خاتمة

قل ما شئت عما بيننا نحن الثلاثة من تبايُنٍ؛ فإنه محال على المتعقِّب ألا يربط بيننا رباطًا وثيقًا، يُبرِّر له أن يجعل نفوسنا جوانب ثلاثة من نفسٍ واحدة، ومن ذا يزعم أن في نفوس الناس جميعًا نفسًا كانت خالصة في تجانسها مع ذاتها وفي نقائها من عوامل الخلاف بين أجزائها خلافًا قد يصل بها إلى حدِّ الصراع بين جزء وجزء؟ وإذا كانت تلك هي طبيعة الإنسان، فمن حقنا — توضيحًا للرؤية وتيسيرًا للفهم — أن نفرض بأنني أنا فوزي الراوي، مع صاحبَيَّ الآخرَيْن: رياض عطا وإبراهيم الخولي، بمثابة نفس واحدة لإنسانٍ واحد، انقسمت على ذاتها ثلاثة جوانب، وكان حظي أنا من هذه القسمة أن أقف موقف الشاهد على العضوين الآخرين، فأرقبهما وهما يتباعدان ويتقاربان، وفي الوقت نفسه أحدد موضعي منهما معًا.

وقصة النفس التي رويتها فيما أسلفته من صفحات، هي قصة ذلك الثالوث مأخوذًا فُرادى ومجتمعًا، ولست أزعم بأنني ذكرت في قصتي كل ما قد عاشه الثالوث وانطبع به وتأثر بحيث اعوجَّ هنا واستقام هناك، فذلك التقصِّي فوق مستطاع البشر، وإلا وقعنا فيما وقع فيه «ترسترام شاندي» من تناقُض؛ وذلك حين أراد أن يكتب عن حياته كتابةً مفصلة يخصص لكل يوم منها عامًا كاملًا؛ فحياة الثالوث الذي يعنينا هنا تيار دافق الموج، وليس في مستطاعنا إلا أن نلقف منه في جريانه قطرات من هنا وقطرات من هناك. والآن — وقد بلغنا الخاتمة — نسأل: ماذا — يا تُرى — كانت أهم معالم تلك «النفس» التي روينا عن حياتها ما روينا؟ ثم إلى أيِّ حدٍّ يمكن اتخاذها شاهدًا على عصرها وظروفه؟ إذ مهما يكن من أمرها، فهي ربيبة والِدَيْن، كان للوالد فيها مزاج وللوالدة مزاج، ثم هي صنيعة خطٍّ معيَّن من الدراسة ومن القراءة، وهي آخر الأمر محصِّلة مؤثراتٍ أحاطت بها، تفاعلت مع فطرةٍ خلفت عليها فأنتج التفاعل ما أنتج.

إن أول ما يلفت نظري من تلك النفس أنها في خصومة دائمة مع نفسها، وقلَّما وجدت من حياتها لحظةً تصالحت فيها مع ذاتها، وحسبنا في هذا الصدد أن نتذكر أنها نفس مثلثة الأركان، لكل ركن منها طبيعة تتنافر مع طبيعة الركنين الآخرين، فهنالك من أعضاء مجتمعها «الأحدب» الذي جاءت حياته انفعالًا مجسَّدًا لا يعرف كيف يستجيب للعوامل المحيطة به في رويَّة هادئة، ولقد فقد بسبب اندفاعه الأهوج كثيرًا جدًّا من احترام الناس وتقديرهم؛ وهنالك إلى جانبه في ذلك المجتمع الصغير عُضو آخر يقع معه على طرفَي نقيض، وذلك هو إبراهيم الخولي الذي غلب عليه العقل ببرودته وهدوئه وموضوعيه، والذي كان من أجل ذلك يفضِّل العيش مع «الأفكار» عن العيش مع «الناس»؛ وأمَّا العضو الثالث — الذي تجسَّد في شخصي أنا — فهو الذي يساير الناس فيما تواضعوا عليه، وهو الذي ينتمي إلى أسرةٍ وإلى أصدقاء وإلى وطن.

إنه إذا جاز لي أن أضع تلك الأنفس الثلاثة التي منها يتألف الثالوث تحت الرءوس الثلاثة التي ورد ذكرها في الكتاب الكريم، لقلت إن النفس «الأمَّارة» هي رياض عطا (الأحدب) لأنه يندفع مع وجدانه ولا يُبالي؛ وإن النفس «اللوَّامة» هي إبراهيم الخولي؛ لأنه ممسكٌ في يده بميزان العقل — ومثله الأعلى هو سقراط — وميزان العقل بطبيعته لا يميل مع الهوى؛ وأمَّا النفس «المطمئنة» التي أسلمت ذاتها لله تعالى وللمجتمع فيما نزل من شريعة يجب لها أن تُراعى، ومن تقاليد وقوانين يجب لها أن تُطاع عن قبولٍ ورضا؛ أقول: إن هذه النفس المطمئنة قد تمثَّلت في شخصي أنا دون الزميلين الآخرين، وهو نعيمٌ أحمد الله عليه حمدًا كثيرًا.

ثم لو جاز لي أن أتحدث عن هذه الأنفس الثلاثة باللغة الفرويدية، لقلت إن صاحبنا رياض عطا هو الفطرة في بكارتها، أو ما يُسَمَّى في مصطلح فرويد «الهو»؛ وأمَّا إبراهيم الخولي فهو النقيض الذي يعارضه ويُلجِمه، والذي يُسَمَّى في ذلك المصطلح «الأنا»، ويأتي فوقهما «الأنا الأعلى» الذي يهدأ فيه الصراع ويسكن القلق.

لكنني وقد وقع على كاهلي عبء الشهادة، لأكون شهيدًا على نفسي وعلى الرفيقين الآخرين، اللذين ارتبطت بهما بتلك الخيوط السحرية الغامضة، التي تراها البصائر وإن خفيت على الأبصار. أشهد بأنه — رغم هذا التقييم لنفوسنا — فقد كانت الغلبة الطاغية لزميلنا الأحدب؛ فهو الذي انعكست حرارته على المجموعة كلها، فأكسبتها الصفة العامة كما يتلقاها الناس؛ ومن هنا كانت مجموعتنا في أعين المشاهدين أدخَلَ في باب السخط والقلق والنزوة التي تنقل صاحبها من فلكٍ إلى فلك بغير موجِبٍ ظاهر.

وكان من أبرز الصفات التي تميَّز بها الأحدب، فانخلعت على الثالوث كله في أعين المشاهدين، ذلك الانطواء الشديد الذي هو أقرب إلى الفرار من دنيا الناس العامة إلى حيث تحيط به جدران بيته، وحتى هذه الجدران كثيرًا ما تبدو له وكأنها العراء، فيأوي منها إلى ركنٍ في غرفة مقفلة النوافذ، وعندئذٍ تهدأ أنفاسه وتطمئن نفسه، ولقد سألت الأحدب مرة: متى بدأت عندك هذه الرغبة في الانطواء على هذه الدرجة التي لا يألفها الناس؟ فأجابني بأنه لا يدري على وجه الدقة متى كانت ولماذا، لكنه كلما دفع ذاكرته إلى الوراء وقع على مواقف من حياته فيها هذا التخفي عن الناس، فضلًا عن أحلامه التي يراها في نومه أو في يقظته على السواء؛ فما أكثر ما يغفو لتسرح خواطره كيفما شاءت، فإذا تلك الخواطر تظل تتقاطر خاطرًا في إثر خاطر حتى ترسو به في مكانٍ منعزلٍ هناك بعيدًا في الفلاة أو على جبلٍ غير مأهول، أو في جزيرةٍ لم تطأها أقدام البشر، وروى لي الأحدب في هذا السياق، أنه ما سافر مرةً في قطار، ووقع بصره على كوخٍ قائمٍ وحده، إلا وتمنى أن تكون حياته في ذلك الكوخ وحيدًا، لا يريد من الدنيا إلا مقدار طعامه وشرابه وما يرتديه من الثياب.

ولئن كُنَّا نحن — أنا وإبراهيم — لا نشارك صاحبنا الأحدب في هذا الفرار العجيب، بالفعل أو بالتمني، فنحن بغير شك نشاركه في نتيجةٍ ترتَّبت عليه، ألا وهي الزُّهد في بهرج الدنيا وبذخها؛ فكلانا — إبراهيم وأنا — يَسعد غاية السعادة أمام مائدةٍ عليها أبسط الطعام وأقله، ما دام كافيًا لإطعامه من جوع، وكثيرًا جِدًّا ما سمعَنا الناس ونحن ننسب إلى أنفسنا الغنى، مستدركين بأنه غنًى قوامه قلة الرغبات لا كثرة المال.

ولا أترك جانب الانطواء والفرار والتخفِّي دون أن أكملها بما يلحق بها عند الأحدب وإبراهيم معًا، وعند الأحدب بصفة خاصة؛ وذلك أنهما معًا قد يوصفان بالجبن في الحياة العامة وفي زحمة الناس، لكن انظر إليهما فيما يكتبانه وينشرانه تجد الجرأة والشجاعة والعلانية الصريحة، كلٌّ منهما في ميدانه! فكأنهما وهما يلوذان بمأمن البيت، فما ذلك إلا ليزداد شجاعة على الورق.

وملمح رئيسي ثالث في النفس — بأضلاعها الثلاثة — التي نروي قصتها، هو سرعة الانتقال من البِشْر والبشاشة إلى الجهامة والعبوس؛ فما هي إلا لحظة خاطفة، حتى ترى الأحدب — بصفة خاصة — قد وثب من عالم الضحك والفكاهة إلى دنيا الصرامة والجد؛ أيكون ذلك طابع المصري من حيث هو مصري، دون أن يكون الأمر مقصورًا على الأحدب وحده، أو حتى على الثالوث كله؟ يجوز، والبيئة تعمل على ذلك؛ فلا يفصل الصحراء الجدباء عن الوادي الأخضر إلا خطوة واحدة تخطوها، فإذا بك في جدب بعد إثمار أو في إثمار بعد جدب، وإن ذلك الخط الرفيع نفسه لهو الفاصل عند المصري بين الحياة والموت، ثم بين الموت والبعث؛ فليس غريبًا — إذن — أن ينعكس ذلك في سرعة الانتقال إبان الحياة من البِشْر إلى العبوس، وعلى أية حال فتلك هي حالة الأحدب الذي — كما قلت عنه — أبرز أشخاصنا الثلاثة تلوينًا وتأثيرًا.

إن مَن لا يعرف من الناس ثالوثنا في تبايُنه تباينًا تتكامل فيه الأجزاء، يدهشه أن يرى تلك النفس جادةً غاية الجد بعد أن رآها عابثة كل العبث، أو أن يراها عابثة بعد أن رآها جادة، يدهشه أن يراها وكأنها قلب كلها لا تعرف إلا حرارة العاطفة وقوة نبضها بعد أن كان رآها فخُيِّل إليه أنها عقل ولا شيء فيها إلا العقل الذي لا يلين مع الحب ولا يضعف مع الميل.

اللهم إذا كانت «المراهقة» بمثل هذا الوثوب السريع من فلك إلى فلك، فتلك النفس التي نروي قصتها قد امتدت بها المراهقة منذ مرحلتها العمرية حتى شاخ صاحبها وابيضَّ شعره ووهن عظمه وعرجت ساقه وعميت له عين وعشيت الأخرى.

وسمعةٌ رابعة نتميز بها نحن الثلاثة جميعًا، لا فرق فيها بين رياض عطا وإبراهيم الخولي وبيني، وهي شدة التواضع الذي كثيرًا ما يُسرِف في حق نفسه فيبدو للآخرين ضعةً لا تواضعًا، ومِنْ ثَمَّ تسرع المخالب إلى نهشه والأنياب إلى تضريسه؛ هو تواضعٌ ورثته «النفس» عن الوالدة لا عن الوالد؛ فقد كانت هي التي أورثتها معظم أخلاقها؛ وأمَّا الوالد فلم يكن متواضعًا، وجاءت هذه «النفس» لا لتأخذ عنه بل لتميل إلى اجتناب ما كان يتميز به.

لكن تواضع «النفس» التي نتابع سيرتها، لم يكن تواضعًا غير مشروط، بل كان مُقيَّدًا بظروفه؛ فهو تواضعٌ بلا حدود أمام الضعفاء غير الأدعياء؛ وأمَّا إن صادفتها شخصية معتدية، لجأت إلى الانسحاب حتى لا تضعُف أمامها فتؤكل، وقلَّما لجأت إلى مواجهة اعتداءٍ باعتداء، وقد لا يكون ذلك عن عفَّةٍ بقدر ما يكون عن شعورٍ بالنقص والعجز.

إنه لو ترك لشهرزاد حبل الكلام لما سكتت مهما صاحت الديَكة في أذنيها لتذكِّرها بإصباح الصباح، ولماذا تسكت و«النفس» التي تتحدث عنها تُغري بالمضيِّ في الحديث الذي ينشر عنها ما انطوى ويفصح عما استتر، ففيها قوة وضعف، وفيها عقل وقلب، وفيها علم وأدب وفن، وفيها الخير والشر والفجور والتقوى؛ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا «صدق الله العظيم».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤