الطريق الملتوي نحو الأنوثة

بدأت الأفكار الجديدة تتحدى الأفكار القديمة عن سيكلوجية المرأة بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى، واضطرب المجتمع (لأسباب تجنيد الرجال في الحرب) في مختلف نواحي الإنتاج الصناعي والوظائف المختلفة، ومنذ ذلك الحين بدأت أعداد النساء في الإنتاج والأعمال الأخرى تزداد.

وبرغم أن الدوافع الحقيقية لعمل المرأة خارج البيت كانت اقتصادية، إلا أن المجتمع كعادته دائمًا مع النساء لا يُظهر الأسباب الاقتصادية.

لكن خروج المرأة للعمل ومشاركتها في الإنتاج واستقلالها الاقتصادي عن الرجل، وكذلك أيضًا انتشار الأفكار الاشتراكية في العالم، جعل المرأة تكسب صفات جديدة، فهي قوية إيجابية شجاعة مثابرة، قادرة على تحمل مشاق العمل خارج البيت وداخله، وهي تدخن وتشرب وتسهر، وتختار بنفسها رجلها وتقرر مصيرها بيدها ولا تخاف. ومعظم هؤلاء النساء اللائي خرجن إلى العمل وحظين بشيء من الحرية والاستقلال والمساواة مع الرجال أثبتن كفاءتهن وقدراتهن العقلية والنفسية، ولم يعد في استطاعة أحد أن يقول عنهن إنهن سلبيات أو ضعيفات أو ماسوشيات وغير ذلك من الصفات التي ألصقتها نظرية التحليل النفسي بالمرأة.

وقد عجزت نظرية التحليل النفسي (التي أرست منذ بدايتها قواعد الاختلاف بين نفسية المرأة ونفسية الرجل)، عجزت عن أن تفسر هذا التغير في صفات المرأة منذ خروجها إلى العمل بعد الحرب العالمية الأولى، بل إنها عجزت عن مناقشته مباشرة، وإنما لجأت إلى البحث عن الفروق البيولوجية بين الجنسين، ثُمَّ وجدت في بعض الفروق التشريحية تبريرًا لأفكاره؛ ولهذا أشاد فرويد بعبارة نابليون «التشريح هو المصير Anatomy destiny»؛ وبهذا شاركت نظرية التحليل النفسي في تعميق الفروق بين الرجل والمرأة نفسيًّا، كما شاركت في ذلك أيضًا علوم البيولوجيا والاجتماع والفلسفة والحضارة الرأسمالية الذكورية ككل.

وقد حاول عدد من رواد التحليل النفسي خوض ميدان سيكلوجية المرأة والفرق بينها وبين الرجل، ومن هؤلاء: كارب أبراهام، هيلين دوتيش، كارين هورني، جوسين مولر، إيرنست جونز، ميليني كلاين، فان أفيوجين، مولر برونسويج، وغيرهم، وكان سيجموند فرويد بطبيعة الحال على رأسهم.

وقد دخل فرويد هذا الميدان مدعَّمًا بشهرته وعبقريته واهتمامه العميق باكتشاف نفس الإنسان. وفي سنة ١٩٢٧ وضع فرويد كتابه المُسَمَّى: «بعض النتائج النفسية للفروق التشريحية بين الجنسين»، وفي سنة ١٩٣٢ حاول أن يوضح أفكاره أكثر عن المرأة في أجزاء متعددة من هذا الكتاب، ولا أظن أحدًا لم يسمع عن ذلك الاصطلاح الفرويدي «حسد عضو الذكر penis envy» أو عقدة الإخصاء عند المرأة أو عقدة أوديب.

وليس هناك بلا شك ما يوضح رأي فرويد في المرأة إلا كلمات فرويد نفسها، وسوف أسوق بعضًا منها هنا؛ لنرى كيف نظر فرويد إلى المرأة على أنها جنس أدنى من الرجل، وكانت هذه النظرية هي التي شكلت نظريته عن سيكلوجية المرأة.

كتب سيجموند فرويد يقول: «إن «النساء» يرفضن قبول الحقيقة بأنهن مخصيات، ويعشن بأمل الحصول على عضو الذكر في يوم ما، وبالرغم من كل شيء … إنني لا أستطيع أن أتخلص من الفكرة (رغم ترددي في التعبير عنها) بأن القيم الأخلاقية التي تحكم النساء تختلف عن تلك التي تحكم الرجال، وعلينا ألا ننسى هذه الحقيقة؛ لأن الثائرات من النساء يرفضنها، هؤلاء النساء اللائي يرغبن في دفعنا إلى اعتبار المرأة مساوية للرجل في المركز والقيمة.»

ويقول فرويد أيضًا: «ونقول أيضًا على النساء أن اهتماماتهن الاجتماعية أضعف من اهتمامات الرجل، وأن قدرتهن على إعلاء رغباتهن أقل من الرجال … ويبدو أن طريق التطور الشاق الذي يقود إلى الأنوثة يستنفد كل إمكانيات المرأة.»

والحقيقة أن الذي عقَّدَ طريق المرأة إلى الأنوثة هو فرويد نفسه بنظريته المعقدة عن أن البنت الطبيعية حين تولد تحسد أخاها الولد بسبب امتلاكه عضو الذكر، وأنها تتقرب إلى أبيها بأمل الحصول على طفل يعوضها عن فقدانها عضو الذكر، وحين يخذلها أبوها ولا يمنحها الطفل فهي تُشفى من عقدتها الأوديبية، لكنها تظل تأمل في الحصول على الذكر بلا جدوى، ثُمَّ تقبل الحقيقة، وهي أنها ذكر مخصي، وتحاول أن تعوض عن نقصها بالحصول على طفل؛ وبهذا تسعى إلى الرجل.

وقد اتضح من الدراسات الجديدة من سيكلوجية المرأة أن المرأة الطبيعية لا تمر بهذا الطريق الملتوي المعقد نحو الأنوثة أو نحو الأمومة. واتضح أن وصول المرأة إلى الأمومة أسهل وأبسط من وصول الرجل إلى الأبوة، وأن أمومة المرأة تطورت نفسيًّا على نحو طبيعي بسيط، أمَّا أبوة الرجل فقد كان عليها لتتطور نفسيًّا أن تشق طريقًا أصعب.

وقد شاركت هلين دوتيش مشاركة ذكية في نظرية التحليل النفسي، لكن مفهومها عن المرأة ظل في اتفاق مع أفكار فرويد وأبراهام وغيرهم من أعضاء نظرية التحليل النفسي.

وقد استطاع أرنست جونز في كتابه سنة ١٩٢٧ عن «المراحل الأولى لتطور جنسية المرأة»، ثُمَّ في كتابه سنة ١٩٣٣ عن: «المرحلة النظرية» أن يضيف بعض الأفكار الذكية المختلفة، لكنه لم يخرج كثيرًا عن أفكار فرويد؛ لأنه كان يميل إلى اعتبار المرحلة البظرية في النساء كظاهرة عُصابية ونكوص أكثر مما كان يعتبرها مرحلة طبيعية في النمو الجنسي. وكان يرى أن الخوف من التدمير الجنسي الذي سماه aphanisis عند المرأة يتساوى في الأهمية والعمق مع عقدة الخوف من الإخصاء عند الرجل.

وتعتبر «كارين هورني» من رائدات الاتجاه الجديد في سيكلوجية المرأة. وبالرغم أنها كانت تُعتبَر تلميذة لفرويد إلا أنها لم ترثْ كل أفكاره كقضية مسلَّمة، وإنما استطاعت بذكائها وشجاعتها أن تنقد بعض هذه الأفكار وتأتي بأفكار جديدة. وقد كانت من أوائل طبيبات النفس في العالم التي كشفت عن الأخطاء التي اعتنقتها نظرية التحليل النفسي عن المرأة.

وقد لخصت كارين هورني أفكار التحليل النفسي وأفكار فرويد بهذا الجدول الذي نشرته في كتاب بعنوان «سيكلوجية المرأة»، والذي يوضح الاختلافات الطبيعية بين نفسية الولد ونفسية البنت منذ الطفولة.

أفكار الولد أفكارنا (نظرية التحليل النفسي) عن تطور الأنوثة
(١) التطور الساذج أن البنات مثل الأولاد لهن عضو الذكر. (١) أنه عضو الذكر وحده الذي يمكن أن يلعب أي دور في كلا الجنسين.
(٢) اكتشاف أن البنات ليس عندهن عضو الذكر. (٢) الاكتشاف الحزين بأن عضو الذكإن من عادة الرجل أن يُسقط كراهيته الداخلية العميقةر غير موجود.
(٣) اعتناق الفكرة أن البنت ليست إلا ذكرًا مخصيًّا أو مُشوَّهًا. (٣) اعتناق الفكرة بأن البنت كانت تمتلك في يوم ما عضو الذكر ثُمَّ فقدته بسبب الإخصاء.
(٤) الاعتقاد بأن البنت تلقت العقاب الذي يهدده أيضًا. (٤) الاعتقاد بأن الإخصاء كان نوعًا من العقاب الذي أصابها.
(٥) النظر إلى البنت كجنس أدنى منه. (٥) نظرة البنت إلى نفسها كجنس أدنى من الذكر. حسد عضو الذكر penis envy.
(٦) عجز الولد عن تصور كيف يمكن للبنت أن تعوض هذا النقص أو الحسد. (٦) عجز البنت الأبدي عن التخلص من الإحساس بالنقص والوضع الأدنى من الذكر، وعليها أن تتحكم على الدوام في رغبتها لأن تكون رجلًا.
(٧) خوف الولد من حسد البنت له. (٧) رغبة البنت طوال حياتها كلها في الانتقام من الرجل؛ بسبب امتلاكه للعضو الذي فقدته.

وأثبتت هورني في بحوثها خطأ هذه الأفكار، وتقول إنها لا تعبر عن حقيقة سيكولوجية الأنثى، وإنما هي تعبر عن وجهة نظر الرجل في الأنثى بسبب تلك الحضارة الذكورية والعلوم التي صنعها الرجال. وتقول «هورني»: إننا لو حررنا عقولنا من تلك الأفكار الذكورية فإننا سنرى موضوع سيكولوجية الأنثى على نحو مختلف تمامًا. ولعل أول ما رأته «هورني» هو أن الفروق التشريحية بين الولد والبنت هي التي كانت أساسًا لسيكلوجية المرأة في نظرية التحليل النفسي، وأن هذه النظرية غفلت كثيرًا عن العوامل الأخرى، ومنها اختلاف الوظيفة البيولوجية التناسلية لكل من الذكر والأنثى، وأن الأنثى هي التي تلد الذكر، وأن قدرة المرأة على الإنجاب (هذه القدرة التي لا يملكها الرجل) قد لعبت دورًا هامًّا في أن يحسد الرجل المرأة منذ القدم، لا لأن تحسد المرأة الرجل بسبب امتلاكه عضو التناسل.

إن محاولة الرجل لعكس الأمور والحقائق المتعلقة بالمرأة شيء معروف في التاريخ وفي العلوم، ويظهر ذلك بوضوح في نظرية «فيرنزي» ومفهومه عن الأمومة، إنه يرى أن المعنى الحقيقي للعملية الجنسية عند كلا الجنسين ليست إلا رغبة الذكر في العودة إلى رحم الأم، وقد استطاع أن يحقق الرجل ذلك بواسطة عضوه الذكري، ولم يكن أمام المرأة إلا أن تخضع لعدوان الرجل عليها، وأن تعوض ذلك عن طريق حصولها على طفل ترعاه؛ ولهذا تحاول المرأة أن تجد في الولادة لذة تعوضها عن اللذة المعقودة مع الرجل.

ومعنى مثل هذه الأفكار أن المرأة لا تشعر بلذة جنسية، وأن اتصالها الجنسي بالرجل ليس في نظرها إلا تعويضًا لها عن شيء آخر. وهذا بالطبع إنكار للحقيقة التاريخية والبيولوجية التي تؤكد سمو الأمومة وأصالتها وقوتها. وكم سببت هذه القدرة على خلق الحياة الجديدة في الرجل البدائي من كراهية للمرأة وغيرة منها، وتتضح تلك الغيرة في نفوس الذكور من الأولاد. وتقول كارين هورني: إنها دُهشت حين كانت تفحص الرجال نفسيًّا وتكتشف تلك الغيرة الدفينة من قدرة المرأة على الحمل والولادة والأمومة ووجود الثديين والقدرة على الإرضاع. ولم يكن أمام الرجل لعلاج غيرته هذه إلا أن يجعل من هذه الصفة (التي تثير غيرته) قيدًا على المرأة، بل وصمة ضعف ونقص، وكم استخدم الرجل صفة الحمل والولادة ليقيد المرأة ويكبتها ويربطها في البيت لتخدمه وتخدم الأطفال.

أمَّا أن المرأة لا تشعر بلذة جنسية وإنمَّا تخضع لرغبة الرجل فهذا أيضًا لا يتفق مع الحقائق البيولوجية من قدرة المرأة الجنسية، تلك القدرة التي اتضح من الدراسات البيولوجية الحديثة أنها عنيفة ودائرية ومستمرة، وأن الرجل لم يستطع أن ينشئ أسرته الأبوية وحضارته الذكورية إلا عن طريق قمع هذه القدرة الجنسية الحساسة (عملية ختان البنت أخف صورة منها)، أو ذلك الكبت الجنسي المفروض على المرأة في مختلف عصور التاريخ حتى اليوم بالقوانين الذكرية والمحرمات والمحظورات الواقعة على المرأة وحدها. ولا شك أن صرامة هذه القوانين وشدة هذا القمع من جانب الرجل تدل بوضوح على أنه حاول أن يخضع ماردًا جبَّارًا أحس به وأدركه منذ البداية، وهذا هو قدرة المرأة الجنسية العنيفة واللامحدودة كما عبَّر عنها ماسترز وجونسون وشيرفي بأنها قدرة دائرية مستمرة تُشبع ولا تَشبع في الوقت نفسه.

وبرغم وضوح أصالة الأمومة عند المرأة، وأن المرأة عرفت أمومتها الجسدية والنفسية منذ أول الحياة الإنسانية، وأن هذه الأمومة كانت عنيفة بيولوجيًّا، وكانت سامية نفسيًّا؛ بسبب قدرتها على إعطاء الحب لأطفالها، وأن الرجل لم يكتشف أبوته النفسية إلا حديثًا، وأن الذي ربطه بأطفاله أو الذي جعله ينشئ الأسرة أو ينسب إليه الأطفال لم يكن هو الحب الأبوي، وإنما كان هو العامل الاقتصادي وامتلاكه الأرض ورغبته في توريث الأرض لأطفاله، رغم هذا فإن هذه الأمومة بُترت وشُوِّهت في الحضارة الذكرية وفي نظرية التحليل النفسي.

ومن المهم لنا هنا أن نعرف كيف رأى فرويد الأمومة وكيف فسرها، وتتلخص نظرية فرويد عن الأمومة في أن البنت الطبيعية حين تكتشف أنها لا تملك عضو الذكر تشعر أنها تحسد الذكر على هذا العضو، ويزيد هذا الحسد penis envy من رغبتها الليبيدية من أجل الحصول على طفل، وعلى الرجل أيضًا، لكن رغبتها في الحصول على الرجل تنشأ عندها منفصلة عن رغبتها في الحصول على طفل. وتطورت أفكار فرويد من هذه الفكرة الأولى، وأصبح أكثر ميلًا إلى أن يعتبر أن هذا الحسد penis envy يتحول عند البنت ليصبح الرغبة في الحصول على الطفل، وأن رغبة الأمومة عند المرأة تنبع فقط من ذلك الحسد وخيبة أمل المرأة الأبدية بسبب عدم حصولها على عضو الذكر، بل إن تلك الصلة العاطفية التي تربطها بالرجل لم تنشأ إلا عن الطريق المعقد الملتوي، وهو الرغبة في الحصول على عضو الذكر واستبدالها بالحصول على طفل.
ويقتنع الرجل من زملاء فرويد وتلاميذه بهذه الأفكار الغريبة، إلى حد أن يسأل أحدهم وهو جروديك Groddeck قائلًا: إنه يفهم أنه من الطبيعي للولد أن يحتفظ بصورة أمه كموضوع حب، ولكنه لا يستطيع أن يفهم كيف يمكن للبنت الصغيرة أن تتعلق بالجنس الآخر!

وقد خرجت كارين هورني من بحوثها في حالات مختلفة من النساء والبنات أن هذه الرغبة التي يُظهرها عدد كبير من النساء والبنات في أن يكنَّ ذكورًا ليس بسبب حسد عضو الذكر والرغبة في الحصول عليه، ولكن بسبب حياة الأنثى المفروضة عليها من المجتمع، أي أن هذه الرغبة ليست أصلية في المرأة أو البنت بسبب تكوينها النفسي، ولكنها رغبة ثانوية نشأت لأسباب اجتماعية وثقافية.

وتقول كارين هورني: إنه من أجل أن نفهم الأسباب التي من أجلها تحاول الأنثى الهروب من أنوثتها المفروضة لا بدَّ لنا أن ندرس الحياة التي تتعرض لها البنت منذ طفولتها، وبالذات حياتها الجنسية، وكذلك العادة السرية التي هي في مفهوم نظرية التحليل النفسي التعبير الجسدي عن عقدة أوديب.

وفي موضوع العادة السرية عند البنات الصغيرات؛ فالمعلومات قليلة جدًّا (بالنسبة لتلك المعلومات عن الولد) وغامضة أيضًا، وغموضها ليس إلا لأنها معلومات تعبر عن وجهة نظر الرجال. إن العادة السرية ليست إلا نشاطًا ذكريًّا في رأي نظرية التحليل النفسي، والبنت حين تمارس العادة السرية فهي تمارسها بسبب ذلك القلق الناتج عن الإخصاء الذي وقع لها (وهو بتر عضو الذكر من جسمها)؛ ولذلك فإن البنت تمارس العادة السرية ليس عن طريق المهبل ولكن عن طريق البظر، والذي نُظر إليه بالتالي (من أصحاب نظرية التحليل النفسي) على أنه عضو ذكوري نبت خطأ في جسم الأنثى، وأن نضوج المرأة الجنسي والنفسي وبلوغها الأنوثة الحقيقية لا يتحقق إلا بانتقال منطقة الإثارة والحساسية الجنسية من البظر إلى المهبل، وحيث إن هذا الانتقال كان مستحيلًا بيولوجيًّا وفسيولوجيًّا، فقد وقع فرويد وزملاؤه وتلاميذه في حيرة حينما اكتشفوا أن معظم النساء الناضجات (في نظرهم) باردات جنسيًّا، وأن البظر يظل منطقة جنسية حساسة في المرأة، والمهبل يظل منطقة غير حساسة؛ ولهذا لم يجدوا حلًّا لحيرتهم سوى أن يزعموا أن البظر عضو ذكري لأنه عضو نشط جنسيًّا، وهذا النشاط الجنسي صفة الذكور والأعضاء المذكرة فحسب. وربما كان ذلك أحد الأسباب القديمة في بتر البظر من جسم البنات (في بعض المجتمعات القديمة وفي بعض المجتمعات العربية حتى اليوم) من أجل تطهير الأنثى من ذلك العضو النشط الآثم، ولتصبح بعد ذلك الأنثى الكاملة الأنوثة، والتي لا أثر للذكورة فيها، وليصبح النشاط الجنسي من حق الذكور فقط، أمَّا الإناث فليس لهن إلا الحسد والأمل اليائس إلى الأبد.

إن هؤلاء العلماء لو كانوا ينظرون إلى المرأة نظرة علمية حقيقية لوجدوا أن المرأة خُلقت بهذا العضو النشط جنسيًّا، وأن هذا البظر موجود في جسمها بالطبيعة، وكان الأجدر بهم أن يدرسوا نشاطه، ويعترفوا بمظاهر هذا النشاط الذي يُرى في البنت الصغيرة على شكل العادة السرية.

ويرى عدد من العلماء أن العادة السرية نشاط جنسي طبيعي عند الولد والبنت سواء بسواء، لكن كارين هورني تعتقد أن هناك بعض الاختلافات بين الذكور والإناث في ميكانيزم هذا النشاط، رغم أنها تمارَس في الجنسين على نحو تلقائي. وكان تحليل كارين هورني يرتكز على نظرية التحليل النفسي للعادة السرية، والاختلاف بين الجنسين بالنسبة لما عُرف بعقدة أوديب. وهي ترى أن الخيالات الأوديبية عند البنت الصغيرة ترتكز على خوفها الناشئ من كِبَر حجم الأب، الذي تتخيل الاتصال به من أجل الحصول على الطفل، وذلك الخوف من التمزق الذي سيحدث لأعضائها أثناء الولادة. وتعتقد «هورني» أن هذه الخيالات الأوديبية وهذا الخوف من تمزق المهبل تدل على أن المهبل والبظر يلعبان دورًا في التكوين الجنسي للمرأة منذ الطفولة، وأن البرود الجنسي قد يرجع في بعض الحالات إلى هذا، أو ذلك الخوف الدفين في المرأة من الولادة (بسبب كبر حجم رأس الطفل بالنسبة لفتحة المهبل). هذا وإن الرغبة للاتصال بالأب جنسيًّا لا يقابل عند البنت الصغيرة بالإحساس بالذنب نفسه الذي يشعر به الولد الصغير حين يرغب الاتصال جنسيًّا بأمه؛ وذلك لأن البنت تجد في ولادة الطفل تبريرًا مريحًا، أمَّا الولد فليس لديه تبرير بالمثل.

هذا عن الخيالات الجنسية في الطفولة، أمَّا الممارسة ذاتها التي تتم عن طريق العادة السرية، فتقول «هورني»: إن الولد يختلف عن البنت في أنه يجد أثر الممارسة واضحًا؛ بسبب كبر عضوه بالنسبة لبظر البنت الصغير، التي تظل هذه العملية أمامها غير مؤكدة. ولهذا تقول «هورني»: إن مخاوف الولد من هذه الممارسة أثناء الطفولة والمراهقة أكثر من مخاوف البنت.

ولا شك أن «كارين هورني» كانت عُضوًا من أعضاء نظرية التحليل النفسي، وكانت تعتنق بعض أفكار فرويد عن عقدة أوديب، سواء في الولد أو البنت، لكنها استطاعت فيما يختص بسيكلوجية المرأة أن تنتبه إلى الأسباب الاجتماعية والضغوط الثقافية التي تؤثر في طبيعة المرأة وتشوهها، وأن تلاحظ أن البنت الطبيعية لا تحسد الولد بسبب امتلاكه عضو التناسل، ولكن بسبب الميزات الاجتماعية والحرية التي يتمتع بها لمجرد كونه ذكرًا، وأن البنت لا تهرب من أنوثتها وتتمنى أن تكون ذكرًا لتحصل على هذا العضو، وإنما لتحصل على تلك الميزات الاجتماعية والحرية التي يستمتع بها. وتكتب كارين هورني تقول: إن البنت في الحقيقة تتعرض منذ ولادتها حتى مماتها لتلك المحاولة الصارمة أو غير الصارمة (التي تتخذ أحيانًا شكل الرقة) لإقناعها بنقصها ووضعها الأدنى، وهذا بطبيعة الحال يُثير فيها على الدوام رغبتها في أن تكون رجلًا (عقدة الذكورة) … وبسبب أن الحضارة هي حضارة ذكورية، فقد كان صعبًا على المرأة أن تحقق أي نوع من الإعلاء Sumblimation لهذه الرغبة الذكورية؛ لأن كل المهن في الحياة كان يشغلها الرجال؛ وهذا بالطبع رسَّب في نفس المرأة مزيدًا من الإحساس بالنقص … وإنه لواضح تلك العلاقة الوثيقة بين العوامل الاجتماعية والنفسية، وخطورتها بحيث تستحق الدراسة. وقد أثَّرَت العوامل الاجتماعية نفسها على التطور النفسي للرجل، ولكن على نحو مختلف، فهي جعلته يكبت رغبته في أن يكون أنثى بسبب وضع الأنثى الأدنى، كما ساعدته أيضًا على إعلاء هذه الرغبة بنجاح.

وبرغم انتماء كارين هورني إلى أعضاء نظرية التحليل النفسي إلا أنها استطاعت أن تقدم شيئًا جديدًا يُلقي بعض الضوء على نفسية المرأة.

لكن علماء التحليل النفسي في جملتهم ظلُّوا عاجزين عن تقديم الجديد فيما يتعلق بسيكلوجية المرأة، وظل الطريق السيكلوجي نحو الأبوة بالنسبة للرجل ممهَّدًا وسهلًا وأكثر بساطةً وطبيعيةً من طريق المرأة نحو الأمومة الذي أُحيط بالتعقيد والغموض ومزيج من الخزعبلات الفلسفية والتاريخية والعلمية، بل لم تستطع نظرية الازدواجية الجنسية أيضًا أن تخلص سيكلوجية المرأة من الأفكار الخاطئة المحيطة بها.

وليس أدل على هذا العجز من أنه منذ سنة ١٩١٨ حين كتب فرويد كتابه عن: «التحريم والعذرية»، حتى سنة ١٩٣٢ حين أصدر كتابه: «جنسية المرأة»، لم يستطيع فرويد نفسه أن يقترح أي مفاهيم علمية جديدة في هذا المجال، وصرح فرويد حينئذٍ أن هناك الكثير في موضوع المرأة الذي لا زال مجهولًا، وأن تلك المحاولات والنظريات النفسية التحليلية التي بدأت في أوائل العشرينات لم تساعد في فهمنا لحقيقة المرأة، بل لعلها زادت الموضوع تعقيدًا وغموضًا، لكن أحدًا لم يعترف بفشل نظرية التحليل النفسي في فهم المرأة.

ولكن كيف كان يمكن الاعتراف بفشل نظرية التحليل النفسي في فهم المرأة، هذه النظرية التي اعتُبرت في ذلك الوقت ثورة علمية ليس في مجال علم النفس فحسب، وإنما في العلوم الإنسانية والاجتماعية كالأنثروبولوجيا والسيوسيولوجيا والتاريخ، بل وفي علم الأمراض العضوي الباثولوجيا أيضًا والبيولوجيا والفسيولوجيا، بل وفي الأدب والفن والثقافة بوجه عام.

ولا يمكن لأحدٍ منَّا أن ينكر أنه رغم تلك المحاولات المستمرة في تاريخ البشرية للإقلال من قيمة المرأة واعتبارها الجنس الأدنى، إلا أن موضوع المرأة جسدًا ونفسًا ظل مسيطرًا على أذهان الرجال والعلماء والكُتَّاب والمفكرين والشعراء والأدباء، والذي يستعرض إنتاج هؤلاء على مر العصور يندهش لهذا الكم الهائل من الموضوعات والكتب والروايات والأشعار التي تتناول المرأة. إن معظم هذه الكتابات تصور المرأة تصويرًا خاطئًا أو متناقضًا، لكنها تدل على أن موضوع المرأة يحتل في أذهان الرجال (عن وعي أو عن غير وعي) أجزاء كبيرة إن لم يكن أكبر الأجزاء.

وفي أدبنا العربي الكثير من هذه النماذج، لقد كنت أدهش وأنا تلميذة بالمدرسة الثانوية لكثرة قصائد الغزل المقررة علينا والتي نحفظها ونسمِّعها في حصة المحفوظات، وحينما بحثت في الشعر العربي القديم والحديث وجدت أن أكثر القصائد قيلت في الغزل وفي الشوق إلى المرأة والحب والهجران واللوعة ووصف الحبيبة جسدًا ونفسًا.

وحين قرأت أجزاء من الأدب العالمي دُهشت أيضًا حين وجدت أن أذهان الرجال في العالم لم تكن أقل انشغالًا بموضوع المرأة من الرجال العرب. وقد انشغل «ترجنيف» بشدة وبعمق في معظم أعماله بالمرأة والأنوثة ودورها في الحضارة، وكذلك كان إبسن وتولوستوي وزولا وجورج برنارد شو وغيرهم. وقد كان تولوستوي يرى أن سلبية المرأة التامة تحقيق تام لرسالتها البيولوجية في الحياة، وأشاد بحماس شديد بقصة «تشيكوف» المسماة «حبيبتي»، والتي تغزَّل فيها تشيكوف في سلبية المرأة. وفي «نورا» إبسن، و«كانديدا» برناردشو، و«سارة» عباس العقاد، و«دعاء الكروان» طه حسين، وغيرها نجد ذلك الصراع الأبدي داخل ذهن الرجال بين المرأة الأم والمرأة العشيقة.

ولا يمكن أن نغفل أن نظرية التحليل النفسي حاولت أن تفسر أسباب هذه التراجيديا الأنثوية في فكر الرجل، وأن تدرس طبيعة ذلك الصراع وتلك الحرب الداخلية بين الجنسين، لكنها في الحقيقة عجزت عن فهم الأسباب الحقيقية، وفشلت في إلقاء ضوء على كراهية الرجل الدفينة للمرأة، ولم تسُقْ إلينا تبريرًا أكثرَ من أن العالم هو عالم الرجل، وأن المرأة تحيا فيه حياة قاسية، وأن هذا هو قدَرها وعليها أن تستسلم لهذا القدَر. وقد كانت نظرية التحليل النفسي إحدى النظريات في الحضارة الحديثة التي دعمت الأفكار القديمة منذ العصور الوسطى، ونشرت الفكرة التي تقول بأن المرأة ناقصة جسدًا ونفسًا وعقلًا.

وفي كتابه بعنوان: «التحريم والعذرية» قال فرويد: «… إن من عادة الرجل أن يُسقط كراهيته الداخلية العميقة على العالم الخارجي، أي ينسبها إلى أي شيء يكرهه أو أي شيء لم يألفْه. وينظر الرجل إلى المرأة أيضًا على أنها مصدر للخطر، وأول علاقة جنسية بينه وبين المرأة تظل في ذاكرته محفوفة بالخطر.»

وقد وقع فرويد بهذه العبارة فيما وقع فيه أجداده رجال العصور الوسطى، ولا تزال بعض القبائل الإفريقية تؤمن بأن المرأة إذا خَطَتْ فوق ساق رجل نائم فإنه يعجز جنسيًّا، أو أن الرجل الذي يلمس المرأة في فترة الحيض يسقط ميِّتًا. وتدل عبارة فرويد على أن الرجل يقترب من المرأة وهو يكرهها أصلًا؛ وعلى هذا فإن خوفه من إخصائها له قد يكون هو الدافع إلى أن يسقط عليها كراهيته.

وقد أكَّدَ فرويد فكرة أن الغريزة الجنسية عند الرجل تحتوي في أصلها على الكراهية، هذه الكراهية التي يوجهها الرجل إلى الرجل الآخر الذي ينافسه في المرأة. ويتضح ذلك من كلمات فرويد الشهيرة: «إن الحاجة الجنسية لا توجِد الرجال، ولكنها تفرق بينهم»، وهذه الكراهية أيضًا يوجهها إلى المرأة التي يقربها كما يرى فرويد في عبارته السابقة.

وقد رأى جوسين مولر وإيرنست جونز أن البنت تشعر بالذنب، ليس بسبب خوفها من الإخصاء ولكن بسبب خوفها من ألا تنجب أطفالًا، أو بمعنًى آخر خوفها من أن يحدث تدمير لأحشائها الداخلية فتصبح غير قادرة على الحمل والولادة. لكن كارين هورني رأت أن خوف البنت هو خوف من الاغتصاب، وترغب في الانتقام من الرجل الذي يَفُضُّ بَكارتها، ويُخيَّل إليها أن جسدها سوف يُدمَّر أو يُغتال أو يُمتص.

وقد أخذ فرويد فكرة أن جنس الرجال أعلى من جنس النساء على أنها شيء طبيعي، وأن من حق الرجال امتلاك المرأة، وقال في كتابه: «التحريم والعذرية» إن أهمية أن البنت عذراء حتى تتزوج ليس إلا نتيجة طبيعية لحق الرجل المطلق في امتلاك المرأة، وهذا هو أساس فكرة الوحدانية في الزواج monogamy، وهي ليست إلا امتدادًا لهذا الاحتكار، احتكار الرجل للمرأة؛ منذ الماضي. وبرغم مناقشة فرويد لكثير من المحظورات والمحرمات الجنسية والفلسفية في عصره، إلا أنه لم يناقش فكرة امتلاك الرجل للمرأة كحق مطلق لجنس الذكور، وتركها دون مناقشة، بل لعله أكَّدها بنظريته السيكلوجية عن أن المرأة ناقصة عن الرجل جسدًا ونفسًا.

ولهذا نجد أن فكرة فرويد (وزملائه) لا تختلف كثيرًا عن فكرة رجال العصور الوسطى عن المرأة. لقد ورث فرويد أفكار أجداده عن النساء كما هي، وورث فلسفتهم اليهودية التي يصلي فيها الرجل كلَّ صباح ويشكر الرب؛ لأنه لم يخلقه امرأة. وبالرغم من إلحاد فرويد العقلي، إلا أنه ظل يهوديًّا في وجدانه وشعوره، وليس أدل على ذلك من النظرية النفسية التي وضعها عن المرأة، والتي لا تختلف كثيرًا في مضمونها عن نظرية كهنة العصور الوسطى إلى الساحرات الشريرات أو الحكيمات الساحرات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤