الفصل الثالث

أطلالٌ دوارس

أخذت كراسة المذكرات في لهفة شديدة؛ لأنَّني اعتقدت أني واقع فيها على كنز ثمين؛ ففي صفحاتها سأشاهد الأحدب وجهًا لوجه، فيعفيني مشقة البحث والتنقيب، ولكني وجدتها ممزقةً منقوصةَ الصفحات مطموسة الفقرات، مما أكَّد لي أن كاتبها ربما أحسَّ بعبث الجهد في الكتابة عن نفسه، فكتب ما كتبه ثم همَّ بتمزيقه، كما يفعل كثير من الأدباء والشعراء حين يقرنون حيواتهم الفانية بالأبدية فيرونها أقل شأنًا من أن تشغل الوقت بالكتابة عنها.

ومهما تكن الحال فقد أسرعت العودة إلى منزلي في تلك الليلة، نافد الصبر مشوقًا إلى استطلاع المنثورات التي بقيت مما كتبه الأحدب، ولم أنَم حتى أتيت عليها تمحيصًا وضمًّا لما يمكن ضمه في أجزائها، وها أنا ذا أُثبت ما ظفرت به من فقرات مرتبة بحسب ترقيم الصفحات:

ليست لحظات الزمن في حياة الإنسان سواسيةً كلُّها من حيث قوَّتها في توجيه الأحداث، وأثرها في تكوين الشخصية وتشكيلها؛ فمنها ما قد يمضي ولا أثر له، ومنها ما يكون له من بُعد الأثر وعمقه ما يظل يؤثِّر في مجرى الحياة إلى ختامها، ولا عجب أن تجيء حيوات الأفراد متفاوتة الوزن والقيمة، متباينة الخصوبة والثمر؛ فمنها ما تتابع فيه اللحظات على وتيرةٍ واحدة، حتى لكأنها في نهاية الأمر لحظة واحدة مُكرَّرة مُعادة، فضلًا عما تتصف به هذه اللحظة الواحدة من حواء؛ ولذلك فهي حياة تمضي وكأنها لم تكن شيئًا، ولكن منها كذلك حياة تجيء لحظاتها ثقالًا بأحمالها، فتمضي تاركةً وراءها أثرًا يبقى على وجه الدهر أمدًا طويلًا، وبأمثال هذه اللحظات الحبالى تُصنع الحضارات وتُبنى.

إنَّ النَّظر إلى حياة بمجموعة أحداثها، لكالنظر إلى صورة فنية لا يسير عليها البصر في خط مستقيم بادئًا من حافة الإطار هنا إلى حافة الإطار هناك، بل إنه ليقع أول ما يقع على نقطة مركزية فيها، كشجرة فارعة على يمينها، أو قمة شامخة على يسارها، أو بقعة لونية في أي موضع منها تلفت النظر إليها لتكون له نقطة ابتداء، ثم ينساب البصر في مختلف الاتجاهات، عائدًا آنًا بعد آنٍ إلى نقطة البدء، فكأنما هذه النقطة المركزية ينبوعٌ تفجرت منه سائر النقاط، وكذلك قل عند النظر إلى حياة فرد من الأفراد بمجموعة أحداثها، فها هناك كذلك يتجه الانتباه إلى لحظاتٍ أمهات كانت حاسمةً في توجيه صاحب تلك الحياة.

فما هي تلك اللحظات الأمهات في حياتي؟

ليس منها ساعة الميلاد؛ لأن تلك اللحظة جزءٌ من حياة سواي أكثر منها جزءًا من حياتي؛ فقد فُرِضَت عليَّ ولم أُرِدها، ولم يكن لي حيلةٌ في إلغائها أو في إرجائها أو في تغيرها، إنني أحددها بشهادة الميلاد، مفترضًا صدق أولئك الذين أمْلَوْها والذين كتبوها؛ لأنني لا أملك في دخيلة نفسي شاهدًا على صدقها أو على كذبها؛ إذ لو احتكمت إلى حياتي من باطنٍ لَمَا وجدت فرقًا بين أن أكون قد عشتُ على ظهر الدنيا خمسين عامًا أو خمسة آلاف عام؛ فكلُّ الدلائل التي يُستدَلُّ بها على مدى ما عشته من سنين، دلائل خارجية عني، وليس فيها شاهدٌ باطنيٌّ واحد؛ لأنني إذا ركنتُ في الشهادة على ما تسجله الذاكرة، ألفيت الذاكرة لا تَقْفُل راجعة إلى ساعة الميلاد، وقصاراها أن ترتدَّ إلى السنوات الأولى بعد الميلاد، ثم يكتنف الضَّباب كل شيء فيطمسه، وإذن فالأمر كلُّه — بالنسبة إلى ساعة ميلادي — مرهون بشهادة غيري، فهكذا يقول الوالدان، وهكذا تسجِّل دفاتر الحكومة، أليس عجيبًا بعد هذا كله أن يتمنى إنسانٌ لو استطاع أن يُمَدَّ له في الأجل مائةً أو مائتين أو ألفًا من السنين؟ إنه لا يحمل في جوفه دليلًا على أنه لم يعِش هذا الأمد الذي يتمناه لنفسه، لو كان متوحِّدًا معزولًا فلم يجد أحدًا من حوله يروي له نبأ مولده ونشأته الأولى، لما كان في وسعه أن يعلم متى وُلد وكم عاش.

لا، ليست لحظة ميلادي من اللحظات الأمهات التي أعنيها؛ لأنني لا أعلم عنها شيئًا من باطن نفسي، وكل علمي بها آتٍ من سواي؛ فهي إذن أقرب إلى أن تكون جزءًا من حياتي؛ ففي أول صفحة مقروءة، بعد عدة صفحات ممحوَّة لا تبين، قرأت العبارة الآتية:

من بين ما يروونه لي أني وُلدت في منزل من قرية، زُرته فوجدته بيتًا نصفه الأسفل من حجر ونصفه الأعلى من قشٍّ وطين، لكنهم إذ يحكون لي أني في هذه الغرفة التَّحتانيَّة المعتمة وُلدت، وفي تلك الغرفة الفوقانية المضيئة خُتنت، أُحِسُّ كما لو كانوا يحكون لي تاريخ طفل لا شأن لي به الآن؛ فليس في جسدي اليوم خليةٌ واحدة من خلاياه التي وُلد بها، ولم تكن في رأسه عند ولادته فكرةٌ واحدةٌ مما هو في رأسي اليوم.

إنَّه لوهم غريب هذا الوهم الذي يوهم الإنسان باتصال شخصه من لحظة الميلاد إلى لحظته الراهنة، نعم إنها وسيلة نافعة لغيري من الناس أن يعدُّوني فردًا واحدًا متصل الحياة، بدأ في اللحظة الفلانية ولبث ينتقل هنا وهناك حتى انتهى إلى ما هو عليه الآن؛ أقول: إنها وسيلة نافعة للناس لكي يسهل عليهم عَدُّ الأفراد عند الإحصاء، ولكن ما لي أنا وما ينفع الناس عند العدِّ والحساب؟ المرجع عندي هو خبرتي كما أحياها واعيًا بها، وليس ذلك الطفل الذي يروون لي عن زمان مولده ومكانه جزءًا من تلك الخبرة الحية الواعية …

ثم استقامت معي صفحات الكراسة، فقرأت فيها ما يلي:

العجيب أني حينما أعود بالذاكرة إلى سِنِي الطفولة الأولى، فسرعان ما اصطدم بشخصية أبي تملأ مسرح الحوادث، ولكن مهما حاولت فلا أعثر على صورة أمي عندئذٍ، فأين كانت؟ هل كانت من الخفاء والانطواء بحيث تنمحي من صفحة الذاكرة فلا يُسمَع لها صوت ولا يظهر لها أثر؟

والحق أن اختلاف الخصال كان بعيدًا بين أبي وأمي؛ فهو منبسط لا يكاد يُخفي من نفسه شيئًا، وهي منطوية لا تكاد تُظهر من نفسها شيئًا، هو لا يخشى الناس ولا يفر منهم، وهي تخشاهم وتفر، هو حريص على إثبات وجوده، وهي أحرص على إنكار وجودها، هو لا يضحِّي بنفسه إلا قليلًا، وهي تضحِّي بنفسها بحيث لا تُبقي لنفسها إلا قليلًا، يغلب عليه المرح الصَّاخب إلا في ساعات قليلة تراه قد سكن وكأنما هو غارق في فكر عميق، ويغلب عليها الهدوء الصامت في غير جهامة وعبوس، إلا في ساعات قليلة تراها قد أخذت تصبح زاعقة في هذا أو في هذه، كأنما تُنفِّس عن طاقةٍ مكبوتة، كلاهما يتعبَّد ويؤدي الشعائر كلها، لكني طالما أحسست أن تعبُّده موجات على السطح، وأمَّا تعبُّدها فخفقات من القلب، يثور على الناس فتهدِّئه ملتمسةً لهم الأعذار، حتى أطلق عليها أبي اسم «الهلباوي» مُشيرًا بهذا إلى نهوضها للدفاع دائمًا؛ وأمَّا هي فإذا ثارت على أحد من الناس فإنه ينفخ لها في النار لتزداد اشتعالًا … نعم لقد كان اختلاف الخصال فيهما بعيد المدى، ولكن هل بلغ ما بينهما من حدة التباين أن حفظت ذاكرتي كثيرًا عن أبي وأوشكت ألا تحفظ شيئًا عن أمي؟ إنه مهما تكن حقيقة الأمر، فيقيني هو أني عن أبي أخذت الذكاء وعن أمي أخذت الخُلُق، عنه أخذت النفس القلقة الطامحة في عجز، وعنها أخذت الرغبة في الخفيِّ عن قناعةٍ ورضى، ومن مزج النقيضين وقع الصراع.

… التشاؤم والانطواء صفتان في حياتي بارزتان، فمن شأن المتشائم اعتقاده بأن نتائج الأشياء وأواخر الأحداث عبثٌ كلها في عبث، اعتقاده بأن الحياة عملية معقدة من جمع وطرح وضرب وقسمة، فيها أعداد صحيحة وفيها كسور، وفيها ربح وفيها خسارة، لكن الناتج النهائي صفر دائمًا؛ لأن الناتج النهائي عدم محتوم، إنه سيجيء اليوم الذي تبرد فيه الشَّمس، وعندئذٍ تتعادل حرارة الكون شمسًا وأرضًا، وعندئذٍ تكف الأرض عن دورانها ويسكن كل شيء في مكانه، فلا نماء ولا دثور، ولا حياة ولا موت، ولا ليل ولا نهار، ولا صيف ولا شتاء، ولا ريح ولا مطر؛ فأين عندئذٍ يكون فرد من الناس بكل ما قد بُذل من جهود وما قد حقق من نجاح؟

وهكذا تراني أنظر إلى الأشياء وإلى الأحياء وإلى المواقف وإلى الحوادث، ولكنها نظرة لا تمنع عندي جهاد الحياة ولا تحُول دون السعي نحو التقدم، بنفسي وبغيري عن الناس، برغم كوني أحس في أعماق نفسي أنه جهاد وأنه سعى تُمْلِيهما ضرورة الحياة ما دامت الحياة قائمة؛ وأمَّا الحياة نفسها فهي — كما قال المعري — عبث، لكني لا أعجب — كما يعجب المعري — مِن راغبٍ في ازدياد من ذلك العبث؛ لأني أعلم أن «الرغبات» شأنها شأن العقل في كونها من صميم الحياة ولبِّها؛ فليس من حق العقل أن تكون له وحده الكلمة فيما يُعمل وما لا يُعمَل؛ لأن «للرغبة» اللاعقلية مجالها، وها هو ذا المعري قد أملى عليه عقلُه أنَّ الحياة عبثٌ كلها، وأنه إنما يعجب من راغبٍ في ازديادٍ من ذلك العبث، فهل كفَّ المعري نفسه عن «الرغبة» في الزيادة؟

على أنَّ نظرتي المتشائمة هذه كثيرًا ما تقتضيني أن أسارع إلى استحضار الضد الأسود أمام ذهني كلما مرَّ بخاطري ضده الأبيض، وأمور أخرى؛ أنظر إلى المرأة الجميلة فأقول: ولكن جوفها يحمل العَفَن، وأنظر إلى الطير الصاعد فأقول: إنه لا بُدَّ بعد صعوده هابط؛ واختصارًا فإني أنظر إلى كلِّ إناء مليء إلى نصفه فأقول: لكنه كذلك فارغٌ في نصفه الآخر؛ وهي بغير شك نظرة معوِّقة لصاحبها في ركب الحياة، لكنها هي نظرتي.

وأمَّا انطوائي فهيهات أن يرى منه الرائي بمقدار ما أُحِسُّه في باطني؛ لأن فيما يراه مني الرائي تكلُّفًا وتصنُّعًا قد يَخفيان إلا على الخبير بطبائع الناس، إنني كلما عدت إلى داري بعد عمل اليوم أحسست — وأنا أغلق الباب من دوني — بنشوة العائد إلى مكمنه بعد أن تعرَّض لأهوال الغابة، ولست أعرف كيف يحس الأرنب المطارَد حين يلوذ بجحره، ولكنني كلما عدت إلى داري بعد عمل اليوم، ارتسمت في ذهني صورةٌ لأرنب راجف، عادت إليه الطُّمأنينة بعد أن لاذ بمأواه، إنني لأخاف الخروج من مكمني كما يخاف العليل برئتيه أن يعرض نفسه للفحةِ بردٍ.

وقد أتشجَّع فأواجه الناس، لكنني وحدي أَعْلَمُ الناس بما يرتجف من نفسي عندئذٍ؛ فمثل هذه الشجاعة الظاهرة كثيرًا ما تكون خجلًا معكوسًا، قل إنه ضعْفٌ، وقل إنه مرْضٌ، لكن هو الواقع على حقيقته، ومرةً أخرى أقول: إنها طبيعة معوِّقة لصاحبها عن السير السريع في ركب الحياة، لكنها هي طبيعتي.

ماذا تظنني أسرح إليه حين أسترسل في أحلام يقظتي، لا أقول مرةً في الشهر، ولا مرةً في الأسبوع، بل أقول مرةً أو عدَّة مرات كل يوم؟ إنني في أحلام يقظتي أسرح باحثًا عن مكان ملائم ألوذ به لأعيش هناك في عزلة الرهبان: هل أختبئ في غرفةٍ من مكانٍ مجهول على شاطئ البحر — لأني أضيق بالحرِّ ضيقًا شديدًا؟ أو هل يكون مخبئي في موضعٍ من الصحراء؟ ولكن أين؟ أيكون في ديرٍ من أديرة الرهبان النصارى، وهل يجوز يا ترى للمسلم أن يعيش مع رهبان المسيحية في أديرتهم دون أن يُشابَ إسلامه بشائبة؟ … صورٌ من هذا القبيل تتلاحق، وأظل في كل صورة منها أعيش مع الخيال برهة لأحس حسناتها وعيوبها قبل أن أنتقل إلى الصورة التي تليها، لكنها أحلام يقظة لا ألبث بعدها أن أمارس عملي كأنني مقبلٌ على الحياة مع المقبلين.

إنه لا تناقض بين أن يميل المرء بوجدانه إلى شيء، وأن يُخضعه بعد ذلك لتحليل العقل فلا يجده على ما كان الوجدان قد صوَّره، وعلى ذلك فلا تناقُضَ بين أن أختار لنفسي — بالوجدان — أن أعيش منطويًا على ذاتي، غاضًّا نظري عن الدنيا التي حولي، وبين أن أرى بعقلي بعدئذٍ أن دفعة الحياة تقتضي أن نخرج من ذواتنا إلى حيث الأشياء المادية المحسوسة، فكأنما أريد الحالة الوجدانية الأُولى لنفسي، وأريد الحياة العقلية الثانية للناس.

ها أنا ذا أُشهِد الله والناسَ أني ما قرأت مرةً عن المتصوفة في صدورهم عن عرَض الحياة الدنيا، وفي ازدرائهم لشهوات الجسد وإشباعها، إلا ووجدت لهم في أغوار نفسي صدًى عميقًا، كأن هذه النفس قد أُعِدَّت وهُيِّئَت لمثل هذه الحياة العَزوف، ومع ذلك فإني أتمنى أي شيء لقومي إلا أن يسود فيهم العُزوف عن تيار الحياة الحسية المادية العملية العقلية العلمية، والتي تُعنَى كلَّ العناية بتطبيقات العلوم على الزراعة والصناعة، وباصطناع القوة المادية في شتى مظاهرها؛ وهكذا ترى وجداني على هوًى وعقلي على هوًى آخر، ولا تناقُض بينهما ما داما يجيئان على تعاقُبٍ.

•••

… إنني حتى الخامسة من عمري لم أكن — فيما تعيه الذاكرة — قد شعرت بأني عضو من أسرة، تربطني بأفرادها علاقات تختلف باختلاف مواقفي من أفرادها، فكلما تذكرت نفسي في الخامسة أو قبلها، تذكرت كيانًا مستقلًّا بذاته، يرتبط بغيره من الأفراد ارتباطًا خارجيًّا لا ارتباطًا باطنيًّا.

أمَّا حين أنتقل بالذاكرة إلى عامي السادس وعامي السابع، فإنني أتذكَّر على الفور أنني جزء من جماعة؛ فقد كان أبي قبل ذلك هو الشخص «الآخر» الوحيد الذي يكوِّن مع وجودي محورًا أدُور حوله أو أسير بإزائه عن خوفٍ أو عن رضًا؛ أمَّا الآن — في العام السَّادس وما بعده — فأمي قد أخذت تظهر بوضوح، وكذلك أخي، وكذلك عمي وامرأة عمي وأبناء عمي، وكذلك نفرٌ من ذوي القربى كانوا يعاودون زيارة بيتنا زيارةً تَقصُر حينًا وتدوم عدَّة أيام حينًا آخر.

وإنما يُعِين الذاكرة على انتقالها هذا بين المرحلتين المتعاقبتين: مرحلة الكائن المفرد، ومرحلة الكائن الاجتماعي، انتقالنا المادي عندئذٍ من بيت إلى بيت؛ فقد انتقلت الأسرة — والأسرة إلى ذلك الحين معناها أبي وعمي ومن يتبعهما — انتقلت إلى مسكنٍ آخر في حارة السناجرة، أو ما كان يُسَمَّى بهذا الاسم حينئذٍ بالقرب من مسجد السيدة زينب؛ لأن القاهرة قد تبدَّلت في يومها عن أمسها، فاتسعت شوارع لتبتلع ما كان يصبُّ من فيها الحواري؛ انتقلت الأسرة إلى مسكنٍ آخر، وفي هذا المسكن الجديد تحددت الروابط بيني وبين أبي — وقد كان لها بدايات سابقة — وبيني وبين أمي، وبيني وبين أخي بصفة خاصة؛ فلأول مرة أشعر بوجود أمي معي، تحميني دون أن تقتضيني مقابل هذه الحماية خوفًا، فلم أكن أبدًا لأخشى بأسها مهما يكن ما أقترفه جسيمًا، وذلك برغم صرامتها في معاملتي ضربًا و«قرصًا» وشتمًا وزجرًا، لكن هذا كله منها كان كالموج الذي يُطمئن السابح على حياته بدفعه إلى شاطئ الأمان ولا يهدده بالغرق، ولقد لبث هذا هو الفارق الواضح بين علاقتي بأمي وعلاقتي بأبي؛ كلاهما يحمي، لكنه — دونها — يتوقع مقابلًا لحمايته: فزعًا منه وخشيةً لبأسه مما كان يسميه «أدبًا».

وكذلك تحددت عندئذٍ علاقتي بأخي على نحوٍ لم يتغير قط مع تقدُّم السنين، فكأنما نحن منذ تلك السن الباكرة قد تعاقدنا تعاقدًا صامتًا غير منطوق ولا مكتوب، أن يكون كلٌّ مِنَّا حليفًا للآخر فيما عسى أن تفاجئنا به الأيام من هجمات المهاجمين؛ والمهاجمُ الخارجيُّ قد يتغير نوعه، لكن موقفنا في التحالف ثابت؛ فكلٌّ مِنَّا يطَّلع أوَّلًا فأولًا على ما يقترفه الآخر من زلَّات العصيان، لكن أحدًا مِنَّا لا يَشِي بالآخَر عند الوالدين أو عند غيرهما ممن يعنيه الأمر، فإذا سُئل أيٌّ مِنَّا عن خطأٍ وقع: من فعل هذا؟ أجاب: لا أعرف، وتكون النتيجة دائمًا أن يُضرَب كلانا؛ فقد كان أخي مُغرمًا بكشط قِطع الأثاث بالمبراة، لا يردعه عن فعل ذلك توعُّد ولا وعيد، لكنه كلما كشَطَ وسُئلت: مَن؟ أجبت: لا أعرف. وكذلك حدث مرةً أنِ اشترَوا له معطفًا جديدًا ولم يشتروا لي نظيره لجِدَّةِ معطفي، فقصصت معطفي بالمقصِّ شرائط شرائط، حتى أُرغمهم على شراء معطفٍ آخر، وسُئل وسُئلت: مَن؟ وكان الجواب من كلينا: لا أعرف. فنال العقابُ مِنَّا على السواء، على الرغم من أنهم يعلمون أتم العلم أنه هو كاشط الأثاث، وأنني أنا الذي قصَّ المعطف.

هكذا تآزرنا على الخير وعلى الشر منذ تلك السِّنِّ البعيدة، كما يتآزر المعرَّضون لخطرٍ مشترك، وتلازمنا قيامًا وقعودًا ومشيًا وجريًا وخروجًا ورجوعًا ولعبًا وجدًّا، حتى تلازم اسمانا على الأفواه، فلا ينطق أحد باسم أحدٍ غيرَ مقرون باسم الآخر، فيُقال «رياض وعماد»، لا ينفصل شِقٌّ فيه عن شقٍّ إلا إذا نوديَ أحدُنا بحرف النداء.

ولعلَّ حارة السناجرة التي سكنَّاها عندئذٍ أن تكون الحارة الوحيدة في حياتنا التي نزلنا بها لنلعب مع أطفال الجيران، وحتى عندئذٍ فقليلًا ما فعلنا. ومن طريف ما أذكره في هذا الصدد أن أفراد الأسرة جميعًا قد ذهبوا لبعض شأنهم ذات عصر، وتركوا معنا مفتاح البيت، على أن نلعب في الحارة مع الأولاد إلى أن يعودوا، ولست أدري أي فكرة مجنونة طافت برأسَينا عندئذٍ، أن نقيس مقدار شجاعتنا بأن نُعرِّي جسدينا ونسير هكذا في مواجهة الأولاد لنرى ماذا في وسعهم أن يصنعوا، لكننا وجدنا من سخريتهم ما لم نحتمله، فصممنا أن نسارع إلى العودة إلى دارنا، ونبحث عن المفتاح فإذا المفتاح مفقود، فوقعنا بين نارين: حملة السخرية التي أخذت تشتد كلما ازددنا أمامها ضعفًا، والقلق الشديد المهموم المغموم على هذا المفتاح الضائع، وربما كان ذلك من أول الدروس التي لقَّنتنا إياها الحياة الاجتماعية فيما ينبغي أن تكون عليه علاقة الفرد بالمجتمع، فإمَّا أن تكون متجانسًا مع الآخرين إذا أعوزتك قوة المقاومة، وإمَّا أن تتصف بالجرأة المتبوعة بصفاقة الوجه إذا أردت أن تتفرَّد وحدك بسلوك خاص؛ أمَّا أن تتحدى المجتمع بالعصيان الذي يأبى التجانس دون أن تكون مزوَّدًا بما يلزم هذا من سلاح المقاومة، فذلك إنما يؤدي بك حتمًا إلى اختلالٍ في اتزان عناصر النفس، ومِنْ ثَمَّ إلى صراع داخلي فانطواء، وما هي إلا أن عادت طلائع الأسرة الغائبة لتُصدم بهذا الموقف الغريب، وراحت عيونهم تلفظ أُوَارَ الغيظ الكظيم، تمهيدًا لما هو لاحقٌ بنا حتمًا إذا ما انفتح الباب ودخلنا، وجيء بنجار، وكسر الباب، ودخلنا، وكان ما كان من عصيٍّ تُهوِي على جسدَيْنا العاريين.

وفي تلك الفترة من عمري دخلت المدرسة الأولية، وكان اسمها مدرسة السلطان مصطفى، عند مدخل حارة الكاشف بجوار المدرسة السنية للبنات، وهي دارٌ أثرية قديمة، ولا أذكر منها شيئًا إلا سلالمها التي كانت تبدأ من الباب الخارجي مباشرةً؛ فليس للمدرسة فناء. وكان التلاميذ الصغار يتجمعون في حارة الكاشف، المحظوظ منهم يأكل البليلة، وغير المحظوظ تأخذه العزَّة فيبعد، أو لا تأخذه فيقترب سائلًا. وكانت السلالم عالية الدرجات على من كان في مثل عمرنا، وكذلك أذكر شعاعًا من الشمس ساعة العصر ينفُذُ من جهة الغرب خلال النافذة ذات الزجاج الملوَّن، كنت أرتقب سقوط هذا الشعاع على دُرْجي كل عصر فارغ الصبر، ولا أدري هل كان ذلك بسبب الألوان الجميلة التي كان يُلقيها ذلك الشعاع أمامي، أو كان ذلك علامةً على دنوِّ ساعة الانصراف.

وعلى أيِّ حال فقد كان ارتفاعي في درجة الوعي عندئذٍ بما يشبه القفز والطيران؛ ففي عامٍ واحد أو عامين، انتقلت انتقالًا كالمفاجئ من طفل لا يعي إلى صبيٍّ تفتحت حواسُّه؛ ولا أدلَّ على ذلك من متابعتي لما كان يقوله ابن عمٍّ لي وابن عمة يَكْبُراني بخمسة أعوام، وكان عندئذٍ تلميذين في مدرسة محمد علي الابتدائية، فكانا يفخران أمامي بما يعلمانه مما لست أعلم: كلمات إنجليزية وعبارات، فكنت أسارع إلى حفظها عنهما لأسايرهما فيما يعلمان.

لكن الذي لم أستطع قط أن أسايرهما فيه، هو ما كانا يسميانه «مطارحة» بالشعر، فيقول أحدهما بيتًا من الشعر، ليردَّ عليه الآخر ببيت يبدأ بالحرف الذي انتهى به البيت السابق، فمن أين لهما بهذا الكلام؟ أين يجدانه وكيف يحفظانه؟ وقد مضيت الآن منذ ذلك العهد عشرون عامًا، وما زلت أذكر بيتًا قاله أحدهما في المطارحة وأعجبني لفظه فحفظته عنه لساعته، فرسخ في الذاكرة — وذاكرتي يغلب عليها الضعف — لسببٍ لا أدريه، وهو:

نونان نونان لم تكتبهما قلم
وفي كلِّ نون من النونين عينان

حفظته ولم أعلم ماذا عساه يعني، بل لا أظن أن قائله كان يعلم.

كذلك تحددت في تلك الفترة من العمر علاقتي بالجنس الآخر؛ بمعنى أنني أدركت إدراكًا واضحًا ماذا يكون بين الجنسين في تستُّر وخفاء؛ فلست أنسى ذات مساء والبيت يعجُّ بزواره، كيف اتفقت مع طفلةٍ من الأسرة الزائرة أن نلعب زوجًا وزوجة، وانثنينا إلى غرفة بعيدة عن الأعين، وأغلقنا من دوننا بابها، ولم أكن أُعلِّم الطفلة من قواعد اللعبة أكثر مما علَّمتني، ولم تكن تُعلِّمني أكثر مما علَّمتها؛ فالطفل والطفلة كلاهما — وهما في السابعة أو نحوها — كان يعلمان ما يكفي. كما حدث في هذه السن نفسها أن سافرت مع أهلي إلى القرية لنقضيَ إجازتنا بها، وكنت في الضُّحى ذات يوم ألعب على سطح الدار مع طفلة ريفية من الجيران، فما هو إلا أن تفاهمنا، وكان إلى جوارنا «سحَّارة» كبيرة عميقة، بابها مربعٌ خشبي صغير يُغطي فتحةً على وجهها الأعلى، فقفزنا إلى سطح السحارة، ورفعنا بابها وهبطنا واثبَيْنِ إلى جوفها، ولكن كيف الخروج والسحارة عميقة كأنها البئر؟ وعبثًا حاولنا، فكان لا بُدَّ للسرِّ أن يفتضح، فأخذنا ندقُّ جوانب السحارة بقبضات أيدينا، ونركلها بأقدامنا، ونصيح في بكاء الفزع، حتى سَمِعَنا من سَمِعَنا، وانتشَلَنا، وما كادت القصة تسري حتى كانت الضحكات من هذه «الشقاوة»، ولكن هل أدرك الراشدون مدى ما قد ذهب إليه لهوُ الطفلين؟! لا أظن ذلك؛ وهذه هي براءة الأطفال، وهذه هي طهارة الريف، وتلك هي سذاجة الراشدين.

هكذا كملت جوانب الشخصية الاجتماعية بين السادسة والسابعة، وتحددت لها طرائف مختلفة في ردود الأفعال لمختلف البواعث، أو قل هكذا نشأت مجموعة الأشخاص التي تُكوِّن جوانب نفسي «الواحدة»، وما كان على الأيام بعد ذلك إلا أن تُطوِّر هذا الذي بدأ؛ فموقفي إزاء أبي هو هو نفسه موقفي إزاء كل سلطان متحكم، أثور عليه في داخلي تارة، وأنفجر بالثورة العلنية تارة، وأكتب لأهدم ما أراه طغيانًا — سواء في ذلك الأشخاص أو النُّظُم — فتجيء الكلمات كأنها شُواظٌ وشَرَر، وكثيرًا ما دُهِش مَن لم يكن يعرفني ثم رآني، فرأى شخصًا تغلِبُ عليه الوداعة والهدوء، فكيف يمكن أن تجيء تلك الثورة من هذا المستكين؟

وموقفي إزاء أمي هو موقفي من الصديق أحبه حُبًّا خالصًا غير ممزوج بالحذر والخوف، وهو الموقف الذي أقفه ممن تربطني بهم علاقة الود وأصطفيهم دون سائر المعارف، وموقفي من أخي هو نفسه موقفي من نفسي، أُسِرُّ إليه بما لم أكن أُسِرُّ به إلى أبٍ أو أمٍّ أو صديق، أطلب منه النصح جادًّا، وأعتصم به آمِنًا. وموقفي من أقربائي الذين كانوا يكبرونني ويسبقونني في مراحل التعليم، هو موقفي من كل سابق في طريق العلم؛ أُجِدُّ السَّيْرَ لأَلْحَقَ به. وأمَّا موقفي من الجنس الآخر، فبرغم العبث الطفلي الذي عبثت به مع الطفلتين إلا أنه سيتحدد بفعل شيطانةٍ من الجن في سن المراهقة.

إنهم يَصدقون حين يقولون عن الأسرة: إنَّها نواة المجتمع؛ لأنَّها هي المجتمع الصغير الذي يتعامل الطفل مع أفراده، فيعامِل كلًّا منهم بما يحقق له صالحه كما يتصوره، يحب هذا ويخشى ذاك، ويُخْلِص الودَّ هنا ويمكر بالحذر هناك، حتى إذا ما خرج إلى المجتمع الكبير، جسَّد في مواقفه وفي ناسه ما كان قد لقيه في المجتمع الأُسرِيِّ الصغير، فكم ثائرٍ ثار على الدنيا حتى غيَّر وجهها، تراه — إذا ما رَدَدْت ثورته هذه إلى أصولها — إنَّما يثور في الحقيقة على أبٍ طغى به وهو صغير، فانتقم منه في سواه حين استطاع، وقد يجيء هذا الانتقام المقنَّع خيرًا فيكون صاحبه من الأبطال المصلحين، أو قد يجيء شرًّا فيكون من المفسدين، وكم ملحدٍ أنكر وجود الله إذا ما رَدَدْت إلحاده هذا وإنكاره إلى أصولهما، تبيَّن كذلك أنه في الحقيقة يريد أن يكفر بالوالد أو بالمعلم الذي أغلظ له القسوة وهو ضعيف، وهكذا حلَّل حب المحبين وكراهية الكارهين وعبادة العابدين وزهد الزاهدين، وحلَّل نشاط العالِم في معمله، والرحَّالة في ارتياده للمجهول، تجد كل ذلك امتدادًا لأصولٍ نشأت في النفس وهي ناشئة بين رعاتها وَلِدَاتِها، فكان ما كان بعدئذٍ من خسَّةٍ هنا ومجدٍ هناك؛ أتقول لي: لكن هذه نظرة متشائم إلى القيم الإنسانية العليا؟ لكن كانت كذلك، فلا حيلة لي في نظرتي المتشائمة؛ لأنها وليدة حياتي التي عشتها حتى بلغت السابعة أو نحوها.

•••

انتقلت الأسرة إلى السودان والصبي في تاسعته. كان له ما كان من أحداث الحياة، لكنه ذهب والأحداث مكنونة في جوفه لم يظهر بعدُ منها شيءٌ على ظَهره، ذهب والظَّهر معتدل وعاد والظَّهر مقوَّس معوجٌّ، لقد طفح الداخل إلى خارج وتكوَّر.

الشمس فوق رأسي كأنَّها عينٌ فُتحت في جهنم! ذلك هو أول انطباعٍ تلقَّيته في الطريق من المحطة إلى المنزل؛ إذ جلست فوق الحقائب المحمَّلة على عربةٍ لأحرسها، ولست أذكر بعد ذلك شيئًا سوى أنني أرقد مُصابًا بضربة الشمس تحرسني عناية الأبوين نهارًا وليلًا لبضعة أيام، صحوت بعدها وجُلْتُ قليلًا، فتبينت أننا قد انتقلنا من الظل إلى الوهج، ومن رطبٍ إلى يابس، ومن حركةٍ إلى سكون، ومن غزارة حياةٍ وصِلَات إلى تخلخلٍ وتفرُّقٍ؛ فالمسافة بين بيتٍ وبيتٍ هنا أبعد، وبين دكانٍ ودكانٍ أطول، والناس قليلون، والأفراد متناثرون، والشارع ميدان، والميدان فلاة، والمشي كأنه وقوف، والجلوس كأنه رقاد، وشدة الحر تزيد الناس بَعثرةً بعضهم عن بعض؛ لأنَّهم لائذون بالسقائف، حتى لَيتعذَّر على الخيَال أن يتصورهم «جمهورًا» بمعنى الحشد المتجمع في مكان، كما يتعذر على العقل أن يتصور قيام رأيٍ عامٍّ ينتقل بين الأفراد بطريق العدوى، وفي ظنيِّ أن ظروفًا للعيش كهذه من شأنها أن تزيد من اعتداد الفرد بنفسه وبفرديته، لقلة صلته الطبيعية القريبة بسائر الأفراد، وبالتالي فهي تقلل من استعداده للتفاهم السهل مع سواه، فعوامل تكوين «الرأي» الواحد هنا مفرَّقة مبعثرة، وحوافز التفكير واهنة؛ لأنه لا تفكير بغير مشكلات، وإذا قرُبت الحياة من البساطة فلا مشكلات.

أنا لا أتحدث عن السودان الآن، لكنني أتحدث عن موقف الصبي الذي ذهب إليه وهو في التاسعة، وكان ذلك منذ أمدٍ بعيد، ذهب إليه وإحدى قدميه ما تزال مغروسة في أرض الطفولة، والأخرى أخذت تخطو نحو نضج الشباب الباكر، وقد بدأت خبرات الصبي هناك بموقفين متضادين في آنٍ واحد. كان في أحدهما طفلًا لاهيًا وكان في الآخر إنسانًا مسئولًا.

فأمَّا أولهما ففي الكُتَّاب الذي أُرسلنا إليه لنقضي بعض أشهر حتى يبدأ العام الدراسي في كلية غوردون، وفي الكُتَّاب عرفت ما «الفَلَقة» وعذابها؛ فالكُتَّاب كله غرفة واحدة لا أذكر أن لها نوافذ، يُفتح بابها على سقيفةٍ مفروشة بالحصير؛ ولذلك فهي — أعني السقيفة — مضيئة وللهواء فيها حركة، إذا قيست إلى الغرفة في ظُلمتها وسكون هوائها، وتحت السقيفة كان يجلس الشيخ الدرديري — صاحب الكُتَّاب والقائم فيه بالتعليم كله — وإلى جانب مقعده منضدةٌ وطيئةٌ عليها قُلَّتان، وحدث ذات صباح أن وجدت المقعد خاليًا من شيخه، ورأيت القُلَّتين تلمعان بما يُبلِّل سطحيهما من ماء، فأخرجت من جيبي قلمًا من أقلام «الكوبيا» وطفقت أخطُّ به على القلتين، ولم أكن أتوقع أن أجد هذه المتعة كلها في التخطيط بالقلم «الكوبيا» على سطحٍ مبتلٍّ، فانطلقت أرسم الأشكال وأكتب الأحرف، فتسيح الخطوط وتتشابك في زخرف جميل، وهنا «طَبَّ» الشيخ فجأة، فأخذته صاعقة لما رأى، وأمر فمُدَّت «الفلقة» ورُبطت فيها قدماي، وطُرحت على الأرض ظهرًا، ورُفِعت القدمان مزمومتين في شِقَّيِ الفلقة، والفلقة يحملها ولدان أمسكها كلٌّ منهما بطرف، والشيخ الدرديري يُهوي عليَّ بالسوط في غير رحمةٍ كأنما نسي أنهما متصلتان بكائنٍ حي، وعُدت إلى البيت مُورَّم القدمين؛ وغيْر هذا الحادث لا أذكر من هذا الكُتَّاب شيئًا، إلا أن زائرين كثيرين كانوا يزورونه، فإذا دخل الزائر انتفضنا وقفين واضعين أكفَّنا الصغيرة على جباهنا «تعظيم سلام»، مردِّدين في صوتٍ عالٍ بيتين حفظناهما لهذه المناسبات، أظنهما يجريان هكذا:

من نال العلم وذاكره
حسُنت دنياه وآخرته
فحياة العلم مذاكرةٌ
وحياة العلم مذاكرته

نمطُّ الهاء في آخر الشطر الأوَّل مطًّا منغَّمًا موصولًا بالشطر الثاني، وكذلك نقف قليلًا عند التنوين في آخر الشطر الثالث وأخيرًا نجعل الوقف على الهاء الأخيرة كضربة الطبل معلنةً ختام التحية، وعندئذٍ نؤمر بالجلوس.

وأمَّا الموقف الثاني الذي وقفت فيه موقف رجلٍ مسئول؛ فهو أن لصوص المنازل قد كثروا خلال ذلك العام كثرةً قيل إنها لم تُعهَد من قبلُ، وكان مردُّ الأمر إلى قلةٍ في المطر وقحط في المحصول، وما يتبع ذلك من عوزٍ وجوع، وقد رأى الموظفون — ومنهم أبي — أن يساعدوا رجال الشرطة بأن يكوِّنوا من أنفسهم دوريات تجوب الشوارع أثناء الليل، لتُفزِع اللصوص كما تُفزَع العصافير من فوق الغصون بقرعات خفيفة على الصفيح، فلصوص ذلك العام لم يكونوا لصوصًا محترفين لهم جرأة وتدبير، بل كانوا لصوصًا تدفعهم الحاجة الماسَّة العاجلة إلى أي شيء يؤكل أو يُلبَس أو يُباع، إلى أقل شيء، إلى رغيفٍ يأكلونه، إلى قميص يلبسونه، إلى إناءٍ يخطفونه ليبيعوه في السوق برغيفٍ أو قميص، وإذن فتخويفهم أمرٌ ميسور تكفي له هذه «الدورية» من الموظفين تجوب شوارع المدينة ليلًا.

لكن كان لا بُدَّ للبيوت كذلك من حراسةٍ بالليل، فعلى كل أسرةٍ أن يتناوب أفرادها في اليقظة لتكون هنالك العين الساهرة دائمًا، والشاخصة نحو الأسطح وحوافي الجدران الخارجية؛ فاللص إمَّا أن يهبط إلى فناء الدار من سطح الغرفات — والدُّور كلها من طابقٍ واحد يتوسط غرفه فناء يحيط به السور الخارجي — وإمَّا أن يهبط إليه واثبًا فوق السور المحيط به، وكان يُقال لنا إن أقل صوتٍ يصيح به الحارس اليقظان إذا رأى لصًّا يهمُّ بالهبوط إلى الفناء، كافٍ لتخويفه، يفر كأنه الظلُّ يختفي بلا صوت.

ومن ذا في بيتنا تقع عليه هذه الحراسة سواي؟ إن أخي أصغر من أن يُوكَل إليه هذا العمل الجريء، وأمي وحدها لا تُغنِي؛ لأنهم يريدون للحراسة «رجلًا»، و«رجل» البيت في غيبة أبي هو أنا الصبيُّ ذو الأعوام التسعة؛ لأنني أنا «رشيد العائلة» كما كان يحلو لأبي دائمًا أن يقول، كان عليَّ إذن أن أقف في وسط الفناء، مُمسكًا بيدي حطبةً من حطب المَوْقِد — وحطب الموقد هناك قطعٌ غليظة من فروع الشجر الجافة — وأظل أتطلَّع بعيني إلى حافة السطح وإلى حوافي الأسوار. وإنني لأكتب هذه الأسطر الآن وما يزال في نفسي مزيج المشاعر التي كانت تملؤني أثناء عملية الحراسة بضع ساعات من كل ليلة؛ فشجاعة مصطنعة تجعلني أشدُّ بقبضتي على الحطبة الخشنة، وزمٌّ للشفتين وحبسٌ للأنفاس، ودفعٌ بالصدر إلى أمام، وتثبيتٌ للقدمين على الأرض، ووراء كل هذا رجفة الخوف تعتريني من الرأس إلى القدم؛ وماذا تتوقع من صبيٍّ صغير أُمِرَ أن يضع في إهابه رجلًا؟ إنه لا مناص من أن تكون الرجولة البادية الظاهرة مُبَطَّنة بطفولةٍ خافية مستترة؛ ألا ما كان أَرْهَبَها من لحظةٍ تلك اللحظة من جوف الليل الساكن، التي نظرت فيها إلى حافَّةِ السطح المطلة على الفناء، لأشهد ساقَيْن تدلَّتا وجِذْعًا في سبيله إلى الظهور، ولم تكن بعدئذٍ إلا حركة واحدة من الواثب ليكون معنا في فناء الدار، فارتعشت ركبتاي، وزعقت في صوت مكتوم ماتت حروفه في حلقي، ولكن استطعت أن ألفظ الكلمتين: «امسك حرامي»، فيا لعجبي من تلك الزفرة المبحوحة من طفل راجف، تكفي لطرد الشيخ إلى حيث لا أدري! وقل ما شئت عما ملأني من شعور بالزهو لشجاعتي المزيَّفة، فكأن تلك الليلة كانت مولدًا لمركَّبٍ شعوريٍّ أحسبني لا أزال أحمله بين جنبيَّ، هو مُركَّب الشجاعة الخائفة، أو الخوف الشجاع.

•••

كانت النقلة واسعة مما كنتُ عليه في كُتَّاب الشيخ الدرديري، إلى ما أصبحتُ فيه بكلية غوردون؛ فهي نقلةٌ من طفلٍ يُفرَض فيه أنه لا يعرف شيئًا ولا يُعلَّم شيئًا إلى طفلٍ يُفرَض فيه أنه يعرف كل شيء ويتعلم أيَّ شيء.

كان المُدرِّسون في المرحلة الابتدائية أكثرهم من المصريين وأقلُّهم من أبناء السودان؛ هذا هو مدرس اللغة العربية الذي تولَّانا أول مَن تولَّى، أستاذٌ أزهريٌّ من المصريين، فيه من الجدِّ والصرامة ما لو قُسِّم بين عشرين مُدرِّسًا لكان من كلِّ واحد فيهم مدرسٌ ناجح، إنه أوشك ألا يفرِّق بيننا نحن الصغار الذين جاءوا إليه ليبدءوا حياتهم الدراسية، وبين متخصص في دراسة اللغة العربية من علماء الأزهر؛ فقد كان يأمرنا أن نسطِّر له هوامش كتاب النحو المقرَّر بخطوطٍ مائلة، لنكتب عليها ما يُمْلِيه من إضافات، على نحو ما نكتب الحواشي في الكتب القديمة، ويعلِّمنا الإعراب فيما أُشكل من آيات الكتاب الكريم أو من أبيات الشعر الجاهلي، بعد أن يشرح لنا هذه وتلك شرحًا وافيًا، لكنني كنت أحفظ الإعراب عن ظهر قلب دون أن أفهم من مصطلحه شيئًا، فما زلت أحفظ من تلك السنة الأولى أنَّ «إذا ظرفٌ لما يُستقبَل من الزمان، خافضٌ لشرطِهِ منصوبٌ بجوابه»، ولا بد أن يكون ذلك الأستاذ القدير قد شرح المعنى المقصود بكل هذا، لكنني كنت أعجز عن استيعابه، فكلمة «الظرف» عندي لم تكن تعني إلا الظرف الذي يوضع فيه «الجواب»، خصوصًا وكلمة «الجواب» واردة في آخر العبارة، و«الاستقبال» عندي لم يكن إلا استقبالًا للضيوف، و«الشرط» لا يكون إلا فرقًا في الثوب، فما علاقة «إذا» بهذا كله؟ لم أكن أدري، ولكني أحفظ عن ظهر قلب، والأستاذ يحدوه فينا أملٌ يجاوز قدراتنا.

وهذا هو مدرس اللغة الإنجليزية، شابٌّ مصري شاحب الوجه حادُّ الفكَّيْن، لا فرق — في الصرامة والجد — بينه وبين مدرس اللغة العربية إلا في الزي، فذلك شيخ وهذا أفندي، نعم كان بأيدينا كتاب المطالعة الذي يبدأ بدرسٍ عن ثور يركبه صبي فلاح، لكن هل كان يكفيه هذا؟ كلا؛ فالمادة المُضافة لا أول لها ولا آخر، وأعمدة الأفعال وتصريفها، وقوائم الكلمات التي نحفظها كل يوم كانت تلاحقنا بلا هوادة، إلى الحد الذي كُنَّا نخرج معه إلى فناء المدرسة بعد درس الإملاء، فيسأل بعضنا بعضًا (وهذا مثلٌ حقيقيٌّ تعيه ذاكرتي منذ ذلك الحين): كيف كتبت كلمة boy؟

– كتبتها هكذا.

فيعود السائل ليقول: لا إنها buoy التي معناها «عوامة»، وإلا لما كان للجملة معنًى، وكيف كتبت كلمة story؟

– كتبتها هكذا.

فيعود السائل ليقول: لا، إنها storey التي معناها الطابق في البناء؛ لأن كلمة «قصة» لا تجري مع السياق؛ وهكذا عبَّأنا الأستاذ بمادة اللغة تعبئةً لا أكاد الآن أصدِّق مداها حين أذكرها.

ولما بلغنا السنة الرابعة الابتدائية، تولَّى تدريسنا الإنجليزية ناظر المدرسة — وكان مصريًّا — وهو رجل غايةٌ في الأناقة والنظافة والدقة والنظام، بِذْلَاتُهُ بِيضٌ من تيلٍ هزاز، ويُخيَّلُ إليك أن له في كل ساعة من ساعات النهار «غيارًا» نظيفًا، وكان لا يمسك الطباشيرة إلا وهي ملفوفة إلى نصفها بالورق؛ فهو يعيِّن تلميذًا خاصًّا لإعداد هذا الطباشير المكسوِّ بالورق، ليُمِدَّه به كلما طلب، وكنت أنا في فِرقتي صاحب هذه الحرفة. كان من عادته أن يُكلِّفنا شراء زجاجاتٍ من المِدَاد الأحمر؛ لأن طريقته في تصحيحنا لأخطاء الهجاء هي أن نكتب الجزء المغلوط من الكلمة بالمداد الأحمر.

وأمَّا الحساب فحيَّا الله أستاذه وأكرمه إن كان ما يزالُ حيًّا، وأسبغ الله عليه رحمةً واسعةً إن كان ميِّتًا؛ لأنه موهوب، ولك أن تُضيف إلى موهبته تلك الحماسة التي كانت تسري فيه وفي زملائه لتَعْلَم أيَّ أستاذٍ كان.

وقد كانت لنا في الترجمة دروسٌ خاصة، من الإنجليزية إلى العربية ومن العربية إلى الإنجليزية، ووالله لا أذكر مستواها إلا ويأخذني العَجَب. كان يُدرِّسها مدرس سوداني طويل نحيل، أرسل لحيةً قصيرةً جعداء الشعر في أخريات أيامه، وما أخريات أيامه تلك إلا تهمة بالسرقة وُجِّهَت إليه، وغاب عَنَّا، وكانت له في نفوسنا هيبةٌ حتى لقد صدَّقنا مَن قال إنها تهمة مزوَّرة أريدَ بها الانتقام منه لأسبابٍ سياسية، ومضت بعد ذلك شهور، ثم شاءت المصادفات أن أكون بمحطة السكة الحديدية على استعدادٍ مع بقية الأسرة للسفر إلى مصر، فمَن ذا أرى هناك يقف محروسًا بجنديٍّ مسلَّح، إلا مدرسنا ذاك في وقاره وهيبته، فما كان مني إلا أن نطقت باسمه ذاهلًا دهشًا، فالتفت الرجل نحوي بحركة لا إرادية، فما هو إلا أن نَهَرَه السجَّان بصوتٍ غليظ أجش: انظر أمامك يا مسجون! … ومسحت عن وجهي دمعةً سالت.

لكنني كذلك لا أنسى قسوة مدرسينا في المدرسة الابتدائية — من مصريين وسودانيين — قسوة جاوزت كلَّ حد معقول، وكانت لهم فيها فنون. كان مدرس الجغرافيا شيخًا سودانيًّا، وكان يطلب مِنَّا أن نحفظ خمسين صفحة من صفحات الكتاب بين ليلةٍ ويوم، بحيث نتلوها كما تُتلى الفاتحة — على حد عبارته — وإلا فسوطُهُ القصير المُخبَّأ في كم ردائه على استعداد أن يُهوي فوق الظهور، ولم يكن مدرس اللغة الإنجليزية يكفيه أن تُمَدُّ له الأكفُّ ليضربها بالمسطرة — والمسطرة عنده هي أداة العقاب — بل كان يضفر قلمًا في أصابع اليد، ثم يضرب على ظهر الكف لا على بطنها، وبسنِّ المسطرة لا بعرضها، وكانت العقوبة عند مدرس اللغة العربية جلوسًا على الركبتين فوق البلاط، وقد لا يكتفي بذلك فيجعل حصاةً تحت كل ركبة، ثم قد يُضيف إلى هذا وذاك رفع الذراعين إلى أعلى؛ وأمَّا ناظر المدرسة فكانت طريقته أن يستعين بمدرس الألعاب الرياضية و«جلدته»، فيجيء فرَّاشان ويشدَّان المذْنِب المعاقَب على ظهر كرسيٍّ من الخيزران، فينثني المعاقَب فوق ظهر الكرسي، وكل فرَّاش ممسكٌ بذراع، ومدرِّس الألعاب يضرب بالجلدة على مؤخرة الجسم عدد الجلدات الذي يقرره حضرة الناظر، وكان في المدرسة مدرِّسان للألعاب الرياضية، كانا «صولَيْن» في الجيش أكملا فترة التجنيد، أحدهما يُدعى إبراهيم والآخر يُدعى فرنسيس، وكلاهما مصري؛ أمَّا إبراهيم فشديد السُّمرة غليظ الكبد لا تعرف الرحمة إلى قلبه سبيلًا؛ وأمَّا فرنسيس فأشقر اللون أصفر الشعر طيب القلب رحيم، إذا أُمِرَ بجَلد تلميذٍ فتراه يُنزِل الجلدة خفيفة؛ ولذلك كان الناظر حريصًا دائمًا على أن يكون إبراهيم هو أداته في تنفيذ العقاب.

وننتقل إلى المدرسة الثانوية فيتغير المنظر تغيُّرًا جوهريًّا؛ فالتدريس هنا كله بالإنجليزية، والمُدرِّسون أكثرهم إنجليز، ومن أول المدرسة الثانوية يبدأ التخصص المهني، لينتهي بنهايتها، لكن هذا التخصص كان يتركَّز في السنتين الأخيرتين، ففيهما يكون قسمٌ للمهندسين، وقسمٌ للمدرسين، وقسمٌ للقضاة الشرعيين وهكذا.

على أنَّ أهم ما يميز الدِّراسة هو الحياة الاجتماعيَّة والرياضيَّة؛ فالتلاميذ مقسَّمون إلى «بيوت» أربعة، وهو ما نسمِّيه في مدارسنا المصرية بنظام الأُسَر، يختصُّ كل بيتٍ من البيوت الثلاثة الأولى بالتلاميذ الوافدين من جهةٍ معيَّنةٍ من جهات السودان، فهؤلاء من الجنوب، وأولئك من الشرق أو من الغرب؛ وأمَّا البيت الرابع فلتلاميذ «الخارجية» ومن هؤلاء كان المصريون جميعًا.

وكانت كرة القدم إجباريةً على التلاميذ كافةً، فيقسمون أحد عشر درجة بحسب قدراتهم، وكلما أظهر اللاعب قدرةً ارتفع إلى فريق المستوى الأعلى، حتى يصل إلى الفريق الذي يلاعب الفرق الخارجية باسم المدرسة، وكانت كلية غوردون مُحاطةً بملاعب لكرة القدم كثيرة العدد، حتى لتمتد رقعتها إلى مسافة بعيدة.

ولا أذكر هذه الملاعب إلا وأذكر عقوبةً أمر عليَّ بها الرئيس الإنجليزي الذي يُشرف على «البيت» ألذي كنت أنتمي إليه؛ وذلك لأنني أخرجت ساعتي خلال الدرس، وكانت العقوبة أن تؤخذ مني الساعة أوَّلًا، وأن أظل ثلاثة أسابيع مدة ساعتين كل يوم أجمع الأحجار الصغيرة التي قد تكون مخبوءة في العشب النامي على الملاعب، على أن يكون ذلك بالطبع بعد نهاية اليوم الدراسي نحو الساعة الرابعة عصرًا، وأشهد أن تمتعت خلال هذه العقوبة أكثر مما تألَّمت؛ لأنني كثيرًا ما كنت أَنْعَم بالجلوس مع الزملاء «الداخلية» على العشب — وكانوا يجلسون حلقات حلقات — وأشرب معهم الشاي الجيد بلونه الذهبي في أكوابه الخاصة، والذي كنت أعجب له أنهم يجلسون بجلابيبهم البيضاء على العشب فلا تتسخ، وأجلس ببذلتي البيضاء فأقوم وعليها رقعة خضراء، (كانت الثياب البيضاء شرطًا واجبًا؛ فالسودانيون يلبسون الجلابيب البيضاء والعمائم السودانية البيضاء، والمصريون يلبسون بدلات بيضاء، وأربطة عنق سوداء، على ألا يكون الحذاء إلا بُنِّي اللون)، وقد تفتقت حيلتي ذات عصرٍ عن طريقةٍ ظننتها تُنجيني من تلك الرقعة الخضراء إثر الجلوس مع الزملاء على العشب ساعة الشاي، وهي أني خلعت حذائي وجلست عليه، فإذا الرقعة هذه المرة مزيجٌ من البني والأخضر، وأسأل نفسي الآن: ولماذا لم أستخدم ورقةً أو منديلًا فرشًا أجلس عليه، ولا أستطيع الآن أن أقع على التعليل لأني نسيت.

على أن أهم ما أقلقني من تلك العقوبة — فضلًا عن الرُّقع الخضراء التي كنت أعود بها كل يوم فتستشيط أمي غضبًا — هو ساعتي وضياعها؛ لأني أخفيت أمرها عن والديَّ، وكنت في خشيةٍ دائمةٍ أن يجيء الوقت الذي أُسأل فيه أين الساعة؟ فلا أجد الجواب، لكن الله سلَّم في آخر لحظةٍ من العام الدراسي؛ فبينما أنا هابط السلَّم مع طابور التلاميذ إذ ناداني العريف (رئيس البيت من الطلاب) وأخذني إلى غرفته حيث أعطاني ساعتي بعد نصحٍ وتقريعٍ، فأخذتها وهرولت أنزل السلالم درجتين درجتين، وأنا أصيح بأعلى صوت لأُسمِع أخي الذي سبقني مع الطابور:

فلعلَّها ولعلَّها ولعلَّها
ولعلَّ من عقدَ الأمورَ يحلَّها.

لكني لا أكتب هذه المذكرات لأقصَّ تاريخًا، بقدر ما أكتبها لأتعقب علَّتي إلى جذورها؛ فمهما يكن لزملاء كلية غوردون عليَّ من فضل؛ فقد أساءوا إليَّ — من حيث لا يشعرون — إساءةً لا أخطئ كثيرًا إذا قلت إنها كانت هي الحد الفاصل بين أن أكتم علَّتي في جوفي وبين أن يُفلت مني زمامها فتخرج — خرجت — قَتَبًا على ظهري؛ وذلك أنهم غرزوا في أعماق نفسي عقدةَ نقصٍ ما زالت تسيطر عليَّ إلى يومي هذا، ثم ما زالت تتفرع في شعاب النفس أشكالًا وألوانًا، كأنها الأخطبوط، إذا بَتَرْتَ منه خيطًا نبتت خيوط.

والبداية بسيطة ككل البدايات! ذلك أن صغار الزملاء قد أدركوا — ونحن بعدُ في أول المرحلة الابتدائية — ما في بصري من قِصَر ملحوظ في زَرِّي لعيني اليمنى كلما أردت النظرَ إلى شيءٍ، وأعجب العجب أني لم أكن أعلم قبلئذٍ أن بصري يَقْصر دون أبصار الناس، كلا ولم يكن يعلم ذلك أحد من أهلي، حتى وجدته موضع السخرية من هؤلاء الزملاء الصغار.

كل ما أذكره قبل ذاك حادث عابر جاء وذهب في لحظة قصيرة؛ فقد كُنَّا نعبر النِّيل عند الخرطوم في مركبٍ اشترته جماعة من الموظفين الأصدقاء، الذين يسكنون من النِّيل في ضفةٍ ويعملون في الضفة الأخرى، ليكون المركب تحت تصرُّفهم دائمًا، على نحو ما يملك المالك اليوم سيارة خاصة؛ واصطف الراكبون صفَّين متقابلَين، وفي الصَّف المقابل لي كان والدي وكان أحد أصدقائه، وأحسبني قد زررت عيني اليمنى، حين قال ذلك الصديق: «أتزرُّ عينك منذ الآن يا بنيَّ؟ فماذا أنت صانعٌ إذن حينما تتقدم بك السنون؟» مع حرف النون الأخير في عبارته وقعت كفُّ والدي على وجهي صافعةً، وهو يزجر: «افتح عينك حين تنظر.»

لم أكن أعلم قبل ذلك — إذن — ولا كان أهلي يعلمون أن بعينيَّ ضعفًا، حتى كشف لي الأمرَ صغار الزُّملاء من السُّودانيين، حين راحوا يُطلِقون عليَّ أسماء من قبيل «الأعور» و«الأعمش»، ثم استقروا أخيرًا على مصطلح لم أفهمه بادئ ذي بدء، وهو قولهم «٧ و٤» أحيانًا، و«٥ و٦» أحيانًا أخرى، ولطالما عجبت من العلاقة بين هذه الأعداد وبيني، لكنني كنت على يقينٍ عندئذٍ أن الإشارة في هذا كله إلى عينيَّ، وأخذت أحاول أن أنظر كما ينظر أصحاب النَّظر السَّليم، فالكتابة على السُّبورة لا أراها لكني أكتم الخبر، وقد حدث ذات يوم أن أقبلت عليَّ طائفةٌ من الزملاء، وأحاطت بي ليرى من لم يكن قد رأى كيف أني أزرُّ عينًا دون عين، فأردت أن أدحض لهم دعواهم، وبالغت في فتح عيني حتى أبرهن لهم أن ليس بها عيبٌ يُعاب، فازدادوا ضحكًا، وازددت عجبًا وريبة، ولما عُدت إلى الدار وقفت أمام المرآة لأفتح عينيَّ كما فتحتهما في الصباح لأرى كيف ظهرتا للمشاهدين، وإذا بالزملاء معذورون؛ لأنها في الحق حملقة تضحك من قصد إلى السخرية والعبث.

ومنذ ذلك العهد الباكر من حياتي، وعيناي العليلتان مصدرٌ عجيبٌ لكل ضروب العوامل التي تدفع صاحبها إلى الأمام مرَّة، وتردُّه إلى الوراء مرَّة؛ فقد كان مما قيل في أوساط الأسرة — وقد عُرِفت حقيقة بصري — أنه لا جدوى من أن أكمل مراحل التعليم إلى آخر أشواطها، ما دام هذا البصر الكليل عقبةً في سبيل التوظف على كل حال؛ فالتعليم عندهم وعند الناس أجمعين في ذلك العهد طريقٌ للوظيفة، فإذا لم يكن الطريق موصِّلًا إلى غايته بطل أن يكون طريقًا، وكان عبئًا ومضيعةً للجهد والوقت والمال، وسمعت هذا اللغط يَسْري بين من يهمهم أمري ومن لا يهمهم من أفراد الأسرة الكبار، فزادني صلابةً وعنادًا وإصرارًا على المضيِّ فيما أرادوا أني يصدُّوني عنه، فإذا قال القائل: لا تقرأ حرصًا على بصرك. كان ردُّ الفعل عندي أن أقرأ ضعف ما أردت أن أفعل، ولست أشك في أن أقوى ما دفعني إلى حياة الدراسة هو ذلك العزم الذي بدأ عنادًا أول الأمر، ثم انتهى إلى مَيْلٍ وعادة.

ولست أنسى يومًا — وكنت في السنة الثانية الابتدائية — حين «سرحت» عن الدرس، وسبَحت بنظري خلال النافذة شاخصًا إلى قطع السحاب تتسابق مع الريح، وتتخذ لنفسها أشكالًا عجيبةً، فجعلت أتأمل ماذا عساها أن تكوِّن؟ فهذا جملٌ ذو سنامين وخمسة أرجل، وتلك بطةٌ سابحة تلوي عنقها ذات اليمين مرةً وذات الشمال مرة، وذلك تمساح فتح فكَّيه ليبتلع سمكة تجري أمامه ولا يلحقها، ثم جاءت سحابة ضخمة تشبه وجه الرجل الكهل بلحية طويلة وشاربين كبيرين، وعلى الوجه جلالٌ وعظَمة، فقد رأيته وكأنه يأمر بقية السحاب فتجري بأمره وتقف بأمره، فمن ذا يكون هذا الآمِر العظيم؟ آه لقد عرفت، إنه «الله»؛ فقد حكوا لي أنه يسكن السماء، يا سلام! هذا — إذن — هو «ربنا»!

هكذا كانت خواطري تجري وأنا أنظر إلى قطع السحاب، حين جاءتني ركلةٌ بالقدم في جنبي، وضربةٌ بجمع اليد في كتفي، ومجموعة الأولاد في الفصل تنفجر ضاحكة، ونظرت مذعورًا إلى الضارب، الذي هو المعلِّم وإذا به يكشِّر عن أسنانه اللوامع البيض: فيمَ زررت عينك يا أعور؟ وإلى أي شيء في السماء تنظر؟

وليت المعلم يعلم الآن أن العين العوراء ما زالت تنظر إلى السماء باحثةً عن الله — لكنها هذه المرة تبحث عنه وراء قطع السحاب — سائلةً عن الكون ونشأته وعن الإنسان ومصيره، وليت المعلم يعلم كذلك كم كانت تلك العين العوراء حافزًا وكم كانت مصدرَ أَلَمٍ مُمِضٍّ، فمنذ ركلتَهُ بالقدم، وضربْتَهُ بجُمع اليد، في تلك اللحظة الهائمة المتأملة، قد أصبحت العين العوراء همًّا مقيمًا على صدري، لا ينزاح ولا يزول، تبعث في نفسي كل صنوف المخاوف مما قد تضرب به الأيام فتصيب مني مقتلًا، وإنما هي الشبح المخيف والظل الكئيب، الذي أراه مطروحًا أمامي في الطريق أينما سرت، فيُظلم الأفق ويصدُّ عني شعاع الشمس المضيء.

•••

كان للغلام فيما بين عامِهِ العاشر وعامِهِ الخامس عشر سبحاتٌ شاطحاتٌ في أحلام يقظته، معظمها يدور على محورين: أحدهما: هو أن يكسب مالًا كثيرًا يقيم به الدليل على «شطارته». والآخر: هو أن يضلَّ في التِّيهِ طريدًا شريدًا.

فما سار يومًا من البيت إلى المدرسة — ذلك الطريق الطويل برماله الغزيرة وشمسه الحارَّة وهوائه المعفَّر — ألا وقد طأطأ الرأس مثبتًا عينيه في قدميه، وشاردًا بخياله؛ إلى أين؟ إلى غابات الجنوب — وكان قد سمع عنها ما يُثير خياله — فيتاجر مع أهلها، فيكسب المال الكثير، وأهله أثناء غيبته لا يعلمون أين ذهب، فيبحثون عنه حتى يأخذهم اليأس، فيقولوا: مات، أو فُقِد لغيرِ رجعةٍ، فإذا به بعد أعوام يعود إليهم ومعه صرَرٌ كبيرة، يسألونه: ماذا تحوي؟ فيجلس بينهم ويفتحها، فيتدفق المال، وتنفغر الأفواه من عجبٍ، فيوزِّع عليهم أنصبتهم، ويُبقي لنفسه نصيبها …

وما جلس وحده يومًا، إلا وقد راح يحلم بأنه يخبط في فجاج الأرض طريدًا شريدًا، يأكله الجوع فلا يجد اللقمة، ويقتله العطش فلا يجد جرعة الماء، وتتمزق ثيابه، وتنهدُّ قواه، وربما اضطر إلى التسوُّل ليقيم الرمق وهو في عزلة الشريد المجهول.

فأما موضوع المال وكسبه، فقد همَّ الغلام عندئذٍ بإخراجه من دنيا الأحلام إلى دنيا الواقع بصورٍ شتى، فيها السذاجة الشديدة التي انتهت به ذات يوم إلى «علقة» تردُّه إلى صواب العقلاء؛ فمن ذلك — مثلًا — أنه فكَّر: لماذا لا يتاجر ليكسب؟ ومرَّ بالدار ساعتئذٍ — وكان أهلُه في زيارةٍ — بائعُ الدجاج، فاشترى منه زوجين، وعاد الأهلُ من زيارتهم فظنُّوه اشترى الدجاج لحسابهم، وحمدوا له الصنيع لأنه دجاج جيِّد بسعرٍ رخيصٍ، لكنه في الحقيقة كان يُضمِر في نفسه تجارة؛ فبعد يومين مرَّ بائعٌ للدجاج آخَرُ، معروفٌ للأسرة لكثرة تردُّدِه على البيت بائعًا، وهو رجلٌ ضريرٌ اسمه «صيام»، فلم يجد في الدار غيري، وما فتحت له الباب حتى بادرني بقوله: عندي دجاجٌ سَمِين، فقلت له: وأنا كذلك عندي دجاج أسمن، فهل لك في الشراء؟ فتعجَّب الرجل لبيتنا يُباع منه الدجاج وكان الظن أن يُباع له، لكنه طلب البضاعة المعروضة ليفحصها، وأمسكت بدجاجاتي من فناء الدار بعد جَريٍ وراءها وهي مع بقية الدجاج في الفناء تندفع مذعورةً هنا وهناك وتصيح كأنها تطلب الغوث ممن يُغيث؛ أمسكت بدجاجاتي وعرضتها على «صيام» فراح يتحسسها، ثم سعَّرها بثمن يشتريها به، وهو ثمن يزيد قرشين عما كنت دفعته لشرائها، فأسلمته الدجاج وقبضت الثمن فرحًا بكسبي، وعاد شمل الأسرة فاكتمل: أبًا وعمًّا وأمًّا وامرأة عم، وعلِموا بالأمر، فأخذتهم الدهشة المحيِّرة التي لم تنفكَّ عنهم أسبابها إلا بالعصا؛ ولم تكن حيرتهم في أمري بأشد من حيرتي في أمرهم! لماذا تضربونني وقد اشتريت الدجاج لأتاجر فيه؟ فتزداد العصا أداءً لمهمتها في تقويم غلامٍ فسد واعوجَّت به السَّبيل!

ومن مغامرات الكسب أيضًا أن اشتريت من جارٍ لنا في مثل عمري بضع صورٍ من بطاقات البريد المصوَّرة، باع لي البطاقة بقرش، وكان مشروعي هو أن أُقِيم من تلك البطاقات ما يُشبه السينما فأربح منها الكثير، وكيف ذلك؟ بأن أضع الصورة داخل زجاج المصباح، فينظر إليها الناظرون وهي خلف زجاج! … وانتظرت الزبائن من أولاد الجيران وبناتهم، ولكن لا زبون، وكلما أغريتهم ازورُّوا عني واشتدوا نفورًا، ولم أدرك كم أخطأت الظن إلا حينما عرضت على مَن كنت اشتريت الصور منه أن يجيء ليتفرَّج عليها لقاء مليمين للمرة الواحدة، فدهش وقال: ماذا تريدني أن أرى؟ ما الفرق بين رؤيتها أمام الزجاج ورؤيتها خلف الزجاج؟!

ومغامرة ثالثة للكسب مشروع شاركني فيه أخي عماد، وهو أن اشترينا نعجةً قبل فصل المطر، ويسمُّونه في السودان بفصل الخريف، وهو في حقيقته فصل الصيف؛ أملًا في أن نطعمها بما ينبته المطر من عشب، فتكبر، فتلد، فنبيعها هي ونُبقِي على الحملان لتكبر وتلد وهلمَّ جرًّا، فما أكثر ما سمعنا عن أغنياء بدءوا حياتهم مثل هذه البداية البسيطة؛ لكن لم يكد يَنْبت العشب في الأرض الفضاء الفسيحة خارج البلد، ولم نكد نأخذها إلى هناك مع الصباح لتغتذي ونعود بها ساعة الظهر؛ أقول: إننا لم نكد نفعل ذلك أسبوعًا أو أسبوعين، حتى نفقت النعجة بعد انتفاخٍ شديد أصابها، وقال العارفون من جيراننا إنها لا بُدَّ أكلت عشبًا سامًّا كانوا هم يعرفونه ويُجنِّبون أغنامهم إياه، لكن من أين لنا مثل هذا العلم بالعشب والغنم؟!

وأمَّا أحلام التشرُّد والتسول والعزلة الضاربة في القفار، فما تزال هي هي الأحلام التي تُعاودني بعد أن هذَّبها نضج الدراسة، فأصبحت أحلامًا تحلم بعزلة المتصوفة الزاهدين.

ضلالٌ ليس بعده ضلال في فهْمِنا لأنفسنا وفهْمِنا للناس، أن نلتمس محورًا واحدًا نُدير حوله أحوال النفس جميعًا؛ فلكل نفس محاور عدةٌ تدور حولها في تصريفها لشئون حياتها، فلو قلتُ للناس — مثلًا — إنني في أعماق نفسي زاهدٌ في زخرف الدنيا، لا أريد مالها ولذائذها، قيل لي: لكنك تجدُّ ساعيًا في كسب المال وادخاره، وتزيد في حياتك من أسباب الراحة والترف. وإن قلت للناس: إنني في أعماق نفسي أحب العزلة، قيل لي: لكنك تأنس لحديث الأصدقاء. وإن قلتُ للناس: إنني أجعل من ذاتي وخبرتها أساسًا أوَّلًا وأخيرًا في تقويم الأشخاص والأشياء، قيل لي: إذن فقيم دعواك التي قلبت بها الأرض وأوجعت بها الدماغ، في وجوب أن يكون معيار التقويم دائمًا موضوعيًّا مستقلًّا عن الذات وأهوائها؛ وها أنا ذا أصيح بملء فمي: نعم، نعم، إنني هذه الجوانب كلها، وقولوا ما شئتم أن تقولوا.

•••

… إنني إذ ارتدُّ إلى أعوام المراهقة الباكرة، أجدني ملتقى أخلاطٍ عجيبة تشابكت أطرافها من دينٍ وجنسٍ وشعرٍ؛ فقد أحاطت بنا جماعة من الأصدقاء لا تكاد تنطق بكلمة واحدة في أحاديثها إلا ولها صلة بأمور الجنس، وكانوا يكبروننا بأربعة أعوام أو خمسة، فكان لهم من الخبرات ما لم يكن لنا به علم، وكنا نستمع إليهم وكأننا نستمع إلى قادم من عالمٍ مسحورٍ يروي عن ضروبٍ من الحياة والأحياء لم ترَها عين من قبلُ ولم تسمعها أُذُن، نعم لقد حدث لي قبل ذلك بسنوات أن أخذت أدرك أن بين الجنسين أمرًا يحرص الناس على أن يجري في خفاء وتستُّر، لكنني لم أكن أحسُّ شيئًا في هذه الفتنة التي يحدِّثنا عنها الأصدقاء، وإذن فلا بد أن تكون أبواب هذا العالم المسحور مغلقةً عندي حتى ذلك الحين تنتظر مزيدًا من النضج يتميز بعلامات حفظتها عن هؤلاء الأصدقاء حفظًا، وجعلت أرتقبها مشوقًا إليها، وأتعجَّل حدوثها كمن يتعجَّل قدوم الغائب الحبيب، لكنهما ارتقابٌ وتعجُّلٌ لم يَخْلُوَا من شعورِ المرتاع مِن داهمٍ مجهول.

كان منزلنا يَبعد عن النيل مسافة نصف الساعة مشيًا، وعنَّ لي ذات عصرٍ أن أحمل حصيرة صغيرة وأقصد بها إلى شاطئ النيل، فافترشها لأنظر إلى غروب الشمس على صفحة الماء، وأظنها كانت أول مرة أقصد فيها إلى شاطئ النيل في تلك البقعة بذاتها؛ إذ لم أكن أعلم أن عشرات السابحين يلهون بالسباحة في النيل عند ذلك المكان وفي تلك الساعة من النهار. لقد اخترت المكان عفوًا لأن الطريق إليه كان يشقُّ حديقةً من شجر الليمون، تُوهِم الإنسان بأنه سائر في ظل الشجر، والحقيقة أن لم يكن هناك ظلٌّ يحميه؛ لأن الأشجار قصيرة ومُعَرَّاة من الوراق والثمر، وعند شاطئ النيل افترشت الحصيرة وجلست وحدي، لا أجد ما أُسنِد ظهري عليه، فكنت أستند إلى ذراعيَّ من خلفي حينًا، وأقرفص مشبِّكًا ذراعيَّ على ركبتي حينًا آخر، وأستلقي ناظرًا إلى السماء حينًا ثالثًا، فربما ظهر هذا التغيُّر في الأوضاع لمن يشاهده كأنه قلَقٌ في النفس، لا مجرد بحثٍ من الجسم عن وضع يريحه، فجاءتني فتاتان سودانيتان ما زلت أذكر منهما لمعة العيون التي تناديك في إغراءٍ بل في إغواءٍ صامت دون أن ينطق اللسان بكلمة، كما أذكر منهما صدورًا ناهدة تستثير أصابع القدِّيسين أن تمتد لتخمش. كانتا سمراوين أفتح لونًا من اللون السائد بين نساء السودان، وأغمق لونًا من اللون السائد بين نساء مصر. جلستا على الحصيرة واتكأتا على الذراعين، راكعتين على الركبتين، كأنما دُرِّبَتَا أن تقوما بهذه الحركة معًا في توقيعٍ موسيقي، وشخَصَتا إليَّ بعيون ضاحكة وشفاه باسمة كاشفة عن أسنان ناصعة البيضاء؟ وقالت إحداهما — وردَّدت الأخرى قولها: «إنك لتتململ قاعدًا راقدًا، باسطًا ذراعيك قابضًا لهما، كأنما في القلب جمرات نحن نعرفها»، فأخذتني رعشة هزَّت كياني هزًّا، من أعلاه إلى أسفله ومن باطنه إلى ظاهره، فكأنني هذه الساعة أسمع ما دقَّ به قلبي دقًّا عنيفًا، وتذكرت الدنيا المسحورة العجيبة التي طالما حدَّث عنها الأصدقاء، والتي طالما ارتقبتها، وخُيِّلَ إليَّ أن تلكما الفتاتين هما اللتان أرسلهما الغيب لتفتحا الباب الذي لبث حتى تلك اللحظة مغلقًا، لا أدري ماذا وراءه إلا عن طريق الرواية، لكني تذكرت كذلك أن علامات النضج التي هي جواز المرور إلى داخل العالم المسحور لم تظهر بعدُ، فقلت لهما بأنفاس متقطعة: «لكني ما زلت صغيرًا»، فضحكتا في دلالٍ لا يعرفه إلا من عرف كيف تدلُّ الفتاة السُّودانية بأنوثتها، وقالت إحداهما — ورددت الأخرى قولها: «صغير؟! هذه هي السن التي جئنا نبحث عنها»، فلم أشعر عندئذٍ إلا بالقشعريرة الشديدة تلمُّ ببدني كأنها المرض الداهم، وجمعت حصيرتي وأسرعت عائدًا، تاركًا ورائي فتاتين تضحكان ضحكات عالية الرنين.

ذلك كان نوع الارتقاب الذي كنت أرتقب به دخول العالم المسحور، ارتقابًا مشوبًا بالفزع، وتلك كانت هي نفسها الأيام التي سمعنا فيها عن ألف ليلة وليلة، لكننا سمعنا عنها من أفواه أولئك الأصدقاء الذين استعَرَت نيران الجنس بين جوانحهم، فأقبلنا على قراءتها لا من حيث هي أدبٌ من الأدب القصصي الرفيع، بل من حيث هي كتاب فيه لمسات من الدعارة المحرَّمة؛ ولذلك وجب أن يُقرأ في خفاءٍ عن أولياء الأمر، فطَفِقْنا أيامًا متلاحقة في إجازة الصيف، نجتمع الصباح كله والعصر كله في منزل زميلٍ لنا كانت له في داره غرفة خاصة لا أثاث فيها إلا حصيرة ممزَّقة على أرضها، فنضع الكتاب على الأرض وننكبُّ عليه، أحدنا يقرأ في صوتٍ مسموع، والآخرون يتابعون قراءته بالنظر الصامت، حتى فرغنا من قراءة أجزائه جميعًا.

وكانت تلك هي نفسها الأيام التي أخذ فيها الشعور الديني يملأ قلوبنا؛ فالأمر هنا لم يقتصر على صلاةٍ تؤدَّى في أوقاتها، وعلى صومٍ نصوم به شهر رمضان في حرٍّ يُجَفِّف الحلوق ويحيلها حطبًا يابسًا، بل تَجاوزَ أمر التدين عندنا كل هذه الحدود، حتى كاد يبلغ بنا حد «الدروشة»، أو قل إنه قد بلغها وأوغل فيها، فكما أرادت لنا أيام المراهقة صحبةً من أصدقاء تفتح أعيننا وآذاننا على عالم مسحور هو عالم الجنس؛ فقد أرادت لنا كذلك أن نجتمع بحلقةٍ دينيةٍ، يتولى إمامتها شيخ وقور من أهل السودان، قيل لنا إنه قد تخرَّج في الأزهر، وكانت الحلقة تمتد ما بين صلاة المغرب وصلاة العشاء.

ففي ميدانٍ فسيحٍ بالقرب من دارنا، مبنًى صغيرٌ يعلو عن مستوى الأرض درجتين أو ثلاث درجات، له بوابات بغير أبواب من جهاتٍ ثلاث. كان مُعَدًّا ليكون مكانًا يقف فيه حاكم السودان عند الاحتفال بالمولد النبوي، لتمرَّ أمامه الفرق الصوفية ببيارقها؛ وأمَّا بقية العام، فالمبنى متروكٌ خلاءً لمن شاء أن يأوي إليه في ليل أو في نهار، وفي هذا المبنى كانت تُعقَد الحلقة الدينية كل مساء بين صلاة المغرب وصلاة العشاء.

وكان أعضاء الحلقة يستأجرون دُكَّانًا صغيرًا على بعد أمتارٍ قليلة من ذلك البناء، يخزنون فيه الحُصْر، حتى إذا ما قربت ساعة الغروب ذهب منهم متطوعٌ يرشُّ أرض المبنى بالماء رشًّا خفيفًا، ويكنسه، ثم يجيء بالحُصْر من مخزنها ذاك فيفرشها، فإذا ما أذَّنَ المغرب يكون الأعضاء قد تكاملوا، فيُقيمون الصلاة، يؤمُّهم شيخ الحلقة ورائدها ومعلِّمها، وهو الشيخ أبو قرين؛ حتى إذا ما فرغ المصلون من صلاتهم، جلس الشيخ النحيل الوقور وحوله الأعضاء، وأخذ يقرأ الدرس الديني ويشرح، إلى أن يحين موعد صلاة العشاء.

تلك كانت هي الحلقة الدينية التي وصلنا أنفسنا بها في ذلك العهد الذي أتحدث عنه، ثم ما هي إلا أن أصبحنا نحن؛ أنا وأخي؛ العضوين اللذين يُوكَل إليهما — إمَّا معًا أو بالتناوب — رشُّ المكانِ بالماء وكنسُه وفرشه وملء القُلل بالماء البارد، إعدادًا للصلاة وللدرس الديني، ولو كان هذا الدرس اليومي مقتصرًا على شرح أصول الدين وقواعده، لما كان منه في نفوسنا إلا حصيلة من علم، قد تلتمس طريقها إلى الرءوس دون أن تمسَّ من القلوب شغافها؛ إذ لا بُدَّ من التفرقة بين مَن «يُعَلِّم» أصول الدين وقواعده، وبين من يتحول ذلك «العلم» في قلبه إلى «وجدان»؛ فهذان جانبان مستقلٌّ أحدهما عن الآخر، قد يجتمعان في إنسانٍ واحد، وقد يتوافر أحدهما دون الآخر، فهنالك العالِم المتبتل، وهناك العالم في غير تبتُّل، وهناك التبتُّل عن غير علم، وهناك من يخلو من العلم والتبتل كليهما؛ أربعة أنماط من الناس، لا بُدَّ من التفرقة بينها حتى لا نظن أن كل علم بالدين مقرون بالشعور الديني، وإنما قصدت بهذا أن أقول: إن ذلك الدرس الديني الذي لبثنا نستمع إليه أشهرًا طويلة لا نتخلَّف عنه يومًا واحدًا، بل يحلو لنا أن نقوم نحن بإعداد العدة له، في تلك السن الهائجة بمشاعرها، لم يكن درسًا دينيًّا للعلم وحده، بل كان يمتد إلى أشياء تهزُّ وجداننا هزًّا عنيفًا.

مثال ذلك أن الشيخ أبو قرين يبين لنا أسرارَ آياتٍ قرآنية معيَّنة، وأسرار كلمات معينة؛ فهذه الآية إذا قرئت كذا ألف مرة في ظُلمة الليل، أو تلك الكلمة إذا نُطق بها كذا ألف مرة تُعَدُّ على المِسْبَحة، ظهر ملَكٌ من ملائكة السماء فيبارك القارئ في دنياه وفي آخرته على السواء؛ فهل كُنَّا نسمع هذه الأشياء لمجرد العلم بها؟ كلا، بل كُنَّا نسمعها لننفِّذها فورًا، فإذا ما جَنَّ الليل ونام الأهل، أوى كلٌّ مِنَّا إلى ركنٍ مظلمٍ، وأمسك بمِسْبَحته وراح يهمس الآية أو يتمتم بالكلمة كذا ألف مرة كما أوصى، وكُنَّا حريصين ألا ينتبه أحد من أفراد الأسرة إلى هذا الذي نصنعه، حتى لا يحول بيننا وبين أدائه، ولكن الملائكة المرتقبة لم تظهر أبدًا، فهل كان يطوف ببالنا عندئذٍ أنها لم تظهر لأن الأمر كله خرافة في خرافة؟ كلا، بل إنها لم تظهر لأنه لا بُدَّ أن يكون هنالك نقصٌ فينا، كأن نكون على غير طُهْرٍ في الجسد، أو على غير صفاءٍ في النَّفس بالدَّرجة التي يتطلَّبها ظهور الملائكة، وهكذا نردُّ العيب دائمًا إلى شيء في استعدادنا الجسمي أو النفسي، ولم نردَّه قط إلى تعاليم الدرس وتوجيهات الشيخ.

قيل لنا: إنَّ مَن يؤذِّن للصلاة يظفر عند الله بثواب أكبر، فكنا نتسابق إلى الأذان للصلاة بأصواتنا المتسلِّخة، ولست أدري كيف كان يؤذَن لنا بذلك برغم ما في أصواتنا من رداءة الأداء وقصر المدى، ولعلهم أحجموا عن منعنا خشيةَ أن يكون في هذا المنع غضبٌ ينزل عليهم من السماء.

تلك كانت هي الموجة الدينية الجارفة ونحن في سن المراهقة، لكنَّها برغم ذلك لم تكن لتتعارض في أعيننا مع حلقات أخرى، نجتمع فيها مع ثلة الأصدقاء الذين لم يكونوا يتحدثون قط إلا في الجنس وما يتصل به! أيكون هذان الجانبان من النفس الإنسانية على علاقة وثيقة أحدهما بالآخر، حتى ليحدث كثيرًا أن تكون النقلة يسيرة بين الإمعان في الدعارة والإمعان في الزهد والعبادة؟ كما حدَث للقديس أوغسطين، ولرابعة العدوية، ولتاييس؛ نعم، قد يكون الأمر كذلك، حتى لقد اجتمع المعنيان في كلمة عربية واحدة، هي كلمة «الحرام» بمعنى المقدَّس وبمعنى الممنوع فعله، فيُقال المسجد الحرام بالمعنى الأوَّل، ويُقال هذا الفعل حرام عليك بالمعنى الثاني. ومهما يكن من أمر، فقد جمعت أعوام المراهقة في حياتي بين حلقتين في آنٍ واحد: الحلقة الدينية، وحلقة الحديث في شئون الجنس.

لكن التقاء الجانبين في نفس واحدة تعاني تحوُّل المراهقة، لم يكن يخلو من صراعٍ داخليٍّ عنيف، وكيف أنسى ذلك اليوم من رمضان وقد نال الصوم مني ما نال، فتهافَتَ الجسد وانهار، وانتشى الروح لهذا الضعف نفسه الذي هدَّ الجسد؛ إذ علَّمونا أن الروح والجسد عدوَّان ما ينفكان يتصارعان، وهزيمة الإنسان هي في أن تكون الغلبة للجسد وشهواته، وسُموُّه إنما يكون في أن تتغلب الروح؛ إذن فقد كنت يومئذٍ مهدود الجسد منهوك القوى من وطأة الصيام في ذلك الحر الشديد، لكنني كنت بروحي في سماء عالية من الطمأنينة والرضى.

ويومئذٍ مررت في بعض طريقي على دار أسرة تربطنا بها وشائج الصلة الوثيقة، لأقضي فيها ساعة القيلولة قبل أن أستأنف السَّير، ودخلت غرفة الضُّيوف وهي قريبة من الباب الخارجي، بعيدة عن بقية أجزاء المنزل، وفي تلك الغرفة وجدت فتاةً من الأسرة — في مثل سنِّي — قد جلست إلى مكنة الخياطة تهز قاعدتها بقدميها، وتُمسك الثوب المخيط بيديها، فيكون لجسمها بهذه الحركة شيءٌ من التوقيع والنغم؛ أمَّا أنا فقد حيَّيت وجلست إلى منضدة قريبة وفتحت القرآن — وكنت أحمله معي — وأخذت أقرأ في همس، لا أحوِّل بصري نحو الفتاة إلا إذا وجهت إلى شيئًا من عابر الحديث، فأردَّ عليها أو أوجِّه إليها شيئًا فتردَّ؛ فلقد كان بيننا وبين أسرة الفتاة من قوة الروابط ومن إلف العشرة ما لم يجعلني أفكِّر في الفتاة على أنها قد تكون من ذلك الجنس العجيب الذي تحدث عنه الأصدقاء في أسمارهم التي لم تنقطع ساعةً واحدةً من نهار، ولم يطُف برأسي قط — والله يعلم أنني صادق فيما أروي — أن تلك الفتاة التي تجلس على مقربة مني، قد تكون هي النافذة التي سأطلُّ منها — لأول مرة — على ذلك العالم المسحور، أبدًا لم يطُف ببالي شيء من هذا، وكأنَّ كياني كله عندئذٍ كان هو ذلك القرآن الذي أخذت أتلو آياته في همس، مُدخِلًا نفسي في عالمه، ومازجًا معانيه — بقدر إدراكي لها — بشغاف قلبي؛ فكم علَّمنا الشيخ أبو قرين أنه رُبَّ صائم لم ينله من صيامه إلا الجوع والعطش، ولم أُرِدْ أن أكون أنا هذا الصائم الذي يصوم عبثًا، وفجأة دبَّرت الأحداث أمرًا، وهو أنْ دخَلَ عمُّ الفتاة يسألها إن كان لديها شيء يلفُّ فيه ثوبًا جديدًا كان يحمله على ذراعه، فأجابت بالنفي وخرج العم، وعلَّقت الفتاة بعبارة تُشير بها إلى معنًى خفيٍّ، وقرنت العبارة بابتسامة تنادي وبنظرة تدعو.

فإذا كنت قد رأيت شرارة النار ماذا تفعل بكومةٍ من الدريس الجاف، فقد رأيت ماذا فعلت تلك الشيطانة بجسدي الذي كان الصوم قد جفَّفه! لقد أشعلت في أحشائه نارًا — على سبيل الحقيقة لا على سبيل المجاز — لأنني أحسستُ عندئذٍ لهب النار يأكل جوفي أكلًا، ويعلو إلى وجهي فيشويه، وتحوَّل كياني الملتهب إلى عينين ذاهلتين تنظر إلى الشيطان وقد تجسَّد في إنسانةٍ من البشر! لكن لساني لم ينطق بحرف، وسُمِّر بدني كله على مقعدي، وعيناها ما زالت تدعو، وابتسامتها ما زالت تنادي؛ ومضت ساعة أو ساعتان أو لا أدري كم ساعة مضت، حتى دنا وقت الغروب ووجب الرحيل.

خرجتُ أسلِّم باللفظ من بعيد، وذهبت إلى دارنا؛ مصحف القرآن في يدي، وجسد الصائم المنهوك يمشي بخطوات سريعة، لا أعلم من أين جاءه الوقود ليُسرع، لكنه أسرع، ووصل إلى الدار لحظة غروب الشمس، وأفطر الصائم، وذهب ليستمع إلى الدرس الديني بين يدي الشيخ — بعد صلاة العشاء والتراويح — منصتًا أضعاف ما كان يُنصت كل ليلة، وخاشعًا أضعاف ما كان يخشع، كأنه أراد بذلك أن يقيم الأسوار الحصينة بينه وبين الغواية؛ لكن هيهات؛ فلقد انفتح الباب المُوصد عن العالم المسحور، لقد كانت روحي يومَها من جسدي كأنها يوليسيز من سفينته أثناء تجواله في البحر، حين ربط جسده إلى قلعها وشدَّ على نفسه الوثاق؛ إذ قيل له إن الساحرات في إحدى الجزر على الطريق، تُغنِّين بصوتٍ خلَّاب لا يملك دفعه إنسانٌ من البشر، فينعرج الملَّاحون بسفائنهم إلى حيث الصوت الساحر، حتى إذا ما وقعوا في فخاخ الساحرات دارت بهم الحتوف، ولم يُرد يوليسيز أن يضعف أمام الإغراء، فشدَّ نفسه إلى قلع السفينة شدًّا، لكن السفينة اضطربت أيَّ اضطراب ومالت أيَّمَا ميل، وهكذا كنت يومئذٍ من ساحرتي؛ تلك الشيطانة التي رسمت في نفس الفتى المراهق صورةً للمرأة كيف تكون، فتوالت الأيام وكرَّت الأعوام، لكن الصورة قد رسخت في نفسه لا تزول.

وها هنا يخطو الفتى خطوةً نفسيةً قصيرة المدى، فإذا هو مغمور بحبِّه لقراءة الشعر، وما هو أقرب إلى الشعر من نثر الناثرين؛ فالزملاء في المدرسة ما يفتئون يباهي بعضهم بما قرءوا من الشعر وبما حفظوا، وأخذت تتردد بينهم أسماءٌ سَمِعتها لأول مرة: الأجنحة المتكسرة لجبران خليل جبران، وليالي سطيح والبؤساء لحافظ إبراهيم، والعبرات للمنفلوطي، فاندفع فتَانَا في هذا العالم الجديد اندفاعًا، لكن كلما قرأ قصيدة في الغزل، أو وقع على كلامٍ فيه لوعة الحب، فهِمَه على ضوء ما كان يحسه إزاء تلك الشيطانة التي رسمت أمام خياله معالم الطريق.

فلطالما عَبَرتُ طريق الأعراف بين عالم الجسد وعالم الروح، فأُعرِّج إلى السماء مرةً وأهوى إلى الأرض مرة، وتجسَّدت لي العلاقة بين الأرض والسماء، كم هي قريبة إذا شاء الله. ذات يوم وكان قد جاء إلى الأسرة وافدتان جديدتان هما أختان، ثم وافد ثالث هو أخٌ لم يلبث على وجه الأرض إلا عامًا وبعض عام، وثقُلت عليه العلَّة، ولم ينقطع له أنين عدَّة أيام، وفي ذلك اليوم الذي أعنيه — ساعة الضحى — لم يبقَ في الدار — فيما أذكر — إلا أمي وأنا، ولا أدري أين ذهب الباقون، وكان لا بُدَّ للأم أن تنظر في شئون البيت، فأجلستني متربِّعًا على السرير، ووضعت الطفل العليل على ركبتيَّ لئلا أرفع عن وجهه نظري؛ لأنها كانت تخشى فيه أمرًا، ومضت ساعة أو أكثر أو أقل، والحشرجة تزداد في صدر المحتضر، ثم ما هو إلا أن مال برأسه وسكنت الحشرجة، ولم يعُدِ الصدر يعلو ويهبط كما كان يفعل؛ لقد مات راقدًا على ركبتيَّ، فصرخت فازعًا، وجاءت الأم في هلع، ونظرت إليه، وحملته ملهوفةً عليه، وكأنها لم تُرِد أن تصدِّق أنه مات، فصاحت فيَّ: اذهب كالبرق ونادِ خالتك أم محمد لتفحصه؛ فلا أطباء، ولا أحد من أفراد الأهل الأقربين هناك لأدعوَه، ولم يبقَ أمامها من موئلٍ إلا جارةً وقورًا، هي التي صاحت بي أمي أن أناديَها على عَجَل.

وكان ذلك أوَّل موت شهدته على مقربة، حين كانت النفس مني حائرة بين أرضها وسمائها، فعلمت بما قد رأيت أن المسافة قريبة بين الأرض والسماء.

وأراد الله أن يعوِّضنا أخًا مكان الأخ، فجاء مَن لقي مِنَّا كل إعزاز وتدليل، وما يزال يلقى.

***

بهذا انتهت مذكرات الأحدب، أو ما استطعت أن أستخرجه من مذكراته؛ لأنَّ بها أجزاء كثيرة ممزقة أو مطموسة تتعذر قراءتها، وهي مذكراتٌ كتبها وهو في الخامسة والعشرين أو نحوها ومضت عليها خمسة وأربعون أخرى؛ لأنه اليوم في السبعين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤