: هل يعطي المجتمع للإنسان الحرية لأن يتحد مع العالم والناس؟!

والإجابة عن هذا السؤال: هي «لا»، ربما كان مجتمع العصور الوسطى مختلفًا، ولكن بالنسبة لمجتمعنا الحديث الذي تقوم فيه العلاقات بين الناس على التنافس وليس التعاون، والذي يواجه الإنسان قدره وحيدًا منعزلًا عن الآخرين، ويا ليتهم آخرون سلبيون لا شأن لهم به، ولكنهم آخرون متنافسون عدوانيون، ما إن يستشعر الواحد منهم ضعف الآخر حتى ينقَضَّ عليه كالسمك يأكل كبيرُه صغيرَه.

ولهذا فإن القلق والوحدة والخوف كلها أمراض عصرية يعاني منها إنسان المجتمع الحديث، الذي حصل على حرية سلبية ولم يحصل على حرية إيجابية، الذي تحرر من الروابط الأولية بالعالم لكنه عجز عن خلق روابط جديدة بالعالم، إن الحرية الحقيقية هي تلك الحرية الأخيرة التي يشعر بها إنسان حر مستقل نجح في أن يتحد بالعالم والناس.

ويقول علماء النفس: إن نجاح الإنسان الحر المستقل في الاتحاد بالعالم والناس يتحقق بالحب والعمل الخلاق المنتج؛ ولهذا فإن المجتمع الذي لا يوفر للناس الظروف التي تساعدهم على الحب وعلى العمل الخلاق المنتج هو مجتمع يشعر فيه الإنسان الحر المستقل بالقلق والوحدة والشك في معنى حياته وقيمتها وجدواها؛ ولهذا تزداد مأساة الإنسان في عصرنا الحديث كلما زادت حريته الفردية وزاد استقلاله؛ لأنه يتلفت حوله في العالم ولا يعرف ماذا يفعل بحريته واستقلاله، وليس عليه إلا أن يخوض حياة البورصة القائمة على التنافس وعدوان القوي على الأضعف. وبهذا تصبح القوة هدف الإنسان كي يسيطر على غيره، وهذه القوة لا تمنح الإنسان الحرية الإيجابية أو الحرية في الاتحاد بالعالم والناس عن طريق الحب والعلم الخلاق المنتج، بل هذه القوة تسبب لصالحها قلقًا أشد؛ بسبب الخوف من فقدانها؛ ومِنْ ثَمَّ التعرض لانتقام الآخرين الذين سبق له أن أخضعهم.

إن انتشار الأمراض النفسية وبالذات القلق في عصرنا الحديث، وعلى الأخص في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة إنما هو نتيجة حصول الإنسان على وجه واحد من الحرية هو الحرية السلبية. أمَّا الحرية الإيجابية التي تساعد الإنسان على أن يحقق ذاته المستقلة من خلال عمله الخلاق المنتج أو من خلال حب حقيقي مع الآخرين، هذه الحرية الإيجابية لم يحصل عليها الأغلبية الساحقة من البشر في معظم الاجتماعات، ربما حصل عليها بعض أفراد قلائل استطاعوا أن يحققوا ذواتهم المستقلة من خلال عمل خلاق وحب حقيقي، ولكن الأغلبية من الناس يعملون عملًا متكرِّرًا يبعث على الملل وليس فيه خلق جديد، والهدف منه الحصول على لقمة العيش، وكذلك الأغلبية من الناس لا يحبُّون حُبًّا حقيقيًّا، ولكنهم يدخلون في علاقات نفعية من أجل الحصول على قوة أو مال أو حماية من أي نوع.

وقد أجمع علماء النفس على أن الحرية الإيجابية هي الوسيلة الوحيدة التي يحصل بها الإنسان على الهدوء والأمان والانسجام مع العالم. هذه الحرية لا يمكن أن تتحقق في مجتمع يقوم على التنافس والاستغلال، وإنما تتحقق في مجتمع يقوم على التعاون بين الناس، لكن التعاون بين الناس لا يمكن أن يحدث إذا شعر الناس أنهم غير متساوين؛ فالإحساس بالمساواة شرط من شروط التعاون؛ ولهذا يرتبط دائمًا التعاون بالمساواة، والتنافس بالاستغلال وعدم المساواة.

وبغير التعاون لا يحدث الحب، وبغير الحب يشعر الإنسان بالقلق والوحدة وعبث الحياة، وهذا هو السبب في انتشار هذه الأعراض عند الشباب في مختلف أنحاء العالم، وانتشارها أيضًا في أدب القرن العشرين وفنونه، ذلك الأدب أو الفن الذي يعبر عن أزمة الإنسان الحديث، أزمة إنسان حصل على وجه واحد من الحرية هو الحرية السلبية التي مزَّقت صِلاته القديمة بالعالم والناس، وتركته عاريًا وحيدًا يواجه معارك البطش والنهب والتنافس، يخرج منها في جميع الحالات (منتصرًا أو مهزومًا) قلقًا مذعورًا؛ ذلك أنه يشعر دائمًا بأنه وحيد، وبأنه منعزل عن الآخرين، وأن الآخرين يقفون له بالمرصاد.

إن فقدان الحب في حياة الناس هو الذي يسبب لهم الأمراض النفسية، ولكن الحب مرتبط بالمساواة بين البشر والعدالة والصدق والحرية؛ ولهذا تزيد نسبة الأمراض النفسية بين النساء؛ لأن المجتمع لا يساوي بين الرجل وبين المرأة، ولأن المرأة تُفرَض عليها قيود أكثر من الرجل. إن الرجل — بالذات من الطبقات الكادحة والمحكومة — يتعرض لقيود سياسية واقتصادية ونفسية في عمله خارج البيت، أمَّا المرأة فهي تتعرض بالإضافة إلى ما سبق إلى قيود أخرى خاصة وحدها كامرأة، سواء داخل الأسرة أو في المجتمع الخارجي؛ ولهذا يقع الظلم على المرأة مضاعفًا. وفي ظل هذا الظلم لا يمكن أن ينشأ الحب بين الرجال والنساء؛ فالقيود تفرض على المرأة أن تكذب، والحب لا يمكن أن يوجد في ظل الكذب.

الحب هو أن يشعر الإنسان بصدق، ويرغب بصدق، ويفعل بصدق، الحب هو فعل المشاعر والرغبات الصادقة. ومن أهم ما قاله كير كجارد: إن الحقيقة لا توجد في حياة الإنسان إلا من خلال الفعل، وحيث إن الصحة النفسية تضيع الحقيقة من حياة الإنسان؛ لهذا فإن الفعل ضروري لصحة الإنسان النفسية، والفعل معناه أن يعمل الإنسان فعلًا، أن يطبق أفكاره النظرية في الحياة الواقعية الحقيقية، فالعمل هو النتاج الطبيعي للفكر، والفكر الذي لا يعقبه عمل يظل فكرًا بعيدًا عن واقع الإنسان، أي بعيدًا عن حقيقته، لمعنًى آخر، يظل فكرًا خياليًّا، والصحة النفسية لا ترتبط إلا بالحقيقة والأفكار الحقيقية، أمَّا الخيال فهو مرحلة سابقة للحقيقة فحسب، وأي خيال لا يتحقق أو غير قابل للتحقيق يصبح من الأوهام وليس من الأفكار.

أن يفكر الإنسان وأن يعبر عن أفكاره بحرية أمر ضروري للصحة النفسية؛ فالفكر كما سبق أن ذكرت أحد الأنشطة الذهنية الثلاث المكونة للنفس الأصلية للإنسان. إن الكبت كبت الفكر داخل الرأس والخوف من إبداء الرأي يجعل الإنسان متوتِّرًا في أعماقه، يتصارع فيه الجزء الحقيقي من نفسه مع الجزء المزيف، الجزء الذي يريد أن يعبر بصدق عن نفسه والجزء الذي يريد أن يزيف نفسه خوفًا من الأذى. إن الأب الذي يعاقب ابنه أو ابنته لأنه عبَّر عن أفكاره بصدق، أو المجتمع الذي يعاقب أي إنسان لأنه عبر عن أفكاره بصدق، يخلق أمام الناس جوًّا من الخوف يجعلهم يكبتون أفكارهم وتتصارع أعماقهم، فإذا انتصر الجزء الحقيقي من الإنسان عاش الشخص قلقًا ينتظر وقوع العقاب بين لحظة وأخرى، وإذا انتصر الجزء المزيف عاش الإنسان مطمئنًّا من الناحية الاجتماعية، لكنه قلق من الناحية النفسية بسبب فقدانه لجزء هام من نفسه.

ومن الأفكار التي تُكبَت بسرعة تلك الأفكار التي تتعلق بأمور حساسة في المجتمع. ويختلف كل مجتمع عن الآخر في درجة حساسيته، ونوعيتها، لكن معظم المجتمعات في العالم تجد حساسية متفاوتة الشدة (حسب نوع المجتمع) تجاه أمور ثلاثة في الحياة، هي الدين والجنس والسياسة؛ ولهذا فإن معظم الأفكار التي تُكبَت هي تلك الأفكار المتعلقة بأمر من هذه الأمور الثلاثة.

ويتميز العقل البشري بقدرته على التفكير والتحليق في أي سماء، خاصة العقل الشاب الذي لم يفقد مرونته وشجاعته بعد؛ ولهذا كثيرًا ما نرى شبابًا وشابات، بالذات في سن ما حول العشرين، مُصابين بالقلق والتوتر النفسي، حين يبدأ عقلهم يناقش موضوع الوجود والله، وحينما يبدو لهم أن هناك بعض التناقضات بين الأفكار التي تجول في عقولهم، وبين المُسلَّمات التي يجب أن يؤمنوا بها. ويُصاب الشاب أو الشابة منهم بحيرة شديدة، يزيدها خطرًا أنه يخشى أن يفاتح أحدًا بأفكاره فيُتَّهَم بضعف الإيمان، أو أنه يتجرأ ويُفاتِح أباه مثلًا، فإذا بالأب يلومه ويتهمه ولا يناقشه، ويشعر الشاب بالذنب وأن أفكاره آثمة، وأن عقله فاسد لأنه يفكر في أمور لا يصح التفكير فيها. ويُفضي الإحساس بالذنب بطبيعة الحال إلى الرغبة في عقاب النفس، وقد يوقع الشاب أو الشابة العقاب على نفسه بالانطواء والانعزال عن مباهج الحياة، وقد يجد في إيلام نفسه بعض الراحة أو اللذة (بدء الماسوشية)، وقد تصل الرغبة في إيلام نفسه إلى حد الإيذاء الشديد، أو قد يجد الراحة الكبرى في أن يقتل نفسه جسديًّا أو فكريًّا بطريقة أو بأخرى.

وفي أحيان أخرى تكون الشابة أو الشاب محظوظًا، فتسوقه الظروف إلى إنسان منفتح العقل والقلب، يستطيع أن يحظى معه بنقاش حر هادئ، يخرج منه سليم النفس والعقل؛ فهو لا يشعر بالذنب لأنه يفكر، ولكنه يتعلم كيف يستمع إلى أفكار الغير، وكيف يناقشها، وكيف يكون إيمانه بأي شيء عن اقتناع حقيقي وليس عن خوف أو تقليد. ويصبح مثل هذه الشابة أو الشاب في المستقبل إنسانًا غير مكبوت الفكر، إنه يملك القدرة على التفكير بحرية في أي شيء، ويكسب المجتمع مفكِّرًا جديدًا، أو على الأقل مواطنًا يشغل عقله في أمور الحياة، وليس ذلك الشخص المعطَّل العقل الذي تحركه عقول الآخرين.

ويأتي بعد الدين موضوع الجنس، هذا الموضوع الحساس الذي يكاد يمثل في العالم أجمع مشكلة لصحة الشباب النفسية، إن مجرد التفكير في هذا الموضوع (ولا أقول الممارسة الفعلية) قد يُصيب الشاب بالقلق والحيرة والإحساس بالذنب. هناك تلك الفتاة التي تصل إلى الاعتقاد بأنها آثمة ومدنسة وتستحق العقاب حتى الموت لأنها تحلم برجل في فراشها، وقد تحاول الانتحار عدة مرات. وكم من شبان وشابات عانوا وتعذَّبوا نفسيًّا بسبب الإحساس بالمهانة والعار لممارستهم العادة السرية، وبالرغم من أن علماء النفس والأطباء كتبوا الكثير في السنوات الأخير عن العادة السرية، وأنها مرحلة من مراحل النمو الجنسي من الطفولة إلى المراهقة، وأن التخويف منها هو الذي يخلق كل ما يصاحبها من اضطرابات نفسية أو جسدية، إلا أن كثيرًا من الشباب لا يزالون يشعرون بالذنب والإثم حين يمارسونها.

إن أجسام الشباب والشابات قوية، ورغباتهم ومتطلباتهم أيضًا قوية وحقيقية كملمس أجسامهم، لكن متطلبات المجتمع أيضًا قوية وضاغطة، ويتولد الصراع الحاد في نفس الشابة والشاب بين ما يحسه ويرغبه بقوة وبين ما هو واجب ومفروض عليه بقوة أيضًا، ويشعر بعض الشباب بالأزمة النفسية حين يحسُّون بوضوح التناقض الحاد بين متطلبات أجسامهم البيولوجية والنفسية وبين متطلبات المجتمع الأخلاقية.

ويصبح من الصعب في ظل هذا الصراع أن يتمتع الشاب أو الشابة بصحة نفسية، إنه لو أطاع رغباته في الخفاء (تفاديًا لعقاب المجتمع) تولد لديه إحساس بالذنب يفتك بصحته النفسية، وهو لو ضرب عرض الحائط برغباته وكبَتها أصبحت كالبخار المضغوط الذي يفتك بلا شك بصحته النفسية. ويتعرض عدد غير قليل من الشباب من الجنسين لهذا الصراع في الفترة ما بين الخامسة عشرة والخامسة والعشرين؛ أي في تلك السنوات العشر الحرجة في حياة الإنسان، حين يكون الشاب أو الشابة من وجهة النظر الطبية والصحة النفسية مؤهَّلًا بل في حاجة شديدة إلى الجنس، لكنه من وجهة النظر الاجتماعية والاقتصادية لم يصبح مؤهَّلًا للزواج بعد.

أمَّا الأمر الحساس الثالث وهو السياسة، فهو أكثر الأمور حساسية حتى الآن في معظم مجتمعات العالم، وهناك بعض المجتمعات التي سمحت لأفرادها ببعض الحرية في مناقشة أمور الدين، أو ببعض الحرية في ممارسة الجنس خارج مؤسسة الزواج، إلا أن أكثر المجتمعات تحرُّرًا في هذه النواحي لا تزال ترهب رفع الخطر عن موضوع السياسة، ولا يزال الإنسان في أي مكان من العالم مُعرَّضًا للضرر (يتفاوت الضرر من مجرد التشهير إلى التجويع إلى الحبس أو حتى القتل) إذا ما تناقضت أفكاره مع أفكار القوى المسيطرة في المجتمع.

ويعاني الشباب والشابَّات أكثر من غيرهم من هذا الكبت الفكري السياسي؛ لأنهم وبحكم سنهم أكثر براءةً وصدقًا من الذين تقدَّم بهم العمر وتدربوا على الكياسة والسياسة والدهاء والمداهنة. ويعيش الشاب والشابة منهم الصراع بحدة إذا أراد أن يعيش صادقًا، فإذا انتصر صدقه أقلقه الشعور بالتهديد والخطر الذي قد يطارده في عمله وفي بيته، وإذا انهزم صدقه أقلقته نفسه التي تؤنبه على خنوعه ونفاقه، وكلا الحالين بطبيعة الحال يبعدان صاحبهما عن الصحة النفسية.

إن الصحة النفسية للإنسان مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بقضية الحرية في أي مجتمع من المجتمعات؛ فالحرية لصحة النفس كالهواء أو الأكسجين لصحة الجسد، إن قلَّ الأكسجين فسد الدم وإذا انعدم مات الجسد كله. وكذلك بالنسبة للحرية، إذا قلَّت فسدت النفس، وإذا انعدمت ماتت النفس، وإن ظل الجسد حيًّا يُرزق، لكن حياة الجسد في تلك الحالة ليست إلا حياة عضوية أو بيولوجية كحياة الكائنات الأدنى من الزواحف ووحيدات الخلية.

والحرية المعنية هنا ليست مجرد أن يتحرر الإنسان من قيود العالم الخارجي (أو ما تُسمَّى الحرية السلبية)، ولكنها الحرية الإيجابية يهدف بها الإنسان لتحقيق ذاته من خلال العمل المنتج الذي يحبه، والذي عن طريقه يستعيد روابطه بالعالم الخارجي، لكنها الآن ليست روابط مفروضة أو قيودًا، ولكنها صلات إنسانية تربط الفرد الحر المستقل بخير مجتمعه الأكبر وتطوره المستمر نحو تحقيق العدالة بين البشر والحق والحب والحرية.

إن نفس الإنسان هي نفس الإنسان سواء كان ذكرًا أم أنثى، وإن الإيجابية والقوة والصدق والعدل والحرية صفات المرأة الصحيحة نفسيًّا كما هي صفات الرجل الصحيح نفسيًّا. إن الصحة النفسية للمرأة لا تتحقق إلا من خلال الحب والعمل المنتج تمامًا كالصحة النفسية للرجل، وإن ثالوث النفس (الفكر – الرغبة – الفعل) عند المرأة يحتاج إلى الحرية نفسها التي يحتاجها الرجل، وإن أي كبت لأي عنصر من عناصر النفس يسبب عند المرأة القلق والضيق والمرض الذي يسببه للرجل، وأن المرأة في حاجة إلى الحرية الإيجابية (وليس السلبية فحسب) لتحقيق ذاتها كعضو منتج في المجتمع، ولا يكفي المرأة الطبيعية أن تحقق ذاتها من خلال الزواج أو ولادة الأطفال. إن الأمومة وحدها لا تكفي المرأة لتستمتع بالصحة النفسية، تمامًا كالأبوة التي لا تكفي الرجل ليتمتع بالصحة النفسية؛ فالمرأة كالرجل تحتاج لتحقيق ذاتها إلى عمل منتج في المجتمع، تحتاج إلى فعل، تحتاج إلى أن تفكر وأن تكون أفكارها نابعة من نفسها وليس من الآخرين، وتحتاج إلى أن تكون رغباتها صادقة نابعة من نفسها وليس ممن حولها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤