الفصل الأول

أحدب النَّفس

«الحياة عبئها ثقيل على من أصابه في الحياة خذلان.» هكذا قال لي ذلك الرجل العجيب، الذي رأيته أول ما رأيته في زحمة الطريق عابسًا، يلتمس لنفسه مسلكًا بين مئات الناس الذين خرجوا لتوِّهم أفواجًا من دار السينما، دون أن يمسَّ أحدًا منهم بمنكب أو قدم، يتأرجح في مشيته بعضَ الشيء، ولا يدقُّ الأرض بعقبيه، نظراته تنحدر نحو الأرض أكثر مما تلتفت إلى أعلى أو أمام، كأنما أراد أن يتثبَّت قبل الخطو من وضع القدم. تبدو على خطواته السرعة وما هي بسريعة، وتشعُّ من جبهته ومن فمه جهامةٌ تَصرِف الناظر إلى وجهه عن رؤية ملامح عند النظرة الأولى، حتى إذا ما ثبَّت الناظر فيه عينيه، وأزال غلالة الجهامة عن صورته، رأى ملامح ثابتة غليظة: حاجبان قويَّان عريضان أسودان، وأنف طويل مليء، وشفتان مزمومتان، ولحية وشارب كثيفان، شعرهما سميك غليظ اختلط أسوده بأبيضه؛ ملامح تدلُّ كلها على المَضاء والحدَّة والبأس الشديد، لولا أن عينيه تفضحانه فضيحةً كبرى؛ إذ تنطقان بأجلى بيان أن الرجل هادئٌ وادعٌ مستسلمٌ مُستكين.

رأيته يمضي في مزدحَم الطريق، وقد حمل على ظهره ما خُيِّلَ إليَّ أنه ربطة كبيرة بيضاء، شبكها برباط تحت إبطيه لتظل حركة الذراعين حرَّة، فيطوِّحهما حينًا، ويضع إحداهما في جيب سرواله حينًا؛ إنه رجل عجيب يستوقف النظر بين جمْع الناس الذين ملئوا الطريق؛ يبدو من دونهم جادًّا مهمومًا صامتًا، كأنه ينطوي على شيء. ثُمَّ ما هذا الحمل الذي حمله فوق كتفيه!

تعقبته مستطلعًا، فرأيته يخلُص من قلب المدينة إلى طرفٍ من أطرافها بعيد، وهنالك في مكانٍ تغلِب عليه الظُّلمة إلا من شعاعٍ خافتٍ جاءه من مصباح الطريق خلال أوراق الشجر، جلس على جدارٍ لم يتمَّ بناؤه، جلس والحمل على كتفيه، يتململ ويتأرَّق، ويرتكز على ذراعه اليمنى مرةً وعلى ذراعه اليسرى مرة أخرى، والحمل ما زال قائمًا على كتفيه، فسعلتُ سعلةً خفيفة لأُشعِره بوجودي على مقربة منه حتى لا يَفْزَع إذا ما دنوت منه؛ ذلك أني خطوت إليه وحيَّيته، قلت: هذا مكانٌ هادئ يوحي بالتأمُّل.

قال، وقد هزَّته المفاجأة: نعم، تشعر بهدوئه إذا أويت إليه من قلب المدينة الصاخب.

قلت: إني لأَعْجَب أن أراك ها هنا؛ فما كنت أحسب أحدًا سواي يفكر في هذا الركن الهادئ البعيد.

قال: بل العجب عجبي أن أراك؛ فأنا أقضي في هذا الركن المعزول أكثر ساعات المساء، فما رأيتك قبل اليوم وما رأيت أحدًا سواك، إنني آوي إلى هذا المكان لأستريح.

قلت: لكنك فيما أرى لا تريد لنفسك الراحة؛ فحملك ما يزال فوق كتفيك.

قال: ما يزال؟! وهل عرفت أنه من الأحمال التي لا تُلقى عن الكتفين إلا إذا فاضت الروح؟ أنا قائم به وقاعد به ونائم به ومستيقظ به.

قلت: وماذا عسى هذا العبء الثقيل أن يكون؟

قال: إنَّه عبء الحياة؛ أما ترى؟ هو عبء الحياة، وقد أَنْقَضَ والله كتفيَّ، إنه ثقيل على من أصابه في الحياة خذلان.

قلت: إذن فهو حمل نفيس.

قال: ليست نفاسة الحمل بمانعةٍ من أن يكون ثقيلًا؛ فالحمار الذي ينوء تحت أثقاله لا يعبأ أن تكون أثقاله تلك من ذهب أو من حطب.

قلت: ولكنك تستطيع أن تُلقيه عن كاهلك إذا أردت.

قال: كيف أستطيع؟ إنه متصل بالروح مرتبط بالجسد؛ إن رئتيَّ لتعلوان وتهبطان في صدري كأنهما منفاخ الحدَّاد لا يفتُرُ عن النفخ ليظلَّ للنار وهجُها واشتعالها، فلا مناص من أن تظلَّ جذوة الحياة مشتعلةً بين جنبيَّ — رضيتُ أم كرهتُ — وقد أتمنى لهذه الجذوة المتأججة اللاذعة المُحرقة أن تنطفئ فتصبح رمادًا تذروه الأعاصير كيف شاءت على يابسٍ أو ماء.

قلت: وما لرئتيك ولهذا الحمل الذي على كتفيك؟

قال: العلاقة بينهما وطيدة وثيقة؛ فهذا الحمل أطرافه في جوفي، وهو مشدود هناك إلى أوتاده بما هو — في الظاهر — أو هي من نسيج العنكبوت؛ ذلك أنه مشدود إليها بأنفاسي هذه التي تردِّدها رئتاي شهيقًا وزفيرًا، مشدود إليها بموجات خفيَّة خفيفة من هواء، ولكن الويل لي من هذه الأنفاس الواهية التي تنسجها رئتاي خيوطًا فتشدَّ به هذا الحمل على كتفي لأنوء به، ووددت لو عرفت أين تكون أطراف هذا المنفاخ الذي ما ينفكُّ يعلو في صدري ويهبط كي أمسكه عن النفخ لحظةً فتخمد الأنفاس وتنحلَّ الروابط وينفكَّ الوثاق، وبهذا ينزاح العبء الثقيل عن كاهلي؛ إن أطرافه خفيَّة، أمدُّ البصر في جميع أقطاري فلا أراها، وأُرهِف السمع فلا يقع لها على حفيف أو رفيف، وكل ما أسمعه هو هذه النفخات تتوالى من الشهيق والزفير ما ابيضَّ لي نهارٌ أو احلولك ليل. إني لا أذكر الآن من هو الذي قيل عنه إنه ضاق صدرًا بأنفاسه التي تتردد برغم أنفه، ثم كره أن تُشعل له جذوة الحياة بهذا المنفاخ اللعين وهو راغم، فكتم أنفاسه حتى مات؛ لا أذكر اسمه الآن، لكني أُكْبِره وأُحَيِّيه، وأشعر إزاءه بالضآلة والصِّغَر؛ لأنه رأى الرأيَ ففعل؛ وأمَّا أنا فأرى ثم لا أفعل شيئًا.

قلت: ما هذا الذي تراه ولا تفعله؟

قال: أرى الحكمة في التخفُّف من هذا العبء الثقيل، ثم لا أفعل شيئًا في سبيل الخلاص منه. الحقُّ أني لا أدري كيف يظل الإنسان مشدودًا إلى ما ليس يُرضيه، ثم يظلُّ مشدودًا إليه برغم أنفه، وهو عالِمٌ كلَّ العلم أن الروابط التي تشدُّه لا تزيد على نفخاتٍ من هواء، لو سدَّ عليها الطريق لحظةً واحدة لانتهى كل شيء.

قلت: كلا يا صاحبي؛ فالروابط التي تشدُّك إلى حملك هذا أقوى من هذه الأنفاس؛ فليست هي بنفخات من هواء كما ظننت، إنما هي الشعور بالواجب؛ واجب الحياة. نعم إنك تستطيع في أية لحظة شئت أن تتنكَّر لواجب الحياة لتظفر براحة الجسد راحةً أبدية، لكنه الجحيم بعينيه أن تبثَّ في نفسك القلق حين تتخلى عن واجبٍ وجب عليك أداؤه بحكم وجودك.

قال: الواجب كريه أيًّا مَن كان فارضه وأيًّا مَن كان مفروضًا عليه، لقد حكمت الآلهة على «أطلس» — في الأسطورة اليونانية — بأن يحمل السماء على كتفيه حتى لا ينقضَّ بناؤها، والسماء هي السماء بأنجُمها الزواهر اللوامع؛ فهل رأيت واجبًا أسْمَى وأمْجَد من أن تُكلَّف حمل السماء على كتفيك؟ وحملها «أطلس» ثم ناء بحملها، حتى إذا ما جاءه «هرقل» يسأله عن مخبأ التُّفاحات الذهبية التي كُلِّفَ بالبحث عنها في أركان الكون وبين جنباته، والتي قيل له عنها إن مخبأها ذاك لا يعرفه إلا «أطلس» حامل السماء؛ أقول: إنه ما جاء «هرقل» إلى «أطلس» يسأله أين عساه أن يجد بغيته، حتى وثب «أطلس» إلى هذه الفرصة السانحة، ليتخلص من عبئه الذي أنقض ظهره، وقال لهرقل: لستَ بمستطيعٍ أن تجدها بنفسك لأن منالها عسير، فاحمل عني هذه السماء لحظةً حتى أعود إليك بها، ورضيَ «هرقل» مسرورًا بحمل السماء حتى يحقق له «اطلس» بغيته التي لقي العناء في سبيل تحقيقها. وانطلق «أطلس» إلى حيث التفاحات الذهبية، ورآها هناك تلمع في بريق الشمس يحرسها أفعوان جبار، فتسلَّل وغافَل الأفعوان وهو في غفوة، وخطف التفاحات، وعاد مسرعًا إلى حيث ترك «هرقل» في انتظاره يحمل السماء بدلًا منه.

لكن «أطلس» حين اقترب من موضع «هرقل» تذكَّر بشاعة الحمل الذي حمله على كتفيه هذه القرون الطوال؛ تُرى هل يفي بوعده ويعطي «هرقل» تفاحاته الذهبية ثم يعود هو إلى حيث كان تحت عبئه الباهظ؟ أو يَنْعم بهذه الحرية التي أتاحتها له الظروف فيتخلص من عبئه ذاك إلى الأبد؟

لا؛ إنَّه لن يعود إلى حمله ذاك، وسيحتفظ بحرِّيته التي ظفر بها بمصادفةٍ قد لا تعود، هكذا اعتزم «أطلس» ودنا من «هرقل» وقال له: ابقَ حيث أنت حاملًا السماء على كتفيك، وسآخذ أنا هذه التُّفاحات الذهبية إلى حيث أردت أنت أخذها. فتظاهر «هرقل» بالقبول والرضا؛ أليست هي السماء بأنجمها اللوامع الزَّواهر؟ إذن فليحملها راضيًا على كتفيه، لكنه طلب من «أطلس» أن يتفضل عليه بصنيعٍ واحدٍ صغير، وهو أن يحمل الحمل لحظةً قصيرة، حتى يضع الوسائد على كتفيه؛ لأن ضغط الحمل شديد على كاهله، فأخذت الشهامة من «أطلس» مأخذها، وفعل ما طلب إليه «هرقل» فعله؛ وكيف يتردد في قبول العناء لحظة أخرى قصيرة، لقاءَ حرِّيةٍ يظفر بها من هذا العبء الثقيل إلى الأبد؟

ألقى «أطلس» بالتُّفاحات على الأرض، وحمَل السَّماء عن «هرقل» حتى يضع «هرقل» على كتفيه الوسائد والحشايا التي تهوِّن عليه أداء هذا الواجب الجديد الذي أُلقي عليه، لكن «هرقل» لم يكَد يزيح عن كاهله حمل السماء، حتى أخذ التفاحات ومضى تاركًا أطلس في مكانه القديم، يشقى بأداء واجبه الذي فُرض عليه بحكم وجوده.

قلت: ماذا تعني؟

قال: أعني ما قلته؛ إن عبء الحياة ثقيل، مهما تكن صورته، ولا يشدُّنا إليه أو يشده إلينا إلا هذه الأنفاس نتنفسها، ولو كتمها حامل العبء لاستراح من أداء هذا الواجب الثقيل.

قلت: يا صاحبي إن الحياة التي تؤرق صاحبها هي الحياة المريضة؛ فأنت لا تشعر بوجود أي جزء من أجزاء جسمك إلا إذا اعتلَّ، إنك لا تشعر بوجود عينيك أو أذنيك أو معدتك أو قلبك إلا إذا أصابتها أو أصابته العلة؛ أمَّا إذا كانت هذه الأجزاء سليمة فلن تشعر بمجرد وجودها، فضلًا عن أن تحسَّ الألم من حملها. إن حياتك — فيما أرى — قد مرضتْ فأحسستَ بوجودها ثم بحملها وثقلها، كأنما هي زائدةٌ أُضيفت إليك وليست منك ولا أنت منها. ولستُ أعجب الآن أن أرى حياتك المريضة هذه قد برزت فوق ظهرك قَتَبًا كبيرًا.

قال: قُل ما شئت فيها؛ فهي حياتي التي لا أملك سواها، وقد ضقتُ ذرعًا بثقلها.

•••

شغلني «أحدب النفس» طول الليل؛ ذلك الرجل العجيب المكتئب العابس، الذي يحمل عبء حياته قَتَبًا بارزًا على ظهره؛ شغلني طول الليل، يملأ أحلامي إذا غفوت، وتمثُلُ صورته أمام عينيَّ إذا صحوت، وما زلت طول ليلي بين غفوةٍ وصحوٍ حتى كان الصباح.

تُرى لماذا يحمل هذا المسكين حياته كالدُّمَّل الكبير فوق ظهره؟ أيكون ذلك لأنه ركَّز انتباهه فيها فوضحت له علَّتها وبرز أمام عينيه سُخْفُها؟ ولو قد تغافل عنها كما يفعل سائر الناس لسَرَتْ في دمه، وخفيتْ عن بصره؟ يجوز؛ كما تُكرِّر لفظةً وتركِّز سمعك في جرسها، فسرعان ما تنفر من صوتها المنكَر، بعد أن لم تكن قد فطنت لنُكره حين استخدمْتَها غير آبهٍ لها ولا ملتفتٍ إليها؛ خذ كلمة إمبراطور وكررها عدة مرات: إمبراطور، إمبراطورمبرا، طورمبرا، طورمبراطور؛ صوتٌ عجيبٌ منكَر، ظهر نُكرُه وشذوذه حين ألقينا إليها السمع، وكان يمكن ألا نقف عنده هذه الوقفة الفاحصة، فيظل له في النفس هيبةٌ وجلال.

كذلك صاحِبُنا «أحدب النفس»؛ ربما كان الفرق بينه وبين سائر الناس أنه قد أنعم النظر في معنى حياته، فانتهى به النظر إلى أنها أنفاسٌ فاترةٌ واهيةٌ من هواءٍ فاسد، لا شيء أكثر من ذلك؛ وهو لهذا يَعْجَب كيف يجوز أن يُشَدَّ وثاقه إلى الأرض بخيوطٍ واهيةٍ كهذه على كُرهٍ منه؟

وأحسست برغبةٍ قويةٍ في نفسي أن أَلْقَى هذا الرجل لقاءً آخر، فقصدت في المساء إلى المكان المهجور الهادئ الذي لقيته فيه أول مرة، ووقفت طويلًا أرقب من بعيد، حتى رأيته يَسْرِي في غير صوتٍ بين الظلال كأنه الشبح؛ إنك لا تخطئه من بعيد؛ فالحمل الذي على كتفيه يُميِّزه، وله مشية خاصة يتأرجح فيها الجذعُ وتلتفُّ الساقان.

وقفت في مكاني حتى رأيته يستقرُّ في موضعه من الجدار الذي لم يتم بناؤه، صعد على كومةٍ وطيئةٍ من هشيم الصخر، ومسح جبهته بمنديل، ومال مرتكزًا على ذراعه اليسرى، فدنوت منه.

قلت: السماء الليلة أكثر غمامًا، والدنيا أشد ظلامًا من ليلة الأمس، برغم وجود القمر.

قال (ولم يرتح لرؤيتي): وماذا يصنع القمر في الدنيا إذا اسودَّت بظلامها وغمامها؟ إن مَن أراد الضوء فضِّيًّا رائعًا خالصًا من شوائب الظلمة، فليرتفع عن الأرض وغلافها حتى يجعل الغمام من دونه، وعندئذٍ لا يكون ظلام؛ لكن الإنسان مشدود إلى الأرض بأحمالٍ وأثقال؛ لا، بل إنه لمشدودٌ إليها بهذه الخيوط الواهية؛ مشدود إليها بنفخات من هواء؛ وإذن فلا رجاء له في ضوء أكثر مما قد يتسرب إليه خلال فتحات السحاب. العجيب في هذه الدنيا أنها بيع وشراء، فلا بدَّ أن تدفع لكل شيء ثمنه! أتريد أن تمتد بك الحياة؟ إذن فخُذْ من حولك هَبَّةً من الهواء شريطة أن تردَّ مكانه هبَّةً مثلها، أتريد أن تخلص من ظلام الأرض ليصفو لك الضوء؟ إذن فاصعد إلى قمة هذا الجبل العالي حتى تُجاوِز السحاب، عندئذٍ تجد الضوء وقد صفا من الشوائب، لكنك ستجد كذلك برودة الثلج.

قلت: وماذا يُشقيك من غمام السماء وظُلمة الليل؟ انظر إلى الدنيا بعين الفنان ترَ السماء الغائمة في مثل جمال السماءِ المُقْمِرة، أليس ظلام الليل أحيانًا أشدَّ فتنةً من ضوءِ النهار؟ سلِ العاشقِين يجيبوك أيُّهما أفعلُ في نفوسهم سِحرًا، الليل الوسنان في ستْرِه، أم النهار اليقظان في نشاطه وصحوه؟ سلِ العابدين متى تصفو لهم قلوبهم للعبادة؟ سل المفكرين متى تهدأ لهم عقولهم للتأمل؟ سل المُجَّان متى يطيب المجون؟ سل المتآمرين لماذا يدبِّرون الأمر بينهم بلَيْل؟ … فلماذا لا تلتمس يا أخي في كل شيء وجهه الجميل؟ إن الذي ينقصك هو الخيال.

قال: الخيال الذي أهرب به من الواقع؟

قلت: ليكن ذلك، ولماذا تستعبد نفسك للواقع إذا أمكن العيش الهانئ في جوٍّ من الخيال؟ أتدري ماذا تكون المرأة الجميلة في «الواقع»؟ إنها تكون كيسًا من الجلد محشوًّا بالقذر والبلغم ومختلف السوائل والغضاريف! أتدري ماذا تكون الصورة الجميلة في «الواقع»؟ إنها تكون خرقة من قماش صُبَّ عليها خليط من الأحمر والأصفر والأخضر أو ما شاء الله من صباغ، واهصُر الوردة الجميلة بين أصابعك لترى ماذا عساها في «الواقع» أن تكون … إن الذي ينقصك — كما قلت — هو الخيال، الخيال الذي يجعل لك من المرأة شيئًا جميلًا، ومن الصورة شيئًا جميلًا، ومن الوردة شيئًا جميلًا، ومن غمام السماء شيئًا جميلًا، ومن ظُلمة الليل شيئًا جميلًا! لماذا تنظر إلى الأرض كما تفعل الديدان، ولا تشخص ببصرك إلى السماء كما تصنع الآلهة؟

لست أدري لماذا أخذني الاهتمام بهذا «الأحدب» فامتلأت حرارةً وأنا أبادله الحديث، لقد أُوحيَ إليَّ عندئذٍ أن هذا «الأحدب» عليل النفس، مريض القلب، كليل الحياة، وأن قوة خفيَّة تقتضيني أن أقوِّم فيه ما اعوجَّ إذا استطعت إلى تقويمه من سبيل، إنه عابس ولا بد أن يبتسم، يائس ولا بد أن ينبسط أمامه الأمل، متشكِّك ولا بد له أن يؤمن، أعماه «الواقع» ولا بد له أن يجاوز حدود الواقع بعين الخيال.

لكن «الأحدب» قد ضاق — فيما يظهر — صدرًا بحديثي، وأخذ يعتدل في جلسته مرة، ويميل على هذه الذراع مرة وعلى تلك مرة، ويشيح بوجهه عني، كأنه يريد أن يصرف الأُذن عما أقول، بَيْدَ أني لم أعد أنظر إلى موقفي منه نظرة التسلية والعبث، فلا أقلَّ من أن أستطلع بعض سرِّه، وأستخرج شيئًا من مكنون نفسه، وسادت فترة قصيرة من سكون، ونزل عن مكانه من الجدار، وقال في صوت فيه تكلُّف وافتعال: أنا مضطر أن أعود وسينقطع بعودتي هذا الحديث الجميل.

قلت: الأرجح أن طريقنا واحد ولو إلى حين.

ولعله لم يَطِبْ نفسًا لهذه الصحبة الثقيلة في طريق عودته، لكني تجاهلت ما يريد لنفسه من عزلة الطريق، وسِرت إلى جانبه، سِرنا بخطوات بطيئة خفيفة، لكن وقْع أقدامنا على حصباء الرمل ومنثور الحجر. كان له رنينٌ في ذلك الركن الهادئ البعيد.

قلت مستأنفًا الحديث: نعم، إن الذي ينقصك هو الخيال، ينقصك مَثلٌ أعلى تعمل من أجله فينُسيك الهدف مشاقَّ الطريق.

قال (وقد ازداد تثاقُلًا في خُطاه): أصابني مرض الخيال وعلَّة المثل الأعلى منذ خمسةٍ وعشرين عامًا، ولبثت آثار المرض تتراكم، حتى كان هذا النتوء الذي تراه شائهًا فوق كاهلي؛ في ذلك الماضي البعيد قلت لنفسي: دع عنك الواقع وخشونته وغلظته وجلافته، والتمس لنفسك سُلَّمًا في دنيا الخيال تصعد على درجاته إلى أجواز السماء، إن صحبة الأصدقاء في لهوهم «واقع» فلا تأبه له، والمرأة «واقع» فلا تُلْقِ بالك إليها، والطعام والشراب «واقع» فلا تحفل بطعام أو شراب، هذا الذي حولك كله «واقع» فاخرج من نطاقه، وهناك في صومعةٍ وقعتُ عليها في جوف الجبل، آثرت العيش في كنف الخيال.

ولبثت أعمر الصومعة بخيالي عامًا في إثر عام، وعقدًا من السنين بعد عقد من السنين، لم تكن الصومعة خاليةً في بصري وسمعي، كنت أرى فيها الخيال مجسَّمًا حتى لأنسى أنه من خَلْق أوهامي، أحدِّثه وأسمع لحديثه، وأتملَّقه ويبتسم في وجهي، وظللت في صومعتي أعبد آلهة خيالي، لا أشهد نور الشمس ولا أريد أن أشهده، ولا أرتد إلى دنيا الناس والعمران ولا أريد أن أرتد إليها، ولا أستنشق الهواء الطلق النقي ولا أريد أن أستنشقه؛ كنت على نقيض فاوست.

فقد اتفق الشيطان مع فاوست أن يُمهله ردحًا من الزمن، يعمل فيه فاوست ما يشاء، شريطة أن يأتيه الشيطان بعد ذلك فيتقاضى أجر إمهاله، وليس أجره بأقلَّ من روح فاوست، وكان فاوست عند أول اتفاقه مع الشيطان يظن أنه الكاسب في هذه الصفقة، فماذا يهمه من نفسه إذا ما تُرِك له الحبل على الغارب عشرين سنة أو ثلاثين؟ لكن السنين انقضت، وصبْر الشيطان جميل لا ينفد، وجاء الشيطان ليستلَّ من فاوست حياته، وعندئذٍ فقط أدرك فاوست أنه خسر في اتفاقه مع الشيطان خسرانًا مبينًا؛ إذ كيف يبيع روحه بعشرين عامًا أو ثلاثين، مهما يكن ما يملأ هذه الأعوام؟

وأمَّا موقفي من شيطاني فعلى نقيض ذلك، عقدتُ معه اتفاقًا أن أبيعه حياتي ردحًا من الزمن، على أن يردَّها إليَّ بعد ذلك خصبةً مليئةً قويةً، وذهبت إلى صومعتي تلك، لا أعرف فيها الحياة ولا أخالط الأحياء، أعلِّل النفس طوال السنين بأن حياتي السلبية مردودة إليَّ بعد حين، بعد أن تكون كل حبة فيها قد أنبتت مائة سنبلة، وفي كل سنبلةٍ مائة حبة، فلمَّا انقضى على غربتي عهد طويل، طلبت من الشيطان أن يفيَ بوعده كما وفيت له بعهدي؛ وفعل، فإذا ما يعطينيه نفخاتٌ من هواء، هي هذه الأنفاس أردِّدها في صدري، ثم لا شيء غير ذاك، وضحك مني الشيطان ضحكة قوية حسبتُ الأرض ترتجُّ لها تحت قدمي، وها هنا ابتسمت ابتسامةَ من زالت عنه غشاوة الخيال لأول مرة، وأبصرَ حقيقة الواقع لأول مرة، وقلت لنفسي: إذن أستريح بعد هذا العناء الطويل، إن الصومعة التي عَمَّرها لي الخيال قد باتت خاويةً إلا من أصداء أنفاسي.

لكن مضجعي لم يستقم تحت ظهري حين أردت الراحة؛ لأن عهد الصومعة كان قد خلَّف لي هذا الورم الأليم الذي تراه بارزًا عند كتفي، إنه ورم نسجته لي الأعوام طبقة فوق طبقة، كما يفعل مَرُّ الأعوام في جذوع الشجر حين يرتسم عليها حلقةً وراء حلقة.

وكُنَّا قد بلغنا العمران، وأراد «الأحدب» أن ينصرف إلى سبيله، فقلت له مودِّعًا: إن لي معك حديثًا آخر.

•••

حسب صاحبي «الأحدب» حين افترقنا أني أدبرت عنه كما أدبر عني، لكني تعقَّبته لأرقبه وهو يلتمس لنفسه الطريق في زحمة الناس التماس الحَيِيِّ الذي يخشى أن تلتقي بعينيه عينان، إنه على وعيٍ شديد بنفسه، إنَّ ذراعيه تحيِّرانه وتربكانه، فأين يضعهما؟ وذلك وحده دليل على حيرة نفسه وارتباكها، ألا إن الذراعين لتخبرانك بمكنون النفس كما تخبرك العيون والشفاه، إنه لا يمشي في ضوء المصباح إذا وجد الظلام، ولا يقصد إلى مزدحم الطريق إذا رأى الفضاء المهجور، عيناه مصوَّبتان نحو الأرض دائمًا، وقدماه تحفَّان الأرض حفًّا خفيفًا.

عبَرَ الطريق في موضعٍ كثُر فيه العابرون، إنه في العابرين بارز واضح؛ فهو لا يفنى في الزحام، ولا يذوب في الناس، إنه فيهم كملعقة من الزيت صُبَّت في قدحٍ من الماء تُحركها إلى أعلى وأسفل، وإلى يمين وشمال، فما تزال شيئًا متميزًا من الماء الذي حولها، إنه في أمواج الناس على طول الشارع لم يفقد معالمه، أخذ يعلو تلك الأمواج البشرية حينًا؛ أعني أنه كان يظهر لي حينًا ويختفي حينًا آخر، حتى انتهى إلى شارع هادئ متباعد المصابيح.

كان ظِله مروِّعًا مخيفًا، يقصُر ويَطول، ثم يقصر ويطول، هو الآن مطروحٌ أمامه، وهو الآن إلى جانب، وهو الآن ممدود وراءه يتابعه ويلاحقه، وهو في كل أوضاعه أبعدَ ما يكون الظل عن صورة البشر، وما هو إلا أن دخل «الأحدبُ» دارًا، بخطوات سريعة، كأنه الأرنب المذعور يأوي إلى جحره ليستكنَّ فيه آمِنًا من طراد الصائدين.

فوقفت بغتة، ثم سِرت مسرعًا نحو الباب الذي قذف «الأحدب» بنفسه فيه، لم أرَ شيئًا هناك إلا مصباحًا كهربائيًّا خافِت الضوء في الركن الأعلى من بهو السلَّم، إنه بناءٌ عالٍ من ستة طوابق أو سبعة، وحين صَعَّدت بصري في لمحةٍ سريعة إلى أعلاه، لم أرَ إلا نوافذ وشرفات، أكثرها مُعْتِمٌ وأقلُّها مضيء.

من عسى هذا «الأحدب» أن يكون؟ أينطوي جنباه على سرٍّ دفين، أم أنه لا سرَّ في الأمر، وأن كل ما في جوفه قد برز ورمًا على ظهره؟ لكنه شاذٌّ غريب بغير شك، إنه قطعة منثورة وحدها، والويل كل الويل، ثم الخير كل الخير، من هذه القطع التي تنثرها عجلة الحياة بعيدًا عن مركزها وإطارها، فتظل دائرة في فلك وحدها؛ فمِن هؤلاء يكون الثائرون الساخطون، ومنهم يكون العظماء المصلحون، ويكون الأنبياء والأولياء، ويكون المجرمون النوابغ في إجرامهم، ويكون الفنانون المبدعون في فنِّهم، فما أقرب الشبه بين هؤلاء جميعًا على بُعد ما بينهم من تفاوت واختلاف، كسيلِ الماء العرم، هو الذي يُصلح الزرع، وهو الذي يُفسده، على حسب ما يحيط به من ظروف.

و«الأحدب» — فيما يظهر لي — قطعةٌ بشريَّة منثورة وحدها، تدور في فلكٍ وحدها، تُرى من ذا يكون وماذا يكون؟ لقد بتُّ ليلتي أفكِّر فيه وأفرض في أمره الفروض، وعاودني الشعور الخفيُّ أن أُصلِح ما فسد، فأقيم في هذا المسكين ما التوى، وأقوِّم ما مال واعوجَّ، أو قُل إن حبي لاستطلاع أمره قد غلبني، فسترتُ نفسي وراء هذا الشعور الخفي، وتذرعت بهذا السلاح، ومضيت عصر اليوم التالي إلى الدار التي دخلها «الأحدب» ليلة الأمس، مضيت لا ألوِّي على شيء، وأخذت أُسرع الخطو حتى لا يصرفني التردد عن غايتي.

لم أجد عند الباب أحدًا، وتلفَّتُّ ها هنا وها هنا، وتحركت خطوتين هنا وخطوتين هناك، ثم دخلت وصعدت الدَّرَج مبطئًا غاية الإبطاء، شاخصًا ببصري إلى أعلى؛ الأبواب كلها مغلقة، صعدت الدَّرَج حتى نهايته، ونهايته سطح نظيف، وقفت قليلًا وقلبي ينبض نبضًا شديدًا من الصعود ومن الخوف معًا، الخوف من هذا البناء المهجور الذي لا يعمره إنسٌ ولا جنٌّ، لكني رأيت الضوء منبعثًا من نوافذه ليلة الأمس، وهممت بالنزول، لولا أني بلفتةٍ غريزيةٍ لويتُ عنقي ونظرت إلى نافذةٍ مغلَقة الزجاج في ركن السطح؛ إن وجهًا يُطل من خلف الزجاج، إنه هو «الأحدب».

لم يعد بيني وبين كشف الغطاء إلا خطوات خطوتُها نحو غرفة «الأحدب»؛ وفتح لي الباب قبل أن أقرعه؛ إن روعي ليهدأ قليلًا قليلًا، إن الخوف لينزاح عني إزاء هذا الوجه الباسم الذي فتح لي الباب ليتقبلني مسرورًا مُرحِّبًا، ليس الوجه العابس في الطريق عابسًا هنا، والصدر الضيق على الجدار الذي لم يتم بناؤه رحيب واسع هنا، ولولا نتوء الورم فوق ظهره لقلت إنه إنسان آخر، لقد استدرَّ وهو في الطريق إشفاقي، لكنه في داره استثار حبي، إنه ها هنا يمزج في حديثه الجدَّ بالفكاهة، ويقول النكتة في إثر النكتة، ويضحك من كل قلبه، ألا سبحانك اللهم، تضع الرجلين — بل تضع جمهورًا من الرجال — في إهاب واحد.

إن مشكلة «الهوية» التي تحير الفلاسفة لم تعد تحيرني؛ فالفلاسفة يُصدعون رءوسهم تصديعًا في محاولة الجواب عن هذا السؤال: كيف يحتفظ الشخص الواحد بهوية واحدة مع اختلاف ظروفه؟ إنه يكون صحيحًا ويكون مريضًا، ويكون طفلًا ويكون رجلًا، ويكون شبعان ويكون جائعًا، ويكون غضبان ويكون راضيًا، ويكون يقظان ويكون نائمًا، ومع هذا الاختلاف الشديد الذي يطرأ على حالاته يظل إنسانًا واحدًا، فما الذي فيه يخلع عليه تلك الوحدانية مع تعدد حالاته وأوضاعه؟ كلا، لم تعد تُحيرني المشكلة التي تحير الفلاسفة بعد أن رأيت «الأحدب» في الطريق وفي داره، فلا وحدانية هناك، ليس الرجل رجلًا واحدًا، ولكنه عدة رجال، هو في كل حالة رجل غير الرجل الذي يَكُونه في الحالة الأخرى؛ فمُحالٌ أن يكون «الأحدب» العابس الجادُّ المهموم الحزين الذي رأيته وتحدثت إليه وهو جالس على الجدار الذي لم يتم بناؤه، هو نفسه «الأحدب» الضاحك المرح المرحِّب بي وهو في داره.

أدخلني «الأحدب»، فعبَر بي ردهةً لاحظت خَلاءها من الأثاث تقريبًا، وانتهينا إلى غرفة هي مأواه، فيها كل شيء، فيها السرير وصوان الملابس ومكتب ومكتبة ومنضدة ومقاعد ومرآة؛ أثاثها هزيل لكنه نظيف، وتنسدل على النافذة ستارة رقيقة فيها خروق ممزقة، لكنك تشعر في غرفته بالطمأنينة وراحة النفس؛ وليست ديار الناس في ذلك سواء؛ فقد أزور الدار وأحس أثناء زيارتي أني أتقلَّب على الشوك دون أن يكون بيني وبين صاحب الدار ما يدعو إلى النفور، ثم قد أزور الدار فينبسط صدري وتطيب نفسي، وأتمنى لو بقيت فيه اليوم كله؛ وقد قلت ذلك لصاحبي «الأحدب» فور جلوسي على مقعده المريح، الذي كان — فيما يظهر — جالسًا عليه لتوِّه؛ لأن الحشية كانت ما تزال دافئة بحرارته.

قلت: إنَّ النَّفس لتحس بالطُّمأنينة في غرفتك هذه، والمنظر الذي يطالعك من نافذتك رائع جذاب.

قال: إذن لا أحسب الفجوة بين نفسَينا عميقةً كما يبدو للوهلة الأولى؛ فقد أعجبك مأواي هنا، كما أعجبك ملاذي الهادئ الذي ألوذ به خارج المدينة من صخب الحياة، إن النفوس الإنسانية لتشعر بالتقارب والتداني في حالات هدوئها، حتى إذا ما عجَّ بها عجيج الحياة ألفيتها متنافرة متعاركة، لا عجب أن يكون الناس جميعًا سواءً وهم نيام، ثم يأتي الموت — وهو نوم طويل بغير آخِر — فيسوِّي بينهم إلى الأبد.

وخشيت أن ينتقل صاحبي بذكر الموت إلى حالةٍ من حالاته الكئيبة السوداء، فغيَّرت موضوع الحديث، وجعلت موضوعه أقربَ ما وقعت عليه يدي فوق المنضدة الصغيرة الوطيئة التي كانت أمام مقعدي.

قلت: ما هذه المكعبات الخشبية الملوَّنة المصوَّرة؟

قال (وكان ورائي مشتغلًا بإخراج الفناجين والأكواب من خزانةٍ خشبية صغيرة في ركن غرفته): تلك لعبةٌ من لعب الأطفال اشتريتها لألهو بها، إنها مكعبات تُرَصُّ فتكوِّن صورًا لا نهاية لعددها.

ودنا مني «الأحدب» وأشار بأصبعه إلى اللعبة وقد رصَّ ما يقرب من نصفها، فإذا هي صورة حصان عليه راكبه، ولم يبقَ من الصورة إلا أرجل الحصان.

قلت: أحسبك كنت في سبيل إتمام الحصان بأرجله؟

قال: هذا ما حِرتُ فيه، حاولت عبثًا منذ ساعة الغداء. فلم تستقم للحصان أرجل، حتى لقد مللت فوقفت أنظر من نافذتي حين رأيتك قادمًا.

قلت: وما فائدة الحصان بغير أرجله؟ إن راكبه المسكين سيظل مشلول الحركة حتى تُتِمَّ لحصانه الأرجل فيسير.

هنا وضع «الأحدب» قَدَحين كانا في يده، وضعهما على ظهر مكتبه، وجلس، إنه ساعتئذٍ هو نفسه «الأحدب» الذي رأيته هناك على الجدار، وهو نفسه «الأحدب» الذي رأيته في الطريق، وليس هو «الأحدب» الذي تلقَّاني بالبشر والترحاب؛ لقد عبس وجهه وتجهَّم، ثم استرخى استرخاء مَنْ فَقَدَ القدرة على الوقوف والحركة، وابتسم لكنها ابتسامةٌ غير التي لقيني بها؛ فهي ابتسامة صاحب النفس المريضة المعبَّأة بالهموم؛ ألَا ما أسرع التغير في سماء هذا الرجل؛ صفوٌ في لحظة وغمام كثيف في اللحظة التي تليها.

قال: لعل ذلك بعينه هو ما أعجزني عن إقامة الحصان على قوائمه، وإذن فما أشبه جَدَّ حياتي بلعبها! كأني بك يا صديقي قد أتيتني لتستطلع شيئًا من أمري؛ فهذا هو أمري قد انكشف لك في لحظةٍ واحدةٍ؛ ففي هذا الحصان المُقعد تتلخص قصة حياتي، ولكل امرئٍ جواده، ومن الجياد ما يستقيم على قوائمه فيُسرع الجري، ومنها ما تُعوِزه الأرجل فيقبع؛ وجواده كسيح، فجسمه هنا وأرجله هناك، لكن بصري يَقْصر دون أن يلتمس للأرجل مكانها من البدن، وليس النقص في الأجزاء ولكن النقص في المهارة التي تقيم بناءها، إن الذي يرى أحرف الهجاء أمامه ولا يستطيع أن يُنشئ منها قصة أو قصيدة يكون العجز فيه ولا يكون العيب في الأحرف.

قلت: دع عنك الآن هذا الحصان ولعبته، وانظر ماذا أردت أن تضع في هذين القدحين من شراب …

لكنني صمَّمت أن أستطلع قصة «الأحدب» لعلِّي أردُّ هذا الحدب الذي تورَّم به ظهره إلى عناصره.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤